استيهامات_3

...

9 أغسطس 99

كان الليل متأخراً، ومع ذلك فقد كان بوسعي أن أرى كل شيء، ذلك أن يدي اليسرى كانت مضيئة وكأنها لا تزال ملتصقة بيديك...
...

10 أغسطس 99

في خريف عام 1912، كتب تروتسكي، الموجود آنذاك في صوفيا، رسالة مفتوحة إلى الشاعر البلغاري بيتكو تودوروف، تهمني منها السطور التالية:
"إن حياتكم العامة لا تزال في مجرد مهدها. إن المفاهيم السياسية والأخلاقية الأولية لم تترسخ بعد بينكم. ولهذا يصبح من الأكثر إلزاماً أن تتشدد العناصر المتقدمة من شعبكم في الذود عن مبادئ الديموقراطية، عن سياسة وأخلاق الديموقراطية. ففي التحليل الأخير، يتمثل رأس المال التاريخي الأساسي لكل أمة في الوعي الاجتماعي والأخلاقي لجمهرة الشعب".
إننا بحاجة إلى تأمل هذه السطور جيداً... حتى الأرق!

...

12 أغسطس 99

كان كسوف الشمس أمس مناسبة أخرى لكي يكشف المصريون عما يسكنهم منذ آلاف السنين: إنهم مسكونون بالخوف ومهووسون دائماً بحس الكارثة... هذا هو ما يجعلهم يتوقفون فجأة عن الضحك إذا ما اكتشفوا أنهم تمادوا فيه ويسألون السماء أن تدرأ عنهم سوء عاقبة أفراحهم القصيرة غالباً...
بينما كان الناس يرقصون في شوارع بوخارست وباريس، انزوى المصريون واليهود في بيوتهم لكي يصلوا للرب الرحيم، عسى أن تهدئ الصلاة من خوفهم من نهاية العالم...
في عام 1954، كتب ميشيل فوكوه: "لا يمكن اكتشاف شروط إمكان البنى السيكولوجية إلا في التاريخ".
والحال أن التاريخ المصري هو تاريخ كوارث ونفي داخلي، حيث لا يشكل الرجاء غير جملة اعتراضية بين خوفين...

...

3 أغسطس 99

أغنية من الماضي تعلو وتهبط على موج الذكرى. اسم يتردد في المكان ويسبح في الهواء باحثاً عن سماء أخرى.
نداء محبة يرتجف على شاطئ النهر في عتمة الليل. حزن من يموتون قبل أن يرشفوا شيئاً من خمر الحياة...

...

14 أغسطس 99

يمكنني أن أزعم أن الطريق العام هو المكان الأنسب لتحرير الشعور، بالرغم من المجازفات التي قد ينطوي عليها ذلك، إن لم يكن بسببها أيضاً.
وإذا كانت تكمن وراء ذلك رغبة في تحدي المألوف والخروج على قيود الأخلاق البوليسية، فمن الأفضل السماح لهذه الرغبة بالتعبير عن نفسها، مهما كان الثمن، ذلك أن كبتها ليس من شأنه سوى خسارة الروح وخسارة تماسكها في وجه الشر المسلح بالعرف وبالقانون...
بهذا المعنى، لم يكن ساد حراً بما يكفي، إذ كان يجب عليه أن ينقل مخدع محاضراته الفلسفية العملية إلى الشارع!

...

من الطبيعي أن تتذكر لوسيفير، الشيطان الأكبر، الذي يقول نيكولا كالاس أن السوريالية قد راهنت عليه، فلم يفهم من ذلك بيروقراطي مصري يكتب عن السوريالية كثيراً إلاَّ أن السوريالية قد راهنت على الكاهن لوسيفير الذي عاش في القرن الرابع الميلادي! وهو ما يعني أن صاحبنا لم يفهم شيئاً، والحال أن عدم الفهم هو شرط للوقاحة التي لا بد لها من أن تتوفر في رموز البيروقراطية الثقافية عندنا، وإلاَّ فقدت هويتها كبيروقراطية! ثم من الذي يفضل الكهنة على الذكاء سوى البيروقراطية التي قال عنها ماركس بحق أنها الكهنوت وقد صار جمهورية؟!

...

18 أغسطس 99

أعرف أن العيش يوماً بيوم ليس غير اختزال لأبعاد الوجود، لكنني لا خيار لي في ذلك، وأخشى أن يكون ما وراء ذلك هو الإحساس بعبثية هذا الوجود نفسه وبأن الموت، على أية حال، بات قريباً...
هل لهذا السبب تبدو غير مبال بوعود الأيام الآتية؟ إنك تبدو وكأنك لا تنتظر شيئاً، وحتى عندما تذهب إلى موعد لا تهتم كثيراً بأن يحدث اللقاء أو لا يحدث، ففي جميع الأحوال سوف تظل وحيداً، بل ربما يزداد شعورك بالوحدة عندما تتناثر الأصوات من حولك عارية من صفائها... سوف تضطرب روحك حيال هذا الصخب فتنسحب لكي تنصت في وحدتك إلى الأصوات البعيدة...

...

18 أغسطس 99

رأيتك في مآخير الليل منتشياً بأعراس حرية الروح. كانت آلهة الخوف قد نامت، فأصبح العالم ساحة للأورجيات الباخوسية التي يهرب منها الجبناء...
لن يمر وقت طويل حتى تتعرى البراءة نفسها وتكشف عن فرجها الوردي الذي ينتظر اغتصابه في نسيم الليل!

...

18 أغسطس 99

في عام 1959، كانت الفتيات العراقيات يهدرن في شوارع بغداد والموصل والبصرة والسليمانية: بعد شهر ماكو مهر!
خذلهن الستالينيون لأن موسكو العاهرة رأت أن من مصلحتها الإبقاء على الـ Statu quo الذي يرفع شعار المومسة الشرعية الدولية في وجه الثورة الدائمة المحرمة: والنتيجة أن نساء العراق قد تحولن إلى مومسات حتى يتنسنى لهن توفير اللبن لأطفالهن، شأنهن شأن نساء روسيا الآن!

...

19 أغسطس 99

هذا الشاعر الرجيم الذي يقال لنا أنه كان يلهث وراء النساء، يبدو لي أنه لم يكن يبحث عن شئ سوى حنان الأم...
في السادسة من العمر، فقد بودلير أباه، وبعد ذلك بوقت قصير تزوجت أمه من ضابط أصبح فيما بعد قائداً عاماً لحامية باريس...
في السابعة والعشرين من عمره، شارك بودلير في ثورة 1848. خلال معمعان العنف الثوري اقترح على رفاقه في السلاح اغتيال زوج أمه.
في "سأم باريس"، كتب بودلير السطور التالية:
"هناك نساء يُثِرن الرغبة في الاستيلاء عليهن، والاستمتاع بهن؛ لكن هذه المرأة تثير الرغبة في الموت ببطء تحت عينيها".
في عام 1867، مات بودلير بين ذراعي أمه، فاستراح بعد أن رأى نظرة الحنان التي كان يبحث عنها...

...

وأنتِ
عن أي شيء يبحث المرء في عينيكِ؟
سؤال مشحون بكل الغوايات المحتجة على خواء العالم...

...

19 أغسطس 99

من الواضح أن الدائرة التي ارتسمت على وجه الماء قد اتسعت ووصلت إلى الشاطئ... وأعرف أن هذا لم يكن مفاجأة لك... كنت تريد ذلك من أعماق روحك. فاستجاب القدر لاستيهاماتك وأومأت لك اليمامة الإيماءة التي كنت تحلم بها وتستنفر حضورها، واثقاً تماماً من النتيجة، ليس لأنك عراف، بل لمجرد أنك تعرف من يشبهونك... ولأن التواطؤ كان واضحاً منذ البداية...
يمكنك الآن أن تسمع صدى الكلمة التي لم تتفوه بها منذ سنوات.

...

19 أغسطس 99

في غرفة انتظار بنيابة أمن الدولة، رأيت الرسام الشاعر حسين بيكار في شتاء 1985 حيث كانوا يحققون معه بتهمة "البهائية" ومعي بتهمة "التروتسكية"، وكنت قرأت في مكان ما أن "البهائية" انحطاط اصلاحي يميني للبابية الديموقراطية الثورية، أي أنها، بمعنى ما، شيء أشبه بالستالينية قياساً إلى الماركسية...
كان الأجدر به أن يستمتع بقراءة قرة العين وأن يدعو النساء إلى الاقتداء بها، بدلاً من أن يجمع حوله يائسين من التمرد...
...

22 أغسطس 99

يمكنك الآن أن ترى جيداً كيف أن الأغنية يمكن أن تتوقف فجأة... كيف أن الوردة الحمراء يمكن أن تبدو رمادية، وكيف أن الابتسامة الغامرة يمكن أن تكون مراوِغَةً مراوغةَ السراب...
كيف يمكن للأغنية أن تنسجم مع صمت القبور... وكيف يمكن للوردة أن تزدهر على رماد فراديس المحبة، ثم كيف تندرج الابتسامة في المشهد الجنائزي؟!
لستُ مسئولاً عن خراب العالم... ومع ذلك اسمحي لي أن أعتذر لك عنه...

...

24 أغسطس 99

مع المستبدين، يتعايش نفر من المثقفين تعايش كتبة ما قبل الرينيسانس مع الملوك والباباوات. طبيعي أنهم يتحدثون عن حقوق الانسان لكنهم على مستوى الممارسة، يسهمون بوقاحة في إهدارها في مقابل رشاوي حقيرة، وهو ما يشكل ملمحاً آخر لمسيرة ولوج الليل دون حلم بمجيء النهار...

...

27 أغسطس 99

حتى هذه الأيام مازال هناك عدد من الكتاب الذين يمكن مقارنتهم بلويس الرابع عشر وبيوسف ستالين: يقال إن الأول قال أنا الدولة وإن الأخير كان بوسعه أن يقول أنا المجتمع!
من حيث الجوهر، يقول هؤلاء الكتاب، كل بحسب تخصصه: أنا الشعر وأنا الرواية، الخ! وهو ما يعني أن المستبدين ليسوا موجودين في عالم السياسة وحده كما أن المجانين ليسوا موجودين في السراي الصفراء فقط!

...

27 أغسطس 99

بعد أن أغسل عينيَّ بمشهد البحر، اتجه إلى شارع الاسكندر لكي أنظر إلى نافذة موصدة منذ عشرين عاماً كنت قد بكيت تحتها من الفرحة...

...

27 أغسطس 99

من الحماقة أن نتساءل عن أسباب غزارة الينابيع وكأننا نحتج على ما في العالم من سخاء... لكن المثير بالفعل هو أن المحرومين من الحنان يمكن بالرغم من ذلك أن يكونوا ينابيع حنان ودفء فياضة أبداً...
والحال أن الرهان على عمق إحساس البشر بإنسانيتهم بالرغم من وحشية زمانهم لن يكون رهاناً خاسراً البتة...

0 التعليقات: