استيهامات_4



9 سبتمبر 99

ليس هناك ما يدعو للأسف، فأنت تعرف جيداً أن هذه هي حال الطيور... يكفيك أن ترى الأجنحة المرفرفة التي تنأى عنك، فسوف يلونها الغروب بألوان جميلة، قبل أن تغيب في ليل الزمن...

*

11 سبتمبر 99

احتاجت إلى خمس دقائق تقريباً حتى تكتب خمس كلمات... لابد أنها كانت تكابد محنة البوح وكانت تبحث عن سبيل إلى مواصلة المراوغة، فهي تجد في هذه الأخيرة متراساً لرومانتيكيتها التي تتلخص في كبت الرغبة وعيشها كأسف وليس كفرحة...
من الواضح أنها كان يمكن أن تحب سيوران، فهناك يمكنها أن تجد من يؤكد لها أن لا شهوة تتجاوز شهوة فكرة إمكان البقاء في حالة إمكان خالص وأن الظرف السابق على سوء الحظ المتمثل في الميلاد هو الظرف الوحيد للحرية والسعادة...
أخشى أن تصاب بالجنون، فهي لا تكف عن التفكير في رحم أمها، المكان الوحيد لهذا الإمكان الخالص!

*

13 سبتمبر 99

حتى عندما يكونون مسلمين أو ملحدين، يأخذ القوميون المصريون عن المسيحية الكثير، فمصر، بالنسبة لهم، عذراء وطاهرة ومقدسة... هذه هي صورتها في رواياتهم وأغانيهم التي لا تشكل غير امتداد لرومانتيكية مصطفى كامل ومحمود طاهر حقي.
والحال أن مصر إنما تظل، بالرغم من كل شئ، دنيوية تماماً... ثم إنها ليست عذراء، فعلى مدار جانب طويل من تاريخها، فتحها كثيرون!
يقال إن الحب لا يحتاج إلى مبررات، فلماذا يتوقف حبنا لبلادنا على أن تكون عذراء؟ بوسعنا أن نحبها حتى ولو كانت عاهرة!

*

إذا كان واضحاً أن هناك فرقاً بين الدين والقومية (nationalisme)، إلاَّ أن من الواضح أن الأخيرة لا تقل إيمانية عن الدين، فالأمة ضرورية بالنسبة للقومي ضرورة الله بالنسبة للمتدين.
يقول سيوران: "الله موجود حتى وإن لم يكن موجوداً".
ويرد القومي: "الأمة موجودة حتى وإن كانت عدماً".
في عام 1945، في منفاه المكسيكي، أعلن الشاعر الفرنسي الثوري بنجامان بيريه، في عار الشعراء، أن مخيلته السوريالية لا تتسع لمثل هذه الإيمانات.
في الذكرى الأربعين لرحيله عن عالمنا، في 18 سبتمبر الجاري، سوف تنبش الكنيسة الكاثوليكية والجبهة القومية قبره!

*

17 سبتمبر 99

رياء لا يحتمل أن نتخذ مظهر الوقار حيال عالم فاجر بالفعل.

*

إذا كان الزلزال التركي قد كشف عن هشاشة القشرة الأرضية في موقع الزلزال، فإنه قد كشف أيضاً عن هشاشة استعداد البورجوازية التركية للتعامل مع محنة تواطأت فيها قوى الطبيعة العمياء مع غشاشي المباني من المقاولين و البيروقراطيين...
بوجه عام، لا يحتاج الشرق الأوسط إلى زلزال بدرجة 7 على مقياس ريختر حتى يكتشف أن بنيته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية قد نخرها السوس...

*

يمكن لسكان فلوريدا أن يهربوا من الإعصار إلى نورث كارولاينا، ولكن إلى أين يمكن أن يهرب شعب تيمور الشرقية من الميليشيات الإندونيسية؟

*

18 سبتمبر 99

عندما ظهرت ترجمتي لدراسة هنري لورنس عن بونابرت والدولة اليهودية، التقط صحافي نسخة من الكراس من زاوية صلاح الملا في سراي ألمانيا وسارع إلى تسليمها إلى بابا الصحافة المصرية...
في اليوم التالي، جاء إلى الزاوية ليبحث عن صلاح الذي لم يكن موجوداً ساعتها فلم يجد ضحية لغضبه سوى زوجة صلاح التي قال لها إن الأستاذ غاضب وأنه ما كان يجب نشر هذه الدراسة، إلخ، إلخ
قيل نشر الدراسة، كنت قد التقيت لورنس في القاهرة في مايو 1997، حيث كان في زيارة قصيرة....... سألته ما إذا كان ينوي مناقشة مزاعم هيكل حول البيان المنسوب إلى بونابرت، قال إنه لا يملك متسعاً من الوقت لمناقشة صحافي سبق له اتهام أندريه ميكيل بالجاسوسية وبالتدبير لاغتيال عبد الناصر!
المعروف أن محاكمة "الجاسوس" المزعوم قد أوقفت وجرى الإفراج عنه...
من ناحية أخرى، لم تجرؤ صحيفة مصرية واحدة على نشر موجز ولو قصير جداً لمحتوى دراسة لورنس وهو ما يدل على أن صاحبة الجلالة ليست غير خادمة سيريلانكية!

*

20 سبتمبر 99

مازال الصحافيون يسألون الكُتَّاب عن "المشروع القومي" المنشود، ومازال الكُتَّاب فاقدو الوعي يجيبون عن أسئلة الصحافيين.
لا يبدو أن هؤلاء أو أولئك يدركون أن البنية الهيراركية للعالم المعاصر والتي تهيمن عليها البورجوازيات الإمبريالية لا تسمح بأي حديث عن "مشروع قومي" من أي نوع، كما دلت على ذلك أحداث 1989 – 1991 التاريخية. فالعالم المعاصر إمَّا أن يعاد بناؤه على أسس جديدة تماماً أو أنه سوف يواصل انحداره إلى البربرية إذا ما استمرت بنيته الحالية على حالها. إنه إما أن يقف على قدميه معاً أو ينهار معاً، وليس بوسع جماعة قومية أن تفلت من المصير المشترك المحتمل.

*

في أوائل هذا الصيف، أعرت عالم الفيزياء والروائي النمساوي ميشيل شبرنجر الذي يحيا في آخن بألمانيا، والذي كان في زيارة لمصر، أعرته نسختي من مقالة لتوماش ماستناك عن الخصائص الفاشية للمجتمع المدني الأوروبي الشرقي وعن شريعة الغاب التي تحكم أوروبا الشرقية وروسيا الآن...
قال إن المقالة كاشفة لأمور جد مهمة ولو أنه لا يستطيع قبول إعلاء ماستناك لأهمية الدولة، فالدولة بجميع أجهزتها كائن طفيلي لا توجد حاجة اجتماعية إليه، ولا يمكن أن يستثني من هذه الأجهزة غير هيئة البريد!

*

تلك الحالات من التعاطف التي تتحول إلى تماهيات مسرفة، من شأنها أن تؤدي إلى وقف مسيرة حيوات ضحاياها المباشرين على الأقل... ما نحتاج إليه هو الاعتراف بجميع جوانب تكويننا الإنساني والتسامح مع كوننا بشراً ولسنا آلهة...

*

21 سبتمبر 99

يبدو أنها تكابد شعوراً حاداً بالوحدة... وإلاَّ لماذا تتشبث بإفريز الشرفة في بلد لم تره من قبل وتتردد في النزول إلى الشارع... ثم إن من الواضح أنها تخاف من أشياء كثيرة، ليس أقلها ركوب سيارة صغيرة على طرق السفر... لابد أنها تشكو من إخفاقات مريرة تكبت حس المغامرة الذي يراود روحها من آن لآخر.
يستبد بك الإشفاق فترتبك عندما تقول لك إنها تشعر بالسعادة لأنها صادفتك... أظن أنها جديرة بدواع للسعادة أكثر أهمية من ذلك...

*

24 سبتمبر 99

ليست هناك جاذبية بالفعل لاختلاط الرايات، ولا معنى لتجميل الهاربين من الحرية بشارات الدفاع عن الديموقراطية... وعندما يمرح المستبدون في سديم تراث الاستفتاءات البونابرتي، لا يجب للديموقراطيين أن يبحثوا عن حلفاء بين أصحاب هذا التراث...
حقيقة بديهية يحزن المرء لنسيانها من جانب الأبرياء...

*

شيء ما عفن في هذه المملكة، يؤرق أكثر من ستين مليون هاملت!

*

25 سبتمبر 99

في تويلا، في أبريل عام 1925، تساءل سيفيريانين: "ليرمونتوف! ألم تكن محقاً عندما تساءلتَ: "لأي شئ يصلح هذا العالم؟"
لماذا يجب أن نحيا هذا العالم نادمين على مجيئنا إليه؟ ما الذي كان هناك قبل أن نولد ونأسف على خسارته كل هذا الأسف؟

*

26 سبتمبر 99

يؤكد الناقد العائد في زيارة قصيرة أن الجيل الجديد من الكُتَّاب ليس مسكوناً بهاجس تغيير العالم وليس مهتماً بفهم عالم غير قابل للفهم أصلاً، ومن هنا الانكفاء على الذات. والحال أن هذه العبارة ليست غير صدى لمنظور بعد حداثي يلعن العالم المعاصر ولا يحلم بتغييره ولا يهتم بفهمه لأنه أصبح كائناً خرافياً من المستحيل إدراك ديناميته وأشكال تحولاته الممكنة.
وإذا كان صحيحاً أننا نحيا زمناً يشبه، من نواح معينة، زمن سقوط الإمبراطورية الرومانية، حيث يتراجع اليقين أمام زحف الحيرة الكاسح، فإن من الصحيح أيضاً أن الإنسان بات أكثر قدرة من سلفه على تأمل خبرات العصور وخبرات زماننا بوجه خاص، وما يبدو انكفاءً على الذات ليس غير شكل غير مباشر للإعتراف بأن الاغتراب الذي فرضته الرأسمالية قد أصبح زائداً عن الحد وأن المشاريع النخبوية لتجاوزه غير قادرة على تجاوزه بالفعل...
إنه زمن الترقب، الترقب المشحون بالخوف وبالرجاء، فإمَّا أن تنجح الرأسمالية في سحق الإنسان أو ينجح الإنسان في سحق الرأسمالية. والحال أن التاريخ لم ينته بعدُ، والأرض مازالت تدور...

*

28 سبتمبر 99

أتشاغل عن جاذبيةٍ سرّيةٍ تمور في عينين صافيتين صفاء ما قبل الميلاد وأفكر كيف أن خبراتنا البشرية ليست أكثر من زلازل تتفاوت شدتها على مقياس مفتوح لا يفضي إلاّ إلى الموت...
من جهة أخرى، يبدو لي أننا لن نتوصل البتة إلى أدراك حدودنا ما دمنا لم نكابد غير الزلازل ذات الشدة المحدودة، لكننا في اللحظة التي سوف يكون بإمكاننا إدراك هذه الحدود لن نكون هناك بعدُ حتى نستخلص من ذلك خبرة ما، فهذا الإدراك يتطلب زلزالاً تساوي شدته شدة الموت، وهو ما يعني انتهاء الحكاية...
ألتفت أمامي فأجد هارباً من انحدار العالم إلى البربرية... ملايين الأيدي تحاول شده إلى الهاوية من جراء سعار اشتهاء الزوال الذي يهدر في أركان المعمورة / الخربة بينما لا يجد ملاذاً إلاَّ مع الندماء الذين يديرون ظهورهم لما لا يشتهون...

*

المحبة التي مالت على كتفيك تخجل من يديك المرتبكتين ثم تهرب عندما تلمع في السماء فجأة نجمةٌ شماليةٌ سرعان ما تتحول إلى غزالة تحرك اشتهاءات من خَطَفَت أبصارهم فيرتج الكون بأغنيات الثناء على الجسارة...

*

0 التعليقات: