المترجمُ ممثلاً


ترجمةُ الشعر: تجربةٌ شخصية

يبدو لي أنه مما لا طائل من ورائه أن أتحدث عن تجربتي الشخصية في ترجمة الشعر من زاوية مشكلات التكنيك ونُهُج التعامل مع تلك المشكلات. وبالرغم من أن هذه المشكلات وتلك النُهُج تندرج، بطبيعة الحال، ضمن مكونات التجربة، إلاَّ أن التوقف أمامها قد يجرد الحديث من الشيء الأكثر أساسية؛ أي فهم المترجم للمغامرة الإبداعية التي ينخرط فيها.
لنترك جانباً إذاً عدة الشغل ولنبتعد عن ورشة الأدوات، لنخرج إلى ساحة المسرح الروماني المكشوفة.

بالنسبة لي، كانت تجربة ترجمة الشعر، ولا تزال، تجربة اعتراف بالآخرية وتجربة اعتراف بامكانية ، بل وبوجوب، تمثلها كمظهر آخر للذاتية، وهو المبرر الأساسي لاعتبار هذه التجربة فعلاً إنسانياً بامتياز، لا يمكن أن يتسامح مع أية تحيزات قومية من أي نوع، وهو ما ينسجم مع واقع استحالة العثور على شوفينيين بين المترجمين الذين يفهمون رسالتهم من هذه الزاوية، فمن يمد جسراً لا يبيت في أساسه قنبلة موقوتة ومن ينشر شراعاً لا يخرق أرضية المركب.

هذه الحقيقة تصبح أكثر رسوخاً عندما يتباين الشعراء الذين يترجم لهم المترجم وكذلك عندما تتعدد اللغات التي يترجم عنها. ففي حالة كهذه، تصبح القدرة على تمثل الأعمال المتباينة وينابيع الإلهام المختلفة، على اختراق حواجز الألسن وشق طريق وسط الأبراج البابلية، دليلاً أكيداً على توحد حميم للذاتية بالآخرية.

ولئن كان هذا التوحد امتلاكاً، فإنه يظل مع ذلك امتلاكاً لآخرية متمايزة ومستقلة، يجب أن يظهر تمايزها واستقلالها واضحاً خلال فعل الامتلاك ذاته، وإلاَّ تحول المترجم إلى وصيٍّ خائن لوصية المؤلف، وهي وصية نقل تراثه إلى الآخرين مكاناً وزماناً، كما هي دون زيادة أو نقصان،... هكذا يمكن أن نكون بعيدين عن تقديم ما هو دخيل في صورة الأصيل وبعيدين عن خلط أصواتنا نحن بأصوات من نريد الاستماع إليهم بلساننا، فهذا الخلط هو فعل اغتصاب أو هو فعل غش للخمر!

إن امتلاكنا للآخرية في فعل ترجمة الشعر هو كامتلاك الممثل المسرحي للشخصية التي يلعب دورها. وهو بهذا الشكل، امتلاك من نوع خاص، هو نوع التمثل إلى درجة الذوبان فيما نملك، وهو مستوى لا يمكننا بلوغه، مع ذلك، إلاَّ إذا كنا جريئين بما يكفي لمواجهة تحديه.

هذا التحدي هو تحدي الفهم والقدرة على الفعل، وهو، كذلك تحدي الموهبة الإبداعية الفنية، الذي يستحيل دونه تحقيق هذا الامتلاك.

وإذا كان من المستحيل على الممثل المسرحي أن ينجح في أداء دوره إن لم يتوحد مع هذا الدور ويتماهى معه، خلال الأداء المسرحي، فمن المستحيل، بالمثل، على مترجم شاعرٍ ما، أن ينجح في ترجمة هذا الشاعر إن لم يتوحد معه، خلال فعل الترجمة، وهو توحد ضروري إلى أقصى حد، ولا غنى عنه بأية حال.

من يترجم، مثلاً، قصيدة ليرمونتوف: "وداعاً يا روسيا التي لم تتطهر من أدرانها"، لا بد له أن يشعر خلال فعل الترجمة، أنه الشاعر المتمرد الساخط ذاته، بلحمه ودمه، وقد وقف يربت على عرف جواده تحت سماء ملبدة بالغيوم، استعداداً للرحيل عن روسيا إلى القوقاز، فراراً من أعين وآذان الباشاوات الروس الذين شنقوا ريلييف دون أن يطرف لهم رمش. ومن يترجم، مثلاً، قصيدة كافافي: "شموع"، لا بد له من أن يشعر، خلال فعل الترجمة، أنه نزيل 10 شارع ليبسيوس بالإسكندرية، يكلم الظلال التي تتأرجح على الجدران في مسكن الروح، بعد يوم حافل في الشارع. مسكن الجسد والشهوات.

هذا مثلاً، هو ما أجاز لإيفانوفسكي، مترجم شكسبير إلى الروسية، أن يشعر خلال فعل الترجمة، أنه ليس أقل من شكسبير! وهو، بين أمور أخرى، ما سمح بأن يُقبل ملايين القراء على قراءة ترجماته!

بين الوارثين، يعتبر مترجم الشعر ناقلاً لإرث، وبين الفنانين، يعتبرأقرب ما يكون إلى الممثل المسرحي. ناقل الإرث يجب أن يكون أميناً على التركة، والممثل يجب أن يذوب في دوره.

رأيت بورتريهات رسمها ديستويفسكي بالحبر الأسود لشخصيات رواياته، وعرفت أنه كان حريصاً على أن تصل قراءته هو لعمله واحدة إلى جمهرة القراء ذوي الخلفيات المتباينة. وأعتقد أن هذا الطموح مشروع، وإن كنت لا أعرف إلى أي مدى نجح فيه عملاق الأدب الروسي. كذلك، يطمح الشاعر إلى أن يصل شعره، عبر الترجمة، كما هو دون انتهاك صوت المترجم لصوته هو.

ويمكننا أن نتبين إلى أي حد يتمايز صوت الشاعر إذا وجدنا أنفسنا أمام ترجمات مترجم واحد لشعراء مختلفين.
في تجربتي الشخصية، يمكنني أن أجد صوت جورج حنين يظهر، في ترجمتي، متمايزاً عن صوت جويس منصور، حتى بالرغم من الوشائج السوريالية الحميمة التي تجمع بينهما، فالتمايز بين الصوتين موجود في الأصول، ويمكنني، بالمثل، وهذا أمر سهل، أن أجد أن صوت نيكولاي جوميليوف، زوج أنَّا أخماتوفا، البحار، الذي زار مصر، يظهر، كذلك، في ترجمتي، متمايزاً عن صوت إيجور سيفيريانين، معاصره، الساخر الحكيم.

والحال أن حضور المترجم، شأنه في ذلك شأن حضور الممثل على خشبة المسرح، إنما يكمن في ذوبان ذاتيته في الآخرية. والمترجم، شأنه في ذلك شأن الممثل، هوالكاتب الوحيد الذي يهنئ نفسه على نجاح ترجمته إذا قلنا له أننا لم نشعر بوجودك: لقد كنا، في ترجمتك أمام الشاعر نفسه! مثلما يهنيء الممثل نفسه على نجاح أدائه إذا قلنا له إننا لم نشعر بوجودك، لقد كنا في أدائك، أمام هاملت شخصياً!

أما المترجم الواحد الذي يترجم لشعراء مختلفين فيبدو حاضراً بذاته وسط كل هذا التنوع، فهو، في رأيي، النموذج المثالي (!) للفشل.

وكما أن الممثل الواحد لا يمثل، غالباً، دوراً واحداً، كذلك لا يترجم المترجم الواحد، غالباً، شاعراً واحداً، وكما أن كل دور مسرحي أو سينمائي نوعي يتطلب من الممثل، إلى جانب مهارات وقواعد الفن الإجمالية، قواعد ومهارات نوعية، كذلك المترجم، لا يمكن أن يكتفي بالمهارات والقواعد الإجمالية لفن الترجمة، بل يحتاج إلى قواعد ومهارات نوعية، مع كل شاعر، ومع كل قصيدة، بما يتناسب مع مهمة ترجمة الشاعر المحدد والقصيدة المحددة.

فالمهارات النوعية التي تطلبها من فانيسا ريدجريف أداء دور إيزادورا دنكان إنما تختلف عن المهارات النوعية التي تطلبها من الممثلة الانجليزية أداء أدوار أخرى.

ومن الواضح أن ما هو مطلوب من المترجم حين يترجم الأغاني الشعبية إنما يختلف عما هو مطلوب منه عندما يترجم الكلاسيكيات، وما هو مطلوب من مترجم الرباعيات الفارسية يختلف عما هو مطلوب منه حين يترجم السونيتات الروسية، إلخ.

هذه المهارات النوعية لا يمكن أن تكون شيئاً أقل من تراكمات معرفية متمايزة وثرية التنوع. ومن لم يسمع عن شجرة البتولا الروسية لن يلمح الريف الروسي الذي يرقد تحتها، ولن يفهم شيئاً من سيرجي يسينين. ومن لم يسمع شيئاً عن الديسمبريين لن ينجح في ترجمة قصيدة بوشكين: "آريون" والتي لا يرد فيها أي ذكر لهم. ومن لم يسمع عن أحزان شكسبير تجاه موت ابنه هامنت لن يفلح في ترجمة كثير من سونيتاته، وهو ما حدث مع أولئك المترجمين الذين قدموا لها صياغات موسيقية تتميز بتدفق عذب في حين أن الصياغات الموسيقية المطلوبة لترجمتها هي الصياغات الشجية المريرة، كما بين ذلك إيفانوفسكي.

وكما أن كل زمن يحتاج إلى إخراج جديد لمسرحية كلاسيكية ما، فإن كل زمن جديد يحتاج إلى ترجمات جديدة للموروث الشعري. فكل شيء يتحول، والتحول هو قانون الوجود الأشمل، وهو قانون الثقافة الروحية كذلك، وقانون الألسن. إن نهر الحياة لا يتوقف عن الجريان. والشيء الأكثر تميزاً هو أن المترجم إنما يترجم لمعاصريه، وليس لأجيال قادمة. فهذه الأجيال سوف تكون بحاجة إلى مترجمين معاصرين لها، يتكلمون بلسانها هي، لا بلساننا نحن. كذلك، وبهذا المعنى، لا يبدو أن هناك ما يبرر لمترجم عربي للشعر الأجنبي بيننا الآن أن يستخدم لسان أسلافنا: إنه يتحدث إلينا نحن، فكيف يتحدث إلى الأحياء بلسان الأموات؟ ونحن بدورنا، سوف نموت، وسوف يأتي بعدنا أناس آخرون، مختلفون، مثلما يحتاجون إلى إخراج جديد للمسرحيات الكلاسيكية، يحتاجون كذلك إلى ترجمات جديدة للنصوص الإبداعية، حتى وإن كانت هذه النصوص قد ترجمت من قبل أكثر من مرة.

لا ثبات ولا خلود لشيء، ولا للفكر، ولا لواقعه المباشر، ولا لترجمة هذا الواقع المباشر. وإذا كان لابد أن نكون، فيجب أن نكثف ذوباننا في الآخرية، بذوبانٍ في زماننا. إن حضورنا، كمترجمين للشعر، إنما يكمن في هذا، وفيه وحده أساساً!
وإذا أمكن لِفِعْلنا، كمترجمين للشعر، أن يخترق الأزمنة القادمة، فلا يجب أن نهنئ أنفسنا كثيراً على ذلك، لأن نجاحنا في ذلك لن يكون غير عرض آخر من أعراض مرض إنساني قديم، اسمه الحنين!
اكتوبر 1996
مهرجان القاهرة للإبداع الشعري
نوفمبر 1996

0 التعليقات: