اغتيال ماياكوفسكي


تاريخ الانتلجنتسيا الإبداعية الروسية حافل بالمآسي: ففيه من سقط في مبارزة و ومن مات غريقاً ومن انتحر وهو لم يزل في ربيع العمر ومن قتل على يد عملاء قيصر من القياصرة في المنفى السيبيري... إلخ.
والروس يعتبرون الشعراء قديسين ويعتبرون قتلة الشعراء أبشع من قتلة المسيح. وقد ثارت شبيبة لينينجراد في الأشهر الأخيرة ضد بلدية المدينة لأنها قررت هدم فندق "آنجليتير" الآيل للسقوط حيث انتحر الشاعر سيرجي يسينين (1895-1925).
فالمكان الذي يموت فيه شاعر روسي يتحول على الفور إلى قدس يتوجب قطع يد إن لم يكن رأس كل من يمسه بسوء.
وعندما أعدم القيصر نيقولا الأول الشاعر الروسي كوندراتي ريلييف (1795-1826)، تملك الغضب كل الشعب الروسي بحيث إن القيصر اضطر إلى التنصل من جريمة إعدام الشاعر زاعماً أنه لم يكن يعلم أن ريلييف شاعر!
وربما كان ريلييف هو الشاعر الوحيد الذي شنق مرتين. فقد سقطت به المشنقة في المرة الأولى ثم أعيد شنقه بعد تثبيت المشنقة جيداً!


لكن من المؤكد أن الشاعر المستقبلي فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) قد قتل مرتين: المرة الأولى عندما انتحر، والمرة الثانية عندما اغتاله مترجم مصري! ومن حسن حظ هذا المترجم أن الشبيبة الروسية لا تعرف شيئاً عن ترجماته! وإلاَّ كانت وضعته في ذات الموضع الحرج الذي وضعت فيه بلدية لينينجراد!


لماذا؟
لقد ترجم رفعت سلام خمس عشرة قصيدة لماياكوفسكي عن ترجمة إنجليزية وليس عن الأصل الروسي مبدياً قدرة فائقة على عدم فهم الترجمة الإنجليزية في الوقت الذي تعمد فيه عدم الإشارة إلى اللغة التي ترجم عنها القصائد مما يوهم القارئ أنه قد ترجمها عن الأصل الروسي!
والواقع أن قصيدة واحدة من قصائد المجموعة الخمس عشرة لم تسلم من سوء فهم المترجم للنص الشعري.


* * *


يقول ماياكوفسكي في قصيدته إلى سيرجي يسينين:
يردد سوبينوف كلماتك
مضطرب النبرة
يتهدج صوته
تحت شجرة البتولا
المنكسرة حزناً
انتحر يسينين في 27 ديسمبر 1925. وكتب ماياكوفسكي قصيدته خلال الفترة الممتدة من يناير إلى مارس 1926. ويشير ماياكوفسكي في هذه الأبيات إلى أمسية تأبينية جرت للشاعر المنتحر في أحد مسارح موسكو، أعقبها حفل غنى فيه المغني الروسي الشهير سوبينوف (1872-1934). ظهرت على خشبة المسرح صورة شجرة بريوزا – بتولا – تبكي رحيل يسينين، الذي كان قد قال عن نفسه في إحدى قصائده الأخيرة "أنا آخر شاعر ريفي تعرفه روسيا".
فكيف يترجم رفعت سلام هذه الأبيات؟ لنتذرع بالصبر:
وبكلماتك
يشعوذ المايسترو سوبينوف
وصوته يرتعش
تحت عصا التأديب المجهضة!
لقد تحولت شجرة البتولا رمز الريف الروسي الباكية على رحيل آخر شاعر ريفي تعرفه روسيا إلى عصا تأديب مجهضة!


ويقول ماياكوفسكي – ويحافظ دوريان روتنبرج مترجم القصيدة إلى الإنجليزية على الأصل وهو المترجم الذي يترجم رفعت سلام عن ترجمته:
"روحكم وربكم"
أما رفعت سلام فهو يترجم على مسئوليته الشخصية:
"روحكم ودينكم"
يتورط روتنبرج ويترجم اسم صحيفة "نا بوستو – فأسماء الصحف لا تترجم – ويكتب رفعت سلام اسم الصحيفة هكذا: "أون ذا بوست"


وفي قصيدة "وأنت؟" يقول ماياكوفسكي:
قرأت نداءات الشفاه الجديدة
وأنت
هل تقدر على عزف مقطوعة حالمة
متخذاً من ماسورة تصريف المياه ناياً
ويترجم رفعت سلام:
قرأت نداءات الشفاه البكماء
وأنت
هلا عزفت مقطوعة حالمة
بماسورة الصرف بدلاً من الناي؟
ماياكوفسكي يشير إلى الشفاه الجديدة الوليدة أما رفعت سلام فهو يحكم عليها بالخرس.
وماياكوفسكي حريص على الإشارة إلى مواسير تصريف المياه بالذات تمييزاً لها عن أي مواسير أخرى أما رفعت سلام فهو لا يعترف بالفوارق بين مختلف مواسير التصريف!


وفي قصيدة "سحابة في بنطلون" المكتوبة خلال الفترة الممتدة من ربيع عام 1914 إلى يوليو 1915. والتي كانت تحمل في البداية اسم "الرسول الثالث عشر"، يقول ماياكوفسكي:
تعالي من غرفة الاستقبال لتتعلمي
يا زوجة الموظف الوقور،
الرقيقة مثل قطعة قماش من الباتيستا،
المنتمية إلى العصبة الملائكية
ويترجم رفعت سلام:
هلمي لتتعلمي،
أيتها الآنسة - ناو - ناو نو – فولنج
الملائكية الصارمة كما جدار الهاوية
هنا يتبع رفعت سلام دوريان روتنبرج، لكن روتنبرج يترجم للإنجليز. وهذا درس عن عدم صلاحية الترجمة عن لغة ثالثة، ذلك أن تعبير الآنسة ناو – ناو – نو - فولنج - لا يعني شيئاً بالنسبة إلى القارئ العربي. ومن الواضح أن مترجمنا العربي نفسه لم يفهم معناه، فنقله كما هو!


ويخاطب ماياكوفسكي الشعب الروسي قائلاً:
أيها السادة!
ويترجم روتنبرج:
ابناء وطني!
أما رفعت سلام فهو يترجم:
أيها المواطنون!
ينسى المترجم المصري أن الروس في عام 1915 – لم يكونوا مواطنين. هذا لم يحدث إلا مع ثورة 1917.


وفي قصيدة "اسمعوا!" يقول الشاعر المستقبلي:
اسمعوا!
هل إذا كانت النجوم تتقد
كان معنى ذلك أن هذا الاتقاد
ضروري لإنسان ما
أن من الضروري أن تتقد كل مساء
فوق أسطح البيوت
ولو نجمة واحدة!
نجد ذلك في الترجمة العربية:
أنصت الآن
هل يجب أن يكون ثمة نجوم
تومض لشخص ما،
شخص ما يهفو
إلى أن فوق سطوح البيوت
يجب أن تضيء على الأقل ولو نجمة واحدة


وفي قصيدة "ليليا الحبية! بدلاً من رسالة" .. يشير ماياكوفسكي إلى الشاعر المستقبلي أ. كروتشينيخ، الذي يترجم رفعت سلام اسمه إلى "كروشونيك"، ويقول ماياكوفسكي:
وغداً سوف تنسين
أنني أنا الذي توجك
وأنني أنا الذي كويت بنار الحب روحاً مزهرة
ويترجم المترجم:
أنا الذي من أذبل روحاً مزهرة!


وفي قصيدة المغامرة العجيبة لفلاديمير ماياكوفسكي"، يقول ماياكوفسكي:
"وكالة التلغراف الروسية المرهقة"
ويترجم المترجم:
"وكالة التلغراف الروسية القذرة"
هنا تتحول الترجمة إلى إهانة. روتنبرج نفسه لا يترجم "القذرة"، لماذا؟
إن القصيدة نفسها من مجموعة "نوافذ روستا (وكالة التلغراف الروسية)". وكان الشاعر من أبرز مناضلي روستا. وفي هذه القصيدة، تذكر الشمس الشاعر بأن كلاً منهما، يؤدي ذات العمل الذي يؤديه الآخر. من حيث جوهر الأمر. فهو، إذ يعمل في "روستا"، يناضل من أجل انتشار النور. وهو يقول المرهقة لأنه كان يضطر إلى السفر كل يوم من بوشكينو إلى موسكو حيث مقر عمله في روستا. وإنها لإهانة للشاعر أن ينسب رفعت سلام إلى ماياكوفسكي وصف روستا بأنها قذرة.
ربما كان المترجم يشعر بالسخط. ولكن هذا لا يبرر إسقاط هذا الشعور على ماياكوفسكي، الذي كان يشعر بالفخر دائماً بالعمل في روستا.


وفي قصيدة جسر بروكلين يشير ماياكوفسكي إلى السكة الحديدية في نيويورك والتي يتعرف المرء على القطارات التي تزحف مرتجة عليها عندما يسمع احتكاكها الخافت بها.
أما المترجم العربي فقد حول السكة الحديدية إلى روافع وجعل هذه الروافع تضلل القطارات!


* * *


لقد سبق لرفعت سلام أن ترجم مختارات من شعر بوشكين (1799-1837) - عن الإنجليزية أيضاً – وكانت النتيجة كارثة. وقد عاد ليكرر التجربة مع ماياكوفسكي، وكانت النتيجة كارثة أخرى.



مجلة "القاهرة"
15 يوليو 1988

1 التعليقات:

دار أرابيسك للترجمة والنشر والتوزيع يقول...

العزيز المترجم القدير الأستاذ بشير السباعي تحية تقدير على هذه القراءة المحترمة التي تكشف عن المهازل المرتكبة في الترجمة إلى العربية.