نثارات الذكريات


هذا المساء
دفع شبحٌ أشيب
باب الحانة الزجاجي.
لأول مرة منذ زمن
رأى أرملته تحاورُ وروداً بلاستيكية.
ارتد باب الحانةِ بعنف.
رأى الذكريات نُثارات
مبعثرة بين نُثارات الزجاج المتكسرة.
كانت كلها صفراء
ولم يهتم بلملمتها.


19/ 9/ 1994

وردة فسفورية


حين تخرجُ من البار اليوناني قبيل الفجر يرتجفُ قلبك عند سماع صياح الديك وتحلم بالكنز المسحور حتى يتسنى لك تبديد أكثر ما يمكن من أوراق البنكنوت على مائدة القمار.
سوف تهتف:
"كل قلب مثل قلبي خافق
كل قلب مثل قلبي ذو حنين"

لكنك لن تنسى الشاب الهازئ الملامح الذي كان أباك، وهو يسامرك على فراش الموت ...، كان جميلاً مثل وردة فسفورية على شط المحيط.
ربما تقرأ الليلة شيئاً من "الأخلاق إلى نيكوماخوس" وتتساءل: هل كان المعلم الأول مقامراً؟
وحين يقتلك السأم سوف تهتف من جديد:
"كل قلب مثل قلبي ..."
لكن أحداً لن يتمهل تحت نافذتك
ولن تمتد لك يد عند عذاب الروح!


5 / 10/ 1994

شتاءٌ مرير


لابد أنكِ تجربين الآن شتاءً مريراً
مرارة الأشواق التي بلا طائل
تخرجين إلى شوارع فيينا وردة عارية إلاَّ من الحنين
تتذكرين ارتعاشات جسدك المحموم على رصيف نهار من جمر
وعنفوان روحكِ الذي كان يتحدى غبش الأسرار
وتهمهمين:
لماذا يكون المرء دائماً حيث لا يجب أن يكون؟



6/11/1994

جونفياف

إلى وسام

التلميذةُ التي تتهيأُ لدخولِ الدير
الوردةُ التي تؤَرِّجُ شارعَ الوابورات
يهتزُّ الصليبُ على صدرها الناهد
إذ يتحرشُ بها الأولادُ الأشرار
تتمتمُ بالسلامِ الملائكي:
المجدُ لك يا مريم!
تتشبثُ بيدي كأنني الملاك الحارس
يرتجف قلبي الصغيرُ فأُردد:
المجدُ لكِ يا مريم!
يا أمَّ أجملِ البنات!

1 ديسمبر 1996

Geneviève
Pour Wissame
Geneviève
L'écolière se destinait au couvent
Qui rose parfumait la rue des Wabourât
Une croix battait sa poitrine qui commençait à poindre.
Quand les mauvais garçons la harcelaient,
Elle chuchotait son ave Maria :
Gloire à toi Marie plein de grâce!
S'agrippait à ma main comme si c'était moi l'ange gardien
Mon petit coeur tremblait, je répétais :
Gloire à toi Marie plein de grâce!
Mère des belles

Traduction Par Cathrerine Farahi

حين أخذتني أمي إلى الراهب

حين أخذتني أمي إلى الراهب
اجتازت بي درباً مبلَّلاً بالدموع
ثم توقفتْ أمام بيتٍ خشبيٍّ عتيق
ودفعتْ البابَ الخارجيَّ كأنها تدخلُ بيتها.
كانت لا تزالُ أرملةً شابة
وكنتُ، بداهةً، حديثَ اليُتم
صافحني الشيخُ الجليلُ مبتسماً
قال لي أن لا أخاف
فهو لن يفعل شيئاً سوى أن يصلي من أجلي
عسى أن تهدأَ روحي المضطربة
وبنبرةِ تأكيد لحسنِ النوايا
قال أنه كان أخاً لأبي...
في الماسونية!


4 ديسمبر 1996

لو كان..

إلى سوزانا


غاب في عينيْ هيلين
وتَذكَّرَ ستامبيلوس العجوز
كان يهتف وسط البار كل مساء
- واليونان مناط الحنين –
"لن ننساك يا هيلاس"
بينما كان وزيرٌ هيليني
من أحفاد ميتاكساس
يتحدثُ بكركرة ديكٍ روميٍّ عن مقدونيا
مستعيداً ذكرى فيليب والاسكندر
ومصوراً كافافي
في صورة صبيٍّ في سيرك وطني
تنهدت امرأةٌ من بوهيميا
وقالت
"لو كان السكندريُّ بيننا الآن
"لخرج
"بحثاً عن "البرابرة"!"


1


هيلين تقفُ كل صباح
على بابِ معتقل الجبل
تحملُ للأسير سجائر وخبزاً ساخناً
تتذكرُ طروادة
وتحلمُ بالحرب العادلة.


2


ستامبيلوس الذي لن ينسى هيلاس
فناري يدل اسمه عليه
ربما لم ير اليونان ولو مرةً واحدة.


3


السكندريُّ يتذكرُ "أوراق العشب"
ويتساءل:
"لماذا يجبُ ألاَّ تكونَ هناك
سوى مقدونيا واحدة
بينما تحمل مدنٌ كثيرة
اسم الإسكندر؟ .."


أواخر نوفمبر 1993

من ديوان "تروبادور الصمت"

تَنْسَلُّ يدٌ من يد


تَنْسَلُّ يدٌ من يد
كي تُفسح ساحةً للأسف
وتوقفَ زحف الرجاء
ما أغرب الإنسان!
يتخذُ من الحنين إلى ماكان متراساً للاحتماء
من الشوق إلى مالم يأت بعد!


5/ 5/ 1993

من ديوان "تروبادور الصمت"

هكذا يجب الآن أن تتحرر


هكذا يجب الآن أن تتحرر:
أن تُدرك أخيراً أن ما تسميه حباً
ليس غير أوزارٍ تثقلُ قلبك
وأنك لن تصلَ أبداً إلى روحِ امرأة
إن كان بينك وبينها جسد امرأةٍ أخرى
وعندما تُقرِّرُ الإبحار
لا تُصَلِّ للرب
وتذكر فقط أن تحملَ الخريطة المناسبة


4/ 8/ 1992

من ديوان "تروبادور الصمت"

فانتازيا

عندما تخبو الأنوار في حانة "فانتازيا"
تخرج أولجا ستيفانوفنا
إلى الجادة التي ترد إلى تيرنوبول
وإذ يُبلل رذاذُ المطر شفتيها
تتذكر أمسيةً سَكندريَّة
وتنسى كل أحزانها
وعندما تدخلُ شقتها
تسمعُ صوتاً لم تسمعه من قبل
تحسبُ أنه يُحَدِّثُها
بينما يُحَدِّثُ امرأةً أخرى
امرأةً أخرى تحب سماعه
وتخافُ من لقاء صاحبه!


27/ 4/ 1992

من ديوان "تروبادور الصمت"

رسالة إلى أولجا ستيفانوفنا

يشعلُ لي سيجارة
يقولُ إنها بكت كثيراً عشيةَ رحيلِها
يتذكرُ أنها اشترت بآخرِ ما معها من دولارات
ملابسَ جديدة
كي يفرحَ بها وهي تخلعها
يسألني أن أترجمَ رسالةً قصيرةً إليها
أقولُ: لا عليك!
يأخذُ ما كتبتُ ...
ويُذيِّلُهُ بتاريخ أول أيامِ وحدته!


25/ 4/ 1992

من ديوان "تروبادور الصمت"

ب. كريستنسن

لأنها لا تحبُّ رؤية بشر
يُذكرونها بأعوادِ الثقابِ المطفأة
تهربُ من كوبنهاجن
وحين أرفعُ بصري إلى عينيها الحزينتين
أرى قلبي مشتعلاً!


19/ 4/ 1992
من ديوان "تروبادور الصمت"

اجتياز الروبيكون


· ايقاعٌ واحد


الرجالُ يحركون بيادقهم
يحلمون بقهر جيادكِ الذكية
وحصاركِ في المربعِ الأخير
عندئذٍ ..
تميلين برأسكِ إلى الوراء
تملين المباراة مع الخصوم
وتحركين بيادقك على إيقاعٍ واحد


10/3 / 1992

· لماذا؟


لماذا يتشبثُ المرءُ بأهدابِ الكلمات
حين يتحدثُ مع من يحب
فيبدو خائفاً من فرارها؟
ربما أملاً في ألاَّ تخونه الذاكرة
حين يعوزه الحنين إلى ما يعرفُ أنه
سوف يصبحُ ماضياً ...


16/ 3/ 1992

· انزواء


ولماذا يخجلُ الإنسانُ من أجملِ مافيه
من انتباههِ فجأةً إلى أنه مازال حياً
فيتراجعُ مذعوراً إذ لا يرى محطةً نهائية
مؤثراً الانزواء في ركنٍ بلا طائل
حيثُ لا شيء يتحركُ إلاَّ مقصلةَ الأشواق؟


22/ 3/1992

· اسم


حين تتعرف امرأةٌ على اسمها
تغمرها الفرحة
كما لو كانت قد اكتشفت قارةً عامرةً بالأسرار
-حتى دون أن تحمل خرائط- ،
وعندئذٍ
تتذكرُ أنكَ هناك
وتدعوك إلى مغامرة اكتشافٍ أخرى ...


22/ 3/ 1992

· وداع


كيف يودعُ المرءُ امرأةً تتنازعها الرغبة
في الحملِ والإجهاض
تفتحُ نافذةً كي تستنشقَ هواءً نقياً
فإذا بها تفكرُ في الانتحار!


23 / 3 / 1992

· خذلان

حين تسألُ امرأةً تُحبها وعداً بألاَّ تخذلك
ترفعُ عينيها البريئتين إلى السماء
لتُشهدَ الرب على حُبها السرمدي
وإذ تتسعُ ذاكرتها لكل شيء
وتُصبحُ كوناً لا نهائياً
لا تنسى شيئاً غير هذا الوعد!

29/ 3/1992

· مصير


حين تُراوِغُ عينيكِ وعود السَّحَر
وتلمحين على موقف "الباص" المهجور
طيفاً غارقاً في الضباب
ثم ترينهُ عبر نافذةِ القطارِ المتجهِ إلى البحر
بين أشجارٍ تتحركُ سريعاً
لا تفزعي من مُكابداتِ الروح
ولا تقولي: وداعاً!


5/ 4/ 1992
من ديوان "تروبادور الصمت"

يومٌ آخر


سوف يجيءُ يومٌ آخر .. ربما
وأعرفُ امرأةً يروقُ لها سماعُ حكاياتِ
الحب والموت
وتبتهجُ إذا ما رأتني في دورِ شهرزاد
وإن كنتُ أعرفُ أنها سوف تقتلني
في الليلةِ الأخيرة
ثم تبكيني بدموعٍ حسيرة ...


3 / 3 / 1992
من ديوان "تروبادور الصمت"

سؤال

إن كان ليس لي أن أراكِ
إلاَّ حين ترحلُ روحي
فكيف لي ألاَّ أشتهي الموت؟


ديسمبر 1990

من ديوان "تروبادور الصمت"

يوماً ما

يوماً ما..
سوف تحتضنُ الأرضُ الدافئةُ أسرار قلبي

يوماً ما
سوف تتذكرني امرأةٌ منتشيةٌ بالفرح
أو متشحةٌ بالسواد

يوماً ما
سوف تكونُ الأرضُ في رقةِ امرأةٍ
وتكون امرأةٌ في دفءِ الأرض!


19 / 7 / 1990

من ديوان "تروبادور الصمت"

فوق الأرصفة المنسية


النوارس التي سكنت سماء قلبي
إلى ضفاف عينيكِ تؤوب
يحملها نسيمُ الزمن الذي كان
والزمن الذي سوف يكون
تخترقُ دروباً وحشية
تعلو فوق الأرصفة المنسية
جيشان حنين


21/ 3/ 1990

من ديوان "تروبادور الصمت"

هواء نوفمبر

إلى ايلينور

أموتُ قبل غروبِ الشمس
يحملُ النوتيُّ والمرأةُ النرويجيةُ جثتي إلى شاطئ النهر
إلى كوى الليل تنسلُّ الكلمات
وإلى قلب الأرض تؤوب الأغاني
يتبددُ صوتي في نشيج هواء نوفمبر
أفتقدُ ذكاء عينيكِ
... فأنام إلى جوار طفلي
... وأستريح

1/7 / 1989
من ديوان "تروبادور الصمت"

تراث


الزورقُ المبحرُ في قلبِ المحيط
لا يتركُ أثراً على وجهِ الماء
وجرذان الضفاف تخمشُ وجه اليابسة
وتخلفُ "تراثاً"!


19/ 6/1989
من ديوان "تروبادور الصمت"

من السوليبسية إلى "عودة التاريخ"


من الناحية الزمانية، لا يمكن أن يكون صحيحاً أن "ما بعد الحداثة" أو أيديولوجية "نهاية التاريخ" هي المسئولة عن السوليبسية (solipsism) التي ظهرت في الكتابة الأدبية في بلادنا بعد هزيمة 1967، فالواقع أن هذه الهزيمة هي التي أنجبت هذه السوليبسية، حيث يؤشر فقدان الإيمان بما سُمِّيَ بـ "المشروع القومي" إلى زوال مبررات الأواصر الاجتماعية وكأن مشروعية هذه الأواصر لا يمكن أن تُستمد إلاَّ من إيمان كهذا!

والحال أن هناك من وجدوا في "ما بعد الحداثة" التيمات التبريرية لهذه السوليبسية: استحالة إدراك العالم في شتى ارتباطاته وتحولاته المعقدة، استحالة تغيير العالم، أولوية الذات والجسد.

وقد طالت هذه التجهيلية الفلسفية قصيدة النثر.

وهكذا، فبدلاً من أن تكون قصيدة النثر تجلياً للنزوع إلى المواء مة بين التعبير عن "الحركات الليريكية للروح وتموجات الهواجس وانتفاضات الوجدان" على ضوء تناقضات المدينة الحديثة بشتى احتداماتها، كما لدى بودلير ورامبو، نجد أنفسنا أمام مفهوم معاكس لا يرى الأواصر الاجتماعية ويتهرب من سؤال المصير الإنساني. لكن ما يطمح إليه الفن ليس هو الاختزال بل التكثيف، فالذات مسكونة بالآخرية والجسد أكثر تركيباً وتاريخيةً وتفاصيل الحياة اليومية تجليات لما هو أعمق ...

والسؤال الآن هو: ماذا سيفعل الشعراء مع "عودة التاريخ"؟

في جميع الأحوال تظل مهمة الفنان هي الاشتباك العميق والصادق بالحياة، وهذا شيءٌ مختلفٌ تماماً عن اختزال العالم في "أنا" لا تشعر بوجوده!

*

قبل نحو مائة عام، تحديداً عام 1915، كتب المازني الشاب معلناً استنكاره القصيدة التي لا تتميز بوحدة القافية والبحر الشعري، وبعد سبع سنوات من ذلك، نشر أحمد راسم مجموعته الشعرية الأولى، "البستان المهجور"، والتي أجبره الخوف من سدنة الشعر على نشرها دون ذكر اسم صاحبها. والحال أن هذه المجموعة التي ربما كانت أول مجموعة قصائد نثر عربية قد قوبلت بالاستنكار من جانب أحمد شوقي الذي اتهم صاحبها بأنه "معتوه". وعلى الجانب الآخر، لأن هناك دائماً جانباً آخر، رحَّب جورج قطاوي في مايو 1922 بقصائد أحمد راسم النثرية العربية، مؤكداً أن صاحبها "حالمٌ أريب، نجح في أن يُسَرِّب إلى قصائده النثرية الكثير من الصيغ الجديدة والكثير من العناصر الجمالية التي تدين لغتها لمنجزات بيجي وجاميس وكلوديل".

إلاَّ أن رأي أحمد شوقي في "البستان المهجور" كان كارثة بالنسبة للشاعر الشاب، بحيث أنه أُجبر فيما بعد على ترجمة قصائده النثرية التي واصل كتابتها بالعربية إلى الفرنسية ثم تمزيق أصولها العربية!

على أن التجريب الشعري لم يتوقف بطبيعة الحال. ولا شك أن عام 1939، عام نشر "الغرفة الرنانة" للشاعر والرسام فؤاد كامل، كان موعدأ جديداً مع قصيدة النثر العربية التي سوف تعاود الإطلال في عام 1948 مع نشر قصائد مهمة لشعراء من المحزن أنهم هجروا كتابة الشعر فيما بعد: كامل زهيري، عادل أمين، حسن التلمساني،إلخ.

وجاءت التسعينيات لتعلن عودة قصيدة النثر بقوة ولتكرس احتلالها الساحة الأوسع للإبداع الشعري في مصر. لكن ما يجب أن يقال، دون مواربة، هو أن هذه الموجة حملت زَبَداً كثيراً، لا سيما أن النقد بدا متسامحاً أكثر من اللازم أو عاجزاً عن قراءة المشهد قراءةً صحيحة، ومعروف جيداً أن التساهل غالباً ما يكون رفيقاً للجهل!

لا أحد يستطيع منع أحد من اتخاذ الكيتش خليلاً، فبحسب مبادئ حقوق الإنسان، من حق كل إنسان أن يفعل مع نفسه ما يشاء، إلاَّ أن من حق الناقد كذلك أن يبدي رأيه في هذه الأفعال مادامت تجري ممارستها في المجال العام!

وبقدر ما أننا نحيا ونكابد أزمنة دراماتيكية بالفعل، فليس جميلاً بالمرة أن يهبط الشاعر إلى مستوى البيانو الأحمق الذي يتخيلُ أن كل ما في الكون من موسيقى صادرٌ عن أوتاره!

بشير السباعي، 21 فبراير 2010
كلمة في الجلسة الافتتاحية للملتقى الثاني لقصيدة النثر

العرب والمحرقة النازية

عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار الساقي ببيروت، صدرت في مستهل هذا الشهر ترجمة بشير السباعي لكتاب "العرب والمحرقة النازية. حرب المرويات العربية – الإسرائيلية" من تأليف الباحث المعروف جلبيرالأشقر، الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وكان الأصل الفرنسي للكتاب قد صدر في سبتمبر 2009 عن دار سندباد الفرنسية. وقد نشرت "لوريان لوجور" في ملحقها الأدبي الشهري الصادر في 3 ديسمبر 2009 مراجعة للكتاب بقلم المؤرخ الفرنسي المعروف هنري لورنس ننشر أدناه ترجمة لها بقلم بشير السباعي:


معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية. ومواقف العرب من دولة إسرائيل، بحسب ما إذا كانت هذه المواقف قومية أو معادية للاستعمار أو إسلامية، هي مواقف متنوعة وليست كلها موسومة بالافتتان بالنازية. وفي عمله الأخير، يفك جلبير الأشقر برهافةٍ الخطوط الأيديولوجية التي تنسج علاقة العرب المركبة بالمحرقة النازية.


ويُذَكِّرُ جلبير الأشقر في البداية بمدى فداحة الآلام التي تنشحن بها الكلمات عندما نستحضر هذه الحقبة الكارثية من تاريخ القرن العشرين. والكتاب مخصص في جانب كبير منه للفترة الممتدة من عام 1933 إلى عام 1945 وهو يدرس ردود الفعل العربية على النازية انطلاقاً من حقيقة أن الصهيونية كانت حميمة الارتباط بالإمبريالية الأوروبية و بالاستعمار ومن ثم فقد حوربت بصفتها هذه. ويميز الكاتب بين التيارات الفكرية الأربعة الكبرى للنزعة الاستقلالية المعادية للاستعمار، وهي تفرقة مصطنعة إلى حدٍّ ما وذلك بالنظر إلى تواصلات الفاعلين وانتقالاتهم بين هذه التيارات وإن كان بالإمكان الاعتراف بها كنواة لقيم مشتركة.


والتغريبيون الليبراليون هم أولئك الذين يرجعون إلى الثقافة الديموقراطية والإنسانية النابعة من أوروبا. وقد انحازوا انحيازاً حازماً إلى صف معاداة النازية. وهم معادون للصهيونية من منطلق معاداة الاستعمار ويطرحون دوماً السؤال "الوجيه والذي لا يجوز الاعتراض عليه": لماذا ينبغي على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن جرائم النازيين؟ وهذا هو موقف الفريق الأعظم من المثقفين العرب آنذاك، خاصة في مصر، وهو موقف أحزاب سياسية كبيرة كالوفد المصري والكتلة الوطنية السورية. وهو رأي أغلبية الصحف الفلسطينية. وهو التيار السياسي الأوسع انتشاراً بكثير آنذاك.


والماركسيون العرب أكثر عداوة للنازية بقدر ما أن هذه العداوة كانت التوجيه الذي قررته الأممية الشيوعية فيما عدا الفترة الممتدة من أغسطس / آب 1939 إلى يونيو / حزيران 1941 [ فترة ميثاق هتلر – ستالين ] . وهم الذين طرحوا المعادلة الغرارة التي تساوي الصهيونية بالنازية، أي أن عداوتهم للحركتين كانت على مستوى واحد، ونحن هنا بإزاء الصيغة المحلية لصيغة "الاشتراكية – الفاشية" التي استخدمها الشيوعيون في البلدان الأخرى [ غير العربية ].


وأمَّا القوميون فإنهم ينظرون إلى ألمانيا النازية بالدرجة الأولى من حيث كونها عدوة بريطانيا العظمى، ومن ثم من حيث كونها حليفة ممكنة. وغالباً ما يقودهم هذا التعاطف إلى استعارة أشكال من الفاشيات الأوروبية من نوع حركات الشبيبة ذات الطابع العسكري. والوحيدون الذين اجتذبهم إلى حد ما بالفعل أقصى اليمين الأوروبي كانوا في حركة مصر الفتاة وبين القوميين العراقيين المتطرفين. وهم أولئك الذين حاولوا الدخول في اتصال مع الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. وقد فعلوا ذلك أساساً من منطلق كراهيتهم للمستعمر البريطاني. وتلك كانت حالة السادات في شبابه أو القوميين المتطرفين العراقيين. ونحن نجد في هذه الجماعات اتجاهاً إلى الخلط بين اليهود والصهيونيين.


وفي الحركات الدينية "السلفية"، تلك التي تقرأ نصوص الإسلام الأساسية قراءة حرفية، نجد معاداة حقيقية للسامية، لأن هذه الحركات تفهم العالم من منظور ديني، أي من زاوية صراع الديانات. وهكذا تجري إعادة استنفار الموروث المعادي لليهودية. ونحن نجد هذا المسلك في كتابات رشيد رضا الأخيرة أو لدى الإخوان المسلمين. ومن الغريب أن هؤلاء الإسلاميين، بينما يعادون علمانية الماركسيين أو الكماليين الدهرية معاداة ضارية، إنما يُبدون قدراً من التساهل حيال النازية التي لا يحسنون من جهة أخرى فهم جوهرها الوثني الجديد.


ويُدرج الكاتب أمين الحسيني ضمن هذه الفئة. واقتناعي بذلك أقل من اقتناعه به. فلقد كان في تعاونه مع النازية القدر الكبير من الانتهازية السياسية، حتى وإن كان من المؤكد أنه كان شديد التأثر بأشكال المراعاة الكثيرة التي أبداها له المسئولون النازيون. ومما لا جدال فيه أنه قد استجاب عن طيب خاطر للمطالبات التي وجِّهت إليه لإصدار تصريحات معادية لليهود. إلاَّ أنه يبقى مع ذلك، وهذا هو الشيء الجوهري، أن أفعال المنفيين العرب الموجودين في أوروبا الواقعة تحت السيطرة النازية لم تلق غير القليل من الأصداء ولم تترتب عليها نتائج تذكر في العالم العربي. وهذا هو ما يعترف به أيضاً المؤرخون الإسرائيليون الجادون كيهودا باور. والواقع أن عدد المقاتلين العرب في صفوف جيوش الحلفاء كان أعلى بكثير من بضع المئات من المتطوعين الذين انحازوا إلى صف النازية. وتكفي الإشارة إلى أن عدد العرب الذين تم الإلقاء بهم في معسكرات الاعتقال النازية كان أكبر من عدد هؤلاء المتطوعين.


والجزء الأخير من الكتاب، وهو الجزء الأكثر اقتضاباً، مخصص لحقبة ما بعد 1945. وتتعقد المسألة تعقداً مريعاً جرَّاء رغبة دولة إسرائيل في تبرير وجودها بواقع القضاء على يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية وبتشبيه العرب بالنازيين على نحو مستديم في الخطاب الإسرائيلي. وبشكلٍ مُناظرٍ، قام كثيرون من الكُتَّاب العرب بالرد على ذلك برد التهمة على الإسرائيليين وباستعادة الفكرة الرئيسية التي جاءت من الشيوعية بشأن التساوي بين الصهيونية والنازية. وهكذا فإننا، في ثقافة الحرب بين الطرفين، نجد أنفسنا حيال تبادل رهيب للاتهامات. ومما يزيد من تفاقم التشوش واقع أن أنصار دولة إسرائيل يتهمون العرب والمسلمين بأنهم لا يميزون بين اليهود والصهيونيين في حين أنهم هم أنفسهم يرفضون هذا التمييز، بل يصل الأمر بهم إلى حد شجب المثقفين اليهود الذين يقومون بهذا التمييز جرَّاء "كره النفس" .

وقد عومل مكسيم رودنسون العظيم في فرنسا بهذه الطريقة. وفي هذا المناخ الوبيل، فمن المؤكد أن إنكار المحرقة ذي المنشأ الغربي قد وجد ترحيباً. كما أن الهيمنة التي اكتسبتها في هذه العقود الأخيرة الحركاتُ الإسلاميةُ في المجال الفكري والسياسي تجد ترجمة لها في نزعة جوهرانية، مصدرُ إلهامها ديني، تستهدف أيضاً المسيحيين (الحديث عن اليهود والصليبيين).


ويبقى مع ذلك أن الموقف الرسمي لجميع الدول العربية اليوم هو موقف تطبيع كامل للعلاقات مع دولة إسرائيل، في مقابل الجلاء الكامل أيضاً عن الأراضي المحتلة، وأن حركة معاداة السامية القوية في العالم العربي هي بالدرجة الأولى رد فعل على الواقع الصهيوني نفسه. فليس عبر معاداة السامية تتم مواجهة إسرائيل، ولكن كثيرين (وإن لم يكن الجميع) يصبحون معادين للسامية في سياق مواجهة إسرائيل. وذلك هو الثمن الخبيث لثقافة الحرب. وعلى سبيل المقارنة، يمكن التذكير بأسوأ الهذيانات التي أبداها أعظم المثقفين الفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى حين تحدثوا عن همجية الألمان المتأصلة.


وقراءة هذا الكتاب، بحجمه كما بجودته العلمية، إنما تقدم عزاءً عظيماً في زمن يستسلم فيه أناس، يزعمون أنهم مثقفون أو جامعيون، لهذا النوع من الهذيانات عند إثارة موضوع كهذا. فليتقبل الكاتب والناشر شكرنا.

أخبار الأدب ، 21 فبراير 2010

الرحيل


القطاراتُ الفضيةُ الصاعدةُ إلى الجنوب
أجنحة حماماتٍ مرهقة
أشواقٌ مُراقةٌ على فراش العشب البرِّيِّ
مناديلُ وداعاتٍ حسيرة
شرفاتٌ مفتوحةٌ على عذاب الروح
أنفاسُ حلمٍ أخيرة!

6/ 6/ 1989
من ديوان "تروبادور الصمت"

الأسد آبادي


كان الشيخ جمال الدين الأسد آبادي
يجلس كل مساء على رصيف قهوة "متاتيا"
يثبتُ عينيه على حدائق الأزبكية
يجرفه الحنين إلى المروج الفارسية
"يوزع السعوط بيدٍ
والثورة باليد الأخرى"



هذا المساء
بين رميتي زهر
على رصيف قهوة "زهرة البستان"
لمحته فجأة في أحد الأركان
كان حزيناً
مهموماً...
وضجراً...
لا يكاد يثبت عينيه على شيء
وكان يوزع السعوط بكلتا يديه!


أواخر يوليو 1989

من ديوان "تروبادور الصمت"

تروبادور الصمت

إلى ذكرى جورج حنين

من ماتوا واقفين في معتقل فوركوتا
والأمهريون الذين خنقهم غاز الخردل
وأطفال بابي يار الأبرياء
وطاووس كويواكان الأحمر
النازف دماً
وهنود تزن تزون تزان
أولئك لم يروك في صحبة المومسات
في حانات عماد الدين
وأنت تهرب من صحبة الشعراء المأجورين
لم يروك في شوارع روما
وأنت تتمتم باسم أسيرة الحرس البريتوري
والأمير ذي الأنف السيمافوري
لم يروك في مترو باريس
وأنت ترتعد من مشهد الوجوه الإنسانية
وقد استحالت إلى مؤخرات
أولئك كان يمكن أن ينصتوا إلى كلمتك العارية
عرى النصل القاطع
وكان يمكن أن يحبوك.

1989
من ديوان "تروبادور الصمت"

استيهامات_8

16 فبراير 2010


المتسولون جزء من المشهد الطبيعي – والاجتماعي بالطبع – لمدن العالم الرأسمالي، ينطبق هذا على القاهرة كما ينطبق على نيويورك وموسكو التي حل فيها الملياردير فلاديمير ليسين (18,8 مليار دولار) محل الفقير فلاديمير لينين (55 مجلداً من الأعمال الكاملة ومعطف يقيه من البرد أهدته له أمه عام 1905!).


والآن، ماذا سيفعل هذا المتسول الإنجليزي الذي أخذوه من الشارع إلى المستشفى لعلاجه من أمراضه الجلدية وإلباسه ثياباً نظيفة بحيث إنه صار من الصعب عليه أن يتعرف على المصير الذي ينتظره؟!
"- بحال جديدة كهذه، سوف يطردونني من الشارع!".


مثل هذه الكوميديا السوداء المأخوذة من الحياة اليومية، نادراً ما يلتفت إليها شعراؤنا "بعد الحداثيين"!.

انتحار ماياكوفسكي

ليون تروتسكي

حتى بلوك(1) ميَّز في ماياكوفسكي "موهبةً ضخمة". ويمكن القول دون مبالغة أن ماياكوفاسكي كان يملك شرارة العبقرية. لكن موهبته لم تكن موهبةً منسجمة. فمن أين كان يمكن للانسجام الفني أن يأتي في عقود الكارثة هذه، عبر الهوة غير المردومة بين عصرين؟ وفي عمل ماياكوفسكي، تنتصب الذُّرَى جنباً إلى جنب المهاوي السحيقة. وفسحات العبقرية تفسدها مقطوعات شعرية تافهة، بل وابتذال صارخ.


ليس صحيحاً أن ماياكوفسكي كان ثورياً أولاً ثم شاعراً بعد ذلك، مع أنه كان يتمنى مخلصاً لو أن الأمر كان كذلك. فالواقع أن ماياكوفسكي كان أولاً شاعراً، فناناً، رفضَ العالمَ القديمَ دون أن يقطع صلته به. وهو لم يسع إلى أن يجد سنداً لنفسه في الثورة إلاَّ بعد الثورة، وقد نجح في ذلك بدرجة مهمة؛ إلاَّ أنه لم يمتزج بها امتزاجاً كليَّاً، فهو لم يأت إليها خلال سني تكوينه الداخلي، في شبابه. ولو تأملنا المسألة ضمن أبعادها الأوسع، فسوف نكتشف أن ماياكوفسكي لم يكن مجرد " مغنِّيَ "، بل كان أيضاً ضحيةَ، عصر التحول، الذي بينما كان يخلق عناصر الثقافة الجديدة بقوة لا مثيل لها، كان مع ذلك يفعل ذلك بشكل أبطأ وأكثر تناقضاً بكثير مما هو ضروري بالنسبة للتطور المنسجم لشاعرٍ فردٍ أو لجيلٍ من الشعراء المخلصين للثورة. وقد انبثق غياب الانسجام الداخلي من هذا المصدر عينه وعبَّر عن نفسه في أسلوب الشاعر في غياب الانضباط اللفظي الكافي وفي غياب الخيال المروَّى فيه. فهناك حمم ساخنة من المشاعر الثائرة جنباً إلى جنب موقف مهتز غير مناسب تجاه العصر والطبقة، أو سخرية سافرة لا مذاق لها يبدو أن الشاعر ينصبها متراساً ضد إيذاء العالم الخارجي له. وأحياناً ما يبدو ذلك زائفاً، ليس فقط من الناحية الفنية، بل من الناحية السيكولوجية أيضاً، فالرسائل المكتوبة قبل الانتحار مباشرة تتميز هي نفسها بالنغمة ذاتها. ذلك هو معنى عبارة "قُضِيَ الأمر" التي يلخص بها الشاعر نفسه. ويمكننا قول ما يلي: إن ما كان في الشاعر الرومانسي المتأخر هاينريش هاينه غنائيةً وسخريةً (سخريةً من الغنائية وإن كانت في الوقت نفسه دفاعاً عنها)، هو في "المستقبلي" المتأخر فلاديمير ماياكوفسكي خليط من المشاعر الثائرة والابتذال (الابتذال ضد المشاعر الثائرة وإن كان حماية لها أيضاً).


يسارع البلاغ الرسمي عن الانتحار إلى الإعلان، بلغة البروتوكول القضائي المحرر في "السكرتارية"، أن انتحار ماياكوفسكي "لاعلاقة له بالنشاط العام والأدبي للشاعر". أي أن موت ماياكوفسكي الإرادي لا علاقة له بحياته أو أن حياته لا علاقة لها بعمله الثوري – الشعري. وبكلمة واحدة، فإن هذا يُحَوِّلُ موته إلى مغامرة مستخرجة من أضابير الشرطة. هذا غير صحيح، غير ضروري وغبي. يقول ماياكوفسكي في قصائده المكتوبة قبل الانتحار عن حياته الشخصية الحميمة: "لقد تحطمت السفينة على صخرة الحياة اليومية" وهذا يعني أن "النشاط العام والأدبي" كف عن الارتفاع به فوق المياه الضحلة للحياة اليومية – بدرجة كافية لانقاذه من الصدمات الشخصية غير المحتملة. فكيف يمكنهم القول "لا علاقة له به"!.


تستند الأيديولوجية الرسمية الحالية عن "الثقافة البروليتارية" – نحن نرى الشيء نفسه في المجال الفني كما في المجال الاقتصادي – على انعدام كُليٍّ لفهم الإيقاعات والفترات الزمنية الضرورية للنضوج الثقافي. إن النضال من أجل "الثقافة البروليتارية" – وهو شيء شبيه بـ " التجميع الكامل" لكافة مكتسبات البشرية في غضون خطة خمسية واحدة – كان يتميز في بداية ثورة أكتوبر بطابع نزعة مثالية طوباوية، وعلى هذا الأساس بالتحديد رَفَضَهُ لينين وكاتبُ هذه السطور. أمَّا في السنوات الأخيرة، فقد أصبح مجرد نظام للتسلط البيروقراطي على الفن وطريقة لإفقاره. إن فاشلي الأدب البورجوازي، من أمثال سيرافيموفيتش وجلادكوف وآخرين، قد جرى اعتبارهم أساتذة كلاسيكيين لهذا الأدب البروليتاري المزعوم. وجرى تعميد تافهين سطحيين، مثل آفيرباخ، بيلينسكات للأدب... "البروليتاري" (!)(2). أمَّا القيادة العليا في مجال الكتابة الإبداعية فهي موضوعة بين يدي مولوتوف، وهو نفي حي لكل ما هو إبداعي في الطبيعة البشرية. والمساعد الرئيسي لمولوتوف – إذا انتقلنا من السيء إلى الأسوأ – ليس أحداً آخر غير جوزيف، وهو بارع في مختلف المجالات ماعدا الفن. وهذا الاختيار للقيادات يتماشى تماماً مع الانحطاط البيروقراطي في المجالات الرسمية للثورة. لقد رفع مولوتوف وجوزيف فوق الأدب مالاشكيناً جماعياً، احترافَ أدبٍ داعرٍ من جانب "ثوريٍّ" متملقٍ ذليل.(3)


إن خيرة ممثلي الشبيبة البروليتارية الذين كانوا مدعوين إلى تجميع العناصر الأساسية لأدبً وثقافةٍ جديدين قد تم وضعهم تحت قيادة أناس يحولون إفلاسهم الثقافي الخاص إلى مقياس لجميع الأشياء.


بلى، لقد كان ماياكوفسكي أكثر شجاعة وأكثر بطولة من أي أحد آخر من الجيل الأخير للأدب الروسي القديم. ومع ذلك فقد عجز عن كسب قبول ذلك الأدب وسعى إلى بناء أواصر مع الثورة. وهو قد حقق هذه الأواصر، بلى، بشكل أكمل مما فعله أي أحد آخر. لكن انقساماً داخلياً عميقاً ظل يلازمه. فإلى التناقضات العامة للثورة – الصعبة دائماً بالنسبة للفن الساعي إلى الأشكال الكاملة – أُضيف انحدارُ السنوات القليلة الماضية، الذي أشرف عليه الخائبون. ورغم أن ماياكوفسكي كان مستعداً لخدمة "العصر" في عمل الحياة اليومية الممل، إلاَّ أنه لم يكن بوسعه أَلاَّ يشمئز من البيروقراطية الثورية المزعومة، وذلك رغم أنه لم يكن قادراً على فهمها من الناحية النظرية ولذا لم يكن بوسعه اكتشاف السبيل إلى قهرها. إن الشاعر يتحدث عن نفسه صادقاً بوصفه "ذلك الذي لا يمكن تحويله إلى مأجور". وقد عارض غاضباً لوقت طويل دخول مجموعة آفيرباخ الإدارية لما يُسَمَّى الأدب البروليتاري. ونبعت من هذا محاولاته المتكررة لأن يخلق، تحت راية "الجبهة اليسارية"، جماعة من المحاربين المتحمسين من أجل الثورة البروليتارية يخدمونها بدافع من التآزر لا من الخوف. لكن "الجبهة اليسارية" كانت عاجزة بالطبع عن فرض إيقاعاتها على "الـ 150 مليوناً". فجدليات جزر ومد الثورة أعمق وأخطر شأناً بكثير فيما يتصل بذلك.


في يناير من هذا العام، اقترف ماياكوفسكي، وقد هزمه منطق الوضع، عنفاً ضد نفسه ودخل أخيراً "رابطة الكتاب البروليتاريين لعموم الاتحاد". كان ذلك قبل انتحاره بشهرين أو بثلاثة أشهر. لكن ذلك لم يضف شيئاً ومن المرجح أنه قد حَطَّ من شأن شيء. وعندما صَفَّى الشاعر حساباته مع تناقضات "الحياة اليومية" الخاصة والعامة على حد سواء، مرسلاً "سفينته" إلى القاع، أعلن ممثلو الأدب البيروقراطي، أولئك المأجورون، أن ذلك شيء "غير معقول، وغير مفهوم"، مبينين ليس فقط أن الشاعر العظيم ماياكوفسكي قد ظل "غير مفهوم" بالنسبة لهم، بل وأيضاً أن تناقضات العصر "غير مفهومة" بالنسبة لهم.


إن رابطة الكتاب البروليتاريين الإلزامية، الرسمية، المجدبة من الناحية الأيديولوجية، قد أقيمت فوق مذابح أولية ضد التجمعات الأدبية الحيوية والثورية حقاً. ومن الواضح أنها لم تقدم سنداً معنوياً. وإذا كان لم يصدر من هذا الركن عند رحيل شاعر روسيا السوفييتية الأعظم غير رد البيروقراطية المرتبك – "لاعلاقة، لاصلة"- فإن هذا قليل جداً جداً، قليل جداً جداً جداً، لبناء ثقافة جديدة "في أقصر وقت ممكن".


لم يكن ماياكوفسكي ولم يكن بوسعه أن يكون سلفاً مباشراً لـ "الأدب البروليتاري" وذلك للسبب نفسه الخاص باستحالة بناء الاشتراكية في بلد واحد. لكنه في معارك العهد الانتقالي كان مناضل كلمةٍ بالغ الشجاعة وأصبح بشيراً أكيداً لأدب المجتمع الجديد.


الهوامش:


(1) ألكسندر بلوك (1880-1921). شاعر رمزي روسي.
(2) ألكسندر سيرافيموفيتش وفيودور جلادكوف (1883-1958)، كاتبان روائيان روسيان.
فيساريون بيلينسكي (1811-1848)، ناقد أدبي روسي.
(3) سيرجي مالاشكين، أديب روسي إباحي.


ترجمة: بشير السباعي
"أدب ونقد" بتاريخ (؟)

مدخل الى تعريف أزمة الثقافة

في الألمانية، كما في كثير من كتابات جرامشي, تعني "الثقافة" التمدن، الذي احتاج رواد النهضة العربية إلى عشرات السنين لكي يصلوا إليه كمصطلح عربي يعبر عن ال "civilization".

وإذا استخدمنا "الثقافة" بالمعنى الألماني لكي نرى إلى أي حد هي موجودة في بلادنا, فسوف نكتشف أنها جزر محاصرة بمحيط من البربرية التي يعلو مَوجُها مهدداً حياتنا الروحية بتقهقرنلمس آثاره على أكثر من مستوى:

لقد اتخذت التجهيلية الدينية شكل حداثة رجعية تتوهم أن اللحاق بالحداثة يتمثل في العودة إلى أزمنة ذهبية وهمية، ما يعني أن الماضي لم يمض بعد، مادامت هذه الحداثة الرجعية تدير ظهرها للمنجز الإنساني التنويري المتواصل تكريساً للإغتراب الروحي الأزلي وهو ما يعني أن العلمنة لم تقطع في بلادنا شوطاً يستحق الذكر. والنتائج المترتبة على ذلك مرئية لكل من يريد أن يرى: التعصب الديني، تفتيش الضمائر وخنق الفكر الحر وحرية الفكر، انحطاط التعليم والمعرفة، اضطرار مئات الآلاف من المثقفين إلى النزوح إلى الغرب، هيمنة العنف على الخطاب السائد، إلخ، باختصار، تحويل ساحة الحياة الروحية إلى ساحة للترويع والخوف والعسف والعنف، أي إلى كل ما يتعارض كل التعارض مع التمدن، مع الثقافة.

يعني هذا أن مطلب العلمنة بات على رأس جدول الأعمال، ويتضمن هذا المطلب، بالدرجة الأولى، فصل الدين عن الدولة وفصل التعليم العام عن الدين.

ويترافق مع خطاب الحداثة الرجعية خطاب هوية حصرية، هو خطاب عنصري في جوهره، يتضمن قدرأ لا بأس به من رهاب الآخرين، خاصةً إذا كانوا غربيين، فيجري النظر إلى الغرب على أنه كلٌ مصمت، ما يشير إلى العجز عن قراءة الغرب، و،عموماً، إلى العجز عن التمييز، مايشكل، بحد ذاته، دليلاً على خلل معرفي وخيم الآثار من الناحية العملية كذلك. فتحويل الخصوصية القومية إلى خصوصية حصرية هو انكفاء مرضيٌّ على الذات ونرجسية تؤدي إلى الهلاك في عالم على هذه الدرجة الكبيرة من التداخل.

يعني هذا أن مطلب أولوية المصلحة الإنسانية العامة على المصلحة القومية بات هو الآخر على رأس جدول أعمال الثقافة، التمدن، الآن بأكثر مما كان في زمن مونتسكيو أو أي زمن آخر.

وتترافق مع خطاب الحداثة الرجعية، دينيًّا كان أم قوميٍّا، نزعة سلطوية عميقة الجذور في الاستبداد الشرقي. فلا وجود هناك للفرد سوى الفرد المستبد، حاكماً كان أم إماماً أم زعيماً قوميًّا، أمَّا الجماعة فهي ليست إلا حاصل جمع أحلاس ورعايا، إذ لا تتألف من مواطنين لهم حقوقهم الفردية والجماعية، أللهم إلا على الورق فقط، وهو ما يعني أنها حتى لا تساوي قيمة الورق الذي تُكتب عليه والحبر الذي تكتب به.
يعني هذا أن مطلب الديموقراطية بات هو الآخر على رأس جدول الأعمال، ذلك أن الثقافة، التمدن، لا يمكن أن تنمو في الأرض اليباب، فماؤها هو الحرية والحرية أُكسجينها.

وبقدر ما أن الفقر، الحرمان، العوز،البؤس، هو التربة التي تترعرع عليها كل الأوبئة المذكورة أعلاه، فإن حل المسألة الاجتماعية إنما يطرح نفسه بقوة بوصفه شرطاً أساسيًّا لتحقيق العلمنة والأنسنة والدمقرطة.

وفي هذه الظروف، تتحدد مسئوليات فاعلي الثقافة، التمدن، الأساسيين؛ أي الجماعة الثقافية: ليست مهمتها أن تتحول إلى حزب، بل أن تخوض حرب مقاومة ثقافية، مقاومة لا قائد لها ولا مرشد سوى ما يمليه الحاضر والتاريخ عليها من واجبات أخلاقية، إن كانت تريد تبرير وجودها على الأقل!.
الكتابة الأخرى، يناير 2010

استيهامات_7

3 فبراير 2010

بوسع إجلال ذكرى الآباء أن يقود إلى تزييف الوعي. ناهيك عن دوره في عبادة الأسلاف.

ليست هناك خطورة كبيرة في مزاعم الجبرتي عن مآثر أبيه العلمية، فهي لا تؤشر إلاَّ لبرِّ الإبن حيال أبيه.

لكن الأمر يختلف حين يبرر لك فلاديمير فلاديميروفيتش دور أبيه الذي أعَدَّ الخطط العسكرية لسحق ربيع براغ، زاعماً أن الحرية حالة باطنية لا يمكن سلبها على أي حال؟!

استيهامات_6

2 فبراير 2010

في " أفئدة في أطلانتس"، يتخذ صوت أنطوني هوبكنز نبرة شجية مؤثرة، خاصة عندما يتحدث عن "الوضيعين الذين يتركون ظلالاً طويلة"؛ وهذا لأنها تجثم على صدر الإنسان لتستحيل إلى تساؤل مؤرق: متى تتطهر الحياة من الأنذال والجبناء؟!
لن تفيدنا الإجابات الشوامل عن الأسئلة الهوامل كثيراً، فهذا ليس تساؤلاً تجيب عنه الكلمات، وذلك بقدر ما أن التجاوز المراد ليس ترانسندنتالية فلسفية بل اختراق فريد على مستوى الممارسة الإنسانية التاريخية، و هو ما يعني أن الأنذال والجبناء سوف يبقون في الجوار، "يتركون ظلالاً طويلة"، ما دامت شمس هذه الممارسة لم تصبح عمودية بعدُ!

* * *

بما أن العمل المغترب عبودية بالفعل، فإن تحريره من الاغتراب سوف يرد الاعتبار للتيمة الغجرية التي تتخذ لدى الأحلاس المعاصرين شكل حنين عارم يرتسم على الوجوه عند سماع أغنيات الأحرار الوحيدين في عالمنا، حتى ولو كانت رثاءً حزيناً لإخوتهم الروما الذين أبادتهم النازية!