من السوليبسية إلى "عودة التاريخ"


من الناحية الزمانية، لا يمكن أن يكون صحيحاً أن "ما بعد الحداثة" أو أيديولوجية "نهاية التاريخ" هي المسئولة عن السوليبسية (solipsism) التي ظهرت في الكتابة الأدبية في بلادنا بعد هزيمة 1967، فالواقع أن هذه الهزيمة هي التي أنجبت هذه السوليبسية، حيث يؤشر فقدان الإيمان بما سُمِّيَ بـ "المشروع القومي" إلى زوال مبررات الأواصر الاجتماعية وكأن مشروعية هذه الأواصر لا يمكن أن تُستمد إلاَّ من إيمان كهذا!

والحال أن هناك من وجدوا في "ما بعد الحداثة" التيمات التبريرية لهذه السوليبسية: استحالة إدراك العالم في شتى ارتباطاته وتحولاته المعقدة، استحالة تغيير العالم، أولوية الذات والجسد.

وقد طالت هذه التجهيلية الفلسفية قصيدة النثر.

وهكذا، فبدلاً من أن تكون قصيدة النثر تجلياً للنزوع إلى المواء مة بين التعبير عن "الحركات الليريكية للروح وتموجات الهواجس وانتفاضات الوجدان" على ضوء تناقضات المدينة الحديثة بشتى احتداماتها، كما لدى بودلير ورامبو، نجد أنفسنا أمام مفهوم معاكس لا يرى الأواصر الاجتماعية ويتهرب من سؤال المصير الإنساني. لكن ما يطمح إليه الفن ليس هو الاختزال بل التكثيف، فالذات مسكونة بالآخرية والجسد أكثر تركيباً وتاريخيةً وتفاصيل الحياة اليومية تجليات لما هو أعمق ...

والسؤال الآن هو: ماذا سيفعل الشعراء مع "عودة التاريخ"؟

في جميع الأحوال تظل مهمة الفنان هي الاشتباك العميق والصادق بالحياة، وهذا شيءٌ مختلفٌ تماماً عن اختزال العالم في "أنا" لا تشعر بوجوده!

*

قبل نحو مائة عام، تحديداً عام 1915، كتب المازني الشاب معلناً استنكاره القصيدة التي لا تتميز بوحدة القافية والبحر الشعري، وبعد سبع سنوات من ذلك، نشر أحمد راسم مجموعته الشعرية الأولى، "البستان المهجور"، والتي أجبره الخوف من سدنة الشعر على نشرها دون ذكر اسم صاحبها. والحال أن هذه المجموعة التي ربما كانت أول مجموعة قصائد نثر عربية قد قوبلت بالاستنكار من جانب أحمد شوقي الذي اتهم صاحبها بأنه "معتوه". وعلى الجانب الآخر، لأن هناك دائماً جانباً آخر، رحَّب جورج قطاوي في مايو 1922 بقصائد أحمد راسم النثرية العربية، مؤكداً أن صاحبها "حالمٌ أريب، نجح في أن يُسَرِّب إلى قصائده النثرية الكثير من الصيغ الجديدة والكثير من العناصر الجمالية التي تدين لغتها لمنجزات بيجي وجاميس وكلوديل".

إلاَّ أن رأي أحمد شوقي في "البستان المهجور" كان كارثة بالنسبة للشاعر الشاب، بحيث أنه أُجبر فيما بعد على ترجمة قصائده النثرية التي واصل كتابتها بالعربية إلى الفرنسية ثم تمزيق أصولها العربية!

على أن التجريب الشعري لم يتوقف بطبيعة الحال. ولا شك أن عام 1939، عام نشر "الغرفة الرنانة" للشاعر والرسام فؤاد كامل، كان موعدأ جديداً مع قصيدة النثر العربية التي سوف تعاود الإطلال في عام 1948 مع نشر قصائد مهمة لشعراء من المحزن أنهم هجروا كتابة الشعر فيما بعد: كامل زهيري، عادل أمين، حسن التلمساني،إلخ.

وجاءت التسعينيات لتعلن عودة قصيدة النثر بقوة ولتكرس احتلالها الساحة الأوسع للإبداع الشعري في مصر. لكن ما يجب أن يقال، دون مواربة، هو أن هذه الموجة حملت زَبَداً كثيراً، لا سيما أن النقد بدا متسامحاً أكثر من اللازم أو عاجزاً عن قراءة المشهد قراءةً صحيحة، ومعروف جيداً أن التساهل غالباً ما يكون رفيقاً للجهل!

لا أحد يستطيع منع أحد من اتخاذ الكيتش خليلاً، فبحسب مبادئ حقوق الإنسان، من حق كل إنسان أن يفعل مع نفسه ما يشاء، إلاَّ أن من حق الناقد كذلك أن يبدي رأيه في هذه الأفعال مادامت تجري ممارستها في المجال العام!

وبقدر ما أننا نحيا ونكابد أزمنة دراماتيكية بالفعل، فليس جميلاً بالمرة أن يهبط الشاعر إلى مستوى البيانو الأحمق الذي يتخيلُ أن كل ما في الكون من موسيقى صادرٌ عن أوتاره!

بشير السباعي، 21 فبراير 2010
كلمة في الجلسة الافتتاحية للملتقى الثاني لقصيدة النثر

0 التعليقات: