نيكولاي جوميليوف_1*

(1886-1921)


الأزبكية

ما أغرب ذلك-
عشرُ سنواتٍ بالتمام والكمال مرَّت
مُذ رأيتُ الأزبكية،
الحديقة القاهرية الرحيبة،
مغمورةً في بهاءِ القمرِ جلالاً
في ذلك المساءِ السَّنِيِّ



* *



في تلكَ الأيامِ الخوالي
كُنتُ شقِياً بِحُبِّ امرأة
وما كان بوسع رياحِ البحرِ الملحيَّةِ النَّدِيَّة
ولا صَخَبِ الأسواقِ الشرقيةِ الآسرة،
ولا أي شيءٍ آخر،
أن يَهبني سلوى.
في تلك الأيامِ الخوالي،
صليتُ للرب راجياً الموت
وكنتُ مُستعداً للاقترابِ منه عن طيبِ خاطر.



* *



لكن تلك الحديقة
كانت من جميعِ الوجوهِ شبيهةً
بجنَّاتِ العالمِ البكرِ المقدسة:
هناك كانت النخلاتُ النحيلةُ تحملُ سعفاً،
كبناتٍ يحنو عليهنَّ الربُّ
وعلى التِّلالِ،
كانت شجيراتُ الدلب السامقةِ محتشدةً
كالكهنةِ الغاليِّين.



* *



كان شلالُ الماءِ يتدفَّقُ لامعاً في الحلكة
والكركدن يشب برقة
والفراشاتُ الليليةُ ترفُّ
بين الأزهارِ، مرتفعةً عالياً،
أو بين النجومِ- كانت النجومُ جِدَّ قريبة،
شبيهةً بنباتِ البارباريس اليانع



* *



أذكرُ أنني هتفتُ: " أسمى من الفجيعة
وأعمقُ من الموت – الحياة!
إليك، يا ربُّ، عهديَ الحُر:
مهما كان،
أياًّ كانت الأحزانُ والمهاناتُ المكتوبةُ لي،
لن تُراودني ميتةٌ سهلة
قبل أن أدلفَ مرةً أخرى
إلى مثل هذهِ الليلةِ المُقْمِرَة
تحت نخلات وشجرات دلب الأَزْبَكِيَّة".



* *



ما أغرب ذلك-
عشرُ سنواتٍ بالتمام والكمال مرَّت،
ولا يسعُني ألاَّ أفكرَ في النخلات
وفي شجراتِ الدلبِ، وفي شلال الماء،
وفي السديمِ المُشرب باللون الأبيض، كالكركدن
وفجأة أنْتَبِه،فأسمعُ في صفيرِ الرِّيح
وفي صخبِ الكلام البعيد
كلمة "الأزبكية" الساحرة



* *



بلى، عشرُ سنواتٍ فقط،
لكنني ، الرحالةُ الأسيان،
يجب أن أرحل من جديد،
يجبُ أن أرى البحرَ والسُحب والوجوهَ الغريبة
كل ما لم يعُد قادراً على إغرائي،
لكنني يجبُ أن أدخل تلك الحديقة وأكرر الوعد
أو أقول إنني قد وفيتُ به
وعندئذً أكونُ حُراًّ.


*نيكولاي جوميليوف: هو أحد رواد الحداثة في الشعر الروسي وهو أستاذ الشاعرة الروسية الشهيرة أنَّا أخماتوفا وزوجها.
زار جوميليوف مصر لأول مرة في عام 1907. وكتب قصيدة الأزبكية في عام 1917.
أُعدم جوميليوف رمياً بالرصاص في عام 1921 وصدرت له محموعة شعرية في روسيا غداة إعدامه ثم توقف نشر دواوينه في روسيا بعد عام 1923 وحتى عام 1988 حين صدر له ديوان ضخم.

0 التعليقات: