أحمد راسم_4

ك . ب . كافافي


ها هو ذا واحد آخر يرحل عنا! بكل بساطة... كالآخرين. ملمحٌ جميل من أزمنة ولَّت كان يضفي شيئاً من الرونق على مدينة الأسكندرية. أما بيته الحافل بالأسرار، في شارع ليبسيوس، حيث كانت بضع شموع تعكس على الجدران ظلالاً غريبة، فقد كان يشيع حوله موجاتٍ مفعمةٍ بالشعر وباللغز. لقد كان يحب الأشكال الجميلة والأفكار الجميلة وكان يتجول على امتداد الأرصفة كظل. بينما كان حياً، كان شبحاً بالفعل، وبموته، يبدو أنه قد أصبح أكثر حياة.
لم ألتقِ بالرجل في حياتي ولا مرةً واحدة، لكن ما أكثر أصدقائي الذين كانوا جد معجبين بشعره.


ذات يوم قال لي بيتريدس:
- هذا الشاعر ليس البتة ذلك النبع الصافي الذي ينشد في الفجر كل صباح؛ ولا هو أيضاً النافورة التي تروي ظمأ من به كرب؛ إنه شراب محبة، شراب محبة رائق الماء وعذب الغناء. لم يكتب غير عدد قليل من القصائد، يرسلها إلى أصدقائه عندما يطبعها على أوراق منفصلة.


كما قال لي بيتريدس:
- قرأت ذات مرة لكافافي المثل العربي التالي، الذي كنت قد عثرت عليه للتو في مجلة أدبية:
تضع أنثى النسر ثلاث بيضات. ومن الثلاثة، تهمل واحدة وترقد على البيضتين الأخريين. ومن فرخيها، لا تطعم غير واحد.
- أيها الشاعر، لتحذُ حذْو أنثى النسر؛ وإن كتبت ثلاث قصائد، فلتكن لديك الجسارة على إعدام اثنتين منها.
عندئذ مسح كافافي صدره بيده مسح من به شهوة وقال:
" لكم أفهم أنثى النسر! إنني أفهم هذا المثل. إنني أحب هذا المثل وأحسه ".


*


لم أقرأ لكافافي غير بضع قصائد مترجمة أحسستُ بقوة جمالها . لكن المرء لا يمكنه، في حالةٍ كهذه، أن يجيز لنفسه الحديث عن شاعرٍ عظيم.
لكن (ستافروس) ستافرينوس (رئيس تحرير مجلة "لاسومين ايجيبسيان" . – المترجم) ، وهو رجل عنيد، يطلب إليَّ، مهما يكن، بضعة سطور عن كافافي.
من رسالةٍ تلقيتها أخيراً من الرسام ماكريس ، يسعدني أن أعيد نسخ هذه الفقرة وفي ذهني الأب ستافرينوس... وروح كافافي الرومانسية الرقيقة:
"لكن الديك الذي يقف على الإفريز، جد قريب من غرفتي، لم يصِحْ البتة عندما دقت ساعة المحطة الجديدة في الواحدة أو الثانية أو الثالثة فجراً. إنه لا يصيح إلاَّ في الواحدة ونصفاً أو الثانية ونصفاً أو الثالثة ونصفاً."
ليسمح لي صديقي وشاعري الكبير بأن أذكره بهذا المثل الذي سمعناه صغاراً:
"الديك لا يصيح إلاَّ في ساعة صياحه في موطنه الأصلي".
والحال أن كل من أتيح له امتياز قراءة شعرك لابد من أن تكون روحه روحاً معذبة حتى يتسنى له فهمك".


(1933)

ترجمة: بشير السباعي

(عن الأصل الفرنسي)

0 التعليقات: