جورج حنين_14

الإنسان الأخير

ولدنا لبرودة الدروع
ولدنا لكي نغالب مسار الميلاد
ولكي نتعقب في باطن الكائنات
علامات سوء النية.
قال لنا مولانا "دعوا الدم يُغامر"
ولم نعرف قط
هل المغامرة أم الزلل هو الذي كان دربنا.


بعيدٌ عن أن يفارقنا
ارتسامُ الضجر الخالد من الحياة
الواقع تحت ملاحقة لا تتوقف
نَفَسٌ خفيٌ يبثُ الفرقة
في حركاتنا المنفصلة عن الأرض
فيفرقنا كما تفرق العصافير.
يهتف أحدنا "إنها إرادة الغائبين"
وتحت كتفياتنا الصخرية
نستشف أننا عراة


نبقى، هذه المرة أيضاً، محاربين غير مرجحين...

*
إعدام خاص


تلك لحظة مؤثرة أبداً
كتلك التي يتساءل فيها المرء
في صباحات معينة
عما إذا كان سوف يتسنى له التعرف على الحياة


ما إذا كانت الأشياء قد لزمت المكان نفسه
ما إذا كانت الأماكن قد احتفظت بالاسم نفسه
ما إذا كانت لا تزال هناك مرآة للخلاص
يكف المرء أخيراً عن النظر فيها إلى نفسه
ويرى فيها ما هو أبعد من نفسه


عندئذ سيكون ذلك كما لو أن المرء يتجه من تلقاء نفسه
إلى ساحة آراجو
عند الفجر
من أجل إعدام خاص
ولن يستشعر أي عزاء
في خاطر أن الجلاد ليس هناك


ومع ذلك فإن المرء يتلفت فجأة إلى الوراء.
وهذه علامة طيبة
فالمرء يعتقد أنه مُلاحقٌ
هناك إذاً أناس يلاحقون الآخرين
هناك إذاً ملاحقة وهذا هو كل ما كان المرء يود معرفته


في أحراش اللغة
صوت يبحث عن قول
الكلمة الأولى في النهار
مثلما يبحث المرء عن مفتاحه
على بسطة الدرج في الليل المعتم


يكف المرء عن التردد
يراهن المرء على هذا الشيء الضائع
على هذا الصوت القريب من المشارف
على المجهول المستند إلى أمنيات الحياة الممزقة
ولكن إلى أي شيء سوف لا يستند المرء هذا الصباح؟
إلى أي جرح؟
إلى أية إهانة؟
*
ما من دعابات فارغة


يحيا المرء على كره منه
في مخزن غلال يرتج كل ما فيه
حيث لا يعود بالإمكان قراءة المستقبل في الكفين
حيث تكف الخمر عن أن تضع أحداً على
طريق الاعترافات
حيث النافل والضروري
لا يعودان يتواجهان إلاَّ تحت الشكلين
الباسمين بدرجة واحدة
لسيدة عذراء ولعاهرة.


يحيا المرء على كره منه
في سيناريو استوائي
لعبيد ولمتوحشين
يحفزهم ضد تشابك الغابة
سمسار أمريكي
لا يرتحل إلاَّ وكوب اللبن
موضوع على حافة نافذته.

يحيا المرء على كره منه
في حدود الخلود
على بعد متساو من الصداقة والخيانة
في دائرة من الربات الإغريقيات
اللاتي تحمل عيونهن الآن
نظرات حجرية قاسية.


يحيا المرء على كره منه
تحت حجاب اليفاعة
صاغراً عتد قدمي تمثال
أمام وجه من الصلصال
أمام مؤامرات مرعبة تحاك مرة كل يومين
باسم الحريات الأصعب على الإمساك بناصيتها.

يحيا المرء على كره منه
في الضوء الذابل لنجوم الصباح
لأن الساعة تقترب
هشة على مينائها المبلول بالندى
في اللحظة التي سيكون كل منا فيها مرئياً
بالنظرة المجردة.


يحيا المرء على كره منه
في عالم لا جدوى البتة من تسميته
حيث بيرق الحياة
أقل قدرة من ذي قبل على حجب المتاجرة بالإنسان.

*
من الرأس إلى السماء


مجرى الماء المستيقظ أول الصباح،
وجد المشهد الطبيعي ممدداً إلى جواره
وحسب موتاً طبيعياً
مالم يكن غير شكل جديد
لمؤامرة الصمت


كانت أشجار الحديقة مغطاة
بمفارش بيضاء عظيمة
ومن منحدر إلى آخر من منحدرات الجبال
كانت العناكب ترمي شباكها
الشبيهة بآلات موسيقية متنافرة


مجرى الماء المستيقظ أول الصباح
رأى في هذه الصحراء التي لا مرآة لها
عدداً من المخلوقات الزاحفة
المنتصبة على سلالم تدعمها الريح


عدداً من المخلوقات
تختصر بأقصى جهدها
المسافات الضرورية إلى الحب


عدداً من المخلوقات
العارية عرياً لا مثيل له
من الرأس إلى السماء


عدداً من المخلوقات
التي سوف نسميها رصاصاتنا الأخيرة
لكي يكون لنا الحق في إطلاقها
*
مظهر هروب


هذا المساء سوف يلقون القبض على رجل في بيته
ساعة العشاء
هذا المساء سوف يقتادون رجلاً إلى السجن
ولن يكون هناك ما يستلزم الدهشة
إذا ما اعتبره ما لا ندري أي وسط عائلي
هذا المساء سوف يغرونه بصورة الموت الملكية
لكن صورة الموت لا تغري
الرجل الذي ينتظر تجريمه بشيء
يتساءل:
هل يتبرم رعاة البقر؟
هل يتبرم رعاة البقر قدر تبرمي؟
ورعاة البقر ذوو الحبل الأشيب
يتمددون على السهل وأعينهم قريبة تماماً من السماء
ودون أن تواتيهم القدرة على الحلم
يتساءلون ما إذا كان البحارة مع من معهم من شذاذ الآفاق
يحملون صخب التبرم ذاته في قعر رؤوسهم
ولا يجيب البحارة
لأنهم جد منهمكين في حساب أمواج البحر
البحارة يحسبون الأمواج دون أن يسمحوا لأنفسهم
بأن تلهيهم الحكايات القذرة التي وشمت على جلودهم يوم
دعوتهم
يعطون الأمواج درجات بحسب ما إذا كانت قصيرة هزيلة
منحرفة أم مجرد قاتلة
وهذا الحساب الورع لا يدع لهم غير وقت للأسف على عدد من
حالات الغرق التي لم تقع في عرض الكاب هورن
لكن ما لم يكن لدى البحارة وقت للتفكير فيه
تبصقه الحيتان على مستوى المنظار
وتتثاءبه الصبايا من وسط أفخاذهن
ويعلنه الوكلاء التجاريون أمام شوارب رجال الجمارك
ويتعلمه التلاميذ على المناضد التي تموت عليها طفولتهم
وتضعه الشعوب عند أقدام جلاديها


- "أعبر لكم يا سيدي
عن عظيم تبرمي"
الرجل في سجنه يقلم أظافره بنعومة
بينما في الخارج حشد مجنون
ينتظر مراوغاً ما لن يكون غير مظهر هروب.
*
عن تيمة أساسية لدى رمسيس يونان


حين ينغرز الخنجر غائراً في الجسد كما ينغرز في غمده الطبيعي المعتاد، فمن الأفضل تركه حيث هو لا نزعه. تركه حيث هو يعني ترقب الموت. أما نزعه فيعني الموت.
الرسم ضرب من ضروب الرمي بالقوس، حيث ينطلق السهم مغمض العينين.
هل لابد حقاً أن ندوم حتى نكون؟ إن التقاط صورة خاطفة لأحد الفراعنة معناه إعداده لسأم الغداة.
الارتجاج هو صيغة المصدر في اللغة التصويرية.
القوة وحدها يعيل صبرها. أما الوعي فيستنزف. إنه فأر مكتنز.
الافتراق البائن يكمن في اللاعودة، أياً كانت الذريعة، إلى الوضع الأول.
امرأة محنية الظهر تفقد حتى فكرة الصراخ. نافخ زجاج استل منها أكسجينها ليصوغها حية في نشوتها. إنها تريد الإبقاء على ما يخترقها وما تبقي عليه هو الحرب.
بوصلة الشهوة تثور. إبرتها نار متقدة.
لا أحد يستطيع اختزال صورة تكبر لأن الدماغ كُوَّة. هنا، لا مجال للإختفاء. لن يكون لذلك معنى. يرتد المرء على وجه الليل ارتداد كرة على مضرب.
كوكبة من النجوم تتثاءب. إنها القيلولة العنيفة للمادة التي تحكم علينا بالسهاد.
الذين في الخارج يدركون الآن أن المعرفة مغلقة.
*
تحية لرسم رمسيس يونان


منحنيات خطوط ملحفة
دعوة لازبة إلى العذاب
لن يتبدل مشهد الدراما أبداً
وهذا بالكاد إن انتظره المرءُ بعدُ
هذه الباقة من أزهار النرجس
هذه العلامة للأزمنة الأكثر قتامة
والتي لولاها لاختُزل ابتزاز الليل المحتوم
إلى تجارة أفواه مهزومة
أفواه غير مؤهلة للتنبؤ
علامة الأزمنة الأكثر قتامة
تسارع إلى شد السجالات الإنسانية إلى الوراء
حتى لا يتمكن أي تلميح من تشويش تيبس النساء الاحتفالي
المنتصب وسط صمم القباب

لابرادور قاسٍ لغراميات غير باقية.

ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: