جورج حنين_7

العدالة الإشعاعية


على مدار اثني عشر عاماً، ترقب كاريل تشيسمان موتاً كان لوقت طويل تصورياً قبل أن يصبح عضوياً، وهو نوع من الموت له فوائد مركبة ومتطلباته أكثر بما لا حدّ له من متطلبات الموت العادي، وقد مر، خلال فترة الحضانة الغريبة هذه، بجميع حالات التمرد الممكنة، دون أن يكف لحظة واحدة عن أن يكون وشيكاً ويقظاً. لقد سهر حارس العبث على حراسة هذا الرجل الذي حصنه سم بطيء ضد سم الأمل. ولابد من دفنه إلى جوار ضحية من ضحايا هيروشيما هؤلاء، الذين يواصلون الموت سهواً تقريباً، بإمهال لم يكن مسموحاً للحياة أن تقوم مقامه.


لم يتمنّ أحد موت كاريل تشيسمان. إلاَّ أن أحداً، بالمقابل، لم يؤازره في الصعود على مَدْرَج نيل العفو. وعند تقاطع هذين الرفضين، يحدث إعدام إنسان. وهذا يعني أن المواطن الحديث يختفي خلف تنظيم المدينة، مثلما يختفي المخترع خلف الآلات الذكية التي اخترعها والتي يمكنها سحق من تريد عن طريق مرورها. إن الشيء الذي يحظى بالاحترام والمراعاة اليوم ليس هو الفكر ولا الكائن الإنساني، بل ذلك الذي يشتغل، إنه كفالة دوران عجلة الأشياء.


وبين مدرجة الكريات والضمير، سوف تختار غالبية عظمى مدرجة الكريات. إننا نشهد انتقالاً عاماً للنفوذ يدفع المرء إلى أن يطيع بشكل طبيعي تماماً جهازاً يتعطل فجأة لكنه لا يطيع حكمة ذلك الفرد، الذي لا يملك، له، ضمانة ما يتصور أنه التقدم. ومن جهة أخرى، فليس هناك ما هو أسهل من اكتساب خبرته. إن السائق سوف يقبل التوقف أمام إشارة ضوء حمراء عاطلة وقتاً أطول بكثير من توقفه أمام شرطي يعطي أولوية المرور للسيارات القادمة من اتجاه آخر. وهذا الضوء الأحمر الذي نجده مراراً وتكراراً عند كل منعطفات الحياة الحديثة، وحتى في غرفة عذاب موت كاريل تشيسمان المحرقة، لا نعرف بعد جيداً بالفعل، لا سبب إضاءته ولا باسم أي شيء آخر ينطفئ. كما لا نعرف بالأخص "ما سوف يحدث" عندما يتوتر جهاز العدالة أو عندما تمارس تروس عجلة الاقتصاد فعل التقطيع في لحومنا، ولا عندما يؤدي ارتخاء المؤسسات المفاجئ إلى نشوء أزمات تنذر فيها الصواريخ بأن تنطلق من تلقاء نفسها. إن النظم التي نصوغها، إذ تنتج النشاط، إنما توقف فعل الإنسان وتؤول به إلى حياد مؤذ أمام الأشياء والأوامر والقوانين. هكذا يتساقط الإشعاع النووي والشلل الموقوت. وكما في ليلة هجر، فإن المرء ينكب على البحث عن أحد في الظلمة، على سؤال الفراغ، على الصراخ أملاً في العثور على رد.


من المفهوم أن الرد فينا. والعالم هو الذي يعاند في التجاوب معه. إن الأخلاق تجد نفسها في أجازة، بالرغم من أن أحداً لا يتولى تسريحها ورفتها. وحول هذه المسألة، يجب لكل منا أن يكون بالغ الوضوح. إن الأخلاق ليست ضرباً من ضروب الحنان والرقة، وهي لا تنطوي على التخلي عن العنف بأكثر مما على محبة الجار. فهذه العاطفية المبتذلة النادبة على غرار عاطفية لانثا ديل باستو إنما تعد جد رائجة بحيث إنه لا موجب لاشتهاء توسع جديد لها، إنها لاتنتشل الإنسان من وضعه كمحايد، بل تجعل منه نادباً محايداً، وهو ما لا يعد ارتقاءً بل اختزالاً.


كثيراً ما يتحدثون عن الحد الأدنى المعيشي. لكنهم لا يتحدثون البتة عن الحد الأدنى الأخلاقي. والحال أن من الواضح أن بوسع المرء أن يشبع مع مكوثه، مع ذلك، في الخزي والعار. ها هو ذا، أخيراً، العصب حياً. إن القرن العشرين إنما يتميز بنفور، لا يمكن كبته، من كل فكرة عن الشرف. ولسنا محتاجين إلى فهم أن الشيء المهم ليس هو الإبقاء على عقوبة الموت أو نسخها، بل هو الاتجاه صوب الموت في ظروف لا تكون مهينة للإنسان. إن الإنسان الذي لا يذعن للأشياء إنما يخرج من حياده ويشرع بالاختيار. وعند الحاجة، فإنه يختار خصمه، مثلما يختار القواعد التي يريد التمسك بها ومثلما يختار نوعية موته هو. إننا نبكي على ساعي البريد الذي عاقبته الإدارة ظلماً. لكننا، والحمد لله، لا نذرف دمعة واحدة على الطيارين الانتحاريين اليابانيين ولا على الفوضويين الإسبان الذين ألقوا بأنفسهم على فوهات المدافع وهم يهتفون: "عاش الموت"!. أولئك هم شرف عصرنا الاقتصادي.


مايو 1960

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: