جورج حنين_9

بلاء السديم
(1939-1945)


لاريب أن الإنسان الذي يصمت هو وحده الذي لا يحتقر الكلمات البتة. إن ليل الحارس تكليفات صارمة لكنه أيضاً تيقظ طويل لعنفوان الكائن. ومن الممكن أن يظل صمته عالماً مقفلاً إلى الأبد. ومن الممكن أيضاً أن يصبح بوتقة الحقيقة وأن تعيد هذه الأخيرة – مثلما يحدث ذلك في تراجيديات شكسبير – اكتشاف الصوت اللازم لتحية المصير بإسمه.


*


لأجل أي حصاد ندخر الماء؟ إننا نشيد سدوداً للصمت، آملين أنها سوف تتصدع يوماً ما وتجرفنا بعيداً، وأن الكلام المتجدد، سوف يكون منذ تلك اللحظة ممتزجاً بالطحالب وبالطمي، وإنه ليبدو لي، بالفعل، أننا نحس نوعاً من الشهوة الماكيافيلية إلى هذا الكلام المتدافع بأكثر من اللازم والذي، دون مراعاة تجليات جديدة (سوف نضعها من ثم تحت رحمة مبدأ الإغواء)، قد يرمز، بالنسبة لنا، إلى نهاية التلاشي. وهذا لأن الصوت يرق ولا يتحين فرصته الثانية بعدُ إلا من إفراط في التآكل.


*


تنكتب حياتنا بنقوش لا نكاد نلحظها نحن أنفسنا، بعيداً عن الإشارات التي نعطيها للآخرين. لقد عرَّى الفكرُ الإنسانَ رغم كل شيء، وها هو ذا جاهز للخنق. ويبدو أنه لا مخرج هنا إلا عبر تحويل الكائن إلى مادة من مواد العالم الفيزيقي، إلى عنصر ما غريب عن طبيعته. لماذا لا يُودَعُ في الإبداعات التي نحبها، تركيز معين، يتميز بالإصرار، على البلّور أحياناً، على الكبريت أحياناً، على الحجر أحياناً، إن كل شيء يحدث كما لو كان المعدن الإنساني على وشك النفاد، كما لو كان قد تم بلوغ قعر المنجم، كما لو كانت الكلمات قد امّحت، والممرات قد اكتشفت، كما لو كان لم يعد هناك، باختصار، غير النزوح من حالة الإنسان صوب مناطق لم تمس بعدُ.


*


لوزان
4 سبتمبر 1939
اليوم الثاني للحرب العالمية
كل شيء يرتد إلى الفوضى وإلى الليل الأكثر تلويثاً. إنه تشتت البعض، وتعبئة البعض الآخر والتشوش التام للجميع. وتولد الكلمات العظيمة من جديد بقدر ما يموت الناس من جديد. لكن الكلمات العظيمة الحقيقية تظل في الداخل، في حصون الذاكرة المنيعة.
... تلك سرعة الموت المُكْتَسَبَةُ وقد أحدقت من كل حدب وصوب.


*


لقد حُفرت أنفاق في كل مكان تقريباً دون أن يكون الناس واثقين تماماً من الخروج من العتامة التي اختاروا ولوجها. ففي البداية، تكتفي الأكذوبة بالتطاول على الحقيقة. وما هو نسبي يمسي ملتبساً. وتكون تلك مرحلة تشوش تكون فيها أكذوبتان عكازين لحقيقة. ومنذ تلك اللحظة، لا يبقى للأذكياء غير أن يكونوا واضحين، أي أن يصفوا كل الأشياء بحيث لا يكون بوسعهم أن يتذوقوا منها غير ثمالتها.


*


عندما نقف على نقاط الارتكاز الأخيرة، فإننا نتلهى بالفرجة. وهذه لعبة ختامها التثبت من مبدأ الشلل.


*


إن أرغنات البربرية تصحب في شوارعنا أيضاً موسيقى عبثية شبيهة بتبكيت الضمير.


*


يرى المرء من هؤلاء الناس من، إذ يدخلون إلى مكان عام، يلبثون شاردي الفكر أمام أمثالهم ثم يسألون ماذا يكتبون، لكنهم لا يجرؤون أبداً، حتى لحظة الإغلاق، على التوقيع على ذلك الإعلان الطويل، ذلك الإعلان عن عدم الصلاحية للحياة.


*


إن ذاكرة إنسان البحر المتوسط تكشف شبابها، بالتحديد، في إلغاء هادئ للزمن.
ذلك هو ما يجعل من إنسان البحر المتوسط إنساناً يعرف العاطفة بشكل أسهل من معرفته للدهشة.
هذا البحر الداخلي مجال عقلي. ولقد اعتقد الناس أن هذا المجال المسوَّر مقصور على حس القياس، كما لو أنه غير محاط بضفاف الإيمان. كما لو أن هذا المجال المسحور لم يشهد سقوط قيصر وميلاد بونابرت.
إنه صندوق بريد التاريخ الدائم الذي تجد الرسائل فيه دائماً مُرسلاً إليه ولا تفقد شيئاً من معناها حتى لو سُلِّمتْ بعد قرون من التأخير.
لقد دخل البحر المتوسط، مرة وإلى الأبد، في مدار الإنسان ولا مجال للخروج منه.


*


بجانب الأبطال الذين يجهلون أنفسهم، يوجد الأبطال الذين يجهلهم المرء، وعلى رأس هؤلاء الأخيرين، الصعلوك. الصعلوك المطلق والمتشدد المصر على ألاَّ يستجيب لشيء من الإغراءات النفعية التي تقف له بالمرصاد. إن حس الواقع يختلط عنده بحس المغامرة، حس مغامرة شخصية في كل لحظة، منسوجة من ابتسامات خفية لدى الانكسار المفاجئ لزجاج نافذة، من مشاريع غرامية تتشكل بالصدفة شغفاً بوجوه أنثوية مبلولة بللاً رقيقاً بقطرات المطر... بقطرات المطر الذي لا يستطيع أحد القول في أية لحظة بدأ يسقط.


*


أعتقد أننا نتجه نحو شعر رقيق وقوي، تدعمه تلك "الكآبة المبهمة الجسورة" التي يتحدث عنها إيف بونفوا كثيراً والتي ليست مفتاحاً لتفسير حالات الندم بل نسقاً لما لا يمكن حله، أي للوسط المحدد المنيع والذي يغرق فيه الشاعر.
شعر دون تنازلات يجب أن نتوقع منه أن يدفع من يمسه إلى ممارسة أفضل للوحدة وإلى تأمل مشحون بالعواطف ليس في ما نحن عليه، وإنما أيضاً في ما يُرفَضُ لنا أن نكونه، شعر يتوجب عليه أخيراً، وهذا هو الشيء الجوهري، أن يجعل إنسان الغد مُتَطَلِّباً حيال اللغة.


*


إن كلمات تخدم كل القضايا، تكف بذلك عن خدمة أية قضية.
ويجب التقدم من الآن فصاعداً، والكلمة عارية، كنصل قاطع.


*


إن اليقظة، وهي نوع من الميلاد المحتدم، هي هلع منظم تماماً يبدأ من تلقاء نفسه.


*


ربما توافر حل لعذاباتنا: أن نكتسب كطبيعة ثانية آلية دُمى، إلى جانب، علاوة على ذلك، ما لا أدري من الأشياء التي تترنح. هكذا يمكن للمرء أن يتجاوز، وهو ما يكاد ينوء بحمل هذا الدرع الصدفي الطفولي، مرحلة اليقظة، وأن يتحرك في الثابت، وأن يتقدم في الحسرة.


*


من فرط كتابة: "العلامات المميزة: العدم"، يتولى البيروقراطي إفهام من يسقط ضحية له ليس فقط أنه ليس هناك ما يميزه، وإنما، بادئ ذي بدء، أنه ليس من حقه أن يميز نفسه.
إن المرء ليتخيل بطاقة هوية يقرأ فيها:
العلامات المميزة: شخص خطر يتصور أن طفولته مستمرة.


*


إن كانت هناك في صميم الأشياء كلها، عاطفة غير مسماة تكسر وجوهاً قُدِّرَ كل ما فيها لراحةٍ مَلَكية وتُحولها إلى شظايا من البلّور، فلابد لتلك العاطفة عاجلاً أم آجلاً من أن تنال إسماً، والسوريالية جديرة بأن تضم اسمها إليها.


*


أحب أن أتخيل في البيوت الأكثر انكشافاً على الشاطئ طاولات كبيرة فاتحة اللون ممدودة للرحالة المتأخرين الذين يعرف المرء أنهم سوف يصلون، برغم كل شيء، على جناح العاصقة.


*


... من جهة أخرى، أقول لنفسي إنه لكي يكون هناك لقاء مع الآخر، فإنه يجب أن يكون هناك، بداية، لقاء مع النفس... إن كل لقاء هو من نوع ذلك التوسل، من نوع ذلك الرجاء الخفي الذي منحه لنا ذلك الجزء من كينونتنا والذي لم يفعل غير أن يقدم لنا وعوداً، إلى هذا الحد من الغموض، وإلى هذا الحد من الرعونة. وإذا كان الموت يراوغنا، في هذه اللحظة، فإن الجهد الكبير بلا طائل هو الذي يشرُف شرفاً عظيماً بإيقافنا.


*


أُسَلِّي نفسي بالتفكير بأن المرء يجد الراحة على الخشبة الأثقل. فالسعادة ليست تزحلقاً على العشب الأملس. والزاوية غير المتوقعة هي التي تجعل الصخرة الأخيرة تلامس الخلاء الأول.
وهناك لحظة نكون فيها تلك الزاوية وتُدوِّي فيها دوياً قوياً فينا حِدةُ العالم المُحبَطَةُ بلا توقف.


*


يروق للناس وصف زماننا بأنه زمن كوارث. وهذه الكلمة لها مأثرة مغازلة غرورنا. فنحن نكتسب، من خلالها، مظهر شهود ومحركين لكوارث عظيمة في آن واحد. وينبثق من هذا الاشتهاء للكوارث درس أوليٌّ ينطبق على معظم التأملات الثقافية المألوفة لدينا. إن قصر النظر العقلي بحاجة إلى منظورات عظمى. وهناك في الحياة، لعبة تعويضات خادعة بحيث إن فكراً ضامراً غالباً ما ينتهي إلى التعلق بشكل ما من أشكال الضخامة الإيديولوجية.
وما أن يفقد ذكاؤنا جسارته، ما أن تبدو له الحقيقة عصية المنال، فإنه يصبح من المغري بالنسبة له أن ينصهر في يقينٍ جماعيٍّ وقوده ذروة دائمة من نوع ما. والحال أنه فيما يتعلق بالإنسان، ليس من المبالغة القول بأن الصفر هو حاصل جمع ذاتين، ويوم تكف البشرية عن أن تكون أكثر من ضمير واحد سيكون المرء محقاً في الاعتقاد بأنها في سكرة الموت.


*


ليس الاختلاف هو الشكل الأخير للترف وحسب، بل هو أيضاً الفرصة الأخيرة لكي نحافظ في أنفسنا على جانب الحكمة بجانب الحماقة.


*


إنني أحفظ تلك العبارة الصغيرة غير المهمة، وإن كان بوسعها في الوقت نفسه أن تقود إلى إبادات مراوغة: "ليس ضرورياً أن يواصل الحياة أولئك الذين لا يسعهم أو لا يريدون العيش هانئين".


*


الموج يعلو حول من يمد يده إلى الفوضى.


*


ما يعتبره المرء الإبداعات الأأكثر تمثيلاً للإنسان، من كوليزيه إلى رامبو، هي بالقدر نفسه أنشوطات بالقياس إلى خنق مؤجل إلى أجل غير مسمى، هي بالقدر نفسه إسهامات في تكثيف اللغز. وحيثما لا يتكشف اللغز، يبدو لي أن من الواجب زيادة غموضه، مضاعفته بتفسيرٍ تُصبحُ جميعُ أشكالِ سوء الفهم ممكنةً معه.
وإذا كانت فكرة الرهان ليست غريبة عن تاريخ الإنسان، فمن المناسب ببساطة إقرار أنه قد راهن لحساب سوء الفهم وضد الوحدة.


*


لا ريب أن الشيء المهم هو الذود عن النفس ضد مختلف صيغ مجاوزة الذات، ضد الحلول الوقتية لذلك الذي لا ينشأ إلاَّ مما لا يمكن حله.


*


الكلمة ليس لها ثمن إلا بمقدار الدلالات المتحداة التي تحملها في ذاتها، المتحداة دون واحدة هي الأخيرة، والتي تسجل حرقها الصغير على الجلد مثلما تُسجَّلُ بصمةُ تحالف.


*


من كرومويل، هذه الفكرة المدهشة التي تشبه لياً معيناً للفكر الباطني: "لا أحد يصعد أعلى غير ذلك الذي لا يعرف إلى أين يمضي".


*


يجب للقصيدة أن تكون قادرة على أن تُواصَلَ، على أن تُستعاد، على أن تكون موافقة لكل غاد، من خلال كل ما هو حي. أما نحن فعلينا إطالة عمرها، وربما القضاء عليها، ليس فوراً ولا بصوت عال. وإنما يوماً ما، في الحلم أو في الأعمال، هذا الجانب أو ذاك وبطريقة ما، في اللحظة التي يتجنب فيها الشعر المكتبات التي لدينا أو التي نَكُونها نحن.


*


ما أندر حالات إمحاء الفن الصارخة إلى هذا الحد... إن الصورة تأخذ مكاناً في الحياة. وأسلوب بناء الإيماءات يتكفل بالباقي... ولا يُسلِّمُ البنيانُ أبداً بأنه ناجز. فهو في كل يوم يحمل نافذة جديدة. إن كل شيء يترنح بشكل مؤثر تحت رحمة ضَعفٍ في النظر. وإنه ليجب المضي إلى نهاية هشاشة الأشياء.


*


في حضور الفن فإن الوجود بأكمله هو الذي يتمايل تمايلاً معيناً، شبيهاً بشراع في مهب الريح.


*


يذوب الحلم مثل قبضة من الثلج في راحة اليد، ويهتدي المرء إلى طريقه، مجرداً تماماً، على الدرب الذي يرد إلى الذات.


*


الكتابة أسلوب للحفاظ على الذات وللحفاظ وحسب، للحفاظ على أحلام بادية، وربما كانت فرصة لكي يبقى المرء نقياً. أو أقل تلوثاً.


*


بلى، إنني أحلم بتأبين مهيب للإنسان ولتظاهره العاجز بالحياة، بتأبين تولد فيه من جديد وتعلو فيه أيضاً كلمة بوسويه المهيبة، الكلمة المقفلة، المنفصلة عن أي ارتباط بالمعيش أو بما يعيش.
إنني أحلم بمتاحف عصية على أن تولج، يتوجب على كل من يقترب منها أن يقدم برهان رغبة طويلة ومتواصلة في الجمال.


*


خاصية لنور ممسوس أو ملموس عن بعد. يسارع إلى التراجع لو تقدم المرء نحوه مُطَارِداً... غير حاسم بقدر ما نبدو نحن أنفسنا جد حاسمين، والحال أنه النور الوحيد الممكن من أجل بداية، والبداية الوحيدة الممكنة من أجل نهوض الإنسان من كبواتنا.
...على معرفة مستكينة نفتح أعيننا وعلى عرينا يستند إدراك عالم صار في نهاية الأمر بلا طائل. الصياد يرتقي فروع الشجر، والشاعر يتنازل عن عرقه لشجرة الأوركيد. شارب النمر مبلل بالندى، كشوارب سكارى لا مأوى لهم.
إن الشيء المهم هو تعلم كيفية خلط العلامات، كيفية نزع إمكانية التنبؤ بالمستقبل.


*


تنبسط راحة اليد حتى يتسنى مرور شعاع من الكسل.


*


يتميز الحجر على الإنسان بأنه يسقط عمودياً، وربما كان من المناسب الاعتراف بأن تعاساتنا قد بدأت بهذا الرفض الأول والذي لا يوجد فيه من الشجاعة غير المظهر، لأن قول "لا" في تلك اللحظة، هو في الوقت نفسه انقطاعٌ إلى تخلياتٍ لا تنتهي.
*الإنسان يجادل، والجدل مساومة، وهكذا يولد التاريخ، ذلك الماء الذي لا ينشد غير الركود، وهكذا تتأسس، حتى النفس الأخير، مساومة طويلة وغادرة لا يستطيع فيها الإنسان، المحاصر بين بروميثيوس وسيزيف – السجانين المتطرفين لحماساته- أن يمارس أو أن يُذكي رغبته إلاَّ لكي يتمكن فور ذلك على أحسن نحو من نفيها أو خنقها بيديه هو. لاشك أنه يُمَنِّي نفسه أحياناً بابتكار علاجات جميلة، لكن الرياء هنا يكون صارخاً، لأن ما يتوخاه ليس علاجات. فبعدة ألواح خشبية للنجاة ينتهي المرء دائماً بصنع تابوت.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: