جورج حنين_14

الإنسان الأخير

ولدنا لبرودة الدروع
ولدنا لكي نغالب مسار الميلاد
ولكي نتعقب في باطن الكائنات
علامات سوء النية.
قال لنا مولانا "دعوا الدم يُغامر"
ولم نعرف قط
هل المغامرة أم الزلل هو الذي كان دربنا.


بعيدٌ عن أن يفارقنا
ارتسامُ الضجر الخالد من الحياة
الواقع تحت ملاحقة لا تتوقف
نَفَسٌ خفيٌ يبثُ الفرقة
في حركاتنا المنفصلة عن الأرض
فيفرقنا كما تفرق العصافير.
يهتف أحدنا "إنها إرادة الغائبين"
وتحت كتفياتنا الصخرية
نستشف أننا عراة


نبقى، هذه المرة أيضاً، محاربين غير مرجحين...

*
إعدام خاص


تلك لحظة مؤثرة أبداً
كتلك التي يتساءل فيها المرء
في صباحات معينة
عما إذا كان سوف يتسنى له التعرف على الحياة


ما إذا كانت الأشياء قد لزمت المكان نفسه
ما إذا كانت الأماكن قد احتفظت بالاسم نفسه
ما إذا كانت لا تزال هناك مرآة للخلاص
يكف المرء أخيراً عن النظر فيها إلى نفسه
ويرى فيها ما هو أبعد من نفسه


عندئذ سيكون ذلك كما لو أن المرء يتجه من تلقاء نفسه
إلى ساحة آراجو
عند الفجر
من أجل إعدام خاص
ولن يستشعر أي عزاء
في خاطر أن الجلاد ليس هناك


ومع ذلك فإن المرء يتلفت فجأة إلى الوراء.
وهذه علامة طيبة
فالمرء يعتقد أنه مُلاحقٌ
هناك إذاً أناس يلاحقون الآخرين
هناك إذاً ملاحقة وهذا هو كل ما كان المرء يود معرفته


في أحراش اللغة
صوت يبحث عن قول
الكلمة الأولى في النهار
مثلما يبحث المرء عن مفتاحه
على بسطة الدرج في الليل المعتم


يكف المرء عن التردد
يراهن المرء على هذا الشيء الضائع
على هذا الصوت القريب من المشارف
على المجهول المستند إلى أمنيات الحياة الممزقة
ولكن إلى أي شيء سوف لا يستند المرء هذا الصباح؟
إلى أي جرح؟
إلى أية إهانة؟
*
ما من دعابات فارغة


يحيا المرء على كره منه
في مخزن غلال يرتج كل ما فيه
حيث لا يعود بالإمكان قراءة المستقبل في الكفين
حيث تكف الخمر عن أن تضع أحداً على
طريق الاعترافات
حيث النافل والضروري
لا يعودان يتواجهان إلاَّ تحت الشكلين
الباسمين بدرجة واحدة
لسيدة عذراء ولعاهرة.


يحيا المرء على كره منه
في سيناريو استوائي
لعبيد ولمتوحشين
يحفزهم ضد تشابك الغابة
سمسار أمريكي
لا يرتحل إلاَّ وكوب اللبن
موضوع على حافة نافذته.

يحيا المرء على كره منه
في حدود الخلود
على بعد متساو من الصداقة والخيانة
في دائرة من الربات الإغريقيات
اللاتي تحمل عيونهن الآن
نظرات حجرية قاسية.


يحيا المرء على كره منه
تحت حجاب اليفاعة
صاغراً عتد قدمي تمثال
أمام وجه من الصلصال
أمام مؤامرات مرعبة تحاك مرة كل يومين
باسم الحريات الأصعب على الإمساك بناصيتها.

يحيا المرء على كره منه
في الضوء الذابل لنجوم الصباح
لأن الساعة تقترب
هشة على مينائها المبلول بالندى
في اللحظة التي سيكون كل منا فيها مرئياً
بالنظرة المجردة.


يحيا المرء على كره منه
في عالم لا جدوى البتة من تسميته
حيث بيرق الحياة
أقل قدرة من ذي قبل على حجب المتاجرة بالإنسان.

*
من الرأس إلى السماء


مجرى الماء المستيقظ أول الصباح،
وجد المشهد الطبيعي ممدداً إلى جواره
وحسب موتاً طبيعياً
مالم يكن غير شكل جديد
لمؤامرة الصمت


كانت أشجار الحديقة مغطاة
بمفارش بيضاء عظيمة
ومن منحدر إلى آخر من منحدرات الجبال
كانت العناكب ترمي شباكها
الشبيهة بآلات موسيقية متنافرة


مجرى الماء المستيقظ أول الصباح
رأى في هذه الصحراء التي لا مرآة لها
عدداً من المخلوقات الزاحفة
المنتصبة على سلالم تدعمها الريح


عدداً من المخلوقات
تختصر بأقصى جهدها
المسافات الضرورية إلى الحب


عدداً من المخلوقات
العارية عرياً لا مثيل له
من الرأس إلى السماء


عدداً من المخلوقات
التي سوف نسميها رصاصاتنا الأخيرة
لكي يكون لنا الحق في إطلاقها
*
مظهر هروب


هذا المساء سوف يلقون القبض على رجل في بيته
ساعة العشاء
هذا المساء سوف يقتادون رجلاً إلى السجن
ولن يكون هناك ما يستلزم الدهشة
إذا ما اعتبره ما لا ندري أي وسط عائلي
هذا المساء سوف يغرونه بصورة الموت الملكية
لكن صورة الموت لا تغري
الرجل الذي ينتظر تجريمه بشيء
يتساءل:
هل يتبرم رعاة البقر؟
هل يتبرم رعاة البقر قدر تبرمي؟
ورعاة البقر ذوو الحبل الأشيب
يتمددون على السهل وأعينهم قريبة تماماً من السماء
ودون أن تواتيهم القدرة على الحلم
يتساءلون ما إذا كان البحارة مع من معهم من شذاذ الآفاق
يحملون صخب التبرم ذاته في قعر رؤوسهم
ولا يجيب البحارة
لأنهم جد منهمكين في حساب أمواج البحر
البحارة يحسبون الأمواج دون أن يسمحوا لأنفسهم
بأن تلهيهم الحكايات القذرة التي وشمت على جلودهم يوم
دعوتهم
يعطون الأمواج درجات بحسب ما إذا كانت قصيرة هزيلة
منحرفة أم مجرد قاتلة
وهذا الحساب الورع لا يدع لهم غير وقت للأسف على عدد من
حالات الغرق التي لم تقع في عرض الكاب هورن
لكن ما لم يكن لدى البحارة وقت للتفكير فيه
تبصقه الحيتان على مستوى المنظار
وتتثاءبه الصبايا من وسط أفخاذهن
ويعلنه الوكلاء التجاريون أمام شوارب رجال الجمارك
ويتعلمه التلاميذ على المناضد التي تموت عليها طفولتهم
وتضعه الشعوب عند أقدام جلاديها


- "أعبر لكم يا سيدي
عن عظيم تبرمي"
الرجل في سجنه يقلم أظافره بنعومة
بينما في الخارج حشد مجنون
ينتظر مراوغاً ما لن يكون غير مظهر هروب.
*
عن تيمة أساسية لدى رمسيس يونان


حين ينغرز الخنجر غائراً في الجسد كما ينغرز في غمده الطبيعي المعتاد، فمن الأفضل تركه حيث هو لا نزعه. تركه حيث هو يعني ترقب الموت. أما نزعه فيعني الموت.
الرسم ضرب من ضروب الرمي بالقوس، حيث ينطلق السهم مغمض العينين.
هل لابد حقاً أن ندوم حتى نكون؟ إن التقاط صورة خاطفة لأحد الفراعنة معناه إعداده لسأم الغداة.
الارتجاج هو صيغة المصدر في اللغة التصويرية.
القوة وحدها يعيل صبرها. أما الوعي فيستنزف. إنه فأر مكتنز.
الافتراق البائن يكمن في اللاعودة، أياً كانت الذريعة، إلى الوضع الأول.
امرأة محنية الظهر تفقد حتى فكرة الصراخ. نافخ زجاج استل منها أكسجينها ليصوغها حية في نشوتها. إنها تريد الإبقاء على ما يخترقها وما تبقي عليه هو الحرب.
بوصلة الشهوة تثور. إبرتها نار متقدة.
لا أحد يستطيع اختزال صورة تكبر لأن الدماغ كُوَّة. هنا، لا مجال للإختفاء. لن يكون لذلك معنى. يرتد المرء على وجه الليل ارتداد كرة على مضرب.
كوكبة من النجوم تتثاءب. إنها القيلولة العنيفة للمادة التي تحكم علينا بالسهاد.
الذين في الخارج يدركون الآن أن المعرفة مغلقة.
*
تحية لرسم رمسيس يونان


منحنيات خطوط ملحفة
دعوة لازبة إلى العذاب
لن يتبدل مشهد الدراما أبداً
وهذا بالكاد إن انتظره المرءُ بعدُ
هذه الباقة من أزهار النرجس
هذه العلامة للأزمنة الأكثر قتامة
والتي لولاها لاختُزل ابتزاز الليل المحتوم
إلى تجارة أفواه مهزومة
أفواه غير مؤهلة للتنبؤ
علامة الأزمنة الأكثر قتامة
تسارع إلى شد السجالات الإنسانية إلى الوراء
حتى لا يتمكن أي تلميح من تشويش تيبس النساء الاحتفالي
المنتصب وسط صمم القباب

لابرادور قاسٍ لغراميات غير باقية.

ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_13

عودة الآلهة

نهود بازغة من عيد شفوي
ومختومة بشمع الذكرى
فتاة تبتسم لبشرتها
في الريح العارية للأرياف
ثم تهبط يداها بامتداد جسمها
مثلما تهبط مرساة سفينة
تعاد إلى اليابسة.

كالبريق الزائل لفصولٍ معيشة
تنكفئ على ألم
أكثر سرية من أي موت
على جذع وحدتها الصدفي
على رائحة الحب المباغتة
في درج للرذاذ

وبينما أصابعها تحت اختبار الدف
وقوامها على منحدر الطوق
تنوء بالإرهاق في الماء الضحل
لبعدها الخاص
كأذى سحر أسيء استجلابه

لكن ما من إفاقة
ما من إفاقة ممكنة
دون عودة الآلهة
التي لا تستحق أي إيمان.


*
الفخ


القَدَرُ فهدةٌ ساخنة
واللحظة التي نُمسُّ فيها
تكتسب – في السخرية الليلية العظيمة –
مذاق عربدة ساراسينية

ثم ينبثق النور
وندرك أن ما هو جوهري
هو أن نحرص كل الحرص
على الأشياء التي ما عدنا نشتهيها.
*
الرجفة

ما على المرء وماله
ما عاد بالإمكان قراءتهما
في البلّورة المجنونة للمعابد

للحظة فقط
بعد جمود سنوات غير مجدية
تعلو قوة جديدة
في أعين من يقيمون القداس

لحظة ذعر ومخلب
زيادة في البرَكَة
على فراش الغابة العظيمة
حيث يضيع ثمن كل إيماءة

إن رعب الغداة
يكفي لمواصلة الحلم.
*
فوترالبا


فوترالبا مدينة عالية معلقة في هرمية البناء
فولترالبا لا تستقبل أحداً إلاّ على هضاب عالية
فوترالبا تتساءل أحياناً على مدار سنين عن مدى إمكانية السماح ضمن أسوارها بدخول هذا الزائر أو ذاك القادم من بعيد جداً عبر آلاف من الأهوال
ثم إن أسوارها ضعيفة ورجراجة
فوترالبا مدينة طيش خالص.
مدينة لاتزال تجهل شيخوختها، لاتزال مجسمة في ثياب حلم قديم حيث تستغرق بيوتها وقتاً حتى تتهيأ، حيث تعرّي البنات صدورهن لصباح الواجهات، حيث لا يشنق المرء بعد الخيماويين إلاّ صورياًّ، حيث يدندن الوجهاء في العشب كما لو كان ذلك هو رسالتهم الأولى.
في فوترالبا ذات الأهداب المحترقة التشنجُ هو أبسط وسيلة لتمتين التعارف
في فوترالبا ذات الواحات المسورة العطشُ هو التسلية الأولى للرجال الصالحين
في فوترالبا التي تتآكل من فرط تخصيص غرفة في كل بيت للمدعو وغرفة لقاتل المدعو
الفلفل والألباجا رمزان للسيادة
تحكم فوترالبا ملكة فلفل وألباجا خنثى وهي لا تُبصِرُ هناك إلاَّ في ساعات معينة، ليست واحدة أبداً. كل ما هو غير متوقع هناك.
دون كلل، يدافع تنين مُعفَّرٌ عن مداخلها. لكن المداخل معتادة على التحايل عليها. كلمات السر لها لغة رثة. هناك اعتقاد بأن المرء يرى هناك كما في أماكن أخرى ثرثرات بائسة. ولا يوجد غير المتوقع إلاّ في عمى الملكة المتقطع.
على طول الأرصفة تتخذ مراكب شقراء أوضاعاً لرسامين نشوانين
وفي المساء، في حديقة مهجورة ما، يوجد دائماً فونوغراف بلدية يتمتم بين الظلال: "ماذا تكون هيكوبا بالنسبة له أو هو بالنسبة لهيكوبا..."
عدة مرات متتالية
عدة مرات متتالية
والصمت يتأوه في فوترالبا وعندما يكف عن التأوه يغدو ثوباً من النسيج الخشن مقوراً بشكل فاضح
وغداً تنفتح الدواليب المقدسة، ويولد العري من جديد من ذهبها وترفع المسرات الرهيفة غير المفهومة رأسها
ويتهيأ الجميع ويتزينون لشعيرة سوء التفاهم العظيم.
ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_12

مبدأ الهوية -1

تَكَتَّمَ اسمه
كماء راكد
حيث الأحجار عند سقوطها
لا تترك أية دوائر

هبط نحو الآلهة
غير مصدق وإن كان صبوراً
تقدم في ليل الآلهة
مفعماً بالتضحية بصورته هو
مفعماً بتماثله مع الشقاء

وعندما دخل مدينة السماء
تحدث أحدهم عن البيات الشتوى المطلق
أوصدت أبواب البيوت
كما تُوصدُ أبواب الفخاخ
بين الرجل والمرأة
لم يعد هناك غير الحد الرهيف
لسيف طليطلي

الحرمان من المغفرة
يعيد العالم
إلى أيدٍ لا تتحرك.

*
مبدأ الهوية – 2


يضحي المرء بصورته هو
مثلما كانوا يقدمون القرابين البشرية في الزمن الغابر

عرفت إنساناً
لم يكن يتعيش إلاَّ على توجسات الآخرين

كان يتحرك أحياناً كمتنزه ضرير
صريعاً للشحوب له إيماءات عباد الشمس

كان يجلس أحياناً في وسط المدينة
وإذ يحدث رنين قطع عملة محظورة
يتصور أنه مُحاسِبُ وحدتنا

كان يتصور أنه يحمل اسماً عكس اسمٍ
وينكر أن الشقاء يماثله

يهلك من باب السهو أو من باب النزق
وفي السديم الصباحي
امتزج نَفَسُهُ اللاهثُ بأعذار الجلاد.
*
ضريبة الحياة


أنا الإنسان الجالس على جانب الطريق
ذلك هو الوقت المناسب للكتابة إلى الأصدقاء
الكتابة مع صون الكلمات
مع سلخ الأصوات
مع رمي أولئك الذين يكتفون بالنظر
على رأس أولئك الذين يكتفون بالفهم
وهذا يحدث دائرة زرقاء واسعة حول العينين
لا يبرأ منها المرء.

أنا الذي يجلس على جانب الطريق والذي يُبقي أعداءه
تحت رحمة ضجره.
والذي يتوجب في نظره التدقيق في كل شيء.
طال أمد العمر أم قصر
ليس لذلك شأن كبير
ليس لذلك شأن كبير بالنسبة للإنسان الذي يثأر
من هوان شأن الإنسان.
*
الانشقاق العظيم


انتبهوا إلى الكنوز التي لا يطالب بها أحد
إلى التلميذ الصبور والصموت
المنسي منذ زمن بعيد في ركن معتم
إلى التلميذ الذي يباغت الأحلام
الذي يخفف مرارة الحياة
الذي يبتدع امرأة مثلما نجهز سفينة
الذي يرى ما وراء حائط الإغلاق
ما وراء الجبال
ما وراء البحار
الذي كان ليكون بالفعل في أقصى العالم
إن لم نكن هناك لكي نكلمه عن الجَزْر.

انتبهوا إلى ذلك الهدب للجنون الخالص
على جبين سيدة قصر
وإلى برودة أعمدة على هامش صدغيها
وإلى صرختها التي يلم الليل فيها
تعب الطيور

انتبهوا إلى تلك النباتات الوقحة
التي تنحشر بين الكائنات
والتي تعطيها في نهاية المطاف حق
ادعاء الافتراق.

*
الغافلة


الصدقةُ المتلقاةُ في قلب الأجمة
الإهانةُ المتلقاةُ في حميمية القبر
الفرحة المتلقاةُ على الوسادة
الصرخة المتلقاةُ في قلب الفم

نعرفُ كنوزنا

لكن هذه القروية التي لا تتعرفُ على نفسها بيننا
والتي ماعادت الأجراس تدقُ لها إلاَّ سراً
حيث نتلقى الجراح التي تتوسل إلينا حملها

لم يبق لها غير خمسين برجاً من الفرو
خمسين شرفة طليقة الأجنحة
خمسين خادماً أشقر كخمسين نمراً
خمسين بئرأ بلا قاع لخمسين نجماً بلا سماء
أوه أيها المَرِح أيها الهش
ربما لم يبق لها سوانا.
*
الحقيقة الأكيدة

إلى إقبال

أكلمك لأن الليل
لا يهبط البتة من تلقاء نفسه
أكلمك لأن الليل
ملكية ضائعة
نقود يجيء بها الحظ
الأرجوحة الخائبة
للبهلوان المزخرف الثوب
شيء طائش عند قدميك العاقلتين
زينة تلك العابرة التي تقتادها الشرطة
فم يتوجب إطعامه
فم يتوجب حفره بصرخة
البوتقة السوداء التي تتمرد فيها ألوان الرسام
أكلمك لأن الليل
يلمع من ألف شرفة مجهولة
بعضها على مدخل
جميع الممتلكات الممكنة
وبعضها الآخر وراءها
أكلمك لأن الليل
قد خلق من فرط الأحلام
وليس فقط لكي نحلم
أكلمك من كابينة صماء تجاه كل الرسائل
المستَقْبِلُ الشائخُ بين عريشة النبات المتسلق والندى
يجرجر وجوداً أكثر روعة في غموضه من الكلام
أكلمك لأن الليل هو في آن واحد
بوتقة التعزيمات السوداء
وزينة تلك المرأة التي يقتادونها دون طائل
وتلك الكابينة – الشبح الجانحة في
وشيء ما أكثر من الوقت المباح التحايل عليه
ومن الصمت المتاح للبيع.
*
بفارق وجه


أيتها المرأة التي بلا حكمة
أيتها المرأة المستندة إلى الريح
المستندة إلى شقاء أكثر مما يمكن أن تحتمله
الموسيقى الثابتة التي يصعد فيها تنفس الأحلام
المتوسل.
أيتها المرأة التي بلا شائبة
إن النداءات التلغرافية
سوف تبحث عنك في صميم أروقة الدم
حيث تذوب البراءة في يديك
منذ نهاية المشهد الأول
أيتها المرأة ذات الصمت الذي بلا طائل
ذات الارتجاج الداخلي المديد
حيث يزول دنس القلوب الغجري
أيتها المرأة ذات الأثر النيلي
الأصعب على التعرف عليها مما على تحيتها
إن المرايا تسخر سخرية محزنة هذا الصباح
لكن الكلام يدور عنك في لغة من لا يملكون شيئاً
الكلام يدور عنك في لغة الصبا الصباحية
الكلام يدور عنك في لغة الدغل الأخوية
الكلام يدور عنك في لغة العواصم المتحجرة
حيث الابتسامات باهظة الثمن.
*
في البعيد

في البعيد
في المكان
في المكان المسمى مكان الرهان
هناك حيث نحتقر النظام
هناك حيث نحتقر الأسرار الميتافيزيقية
هناك حيث لا يتكيف أحد مع شيء.

في مكان الطفل المتأرجح
الذي لا تحسن النباتات المتسلقة رعايته
ولا الأعشابُ ولا
الأشياءُ المجهولةُ
- طفت بالعالم، قال كافر كانت تتدحرج
تحته الأحجار-
رأيت مدناً بلا أسنان وراق لي
أن أجد نفسي بينكم، بعد كل هذه الأهوال،
أوه، أيها البشر الذين ليست لهم
أية غاية.
*
كان ذلك زمناً آخر


كنا جالسين تحت ساعة دون غيوم
كما لو كنا عند نبع الزمن القصير
كانت الفتاة الصغيرة الأقرب تتحدث بالسنسكريتية
وسألها أحدهم عن طريق لا وجود له.
وراءنا قرية
ذات عيون يوسع حدقاتها وقت الفراغ.

كنا نشاغب مداعبات
بقيت طويلاً على نوافذ المطر الزجاجية
وكان الصدأ يبلغ أطراف أصابعنا.
أطفالاً يجيئون بعد فوات الأوان وعاطلين
لا تصلح وجوههم لأحد
نترك العشب ينمو حولنا
كما لو كان حاجة آثمة
ونحلم بالاختفاء
مستترين أخيراً بهذه النزوة طويلة الأهداب
مستثنين من كل حضور ومن كل مكان.

كان ذلك يوماً موشى بالنسيان
ككنيسة باروكية
يوماً لا يملك القدرة على الاستيقاظ
وعلى أن يرانا ونحن في الشحوب.

ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_11

سونيا آراكيستين

احفروا
فسوف تجدون هناك ابتسامة
ابتسامة قبرية
لأولئك الذين يصدقون وعود الحياة

احفروا
فسوف يغمر التراب قلوبكم
وسوف تمضون وقلوبكم في التراب
والحب الهامد
بلا حراك على ملتقى طرق الرفض

احفروا
فسوف تجدون السماء
ربما تكون السماء هناك
ربما يكون هناك تناثر أنواع الكائنات
أو مذاق المطر الأسيف

احفروا
حتى تنشر هذه المرأة مروحة سقوطها
حتى تصفع إلى الأبد بلادة الفضاء
حتى تزف نفسها إلى اليابسة
بوجهها البلوري المكسور الجميل

احفروا
فسوف تجدون العينين الأكثر وحدة في العالم
وعلى إسفلت الشارع البارد
امرأة غريبة دون سابق إنذار ككوَّة
احفروا لهاتين العينين نظرة مستحيلة
احفروا اسمنا في ليلنا
احفروا لأجلنا.
*
بعيداً

بعيداً
يحل صوتٌ ضَمَّةَ الشفاه
سهواً
مثلما يسقط المرءُ في مطب

بعيداً
تمتد حبال الصقيع
يتم إلقاء اسم امرأة في عرض الحياة
تشكل العقدُ الجورديةُ
في اليد أطفالاً

بعيداً
اسم امرأة لا يتوافق معه أحد
شرفة بلا أهمية
بيت مؤجَّل
ينسحب منه الكلام

بعيداً
يوجه المرء ضربة
بعيداً
يتردد المرء في توجيه ضربة ثانية
يتنكر المرء للرأس التي يحملها

بعيداً
يتحرك اسم امرأة عبر الحقول
يستطيل اسم امرأة بين أشجار الخيزران
بينما تهبط من جديد
شُرَّاعةُ اختلاس النظر

*
حديقة سُو

إلى جان ماكيه

أيها الفرسان الخاضعون عبثاً
لبلاء السديم

أيتها الحجارة التي تبلى سلفاً

يا وجوه صدر المدى
الذي يجمل
إيقافُ الإنسان عنده

هنا لا يفوت أوان شيء
الحلم من قطعة واحدة
يتواصل منتصباً
مثل وفاءٍ نادر الإيماءة
مداعبة قوية ما عادت اليد
بحاجة إلى الالتئام عليها من جديد

هنا لا يفوت أوان شيء
تحدٍ طويل ميال إلى الخذلان
يجمد الهامات المرتفعة الأخيرة

لم تعد هناك عناقات مفاجئة
لم نعد نستأنف كلامنا.
*
المرأة البيتية

جميلة
كالصاعقة التي تتوقف في منتصف السماء
كي تختار شجرتها

مجهولة
قريبة إلى حد إثارة الفزع
ومع ذلك فهي مثار اطمئنان
كاستراحة قصيرة في بلد معتدل المناخ

بطارية إضاءة
تمسك في حدقتها
بزمام الليل

هشة
كمصافحة
بين كائنين بلا مستقبل

عسرة
كاستهلال العالم

وجه محاط بالأسوار
لا يُرى غير مرة واحدة في العمر
عند الضغط على الزناد.

*
رسالة إلى فتاة صغيرة
لأجل بداياتها في العالم


يا بحيرة صغيرة على شاطئ البحر
ترتسم على صفحتها النجوم
يا بحيرة راحة اليد التي لا دخل لها
بأي ظمأ

إن جميع الوجوه مثبتة
بمسمار الشحوب ذاته
يتظاهر المرء بأنه لا يدري عن ذلك شيئاً
لكن ضغط الدم آخذ في الانخفاض اليوم
ما عاد المرء يتحدث إلاَّ عن نفسه
البيوت على مستوى البشر
متخلفة عن خراب مؤاتٍ للخلاص.

لكن تيار الأشياء الكامن المرصود
الذي لا يكاد يُلحظ في طيشه الوليد
هو ما يزدهر فيك
يثبت المرء النافذة قبل النظر
التردد قبل الحياة
يجب بناء الوجه بالأسلوب الذي تُبنى به مدينة

العصافير المقدسة حسمت رأيها للتوِّ
في موقعه.
ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_10

فيكِ

فيكِ
يسكن كسلي
يا بلادي الكسولة العظيمة
مثل ثعبان
في جذع شجرة مجوف

فيكِ
تدور عجلة الماضي نافذةُ الصبر
تحدقين في البعيد والقريب
بنظرة محايدة
والفنارات ترفع تنورتها الزَبَدية
كي تنطفئ في أحضان البحر
بلا رقباء

فيكِ
يستنطق الأخرقُ الحُجُبَ
فيكِ
يتجدد النفي الطويل لقُبلة

فيكِ
أكون في النهاية
تحت رحمة نفسي.



ترجمة بشير السباعي
عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_9

بلاء السديم
(1939-1945)


لاريب أن الإنسان الذي يصمت هو وحده الذي لا يحتقر الكلمات البتة. إن ليل الحارس تكليفات صارمة لكنه أيضاً تيقظ طويل لعنفوان الكائن. ومن الممكن أن يظل صمته عالماً مقفلاً إلى الأبد. ومن الممكن أيضاً أن يصبح بوتقة الحقيقة وأن تعيد هذه الأخيرة – مثلما يحدث ذلك في تراجيديات شكسبير – اكتشاف الصوت اللازم لتحية المصير بإسمه.


*


لأجل أي حصاد ندخر الماء؟ إننا نشيد سدوداً للصمت، آملين أنها سوف تتصدع يوماً ما وتجرفنا بعيداً، وأن الكلام المتجدد، سوف يكون منذ تلك اللحظة ممتزجاً بالطحالب وبالطمي، وإنه ليبدو لي، بالفعل، أننا نحس نوعاً من الشهوة الماكيافيلية إلى هذا الكلام المتدافع بأكثر من اللازم والذي، دون مراعاة تجليات جديدة (سوف نضعها من ثم تحت رحمة مبدأ الإغواء)، قد يرمز، بالنسبة لنا، إلى نهاية التلاشي. وهذا لأن الصوت يرق ولا يتحين فرصته الثانية بعدُ إلا من إفراط في التآكل.


*


تنكتب حياتنا بنقوش لا نكاد نلحظها نحن أنفسنا، بعيداً عن الإشارات التي نعطيها للآخرين. لقد عرَّى الفكرُ الإنسانَ رغم كل شيء، وها هو ذا جاهز للخنق. ويبدو أنه لا مخرج هنا إلا عبر تحويل الكائن إلى مادة من مواد العالم الفيزيقي، إلى عنصر ما غريب عن طبيعته. لماذا لا يُودَعُ في الإبداعات التي نحبها، تركيز معين، يتميز بالإصرار، على البلّور أحياناً، على الكبريت أحياناً، على الحجر أحياناً، إن كل شيء يحدث كما لو كان المعدن الإنساني على وشك النفاد، كما لو كان قد تم بلوغ قعر المنجم، كما لو كانت الكلمات قد امّحت، والممرات قد اكتشفت، كما لو كان لم يعد هناك، باختصار، غير النزوح من حالة الإنسان صوب مناطق لم تمس بعدُ.


*


لوزان
4 سبتمبر 1939
اليوم الثاني للحرب العالمية
كل شيء يرتد إلى الفوضى وإلى الليل الأكثر تلويثاً. إنه تشتت البعض، وتعبئة البعض الآخر والتشوش التام للجميع. وتولد الكلمات العظيمة من جديد بقدر ما يموت الناس من جديد. لكن الكلمات العظيمة الحقيقية تظل في الداخل، في حصون الذاكرة المنيعة.
... تلك سرعة الموت المُكْتَسَبَةُ وقد أحدقت من كل حدب وصوب.


*


لقد حُفرت أنفاق في كل مكان تقريباً دون أن يكون الناس واثقين تماماً من الخروج من العتامة التي اختاروا ولوجها. ففي البداية، تكتفي الأكذوبة بالتطاول على الحقيقة. وما هو نسبي يمسي ملتبساً. وتكون تلك مرحلة تشوش تكون فيها أكذوبتان عكازين لحقيقة. ومنذ تلك اللحظة، لا يبقى للأذكياء غير أن يكونوا واضحين، أي أن يصفوا كل الأشياء بحيث لا يكون بوسعهم أن يتذوقوا منها غير ثمالتها.


*


عندما نقف على نقاط الارتكاز الأخيرة، فإننا نتلهى بالفرجة. وهذه لعبة ختامها التثبت من مبدأ الشلل.


*


إن أرغنات البربرية تصحب في شوارعنا أيضاً موسيقى عبثية شبيهة بتبكيت الضمير.


*


يرى المرء من هؤلاء الناس من، إذ يدخلون إلى مكان عام، يلبثون شاردي الفكر أمام أمثالهم ثم يسألون ماذا يكتبون، لكنهم لا يجرؤون أبداً، حتى لحظة الإغلاق، على التوقيع على ذلك الإعلان الطويل، ذلك الإعلان عن عدم الصلاحية للحياة.


*


إن ذاكرة إنسان البحر المتوسط تكشف شبابها، بالتحديد، في إلغاء هادئ للزمن.
ذلك هو ما يجعل من إنسان البحر المتوسط إنساناً يعرف العاطفة بشكل أسهل من معرفته للدهشة.
هذا البحر الداخلي مجال عقلي. ولقد اعتقد الناس أن هذا المجال المسوَّر مقصور على حس القياس، كما لو أنه غير محاط بضفاف الإيمان. كما لو أن هذا المجال المسحور لم يشهد سقوط قيصر وميلاد بونابرت.
إنه صندوق بريد التاريخ الدائم الذي تجد الرسائل فيه دائماً مُرسلاً إليه ولا تفقد شيئاً من معناها حتى لو سُلِّمتْ بعد قرون من التأخير.
لقد دخل البحر المتوسط، مرة وإلى الأبد، في مدار الإنسان ولا مجال للخروج منه.


*


بجانب الأبطال الذين يجهلون أنفسهم، يوجد الأبطال الذين يجهلهم المرء، وعلى رأس هؤلاء الأخيرين، الصعلوك. الصعلوك المطلق والمتشدد المصر على ألاَّ يستجيب لشيء من الإغراءات النفعية التي تقف له بالمرصاد. إن حس الواقع يختلط عنده بحس المغامرة، حس مغامرة شخصية في كل لحظة، منسوجة من ابتسامات خفية لدى الانكسار المفاجئ لزجاج نافذة، من مشاريع غرامية تتشكل بالصدفة شغفاً بوجوه أنثوية مبلولة بللاً رقيقاً بقطرات المطر... بقطرات المطر الذي لا يستطيع أحد القول في أية لحظة بدأ يسقط.


*


أعتقد أننا نتجه نحو شعر رقيق وقوي، تدعمه تلك "الكآبة المبهمة الجسورة" التي يتحدث عنها إيف بونفوا كثيراً والتي ليست مفتاحاً لتفسير حالات الندم بل نسقاً لما لا يمكن حله، أي للوسط المحدد المنيع والذي يغرق فيه الشاعر.
شعر دون تنازلات يجب أن نتوقع منه أن يدفع من يمسه إلى ممارسة أفضل للوحدة وإلى تأمل مشحون بالعواطف ليس في ما نحن عليه، وإنما أيضاً في ما يُرفَضُ لنا أن نكونه، شعر يتوجب عليه أخيراً، وهذا هو الشيء الجوهري، أن يجعل إنسان الغد مُتَطَلِّباً حيال اللغة.


*


إن كلمات تخدم كل القضايا، تكف بذلك عن خدمة أية قضية.
ويجب التقدم من الآن فصاعداً، والكلمة عارية، كنصل قاطع.


*


إن اليقظة، وهي نوع من الميلاد المحتدم، هي هلع منظم تماماً يبدأ من تلقاء نفسه.


*


ربما توافر حل لعذاباتنا: أن نكتسب كطبيعة ثانية آلية دُمى، إلى جانب، علاوة على ذلك، ما لا أدري من الأشياء التي تترنح. هكذا يمكن للمرء أن يتجاوز، وهو ما يكاد ينوء بحمل هذا الدرع الصدفي الطفولي، مرحلة اليقظة، وأن يتحرك في الثابت، وأن يتقدم في الحسرة.


*


من فرط كتابة: "العلامات المميزة: العدم"، يتولى البيروقراطي إفهام من يسقط ضحية له ليس فقط أنه ليس هناك ما يميزه، وإنما، بادئ ذي بدء، أنه ليس من حقه أن يميز نفسه.
إن المرء ليتخيل بطاقة هوية يقرأ فيها:
العلامات المميزة: شخص خطر يتصور أن طفولته مستمرة.


*


إن كانت هناك في صميم الأشياء كلها، عاطفة غير مسماة تكسر وجوهاً قُدِّرَ كل ما فيها لراحةٍ مَلَكية وتُحولها إلى شظايا من البلّور، فلابد لتلك العاطفة عاجلاً أم آجلاً من أن تنال إسماً، والسوريالية جديرة بأن تضم اسمها إليها.


*


أحب أن أتخيل في البيوت الأكثر انكشافاً على الشاطئ طاولات كبيرة فاتحة اللون ممدودة للرحالة المتأخرين الذين يعرف المرء أنهم سوف يصلون، برغم كل شيء، على جناح العاصقة.


*


... من جهة أخرى، أقول لنفسي إنه لكي يكون هناك لقاء مع الآخر، فإنه يجب أن يكون هناك، بداية، لقاء مع النفس... إن كل لقاء هو من نوع ذلك التوسل، من نوع ذلك الرجاء الخفي الذي منحه لنا ذلك الجزء من كينونتنا والذي لم يفعل غير أن يقدم لنا وعوداً، إلى هذا الحد من الغموض، وإلى هذا الحد من الرعونة. وإذا كان الموت يراوغنا، في هذه اللحظة، فإن الجهد الكبير بلا طائل هو الذي يشرُف شرفاً عظيماً بإيقافنا.


*


أُسَلِّي نفسي بالتفكير بأن المرء يجد الراحة على الخشبة الأثقل. فالسعادة ليست تزحلقاً على العشب الأملس. والزاوية غير المتوقعة هي التي تجعل الصخرة الأخيرة تلامس الخلاء الأول.
وهناك لحظة نكون فيها تلك الزاوية وتُدوِّي فيها دوياً قوياً فينا حِدةُ العالم المُحبَطَةُ بلا توقف.


*


يروق للناس وصف زماننا بأنه زمن كوارث. وهذه الكلمة لها مأثرة مغازلة غرورنا. فنحن نكتسب، من خلالها، مظهر شهود ومحركين لكوارث عظيمة في آن واحد. وينبثق من هذا الاشتهاء للكوارث درس أوليٌّ ينطبق على معظم التأملات الثقافية المألوفة لدينا. إن قصر النظر العقلي بحاجة إلى منظورات عظمى. وهناك في الحياة، لعبة تعويضات خادعة بحيث إن فكراً ضامراً غالباً ما ينتهي إلى التعلق بشكل ما من أشكال الضخامة الإيديولوجية.
وما أن يفقد ذكاؤنا جسارته، ما أن تبدو له الحقيقة عصية المنال، فإنه يصبح من المغري بالنسبة له أن ينصهر في يقينٍ جماعيٍّ وقوده ذروة دائمة من نوع ما. والحال أنه فيما يتعلق بالإنسان، ليس من المبالغة القول بأن الصفر هو حاصل جمع ذاتين، ويوم تكف البشرية عن أن تكون أكثر من ضمير واحد سيكون المرء محقاً في الاعتقاد بأنها في سكرة الموت.


*


ليس الاختلاف هو الشكل الأخير للترف وحسب، بل هو أيضاً الفرصة الأخيرة لكي نحافظ في أنفسنا على جانب الحكمة بجانب الحماقة.


*


إنني أحفظ تلك العبارة الصغيرة غير المهمة، وإن كان بوسعها في الوقت نفسه أن تقود إلى إبادات مراوغة: "ليس ضرورياً أن يواصل الحياة أولئك الذين لا يسعهم أو لا يريدون العيش هانئين".


*


الموج يعلو حول من يمد يده إلى الفوضى.


*


ما يعتبره المرء الإبداعات الأأكثر تمثيلاً للإنسان، من كوليزيه إلى رامبو، هي بالقدر نفسه أنشوطات بالقياس إلى خنق مؤجل إلى أجل غير مسمى، هي بالقدر نفسه إسهامات في تكثيف اللغز. وحيثما لا يتكشف اللغز، يبدو لي أن من الواجب زيادة غموضه، مضاعفته بتفسيرٍ تُصبحُ جميعُ أشكالِ سوء الفهم ممكنةً معه.
وإذا كانت فكرة الرهان ليست غريبة عن تاريخ الإنسان، فمن المناسب ببساطة إقرار أنه قد راهن لحساب سوء الفهم وضد الوحدة.


*


لا ريب أن الشيء المهم هو الذود عن النفس ضد مختلف صيغ مجاوزة الذات، ضد الحلول الوقتية لذلك الذي لا ينشأ إلاَّ مما لا يمكن حله.


*


الكلمة ليس لها ثمن إلا بمقدار الدلالات المتحداة التي تحملها في ذاتها، المتحداة دون واحدة هي الأخيرة، والتي تسجل حرقها الصغير على الجلد مثلما تُسجَّلُ بصمةُ تحالف.


*


من كرومويل، هذه الفكرة المدهشة التي تشبه لياً معيناً للفكر الباطني: "لا أحد يصعد أعلى غير ذلك الذي لا يعرف إلى أين يمضي".


*


يجب للقصيدة أن تكون قادرة على أن تُواصَلَ، على أن تُستعاد، على أن تكون موافقة لكل غاد، من خلال كل ما هو حي. أما نحن فعلينا إطالة عمرها، وربما القضاء عليها، ليس فوراً ولا بصوت عال. وإنما يوماً ما، في الحلم أو في الأعمال، هذا الجانب أو ذاك وبطريقة ما، في اللحظة التي يتجنب فيها الشعر المكتبات التي لدينا أو التي نَكُونها نحن.


*


ما أندر حالات إمحاء الفن الصارخة إلى هذا الحد... إن الصورة تأخذ مكاناً في الحياة. وأسلوب بناء الإيماءات يتكفل بالباقي... ولا يُسلِّمُ البنيانُ أبداً بأنه ناجز. فهو في كل يوم يحمل نافذة جديدة. إن كل شيء يترنح بشكل مؤثر تحت رحمة ضَعفٍ في النظر. وإنه ليجب المضي إلى نهاية هشاشة الأشياء.


*


في حضور الفن فإن الوجود بأكمله هو الذي يتمايل تمايلاً معيناً، شبيهاً بشراع في مهب الريح.


*


يذوب الحلم مثل قبضة من الثلج في راحة اليد، ويهتدي المرء إلى طريقه، مجرداً تماماً، على الدرب الذي يرد إلى الذات.


*


الكتابة أسلوب للحفاظ على الذات وللحفاظ وحسب، للحفاظ على أحلام بادية، وربما كانت فرصة لكي يبقى المرء نقياً. أو أقل تلوثاً.


*


بلى، إنني أحلم بتأبين مهيب للإنسان ولتظاهره العاجز بالحياة، بتأبين تولد فيه من جديد وتعلو فيه أيضاً كلمة بوسويه المهيبة، الكلمة المقفلة، المنفصلة عن أي ارتباط بالمعيش أو بما يعيش.
إنني أحلم بمتاحف عصية على أن تولج، يتوجب على كل من يقترب منها أن يقدم برهان رغبة طويلة ومتواصلة في الجمال.


*


خاصية لنور ممسوس أو ملموس عن بعد. يسارع إلى التراجع لو تقدم المرء نحوه مُطَارِداً... غير حاسم بقدر ما نبدو نحن أنفسنا جد حاسمين، والحال أنه النور الوحيد الممكن من أجل بداية، والبداية الوحيدة الممكنة من أجل نهوض الإنسان من كبواتنا.
...على معرفة مستكينة نفتح أعيننا وعلى عرينا يستند إدراك عالم صار في نهاية الأمر بلا طائل. الصياد يرتقي فروع الشجر، والشاعر يتنازل عن عرقه لشجرة الأوركيد. شارب النمر مبلل بالندى، كشوارب سكارى لا مأوى لهم.
إن الشيء المهم هو تعلم كيفية خلط العلامات، كيفية نزع إمكانية التنبؤ بالمستقبل.


*


تنبسط راحة اليد حتى يتسنى مرور شعاع من الكسل.


*


يتميز الحجر على الإنسان بأنه يسقط عمودياً، وربما كان من المناسب الاعتراف بأن تعاساتنا قد بدأت بهذا الرفض الأول والذي لا يوجد فيه من الشجاعة غير المظهر، لأن قول "لا" في تلك اللحظة، هو في الوقت نفسه انقطاعٌ إلى تخلياتٍ لا تنتهي.
*الإنسان يجادل، والجدل مساومة، وهكذا يولد التاريخ، ذلك الماء الذي لا ينشد غير الركود، وهكذا تتأسس، حتى النفس الأخير، مساومة طويلة وغادرة لا يستطيع فيها الإنسان، المحاصر بين بروميثيوس وسيزيف – السجانين المتطرفين لحماساته- أن يمارس أو أن يُذكي رغبته إلاَّ لكي يتمكن فور ذلك على أحسن نحو من نفيها أو خنقها بيديه هو. لاشك أنه يُمَنِّي نفسه أحياناً بابتكار علاجات جميلة، لكن الرياء هنا يكون صارخاً، لأن ما يتوخاه ليس علاجات. فبعدة ألواح خشبية للنجاة ينتهي المرء دائماً بصنع تابوت.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_8

حالية العام ألف [ نهاية العالم ]


مآل كلمات معينة هو مفتاح لفهم عدد من الظواهر المزعجة. ففي جزء بأكمله من العالم، أصبحت كلمة النقد الذاتي ذات استخدام شائع. وهذه الكلمة تزعم أن تتمتها هي كلمة أخرى، لكنها، في الواقع، إنما تأخذ مكانها. فالنقد الذاتي يحل محل النقد. وضمور هذا الأخير هو شرط نجاح البديل الذي يحل محله. والحال أن الشكل الغريب لذلك النشاط الذي يعرف نفسه بهذا اللفظ إنما يهم، بدرجات مختلفة، الأدب وسيكولوجية السلوك. إنه يحقق مزيجاً جذاباً: هو مزيج الروح المسيحية للعام ألف مع التعبئة الحديثة للضمائر.


إن العام ألف هو فترة إرهابات عظمى مجهولة الاسم. فالإنسان يدع نفسه أسيراً لهاجس تهديد غير مرئي وهو يقنع نفسه بأن مرسوماً مبهماً بالدمار الشامل هو على وشك الصدور، ووضعه محزن بحيث إنه يعتبر نفسه بشكل عفوي مذنباً باقتراف نوع من الجرم العمومي وغير المحدد، يتوجب السعي إلى الإجابة عنه قبل أن تنهار داره. والمسألة ليست مسألة حكم على جاره. فهذا الأخير جد منشغل بالفعل بصوغ تفاصيل ذنبه الخاص. بل هي مسألة الانتماء إلى الذنب، والذي يطرح نفسه فجأة وبشكل مفارق، في عالم مغلق، بوصفه إمكانية الخلاص، فالمرء إذ يضفي على الذنب طابعاً شخصياً، إنما يمنحه محيطاً وبيتاً وسقفاً. ولا يعود الشر هو ذلك الجساس الذي تحول خطواته دون مجيء النعاس. فالمرء يبدأ بأن يكون انعكاساً له. وفي لحظة معينة، يتعرف عليه المرء بوصفه قريباً له. إنه لا يعود غريباً. وهكذا يمكن للمرء أخيراً أن ينام قليلاً.


والعام ألف له سائطوه وزاعقوه. لا صحافة ولا إذاعة. بشر يقرأون نهاية العالم في ندوبهم هم؛ يتجولون في الأرياف طالبين من كل واحد أن يتهيأ للمحنة العظمى. وزماننا يعرف أيضاً المتاعب والمحنة والخطوات الجساسة في الليل. وقد ظهرت أنظمة تريد تحويل اتجاه المتاعب والتغلب على المحنة. وفي سعيها إلى خلق تضامن، فإنها تستخدم سهاد الضمير، الأكثر إيغالاً في القدم، وتدشن من جديد شوط الذنب. ليست تلك هي نهاية العالم، والجميع يعرف ذلك. إنها مجرد الحساب قبل الأخير، لكن هذا المنظور أمام الضمائر التي فقدت قدسيتها إنما يكفي لدفع الفرد إلى الانقلاب على نفسه. والحال أن ذلك إنما يتم، من جهة أخرى، بقدر كبير من اليسر، وذلك بقدر ما أن قرناً من السيكولوجية الربوية شايلوكية الطراز قد سمح للكائن الإنساني بأن يقطع نفسه شرائح رقيقة، وبأن يغربل ذاته، وبأن يحلل ما لم يقترفه بقدر من الصرامة أكبر بكثير من صرامة تحليله لأفعاله الفعلية، وبكلمة واحدة، بأن يتدرب تحسباً لجلسة تعرية سوف يفصح فيها هو نفسه عما هو أهل له، مستبقاً بذلك التحليل الذي سوف يجري له من الخارج. والحق أن عين مبدأ إمعان النظر في الذات إنما يعد هنا فاسداً فساداً جليلاً. لأن النقد الذاتي، منذ البداية، لا يمكن الاضطلاع به إلا بشرط اعتبار المرء نفسه مذنباً، مادام المرء لا يتعرف على براءته الخاصة. وهذه البراءة، لا تسمح لنفسها بتأكيد نفسها، لأن المرء إذا كان بريئاً، فما ذلك إلاَّ لأن أحداً آخر مذنب، وهو مالم يجر إعداد المرء لإثباته وللتدليل عليه. ولكي نتوقف عن ممارسة النقد الذاتي، يجب أن نمارس النقد، لا أكثر.


حول هذا الموضوع الذي لا ينفد، من المهم أن نقرأ – أو أن نعيد قراءة – " القضية" لكافكا، و"الصفر واللانهائي" لكيستلر و"الاستبيان" لإرنست فون سالومون. فبالرغم من الكآبة التي ترسمها هذه الكتب لصورة عصرنا، إلاَّ أنها تسمح، مع ذلك، بأمل طائش. إذ يوجد دائماً شخص ما مهمته توضيح تقنيات الإيحاء المرضية – تمزيق سحرها القاتل. ولابد أيضاً من الزعم بأن أسطورة النقد الذاتي الضالة إنما تمثل تحية غير مباشرة ومنحرفة مُقَدَّمة إلى هيبة النقد الحقيقي. ولأن المرء لا يمكنه وقف فعل الذكاء، فإنه يجتهد في تحويل اتجاه مساره ويحرضه على إغراق نفسه. والحال أن مشروع العام ألف هذا الموحى به لا يملك فرصاً كثيرة للنجاح. إن الغرق لن يحدث.


مايو 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_7

العدالة الإشعاعية


على مدار اثني عشر عاماً، ترقب كاريل تشيسمان موتاً كان لوقت طويل تصورياً قبل أن يصبح عضوياً، وهو نوع من الموت له فوائد مركبة ومتطلباته أكثر بما لا حدّ له من متطلبات الموت العادي، وقد مر، خلال فترة الحضانة الغريبة هذه، بجميع حالات التمرد الممكنة، دون أن يكف لحظة واحدة عن أن يكون وشيكاً ويقظاً. لقد سهر حارس العبث على حراسة هذا الرجل الذي حصنه سم بطيء ضد سم الأمل. ولابد من دفنه إلى جوار ضحية من ضحايا هيروشيما هؤلاء، الذين يواصلون الموت سهواً تقريباً، بإمهال لم يكن مسموحاً للحياة أن تقوم مقامه.


لم يتمنّ أحد موت كاريل تشيسمان. إلاَّ أن أحداً، بالمقابل، لم يؤازره في الصعود على مَدْرَج نيل العفو. وعند تقاطع هذين الرفضين، يحدث إعدام إنسان. وهذا يعني أن المواطن الحديث يختفي خلف تنظيم المدينة، مثلما يختفي المخترع خلف الآلات الذكية التي اخترعها والتي يمكنها سحق من تريد عن طريق مرورها. إن الشيء الذي يحظى بالاحترام والمراعاة اليوم ليس هو الفكر ولا الكائن الإنساني، بل ذلك الذي يشتغل، إنه كفالة دوران عجلة الأشياء.


وبين مدرجة الكريات والضمير، سوف تختار غالبية عظمى مدرجة الكريات. إننا نشهد انتقالاً عاماً للنفوذ يدفع المرء إلى أن يطيع بشكل طبيعي تماماً جهازاً يتعطل فجأة لكنه لا يطيع حكمة ذلك الفرد، الذي لا يملك، له، ضمانة ما يتصور أنه التقدم. ومن جهة أخرى، فليس هناك ما هو أسهل من اكتساب خبرته. إن السائق سوف يقبل التوقف أمام إشارة ضوء حمراء عاطلة وقتاً أطول بكثير من توقفه أمام شرطي يعطي أولوية المرور للسيارات القادمة من اتجاه آخر. وهذا الضوء الأحمر الذي نجده مراراً وتكراراً عند كل منعطفات الحياة الحديثة، وحتى في غرفة عذاب موت كاريل تشيسمان المحرقة، لا نعرف بعد جيداً بالفعل، لا سبب إضاءته ولا باسم أي شيء آخر ينطفئ. كما لا نعرف بالأخص "ما سوف يحدث" عندما يتوتر جهاز العدالة أو عندما تمارس تروس عجلة الاقتصاد فعل التقطيع في لحومنا، ولا عندما يؤدي ارتخاء المؤسسات المفاجئ إلى نشوء أزمات تنذر فيها الصواريخ بأن تنطلق من تلقاء نفسها. إن النظم التي نصوغها، إذ تنتج النشاط، إنما توقف فعل الإنسان وتؤول به إلى حياد مؤذ أمام الأشياء والأوامر والقوانين. هكذا يتساقط الإشعاع النووي والشلل الموقوت. وكما في ليلة هجر، فإن المرء ينكب على البحث عن أحد في الظلمة، على سؤال الفراغ، على الصراخ أملاً في العثور على رد.


من المفهوم أن الرد فينا. والعالم هو الذي يعاند في التجاوب معه. إن الأخلاق تجد نفسها في أجازة، بالرغم من أن أحداً لا يتولى تسريحها ورفتها. وحول هذه المسألة، يجب لكل منا أن يكون بالغ الوضوح. إن الأخلاق ليست ضرباً من ضروب الحنان والرقة، وهي لا تنطوي على التخلي عن العنف بأكثر مما على محبة الجار. فهذه العاطفية المبتذلة النادبة على غرار عاطفية لانثا ديل باستو إنما تعد جد رائجة بحيث إنه لا موجب لاشتهاء توسع جديد لها، إنها لاتنتشل الإنسان من وضعه كمحايد، بل تجعل منه نادباً محايداً، وهو ما لا يعد ارتقاءً بل اختزالاً.


كثيراً ما يتحدثون عن الحد الأدنى المعيشي. لكنهم لا يتحدثون البتة عن الحد الأدنى الأخلاقي. والحال أن من الواضح أن بوسع المرء أن يشبع مع مكوثه، مع ذلك، في الخزي والعار. ها هو ذا، أخيراً، العصب حياً. إن القرن العشرين إنما يتميز بنفور، لا يمكن كبته، من كل فكرة عن الشرف. ولسنا محتاجين إلى فهم أن الشيء المهم ليس هو الإبقاء على عقوبة الموت أو نسخها، بل هو الاتجاه صوب الموت في ظروف لا تكون مهينة للإنسان. إن الإنسان الذي لا يذعن للأشياء إنما يخرج من حياده ويشرع بالاختيار. وعند الحاجة، فإنه يختار خصمه، مثلما يختار القواعد التي يريد التمسك بها ومثلما يختار نوعية موته هو. إننا نبكي على ساعي البريد الذي عاقبته الإدارة ظلماً. لكننا، والحمد لله، لا نذرف دمعة واحدة على الطيارين الانتحاريين اليابانيين ولا على الفوضويين الإسبان الذين ألقوا بأنفسهم على فوهات المدافع وهم يهتفون: "عاش الموت"!. أولئك هم شرف عصرنا الاقتصادي.


مايو 1960

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

استيهامات_16

15 مايو 2010


برافو فينوس خوري غاتا!
أحيي غضبك من "الشاعرة" التي سلبتك 15 دقيقة في مهرجان لوديف.
لصوص الوقت خطرون جداً!

جورج حنين_6

المثقف في المعركة


(مداخلة في الندوة التي أقامتها
"جماعة المحاولين" يوم 6 أبريل 1939)


الأصدقاء الأعزاء،
على الرغم من أسفي لعدم تمكني من التواجد بينكم هذا المساء، فإنني حريص على أن أوضح بإيجاز بالغ تصوري عن المسألة المهمة بين جميع المسائل، والتي تشكل موضوع نقاشكم. يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً في زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية. على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبي للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبي لعصرنا من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة في الاستمرارية بين الاثنين. فالأدب الرومانسي ينطوي على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها. فكل واحد يستغرق في أحزانه وتمزقاته العميقة. إن أبسط ارتباك أخلاقي وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شيء ولا يتم إنقاذ شيء في ختامها. إن الرومانسية عاطفية وذاتية. فهي عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها في حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التي لا حصر لها، ودون أن تتطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء فيها النظر إلى نفسه، أو لا يرى غير نفسه. وهي ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود – بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها. وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض. والأسوأ من ذلك، أنه يصبح وحيداً دون أرض.


ويبدو اليوم، ومنذ عشر سنوات، وذلك بفضل الدراسات النقدية التي قام بها رجال مثل أندريه بريتون وجاستون باشلار وهربرت ريد، أن الأدب والفن المعاصرين قد نبذا العاطفة لحساب الاشتهاء – الذات لحساب الموضوع. إنهما أدب وفن اشتهائيان وموضوعيان. ويتطلب الاشتهاء إشباعاً فورياً وفائراً. وهذا الإشباع لا يمكن العثور عليه إلا في الموضوع وعن طريق الموضوع. واسمحوا لي بأن أستشهد مرة أخرى بما قاله نيكولاس كالاس: "إن الصوت العاطفي هو من الزاوية الاجتماعية صوت محافظ، لأنه يكيف الإنسان مع الوضع القائم، أما الصوت الاشتهائي فهو وحده الصوت الثوري. إن العاطفة بالقياس إلى الاشتهاء هي انحراف للرغبة لكن هدفنا لا يتمثل في حرف الرغبة بل في تحويل المجتمع من أجل تكييفه لرغبتنا ... إن الفن ليس عاطفياً البتة، ليس أخلاقياً البتة، إنه ضد النظام القائم، ضد الطبقة السائدة، ضد كل اتباعية، ضد الكهنة من كل نوع ومن كل حدب وصوب، والبارثينون (هيكل الربة أثينا في مدينة أثينا) يثبت ذلك: إن الفن معمل بارود".


ويجري عموماً اتهام الكتاب والفنانين المعاصرين بالكلبية وبانعدام الأخلاق وذلك لمجرد أن الغالبية من بينهم يمارسون ويوصون بالبحث المنهجي عن اللذة وأنه تنبثق من أعمالهم بوقاحة أخلاق لا علاقة لها البتة بالأعراف المجازة تحت هذا الإسم – هي أخلاق الرغبة. إن الإنسان، والفنانين بشكل أدق، يخلقون لأنفسهم في كل لحظة موضوعات جديدة للإشباع. وحتى من الزاوية الأكثر محدودية، الزاوية التجارية، يمكننا رصد تكاثر مريع لعدد الأشياء المطروحة للاستخدام اليومي من جانب الإنسان. وفي باريس، وفي نيويورك، وفي لندن، نظمت معارض لا تضم غير أشياء مصنفة فنياً تحت ما لا حصر له من العناوين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاندفاع الفني نحو الموضوع، الغني بالاشتهاءات وبالاكتشافات، إنما يتم في اتجاه غير نفعي. إلا أنه يدل كذلك على اتجاه مشترك لدى جميع ممثلي الفكر الحديث تقريباً. وهو اتجاه عودة إلى الواقع ليس بوصفه شيئاً ناجزاً وجامداً بل بوصفه، على العكس من ذلك، شيئاً دينامياً قابلاً للتغيير وقابلاً للتحسين. ودون إدراك بالغ، فإن المثقف والفنان يجدان نفسيهما بذلك وسط معركة اجتماعية سافرة. فالمسألة التي تطرحها الحياة عليهما هي تحويل جميع مصادر البؤس إلى مصادر للمباهج. ولم يعد بوسعهما صرف النظر عن ذلك. فمن الآن فصاعداً، عن طريق الراديو والسينما والصحف – وهي وسائل للاتصال البشري رائعة وغير متوقعة – تصل إليهما فوراً أبعد علامات الشقاء ويصبح عليهما الرد عليها. وفي كتابه "الأمل"، فإن أندريه مالرو، وهو يتحدث عن ملحمة مدريد، يوضح لأحد شخصياته: "لقد عاش هؤلاء الناس على الأقل يوماً وفقاً لقلبهم". إن التعارض الشائخ والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من اللازم. وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر دائماً حق الحياة وفقاً لقلبهم.

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_5

شذرتان حول ماهية الإبداع الأدبي

العمل الأدبي ليس أفيشاً انتخابياً. هذا لا يعني أن الأدب [...] يجب أن يكون غير سياسي. ليس هناك ما هو أقل صدقاً. إن ما يجب إبرازه هو أن الأدب يحتفظ بحق عقد صلة مع جميع عناصر الحياة، ومن ثم مع السياسة من حيث هي أحد هذه العناصر، شأنها شأن الرياضة، أو العلم أو الصناعة. لكن الأحوال تسوء حين لا يلتفت الكاتب إلى السياسة ولا يرصد الحياة الاجتماعية إلاَّ لحساب حزب أو برنامج. إن ما يقوم به عندئذ هو الدعاية. ومن الممكن أن يقوم بذلك على نحو رائع أو بصورة بائسة. وليس لذلك أهمية تذكر. فمن المفروض أن الكاتب يربض على قمة يُقَيِّمُ منها المجتمع والسياسة والإنسان تقييماً حراً. والحال أن الداعية لا يحكم من أعلى إلى أسفل، وإنما من أسفل إلى أعلى؛ فهو في السياسة لا يرى سوى الحزب، وفي الإنسان لا يرى سوى المتحزب. وهو يظل في جميع الأحوال أسفل الإنسان. هذا هو ما يحدث مع أراجون ولا نملك سوى الأسف لذلك.

من مقال "أجراس بال لأراجون"
مجلة "أنيفور"، عدد فبراير 1935


ربما جاز الاعتراف بأن الشعر يمثل تجربة المصالحة الوحيدة المحاولة عبر القرون. ففيه تكف الكلمة عن أن ترتد ضد الإنسان. وإنما، على العكس من ذلك، تزيده رحابة، تنتشله من هزيمته اليومية. الكلمة، شأنها في ذلك شأن الأشياء المحسوسة والحقائق الواقعية الحسية تقريباً، تساعد الإنسان على أن يعي اتساع رغباته، وكثمن شيطاني يتعين عليه سداده لقاء هذا الانتصار الأخير – تساعده بأن تعرض عليه بلا توقف أكثر هذه الرغبات غواية.

وبفضل هذه المصالحة يمكن للشاعر أن ينظر إلى ما وراء المرئي، أن يهدد بشكل لا يكل أبعاد حياته هو، أن يعرض صورة قصره على الشاشة الرديئة للآخرين، جاراً إياهم صوب ما يحسن الرغبة فيه، مايحسن الحلم به، ما يحسن امتلاكه أو نسفه بالديناميت، ما يحسن سداده للحياة – فالشاعر، شأنه في ذلك شأن الساحر الذي تساعد تعاويذه على استثارة التجليات المنشودة، يسمي الكائنات والأشياء التي ينادي في آن واحد حضورها ونفورها على الأرض. وهو يسميها بشكل خاص، بانفجار يمضي من الرقة إلى العنف، وهو ما يشكل التأكيد الشعري.

1944
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_4

الرجل الضخم والسيدة الضئيلة



لا يتراجع الراديو تليفزيون الفرنسي أمام أية تضحية لكي يحول الوجبات العائلية إلى جلسات جياشة للتلقين الثقافي. إن برامج مصاغة بأكبر حرص على التفاصيل البيوجرافية سوف يتعين عليها السماح لكتاب أحياء بأن يقدموا للجمهور بعض أعلام الأدب الراحلين. فرانسواز ساجان سوف تقدم ستاندال، فرانسوا مورياك سوف يتكفل بشاتوبريان، وسوف يتكفل روجيه فايان بفلوبير، وسيمينون ببلزاك، وسيسيل سان- لوران بألكسندر دوما الأب. هكذا سوف يكون هناك ما يمكنه زيادة علم أناس لا يشغلهم إلاَّ التبقيق في حسائهم.

إن فرانسواز ساجان، التي اعتادت النظر إلى الأشياء من قمة قصرها في السويد، لا تخفي قلة إعجابها بعمل ستاندال. فهذا الرجل الضخم، عديم اللياقة في المجتمع، المنكب على وظائف قنصلية متواضعة، ليس مؤهلاً لإثارة حماسها بشكل زائد عن الحد. وهي تود بالفعل أن تهدي له ضربة التليفزيون، لكن ذلك سوف يكون ستربتيزاً رخواً. وإذ نسمعها تعبر عن نفسها، فإننا نتصور أنها تقاوم بصعوبة إغراء تصويره في صورة الكاتب الفاشل. فهي تعلن أنها تعتبر فابريس ديل دونجو كاوبوياً. وفي المنظور الحديث الذي هو منظورها، فإن هذه الكلمة تنطوي على كل ما تنطوي عليه المجاملة. أليس الكاوبوي هو الشكل الأسطوري لمدمري الأساطير؟ إنه أوديسا المتخلفين عقلياً الذين يصوغون عالماً دون ماض. وهو الفولكلور الذي يلوح بمسدسه لسلب السيدات الجميلات. ومن حيث الجوهر، فإن ما تفتقر إليه فرانسواز ساجان أكثر من سواه هو أن يتم اختطافها من قلب الجبل وأن يتم حملها، وهي ساخنة تماماً، إلى مغارة قطاع الطرق. وبالشكل نفسه الذي قد يحتاج به سارتر إلى عيد أنيق أو إلى حماقة ما من حماقات فينيسيا، فإن ساجان تكتب لكي تنسى ما لم يصلها قط.


تقول لنا ساجان أن ستاندال يضع شخصياته في كل اليسر الذي افتقر إليه. ويبدو أن هذا التعليق يشكل نقداً، لا نعرف تماماً استناداً إلى أي موجب. وفي حالة ساجان، بالمقابل، فإن الشخصيات يبدو أنها تتصرف كأشباه العملاء المزدوجين، إذ لا تخوض حياتها الخاصة إلاَّ لكي تستشير فجأة ساعتها وتنهي سردها لأن لديها موعداً مع الكاتب. إنها كائنات مستسلمة لأزمة الرغبة، مثلما هي مستسلمة لأزمة الحرية. وكان يجب أن تكون مصدر تبرمه. إذ ليست بسالتها الزائفة غير الاستسلام لحياة تنفشها تحديات صغيرة جد شبيهة بعلامات تعجب ماري – شانتال. والكاتب لا يملك ألواناً للخدود. إن الأدب المعاصر لم يعد له تقريباً من موضوع منذ تخلى عن الحلم. وعند ستاندال، هناك شيء واضح: ليست هناك أزمة في الرغبة. وهذا هو كل الفرق بين الرجل الضخم والسيدة الضئيلة. إن أحداً لن يقوى على تثبيط همة فابريس بأن يصرخ في وجهه: أو. كي. دونجو.


وبمعنى معين، لم يكن سيئاً اختيار فرانسواز ساجان لاستحضار ستاندال على شاشة التليفزيون المحمومة. إنها تجسد محنة حديثة بشكل خاص. فهي تنتمي إلى ذلك الصنف الذي لم يندحر لأنه لا يحارب، الذي يفهم لكنه لا يستوعب، الذي يستوعب أحياناً لكنه لا يتذكر، الذي يتكلم، أخيراً، خوفاً من اللغز. لقد كان بوسع ستاندال أن يتخذها خادمة غير وفية.


مارس 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_3

حول مستقبل الشعر


اقترح منظمو بينالي الشعر الذي انعقد في كنوك – لو – زوت، من 3 إلى 6 سبتمبر 1959، اقترحوا، كموضوع لتأملات الكُتاب الملتقين لهذه المناسبة، تيمة يبدو أنها، شأنها شأن تلك المدينة الصغيرة الجميلة، إنما تنفتح هي نفسها على المحيط: "الشعر وإنسان الغد". وبالنسبة لكثيرين، كان هذا الموضوع الاستشرافي ذريعة لجلد الذات وإماتتها. فالواقع أن طرح المسألة بهذا الشكل الفضفاض إنما يؤول إلى التساؤل عما إذا كان الشعر سوف يستمر موجوداً في الغد أيضاً. وهذا يدفع إلى النظر في مآل الضمير الشقي في حضارة سعادة. وأياً كانت المقدمات والمبادئ الأيديولوجية لمجتمع الغد، فإننا نعرف أن السعادة الإجبارية سوف تكون شرعته ودستوره. لقد قال سان – جوست إن السعادة فكرة جديدة. وما هو جديد هو نشدان السعادة في أعمال الدولة. وهكذا، عبر وسائل ميكانيكية، يجري نصب فخ الهناء الموضوعي للإنسان. فالعلم يحقق إحلام البشر والشعر يحلم بأن يحلم. إن الهيمنة على الملكوت الشاسع، ربما كانت تعني أن اكتشاف اللانهائي ليس أكثر من مصيدة.


بالرؤيا وبالصورة، يعتبر الشعر انتجاعاً (ارتياداً للزاد حيث يكون) أما بالكلمة، فهو يعتبر ركيزة وأساساً. ويتعين عليه بحكم هذه الحركة المزدوجة أن يضع نفسه بالضرورة في أماكن أخرى غير تلك التي ينصب الإنسان نفسه فيها حاسباً لما هو واقعي. وبانكبابه على البحث المهموم عن "المكان الآخر"، فإنه لا يمكث كلياً البتة في الالتقاء القسري للـ"هنا" و"الآن".


وإذا ما قبل إنسان الغد أن يتلاشى في مصير جماعي، فسوف يكون الشعر عندئذ بالنسبة للبعض فرصة للوحدة. والحال أن الشعر إنما يتميز عن المذاهب الكبرى بميزة عدم الوعد بالخلاص. إنه صوت في الليل، والانتقال الذي يوحي به يتقاطع مع كل الدروب لكنه لا يختلط بأي منها. إنه خروج الروح – الدياسبورا الخلاقة التي لا نتحسسها بعد كتَشَتُّت، بل كسطوة. إن المرء لا يتحد مع الشاعر؛ إنه يصبح بمفرده عند الاتصال به.


هناك أيضاً هذا الأمر، وهو أن الشعر ينقي اللغة ويسمح لها، على نحو ما، بأن تحفظ سر الكائن. والمحكوم عليه بالإعدام يعرف، غريزياً، أنه لو أمكن أن يحكي حكاية للجلاد، أي لو نجح في شد اهتمامه إلى سره، فلربما أمكن له إثارة قلقه أو إرخاء قبضة يده. ومن عالم "ألف ليلة وليلة" الغزير إلى قضية كارل تشيسمان، نعرف أن الكلام يملك أحياناً قوة إحباط الفعل ونزع سلاح الجلادين.


لا يجب أن نطري أنفسنا كثيراً على تقدماتنا التي لا تعدو أن تكون تقدمات سيمياء تعوزها النزعة الإنسانية. ما الذي يقرأه الميكانيكيون من تبديات دوارانا؟ عن طيب خاطر يقرأون "كوميديات" بأكثر من قرائتهم "أزهار الشر". وعند اللزوم، لن يستنكفوا عن تحويل "أزهار الشر" إلى "كوميديا". وقياساً إلى مثقفي الرينيسانس، فإننا لسنا إلاَّ منحرفين ريفيين صغاراً. لقد كانت هناك رغبة في اقتسام المعرفة. وفي ختام الاقتسام، نكتشف أن ما ترتب عليه هو شراكة في الجهل، هو حلف كلام فارغ. وضد هذه السعادة التي تنحصر في تنازل متواصل للأسوأ، ما الذي يمكن للشعر عمله؟ لا شيء على ما يبدو؛ أو بالأحرى مع ذلك – إذلال المظاهر لحساب وحدة مستعادة.


سوف يكون المستقبل بحاجة إلى ميناء حر للذكاء. إن أناساً قادمين من كل حدب وصوب سوف يتولون هناك، على راحتهم، إدانة الفكر المكتسب اكتساباً مشبوهاً. وسوف تنبثق كلمات جديدة، في نفي شجاع للمنفعة. سوف يكون الشعر قوة أولئك الذين لا يتقاسمون شيئاً البتة من الحقائق الرائجة.


مارس 1960

ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_2

ابن عربي

هناك طريقة لفهم كاتب من الكتاب تتلخص في ترسم مسيرته الروحية. هكذا يتصور المرء أنه يخطو بكلمات "الآخر"، لكن المرء،سواءٌ أكان يلمس الأرض أم تزل به القدم، إنما يحتفظ مع ذلك الذي يترسم خطاه بعلاقة "عهد نزيه" سوف تبدو من الخارج حميمية وجد وثيقة في حين أنها تحمل في طياتها صدعاً غير مرئي، ومآلها، هو أيضاً، إنما هو مأساة الشريكين، هو التعاسة الختامية التي لا يعود معناها واحداً بالفعل بالنسبة لطرفيها. ففي الوقت الذي يتعين فيه توافر كابح في الوقت الأنسب – أي في لحظة الارتباط المختارة المثلى – تتواصل حركة الكائنات، أي يتواصل انزلاق الحقيقة الأبدي. إن نقطة ضوء على حافة الأفق قد تعني الفجر كما قد تعني الشفق سواءً بسواء. ولابد من القدرة على سلب زمن الآخر، لابد من اشتمال هذا الحرمان الفَرِح. لكن ذلك غير ممكن بالمرة. ولا مفر للمرء من الاكتفاء – عبر ذكاء أمثل أو عبر النشوة – بتقويم انحرافه هو، كما يفعل الطيارون في سمائهم النفعية. إن حج الضمير ليس اندراجاً في طريق يجري النظر إليه بوصفه نداء؛ إنه، في واقع الأمر، تجربة مختلفة اختلافاً يدعو إلى الأسى عن التجربة التي تؤدي إلى انفتاح هذا الطريق. ومازال يجري البحث، كما لو عن سر ضائع، عن ذلك الشيء الذي يفصل الشرق عن الغرب، وعندما نحسب كل ما يخص طابع كل منهما، سوف يبقى ذلك الفاصل الطبيعي الذي لا يكون أكثر إزعاجاً إلاَّ في لقاءات الحب والذي يحركنا كلنا في منظور غير إقليدي، يجد البعض عند أطرافه اليأس ويبتدع البعض الآخر المسرة.

من بين جميع الفلاسفة العرب، فإن محيي الدين ابن عربي، هو الذي يؤرق، الآن، الضمير الغربي، أعمق الأرق. فمنذ بضع سنوات، أدى مقتطفٌ قصيرٌ تُرجم ونُشر تحت عنوان "حلية الأبدال" (دار نشر شاكورناك، باريس) إلى إثارة الأذهان بما يفيض منه من نور غير عادي. ومنذ ذلك الحين، شهدنا ظهور عملين يتميزان بأهمية نادرة: "حكمة الأنبياء" (دار نشر آلبان ميشيل) لابن عربي، وفي ربيع 1958، دراسة الأستاذ هنري كوربان الرائعة، "الخيال الإبداعي في تصوف ابن عربي" (دار نشر فلاماريون). وحول هذا الكتاب الأخير، لدينا أخيراً، العمل رفيع المستوى لشارل دويت (الذي ظهر في عدد يناير 1960 من مجلة "كريتيك") والذي دون أن يهتم بالتأويل، يتجه مباشرة إلى المعرفة. إن ابن عربي، الذي عاش بين عامي 1165 و 1240، لم يهتم بتعاليم ابن رشد إلاَّ لكي يطور، بسرعة بالغة، ما يسميه كوربان بـ "استقلال"ـه "الروحي" هو. ولا مجال هنا للإحاطة بعمل ابن عربي، ولا بشخصيته. فالاثنان يتميزان على حد سواء بالتعقيد وبالشفافية، وبالعذوبة وبالحسم. وأقصى ما يمكننا هو السعي إلى بيان إلى أي مدى يعتبر ابن عربي حديثا، وأنه حديث، تحديدا، لأنه يمكث في الانفصال دون أن يفك، مع ذلك، الارتباط. وحول تيمة الاتحاد الصوفي هذه، يزيدنا ابن عربي علماً بهذه الكلمات المدهشة: "لا تبحث عني فيك، فسوف تكابد بلا طائل. لكن لا تبحث عني مع ذلك خارجك، فلن تصل إلى مرادك. لا تجهر بالبحث عني، فسوف تكون شقياً". والحال أن شارل دويت محق تماماً في تشديده على هذا الطابع المميز لميتافيزيقا ابن عربي وفي استنتاجه: "إن التمييز هو من ثم ضروري، وابن عربي، بعيداً عن أن يلغي المظهر، إنما يحتفظ به". إن الانفصال لا "يتعالى"، كما تزعم ذلك أخلاق التبجح الخالص؛ إنه ليس ذلك الاختزال للذات الذي يجب، من ثم، إيجاد عزاء له عبر إرهاب جماعي ما. إنه يطرح نفسه على الذكاء الذي يجعل منه مبدأه الخاص بإعادة البناء الممكنة في اتجاه الواحد، نوره لا حجابه.

إن تأملات ابن عربي الفلسفية ليست نظرية يحاكمها المرء باستسهال. إننا معتادون على حركية الأفكار وليس ذلك هو ما سوف يربكنا. لكن الأمر، عند ابن عربي، إنما يتعلق بشكل من أشكال الأسطورة المجسدة، هو شكل أسطورة إنسانية تنزاح، وبانزياحها المتواصل، تستولي على الروح وتجرها إلى اكتشاف ذلك الذي قد لا يُعطى لها أبداً. إن ابن عربي لا يتجاوز الفكرة. إنه يدفعها إلى الارتداد باتجاه الحياة التي هي عبارة عن تناقض، وحيث يملك الإنسان أيضاً حق اختيار الخطأ، - حق الامتناع عن إغاثة الروح المرشدة. إننا نؤيد شارل دويت إذ يسجل، على رأس بحثه، تلك الجملة لمفكر عربي آخر:

"أيتها الحقيقة، إننا لم نجدك،
ولهذا، برقصنا، نخبط الأرض"

أبريل 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_1


آنياس، إنهم ينظرون إليكِ

عالمٌ برمته في حال تمثيل، كلنا رسلٌ ومبعوثون مطلقو الصلاحيات. عندما أرسل ملك الملوك فيلاً إلى لويس الرابع عشر، لم يكن هذا الإرسال ينطوي على أي دلالة أيديولوجية. لكن الحال مختلفة تماماً في أيامنا. إن مشاهير الخياطين وصانعي التحف الترفية، والفرق الرياضية، ومعارض أدوات المائدة، تنتقل من عاصمة إلى أخرى، ليس لمجرد بيان ما يمكن للمرء إنجازه في هذه المجالات المختلفة، وإنما أيضاً لكي تكون ضروباً من إعلانات المبادئ المتجولة. إن طرازاً جديداً من الثلاجات إنما يصبح أداةً للإقناع. سوق يقال إننا يجب أن نهنيء أنفسنا على هذا المثال من أمثلة التنافس السلمي. نعم، ولكن ما الذي يمكن أن يحدث حين تكفُّ الأداة عن الإقناع؟ لا بد، مرةً أخرى، من تحويل مصانع الثلاجات إلى مصانع للأسلحة.


على المستوى الفردي، يشارك البشر أيضاً في هذا الهياج الذي يؤدي إلى التشوّه. ففي كلّ مكان، جرى إلغاء المرايا وإحلال كاميرات التصوير محلها. إن مجهولين يصورون مجهولين، على مدى البصر، في الشارع وفي المطعم وعند الخروج من المسرح وفي محطات الطيران. وتجري دراسة الإنسان السوفييتي باهتمامٍ خاص. إنهم يأخذون مقاساته كما لو كانوا سيرسلونها إلى الخياط. ثم يرصدون أن المذهب الذي أفرز هذا الإنسان إنما يتبلور في سمات شخصية وفي أنماط الكلام والتعبير. وإذا كان إنسان غير مسجل بعد، فمن المناسب أن توضح كل عينة إنسانية معزولة في المختبر أفضل ما فيها للصانع.


أتذكر نصاً قصيراً، لكنه آسر، لأرسكين كالدويل، عنوانه "آنياس، إنهم ينظرون إليكِ". هناك نجد فتاة اسمها آنياس تركت نفسها، دون حرص، لمسرات الجسد، وبعد المغامرات المؤلمة التي تنتظر الفتيات العابثات، ترجع إلى أسرتها. وهناك تستفيد من تسامحٍ يتميز بالرياء، إلاَّ أنه، خلال تناول الوجبات، تتركز كل الأعين عليها كما لو أن وجودها ينطوي على شهادةٍ حاسمةٍ (ضدها). إنهم، إذ ينظرون إلى آنياس، إنما ينظرون إلى الخطيئة. وهكذا يجري اختزال شخصها برمته بحيث ينحصر في هذا المعنى الذي تمليه النظرة.


نحن، بطريقتنا، أشبه ما نكون بهذه البائسة. إنهم يراقبون فينا شيئاً ليس هو نحن، وهذا الشيء نرتضي تمثيله. وعملية الاندراج هذه عن طريق التمثل غير المباشر ذي المقولات الضرورية، إنما تنتهي إلى ممارسة فعلها بشكلٍ تلقائي. وعند الضرورة – ولكي نتجنب التورط في تمرداتٍ فادحة الثمن – فإننا نتصنع ما يزعمون رصده فينا. ربما كانت تقنيات تصريف الطاقة المكبوتة تستمدُّ مبرراً من لاوعينا. لكن ضرورات أخرى قد حتمت تكوين زنازين بشرية حقيقية. ونحن نملك، أحياناً، أن نختار بين الاختفاء فيها من تلقاء أنفسنا بالكامل، أو أن لا نترك فيها غير شخصيتنا. وهذا هو السبب في أننا مجبولون على الابتسام عندما يدور حديث عن السعادة من جراء اجتماع أناس بسطاء من جميع البلدان لكي يسووا، في حوارٍ صريحٍ ووديّ، المشكلات التي تمزق العالم. ومن المفهوم أن الناس البسطاء سوف يبذلون أقصى مالديهم من جهد لكي يتخيلوا الموقف الذي يمكن لسادتهم اتخاذه في حالٍ كهذه، وأنهم سوف يسايرونه بحذافيره. فما دام الإنسان البسيط ليس غير نتاج فرعي للإنسان المركب، فمن واجبه الرجوع دوماً إلى هذا الأخير. وإذا وضعنا أربعة كتاب أو أربعة باعة في المحال التجارية أو أربعة من سائقي القطارات في موضع أربعة من السادة في مؤتمر للقمة، فإن مشكلات العالم لن تحل مع ذلك. فكلّ واحد من هؤلاء الجلساء المتفاوضين، ذوي الجدارة بهذه الدرجة أو تلك، سوف ينظر إلى الثلاثة الآخرين نظرة أفراد عائلة محترمة إلى آنياس.



مايو 1960
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

قسطنطين كافافي_8


شبانٌ من صيدا (عام 400 بعد يسوع المسيح)(*)


الممثل الذي طلبوا حضوره كي يُسَرِّيَ عنهم،

أَلقى أيضاً مقطوعاتٍ شعرية مؤثرة.


كانت القاعةُ تطل مباشرةً على الحديقة؛

مُفعَمَةً كانت بأريج الأزهار الزكي

الذي امتزج بعطور

أولئك الشبان الصيداويين الخمسة

المضمخين بالعطر.



قرأ الممثل عليهم ميلياجر وكريناجور وريانوس.
إلاَّ أنه عندما قرأ:
"هنا يرقد إسخيل الأثيني، ابن يوفوريون(**)"

(مشدِّداً، ربما أكثر من اللازم، على عبارة

"ذو البسالة المشهودة " و "غابة ماراثون")

قَفَزَ من فورهِ شابٌ محتدمٌ مهووس كل الهوس بالأدب وصاح:

- آه، كلا! هذه الرباعية لا تروقني.

يمكن القول إن مثل هذه التعبيرات تشبه

غشيانات الخَوَر.

أقول إنك يجب أن تضفي على عملك كل قوّتك

كل عنايتك، وأن تتذكر هذا العمل

في المحنة، أو عندما تحين ساعتك أخيراً.

هذا ما أنتظره، هذا ما أطلبه منك

وليس البتة أن تمحو من ذهنك تماماً كلام

التراجيديا الجليل

- أي أجاممنون، أي برمثيوسٍ رائع، أي أوريست، أي نبوءات لكاسندرا والسبعة ضد طيبة –

وألاَّ تتذكر لأجل تأكيد ذكراك إلاَّأنك بين صفوف الجنود المجهولين، حشدهم، حَاربت، أنتَ أيضاً، داتيس وآرتافيرن!


(عن ترجمة س. بيير بيتريديس)


(*) لابد لتاريخ عام 400 بعد يسوع المسيح أن يكون مفتاحاً لتأويل هذه القصيدة، فهذا العام يشكل لحظة أعمق أزمة من أزمات الإمبراطورية الرومانية، التي يضغط عليها بالفعل القوطيون والهون. والحال أن الأمزجة الفردية لذلك العصر ومتطلباته الجمالية، لم يلبِّها إسخيل، شاعر المثل الأعلى المدني الرفيع، والمعبر المتحمس – القوي عن نهضة المدينة القديمة، بل شعراء العصر الهيلينيستي، مثل الشعراء الذين يذكرهم كافافي: ميلياجر (140-70 قبل الميلاد) وكريناجور (القرن الأول قبل الميلاد) وريانوس (ولد عام 276 قبل الميلاد).

(**) يقال إن إسخيل طلب ألاَّ يُكتب على قبره إلاَّ أنه لم يكن سوى جندي، مع عدم الإشارة إلى منجزه الأدبي.


ترجمة بشير السباعي

من "الرامايانا"

فالميكي

(نحو 400 قبل الميلاد)

وحيدين نولد،
ووحيدين نموت.
...
لا أحد يرتبط بأحد!
كمسافرٍ يقضي ليلةً في قرية،
ثم ينتقل إلى أخرى، يقضي ليلةً أخرى هناك،
تاركاً استراحته الأولى،
هكذا شأن كلّ شيء،
استراحاتٌ عَرَضية...
لا معنى للارتباط الوثيق بها!



ترجمها عن الإنجليزية بشير السباعي

قسطنطين كافافي_7


الشيخ

في عمق القهوة التي تعمّها الضوضاء
يجلسُ شيخٌ منحنياً على المنضدة؛
أمامه صحيفة: فليست له صحبة.
وفي عمق شيخوخته البائسة
يفكر في مدى ضآلة استمتاعه بسنيِّ عمره
عندما كان فتيًّا، صداحاً، وسيماً.
يعرف أنه شاخ كثيراً؛ يحس بذلك، يرصده؛
ومع ذلك يبدو له الزمن الذي كان لا يزال فيه شابًّا كما لو أنه كان البارحة.
أمَّا أن المسافة قصيرة، فيا لها ما أطولها!
يرى أن الحكمة قد خدعته.
أنه وثق بها. يا للحماقة!
الكذابة قالت له: "غداً، سيكون أمامك كل متسع من الوقت".
يتذكر رغباتٍ كَبَحَ جماحها وكم من المسرات ضحَّى بها لأجلها.
وهو الآن يسخر من غباوته.
لكن الشيخ يدوخ من التفكير والتذكر
وينتهي به الأمر إلى النعاس
منحنياً على منضدة القهوة.

(عن ترجمة ج. ل. آرفانيتاكي)

* * *
رتابة

يومٌ رتيبٌ آخر يتلو هذا اليوم الرتيب، من دون أي فارق.
من جديد، تتكرر الأشياء نفسها – وسوف تتكرر من جديد.
اللحظات نفسها تلقانا – اللحظات نفسها سوف تفارقنا.
شهر ينقضي، ويجر وراءه شهراً آخر.
وكل ماسوف يحدث – نعرفه سلفاً:
إنه ما حدث، بالفعل، أمس.
هكذا ينتهي الغد بالكف عن أن يكون غداً.

(عن ترجمة س. بيير بيتريديس)
ترجمة بشير السباعي

قسطنطين كافافي_6

جياد أخيل


عندما رأت باتروكلَ جثةً ممدةً،
هو الذي كان بالغ الشجاعة والقوة والفتوة،
أخذت جياد أخيل في البكاء.

انتاب الغضبُ طبعها الخالد
من فعل الموت الذي رأت.
هزت رؤوسها وأعرافها،
خبطت الأرض بحوافرها،
وبكت باتروكل الذي أحست به هامداً، ميتاً،
ليس أكثر من لحمٍ زائل، فارقته الروح،
بلا حيلة، بلا أنفاس،
طريحاً في العدم اللانهائي.

رأى زيوس دموع الجياد
الخالدة والمفعمة بالحزن.
قال: " في عرس بيليوس،
ما كان يجب أن أتصرف بمثل هذه الرعونة؛
لم يكن من المناسب أبداً أن أمنحك للبشر،
أيتها الجياد البائسة!
ما الذي كان يمكنك عمله هناك،
في ذلك العالم الشقي، ألعوبة القدر؟
أنتِ التي لا تترصدك المنية ولا الشيخوخة
تعذبين نفسك بمكابداتٍ عابرة،
تشاطرين البشر مآسيهم".
لكن الدموع كانت تفرُّ أبداً
من أعين الجياد النبيلة
أسفاً من محنة الموت
التي ما لها من نهاية.


(عن ترجمة س. بيير بيتريديس)

-------------

* الحقُّ أنهما جوادان، بحسب إلياذة هوميروس، إلاّ أنني عزفتُ عن صيغة المثنى لأسبابٍ جمالية. -ب. س.

* * *
أريستوبول


دموع في القصر؛ الملك يبكي،
الملك هيرود ينتحب إذ ما من شيء يمكن أن يكون عزاءً له؛
في المدينة كلها ينتحب الناس أسفاً على أريستوبول
الذي، من جراء صدفةٍ ظالمةٍ تماماً، غرق،
وهو يلهو مع رفاقه في الماء.

وعندما يصبح الخبر معروفاً في بلادٍ أخرى،
عندما ينتشر في سوريا،
سيحزن هيللينيون عديدون له؛
عديدون من الشعراء والنحاتين بينهم سوف يصيبهم الكرب من جرائه
فقد كانوا عليمين بمنزلة أريستوبول،
ولو أن تلك الفكرة من أفكارهم عمن هو الفتى الجميل
لم تَرْقَ البتة إلى مستوى جمال ذلك الفتى؛
أي تمثال للإله في أنطاكية
يساوي هذا الابن من أبناء إسرائيل؟


تبكي وتنتحب، الأميرة الأولى،
أمه، اليهودية الأمجد،
تبكي وتنتحب، أليكسندرا، على الكارثة.
لكنها عندما تخلو إلى نفسها، يتبدل شكل حزنها.
تئن؛ تزمجر غضباً؛ تشتم؛ تلعن.
يالخداعهم لها! يالغدرهم بها!
أخيراً وصلوا إلى غايتهم!
لقد دمروا بيت آل آسمون.
وصل إلى هدفه، الملك المجرم،
الغادر، الدنئ، الآثم.
خرج بريئاً من الذنب؛ ياللخديعة! ياللدهاء:
ماريان نفسها لم تلحظ ذلك.

لو كانت ماريان قد ارتابت في الأمر، لو كانت قد شكَّت في شيءٍ ما
لوجدت وسيلةً لإنقاذ أخيها؛
هي ملكةٌ على أية حال؛ وكان بوسعها عمل شيءٍ ما.
لابد أنهما تشعران الآن بالفوز وتشعران سراً بالفرح
هاتان المرأتان، الكريهتان، كيبروس وسالومي؛
إذ هي بلا حيلة، ومرغمة
على التظاهر بتصديق أكاذيبهما؛
ولا تملك الإلتجاء إلى الشعب،
لا تملك أن تعلن لليهود،
أن تعلن كيف جرى تدبير الجريمة.


(عن ترجمة ج. ك. بابوتساكيس)

-------------
هيرود الأول الأكبر (73 -4 قبل الميلاد)، ملك يهودا. في عام 35 قبل الميلاد، أمر بإغراق أريستوبول، أخ زوجته ماريان. كيبروس وسالومي – أم وأخت هيرود. أليكساندرا – أم أريستوبول وماريان.


* * *
ملوكٌ سكندريون


تجمع السكندريون
لكي يروا أبناء كليوباترا،
قيصرون وأخويه الأصغر
أليكسندر وبطليموس.
لأول مرة يجري الخروج بهم إلى ساحة المعهد الرياضي،
وسط صفوف الجنود الرائعة،
للمناداة بهم ملوكاً.

أليكسندر – نودي به ملكاً
لأرمينيا ولميديا وللبارثيين،
بطليموس – ملكاً
لقيليقيا ولسوريا ولفينيقيا.
أما قيصرون فقد وقف أمامهما.
كان يرتدي ثوباً من حريرٍ ورديّ،
ويضم إلى صدره باقة من أزهار الياقوت،
وسط صفين من اللازورد والجمشت،
أما صندله،
فقد كان مشدوداً إلى قدميه بأربطةٍ بيضاء موشاة بلآلىء وردية.
هذا الأخير نودي به ملكاً أكبر من أخويه الأصغر
نودي به ملكاً للملوك.
واضح أن السكندريين قد أحسوا
أن هذا كله ليس أكثر من كلام وتمثيل
لكن اليوم كان عذباً
ومفعماً بالشعر.
كانت السماء لازوردية صافية،
أما معهد الإسكندرية الرياضي
فقد تحول إلى ساحة عيدٍ رائع.
كانت بهارج رجال البلاط غير عادية؛
وكان قيصرون بالغ الوسامة والجمال
(هو ابن كليوباترا، سلسيل اللاجيين).
وهاهم السكندريون يسارعون كلهم إلى الاحتفال،
يتحمسون، يهتفون
بالإغريقية، بالمصرية وبعضهم بالعبرية،
مفتونين بهذا المشهد
بالرغم من أنهم يعرفون جيداً حقيقة كل هذا الأمر،
وأن هذه الممالك مجرد كلام فارغ.


(عن ترجمة أ. كيرياكوبولو)

-------------
إن مارك أنطونيو، الذي كان والياً على الولايات الشرقية للإمبراطورية الرومانية، قد تقارب مع الملكة المصرية كليوباترا ومنحها ومنح أبناءها ممتلكاتٍ شاسعة. وتدور أحداث القصيدة في عام 34 قبل الميلاد، وسرعان ما يعلن مجلس الشيوخ الروماني الحرب على كليوباترا، وبعد الهزيمة في معركة أكتيوم (عام 31) ودخول قوات أوكتافيوس مصر (عام 30)، ينتحر أنطونيو وكليوباترا، ويجري قتل قيصرون، بينما يجري ترحيل ولدي كليوباترا الآخرين إلى روما أسيرين.

* * *
أحد آلهتهم


عندما اجتاز أحدهم الساحة العامة لسلوقيا،
ساعة الغروب،
فتىً جميلاً ممشوق القوام،
بهجة الخلود في عينيه،
شعره أسود معطر،
تأمله العابرون
وتساءلوا ما إذا كانوا يعرفونه،
ما إذا كان يونانياً أم سورياً أم أجنبياً.
لكن بعض من دققوا النظر
فهموا وانحنوا؛
وبينما كان يختفي تحت الأروقة
في ظلال المساء وأنواره،
متجهاً نحو الحي الذي لا يحيا
غير ليل العربدة والمجون
وكل ضروب النشوة والشهوة،
كانوا يتساءلون، متفكرين، أي واحد هو منهم؟
ومستسلماً لأية متعة مبهمة
يهبط إلى شوارع سلوقيا
من مقامه الجليل؟


(عن ترجمة فرنسية صاحبها مجهول)

ترجمة بشير السباعي