جورج حنين_15

يوليانوس المرتد أو التبجح الميتافيزيقي



"يولد الناس ولهم ميول متباينة، وميلي، منذ طفولتي، هو اقتناء الكتب".
(يوليانوس: رسالة إلى إكديكيوس، والي مصر)



مع يوليانوس، يظهر في التاريخ للمرة الأولى على شكل إرادة وقوة سياسية مالم يكن حتى ذلك الحين غير ظل (ولكن ربما أيضاً بؤرة ) للروح: الحنين إلى الماضي.


لا ننسين أنه بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كانت إسرائيل هي مناط الحنين الممكن الوحيد، وكان هذا الحنين ألماً مشدوداً على نفسه حتى الضنى، يستبعد أيضاً كل توسط: سماء مرصصة لا تتحالف إلاّ مع الصاعقة. وبالنسبة لرومانيٍّ، فإن مناط الحنين هو اليونان، التي يصعب اختزالها إلى فكرة واحدة، ولكن التي يمكن مع ذلك اعتبارها مرتبطة بالصيغ الأكثر إنارة للعقل وبممارسة معينة للحياة لا يمكن استلابها إلاّ عبر العبودية وليس عبر الخطيئة. والحال أن شيئاً من هذا الحنين إلى الماضي يتسرب بالفعل إلى الصلاة الاستهلالية لقصيدة لوكريتيوس:


"يا أم الرومان
يا فينوس الجميلة
يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة
يا من تنشرين الحياة تحت السماء
حيث تسبح النجوم
وفي البحر الذي يحمل السفائن
وعلى الأرض الفياضة بالزرع،
فمنك يولد كل كائن حي
ويُدعى إلى رؤية نور الشمس،
لك أصلي
أيتها الربة!"


في هذه الصلاة نجد علامات الوفرة وعلامات الشهوة المتكاملة فيما بينها: "يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة". وفي الأسطورة المسيحية، يهبط ابن الرب على الأرض ليحمل عن البشر آلامهم. وهي، بشكل ما، تربط الرب بهذه الآلام ومن ثم تجعل عبء الإنسان محتملاً. أما العملية المقابلة فهي ما يمكننا رصده في الوثنية الهللينية حيث يتعلق الأمر بدلاً من ذلك بربط الإنسان بوسط الآلهة. إن أي طريق للصليب لا يقود إلى الأوليمب! والإنسان الهلليني لا يستحي من الحياة التي لم ينخ عليها بعد كلكل الفداء.


والحال أن المسيحيين يجسدون كلمة رامبو المملة، قبل أوانها: "يجب أن نكون حديثين بصورة مطلقة!." فهم ليسوا على حافة العصر الحديث وحسب، بل إنهم يمنحون الحداثة أعصابها المفرطة الهستيرية والتي تسبح في النزاع مثلما تسبح في الوسط الديني الأكثر إشباعاً. إنهم يدخلون نبض الزمن القاتل في قلب حياة مسطحة، كانت تعاش حتى ذلك الحين من زاوية الانسجام لا من زاوية المحنة.


ويتشكل على خطى المسيح ضمير جديد لا يعود ضمير حاضر متجانس يتتابع صعوداً بلا توقف إلى مستوى الإنسان، بل يفسح على العكس من ذلك مجالاً للمستقبل، لذلك "التجاوز" بالغ الشهرة الذي سوف يصبح إيلدورادو مغامرات الروح والذي سوف تخور قوى نيتشة إزاءه ويتشبث بتلابيبه. إن "الصخرة العالية الأزلية الخرساء، القدر" ما عادت تخيف البشر الزاحفين صوب قوة باطنية غراراة لا يملكون سوى ظن وجودها، ولا يجدون أحياناً غير غوايتها، وإن كانوا لا يملكون البتة مفتاحها. وعندئذ يطالب التاريخ بأن ينظر إليه وفقاً لمنظور اشتهائي. أما الجنس الذي يظل دائماً في العشرين من عمره فهو يتلاشى كجزيرة يطويها سديم شمسي وينبثق بشر يشددون على إركاع الزمن أمام نير مفاجئ: استمرارية درامية ذات معنى. وفي مقابل الإنسان الحديث، في مقابل التجديد المسيحي، يضع يوليانوس الإنسان غير المستسلم لحاضره، والذي يتمثل الإحساس بالحضور على الأرض بالنسبة له في وحدة عيار الحياة.


لقد آمن يوليانوس بشفافية العقل غير المحدودة. وبالنسبة له، لا ينفصل النظام الديني عن فكرة القانون والذي تحدده بدوره عمارة معينة منسجمة للعالم. وهو يجل في اليونان القانون الذي لا يحتاج إلى أن يحمل اسماً لأنه، بادئ ذي بدء، انسجام وتناغم. وهو يحترم في روما القانون الذي إذ يسمي نفسه إنما يساعد على صد فوضى الأقوام الأجنبية والخطر الأبدي المحدق بكل جمال. لكنه، في المقابل، لا يرضى بالعدوى المسيحية التي تعمل في الواقع ليس وفقاً للفهم وإنما وفقاً للتشنج. ويبدو أنه قد رصد تحولاً غامضاً ومزعجاً. والواقع أنه عندما اختفى يوليانوس، وقد هزمه سوء حظ الغرب، فإن صدمة الصليب تبدأ بالكاد في اختراق لحم البشر. وقد استشعر يوليانوس أن شيئاً عبثياً بشكل عجيب آخذ في الحدوث، إن نداء عبث باطنياً حقيقياً يعلن عن نفسه بين البشر وإنه سوف يجرهم إلى هذا الشكل الأرقى للجور والذي يتمثل في مكابدتهم في الرب مرة أخرى ما كابدوه بالفعل مرة أولى في الإنسان.


أثر آخر للانتصار المسيحي: إن الوشائج تنقطع بين الأخلاق والسعي الجمالي. ذلك أن مفهوم الحياة الخلاب، والذي كان مفهوم الإغريق ويظل مفهوم يوليانوس، إنما يجتاحه ذلك التدفق العضوي المندفع مع رياح القطيع. وكيف يمكن لأولئك الذين يهدرون أن "الأزمة قد جاءت" أن يهتموا بتجميل الحياة؟ لقد تطلب الأمر قروناً لإعادة اكتشاف الغندرة – تلك الردهة المفضية إلى السعي الجمالي، - تطلب قروناً لابتعاث رخام التماثيل التي كانت الوقاحة قد بلغت بها حد تصوير بشر صحتهم جيدة (بين زمن قسطنطين وزمن الرينيسانس، يبدو نحت تماثيل ذات خدود بشرية هزيلة أشبه ما يكون بثأر الشاكين من سوء التغذية). لكن أية عودة إلى الوراء – ولا حتى عودة غنادير القرن التاسع عشر والذين بذلوا مع ذلك كل ما في وسعهم لكي يكونوا "وكأن شيئاً لم يكن" – ماكان بوسعها أن ترد إلى السعي الجمالي الهيمنة على سلوك الفرد.


لم يُذكر بما يكفي أن الانتقال من الوثنية إلى المسيحية قد ترافق مع تطور مفاجئ في جوانب الجمال الجسماني – وثبة ضلال مفاجئة، - مثلما ترافق، من جهة أخرى، مع مفهوم مفاجئ عن تجارة البشر. إن انقباض الملامح (الذي لا يمت بصلة إلى التكشير الجامد والمدروس لأقنعة التراجيديا الإغريقية) إنما ينبثق كما لو أن المراد من ورائه هو تشويش جماليات الوجوه دون صخب. حتى يحمل الإنسان نفسه شهادته هو على العذاب. حتى يحمل وجهُهُ الشهادة. وهذا الهتك لسر المحنة المترتب على أشكال عدوى خرقاء - إنما يجعل من اليأس شأناً عاماًّ. وفي أعقاب صور السلطة والنبالة، تجيء صورة الكائن المغلوب، صريع التعاسات الدنيوية، الحريص على أن يهين في نفسه رشوة الحياة المتمثلة في الجمال.


وبالنسبة ليوليانوس، فليس هناك ما هو أكثر فظاعة من مشهد رب ملطخ بالوحل وبروث البهائم، ومصلوب بين لصين مصلوبين. (1) فهو رى أن من المستبعد أن يقبل رب حقيقي أن يظهر في مثل هذه الصحبة. لقد قدمنا، منذ عشرين قرناً، الإتاوة جد السخية إلى المألوفات الشعبية (أعني في مجال الروح) بحيث لا يسعنا – عن حق – الترفق بهذا التبجح الميتافيزيقي الحقيقي. إننا نستشعر أن الألوهية، في نظر يوليانوس، هي مسألة سلوك راق. وكيف يمكن له الارتياح إلى اغتصاب المعرفة من جانب بعض أهل الحرف العاطلين - صيادي السمك أو الإسكافيين الذين يتبجحون بنبذ تعاليم الفلاسفة؟ إن شعار يوليانوس، إن كان قد اهتم بأن يكون له شعار، إنما يتسامح مع تلخيصه في هذه الكلمات: "إن الالهة تأخذ ولا تُلزم نفسها". إن هناك شيئاً مؤثراً في إصرار يوليانوس – إذا ما نظرنا إليه نظرة فاحصة – على بعث "تنوير" في عصر وعالم مشرقيين ومرضيين، تهيمن عليه تحرقات خبيثة.

*


إن جويتز، الفارس الألماني المرتزق عند سارتر، يجرح راحتي يديه ليرى الجمهور ندوباً زائفة. وهذه الحركة، إذا ما راعينا كل الأمور، ليست غير نصف خديعة. فسواء كانت الندوب حقيقية أم زائفة، فإنها تظل منتمية إلى مجال المبالغة. إنها تشهد على عدم اندمال الكائن، بل إنها تشهد في الحقيقة على عبادة الجرح الأول، الذي لا يمكننا قبوله إلاَّ إذا أدى بالتئامه إلى تحرير الإنسان من أسطورته الشرهة. ولذا فإن يوليانوس لا يخطئ عندما يفهم المسيحية على أنها انشقاق مغروز في الحياة رأساً، على أنها تعويض عما لا يمكن تعويضه. إن المسيحية، من حيث كونها انشقاقاً وشقاقاً، مبالغة والتباساً، إنما تخترع الحشمة لكي تتحول بعد ذلك في تقلبات قديسيها الانتشائية إلى فريسة لـ "الزوج الجدير بالعبادة". إنها تخترع النعمة، لكنها تسارع إلى اطلاق اختها التوءم على العالم: المحنة. وليس محظوراً أن نتساءل عما إذا كان البوح الكبير بالإحسان والذي تبالغ المسيحية في إبراز نفسها من خلاله لا يتجاوب مع الحق في إنهاء العالم. لابد من إرهابيٍّ للروح، كيركجارد مثلاً، لتبني موقف مماثل باعتباره الشيء الأكثر إراحة في العالم.


وأخيراً، وهذا في حد ذاته موضوع كاف للذعر، فإن المسيحية تتبرأ من الجريمة لكنها تلثم جبين القاتل. والمسألة لا تعود مسألة افتداء بعيد ولا نعمة افتراضية، بل هي مسألة خلط الحابل بالنابل. وعندئذ فإننا ندخل دون صعوبة إلى ما أسميه بدوامة المهانة المُمَجَّدة. وأنا أعتقد أنه في ذلك ومن خلال هذا الجانب المحدد تظهر المسيحية ليوليانوس بوصفها عصبة من الأشرار. فمهما كانت الجريمة التي يرتكبها الكائن الإنساني، فإن الجريمة ستجد من الان فصاعداً، دائماً وأبداً، من يفتديها.


والواقع أنه يبدو أن ما يطلبه البشر هو ألاَّ يعودوا بحاجة إلى الرد وحدهم على أقدارهم. ولكن، هل فعلت المسيحية، في التحليل الأخير، شيئاً آخر غير أن تزيد على مدى البصر وحدتهم الأولى، أليست قاصرة على الإنعام على البشر بوحدة كتلك التي يصورها كيريكو حيث لا نلحظ غير ظل البراءة بينما يتردد، في المقابل، في كل مكان، صدى جريمة هي منذ ذلك الحين فصاعداً لا مرتكب لها؟


وفي مثل هذه الظروف، فإن ارتكاب الخطيئة يصبح وسيلة لأن يكوِّن المرء لنفسه علاقات. ذلكم في الواقع بُعد جديد للسلوك، سرعان ما تتلوه من جهة أخرى تمزقات يحافظ عليها المسيحيون – لعجزهم عن التغلب عليها – حفاظهم على زهور في دفيئة زجاجية. إن لكل فعل طابعاً رمزياً. وهو يعبر عن فاعله بأكثر مما يمكن للمغفرة أن تغيره. ومنذ ذلك الحين، هل يمكن للمرء أن يتخلى دون عقاب عن ملكية فعله (انظروا راسكولنيكوف)؟ هل يمكن للمرء أن يتخلى عن محنته (انظروا كافكا) أو أن يقتسم لدغتها؟


إن الشيء المؤكد هو أن المسيحية قد أضفت مذاقاً، ملتبساً ومُبَلِّراً في آن واحد، على كل ما يحدث بعد الفعل. فهناك "بَعدٌ" مسيحيٌّ بشكلٍ خاص لا يشبه أي "بَعد" آخر, وسواء أكان هذا البَعد هو بَعد الحب أو بَعد الجريمة، فإن الضمير ينسحب من الفعل بسهولة غير عادية، لكنه يساعد في الوقت نفسه على استحالة أن يكون المذنب شيئاً آخر غير المجرم - الذي – ربح الخلاص أو الزاني – التائب – الراكع – تحت – قدمي – المسيح. فهل يتوجب التأكد من أن إنساناً حلت به السكينة لأن عيوبه قد جرى حمل المسؤولية عنها هو شيء أكثر من شبح إنسان حر. أو كذلك -جنباً للحديث عن الحرية – يحتفظ بحقوقه في المزاح سليمة. وإلى أي حد يظل من ربح الخلاص سيداً لضحكته؟

*


لقد قلت إن يوليانوس، بعد ثلاث سنوات من الحكم، قد هزمه سوء حظ الغرب. ويبدو لي أن من خصائص المسيحية الاستفادة من هذه المحن المبتورة حيث يختفي الخصم في الوقت المناسب. إلاّ أنه تبقى الإشارة إلى مَعلم آخر، هو الأكثر أهمية، المعلم الذي يضع كلاً من المسيحية ويوليانوس في مواجهة أحدهما الآخر كخصمين لدودين. إن موعد المسيحية الكبير يقع بعد الشر (لابد من حدوث الفضيحة). أما موعد يوليانوس فهو يقع قبل ذلك (ليست هناك فضيحة).


إن هدف يوليانوس المثير للشجن والمتمثل في استعادة، استرداد ولاء – وفاء ضائع إنما يجعل منه عين نموذج مصحح التاريخ. إن يوليانوس هو ذلك الذي لا يقبلُ حكماً يصدره العائثون فساداً بانسجام الآفاق، - إنه ذلك الذي يرفع ولاءات – وفاءات الروح إلى مرتبة فوران نبيل. ويبدو لي أنه ينطبق عليه بشكل مباشر كلام جان جرينييه المؤثر: "ربما كان من المناسب أن يتغير الإنسان لكي يتكيف، ولكن دون إفراط مع ذلك، وأما شرفه فإنه يتمثل غالباً في ولاء، حتى وإن كان بلا أمل".



(1) ".... سوف نوضح أن إلهه الجليلي الجديد، الذي تمنحه حكاياته الخلود، يُعَدُّ في الواقع، بحكم عار موته ورمسه، مستبعداً من الألوهية التي يخترعها ديودور له".
(يوليانوس: رسالة إلى بلوتينوس)
وأيضاً:
"أيها الجليليون، إن يسوع هذا الذي تدعون إليه كان أحد رعايا قيصر".
يوليانوس المرتد – فلافيوس كلاوديوس يوليانوس، امبراطور رومانيّ، ولد في القسطنطينية في عام 331 ومات في بلاد الرافدين في عام 363، فيلسوف، ترك كتابات عديدة من بينها بحث معاد للمسيحية . – المترجم.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: