جورج حنين_16



من أجل وعيٍ مُنْتَهِكٍ للمُحَرَّمات
هل أنت واقعي؟ هل أنت مستعد لأن تصبح واقعياً؟ في حالة الإجابة بالإيجاب، سوف يعتنون بأمرك. وسوف يتكرم المستقبل بالابتسام لك. وأياً كان ما تفعل وفي أية روح تفعله، سوف يبقى لك دائماً وجه احتياطي، بوابة يمكن اجتيازها لا تزال، كلمات بارعة أو بطولية للنجاة في حالة التعرض للغرق، إمكانيات جدية – إن كان غشك على مستوى طموحك! – لأن تضع يدك يوماً ما على واحدة من خزائن المصير الثلاث: المجد والملكية والسلطة. أو على الخزائن الثلاث مجتمعة إن كنت من الدهاء بما يكفي لكي تبدو وكأنك لا تولي أهمية لأية من أدوات السيطرة الرهيبة هذه. وهذا هو ما يفعله في الواقع بعض كبار الزهاد في زماننا والذين لا يصمدون، عندما يكونون متأكدين من أنهم قد أقنعوا الجميع بنزاهتهم الأخلاقية السامية، لشهوة إضافة زخرفة بسيطة هنا أو زركشة ضخمة هناك. لاحظوا أن واقعيَّ الزهد، حتى عندما يُضبط متلبساً بارتكاب جريمة زخرفة صارخة، سوف يعطي لفعله ألفاً من المبررات المعقولة، المعقولة بقدر ما أنها توجَدُ تحديداً على مستوىً من أكثر المستويات خصوصية، مستوى المنفعة المباشرة، مستوى المصلحة التاكتيكية. والقوة، القوة الضخمة للواقعيين، إنما تتصل بكونهم لا يعرفون الجريمة الصارخة. وما هو التأثير الذي يمكن أن يكون للمرء على أناس جد غارقين في ما يسمونه بالواقعي، بحيث إن أي برهان لا يمكن أن يكون كافياً لإفحامهم...؟


وإذا كنت، في الحالة المقابلة، لا تنوي الاستسلام للإغراء الثلاثي، الذي يمارسه المجد والملكية والسلطة لحساب الواقعية السياسية، فلابد من إعدادك لأن ينظر إليك على أنك رجّاج لا يكل للتجريدات (كالعامل المكلف برج زجاجات الشمبانيا كل يوم. – المترجم). إنك، في رأي الجميع، منبت الصلة بالحياة، لا تعرف مسرات وعذابات البشر، منقطع لملكوت الايديولوجية العقيم. وفي عالمٍ دارجٍ من الآن فصاعداً على الاتجار بحميةٍ واحدةٍ في القيم الروحية والمنتجات المصنعة، فإن ظل احتقار متزايد يلازم مصطلح الإيديولوجية نفسه. وعلى الفور، تجد نفسك في موقف الدفاع. ويتعين عليك البدء بالبرهنة على أنك لست عديم القلب ولا عديم المشاعر، أمام أناس حرفتهم تنظيم مشاعر الآخرين. وبعد تقديم البرهان، فإنك تظل مشبوهاً كما كنت من قبل، لأنك لا تستجيب لآلات جلبتهم الموسيقية النحاسية. وما أن تكتمل حضارة الابتزاز والتزييف، فإن أية إيديولوجية جديرة بهذا الاسم، تبدو كما لو كانت تحدياً لا يُحتمل للتساهل الروحي عند البعض، وللطاقة البهلوانية عند البعض الآخر. وإنه لمن موجبات العبرة في هذا الصدد أن نجد الناجين من إحدى الأرثوذكسيات الذين كانوا، في بداياتها، يُبدون استعراضاً لصرامة بوليسية أكثر مما هي فكرية، يتآخون اليوم مع هواة الذرائع والتحايلات ومحترفي الارتجال السياسي، في كره مشتِرَكٍ لكل نشاط نقدي ذهني، ناهيك حتى عن كل إخلاص لشيء جد عبثي كالمبادئ.


ومن الأرثوذكسية الأكثر شراسة إلى التلاعبات السياسية الأقل احتراماً، يبدو الطريق السريع سهل الانفتاح. ولكن إذا كانت الأرثوذكسية قد تسنَّى لها أن تؤدي، في الصراع اليومي، إلى ممارسات جد زائفة، ألا يعني ذلك أن بعض الضمائر المتحزبة لها، في استعاضتها عن ثقافة الأفكار بعبادتها لا أكثر ولا أقل، أي في استعاضتها عنها بطقسٍ يستحيلُ إلى هذا الحد أو ذاك على مناهج العقل السوية إدراك كنهه، قد تعلمت التملص بسعر زهيد، أولاً من كل نزاع يتعلق بالتفسير، ثم من كل تساؤل ضار فيما يتعلق بخيار العمل الذي يجب الاضطلاع به، والموقف الذي يجب اتخاذه؟ إن أحد المدافعين عن هذا النوع من الأرثوذكسيات، جد السريعة في الهبوط إلى الوحل، قد لخص لي بلغة آسرة، أجد نفسي مدفوعاً إلى نقلها هنا، القاعدة الذهبية لسلوكه. لقد قال لي: "إننا، تحديداً لأن لدينا مبادئ جد راسخة، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بكل شيء!". فلنأخذ حذرنا من ذلك. هذا ليس مزحة يمكننا التخلص منها بهزة كتفٍ. إنه التعبير الأمين والرائق عن حالة ذهنية جد عامة قوامها تحويل القيم الحية والمحرِّكَة إلى قيم رمزية، إلى تكريس إخلاص طقسي لها وإلى اعتبارها غير قابلة لأن تُلوَّثَ بالملوثات "الواقعية" الآنية، فهي تحلق فوقها على مسافة جد عالية.


فيا له من مشروعٍ فريدٍ يستبسل في إنقاذ مثل أعلى بمنحه أجنحة من الوحل! إن أي إنسان مدفوع إلى التمسك بهذا المفهوم عن الحياة السياسية يجب عليه أن يرتب لنفسه ضميرين متمايزين وغير متصلين، الأول مهمته أن يحافظ على المبادئ الدائمة وصورة الهدف النهائي في نقائها المزعوم، والثاني يشمل برعايته المتسامحة الشرمطات اليومية الهينة. أما أن هذا الفصل المستمر، هذا الطلاق الأبدي بين النشاطات المباشرة وعالم المبادئ السامية، يمكن علاوة على ذلك أن يعد التعبير الأخير عن الذهنية التركيبية، فذلك هو ما يسمح بقياس احتمالات التضليل التي يعتبر الذكاء متواطئاً فيها وضحية لها في آن واحد.


الاحتقار – الذي يوحي به عن علم في البداية، ثم العفوي وشبه الإجماعي – تجاه كل ايديولوجية مهتمة بالبحث عن شيء آخر غير فرص إلغاء الذات أو فرص الاغتراب، إخضاع كل فكر لأول واقع قادم، الاختزال التعسفي إلى مضمون واحد لمفاهيم يصعب تركيبها الواحدة مع الأخرى كالدوجماتية والايديولوجية، الأرثوذكسية والديماجوجية: تلك هي علامات التشوش المريع الذي لا يتوقف عن التفاقم والتعقد مفقداً البشر رشدهم حتى يتسنى له على نحو أفضل إقناعهم بأن يُسَلِّمُوا أنفسهم بأنفسهم، عن طيب خاطر، بابتسامة، بوصفهم مواطنين حقيقيين، لواحدٍ ما من أشكال الاستبداد الرائجة.


ومن فرط الاعتداء على الكلمات، من فرط التلاعب بمرونة اللغة، أمكن الوصول إلى حالة الانحطاط الحالي حيث يصل الشخص أو الفكرة إلى أن تكون في آن واحد أو بالتتابع نفسها ونقيضها. لقد كُرِّرَتْ مراراً كلمة هذا المساعد لهتلر الذي كان يلوح بمسدسه عندما يسمع حديثاً عن الثقافة أوالذكاء. فيا للحسرة! لماذا يجب للكلمات الأخرى التي تهم معجم البشر السياسي والاجتماعي ألاَّ تتمتع البتة بدلالات لها مثل هذه الحدة؟ فما من كلمة ولا حتى كلمة "السلم"، لكونها كفت منذ زمن طويل عن أن تكون مُطَمْئِنَة، إلا وتستتبع خلفها ما لا ندري أية أهوال سرية، ما لا ندري أي عفن من عفن الكوارث. وإلى أن تتشكل، وفقاً لنصيحة دوني دو روجمون، "وزارة لمعنى الكلمات"، فمن المهم أن نعطي من جديد جوهراً واضحاً ومحدداً للمصطلحات الأكثر تعرضاً للإفساد، الأكثر تعرضاً للامتهان من جانب استخدام أعمى.


الايديولوجية ليست عقيدة. إنها نواة أفكار موجِّهَة، حافزة، تُوَجِّهُ الذهن لكنها بشكل خاص تحفزه إلى التفكير، إلى أن يعي حريتهُ – عبر التطوير المثمر لعناصر الانطلاق هذه .


الايديولوجية تبلغ الفكر برسالة معينة، لكنها بعيداً عن أن تلجم حركته الطبيعية، لا تفسد للحظة واحدة استقلاله الثمين. وكل رسالة متممة هي مؤاتية. وكل مساهمة أصيلة للفكر المكتسب، تكفل التوثب الضروري والمتواصل للرسالة الايديولوجية. إن الفكرة يجب أن تكون محل تفكير من الجميع، وليس من فرد واحد. وهنا يجب للنضال ضد الأفكار الجاهزة – ضد التبني الخانع من جانب ملايين الرعايا المدجنين لصيغٍ موضوعةٍ سلفاً – أن يرتفع إلى ذروته. هنا يجب على المشاركة الواعية لكل فرد في تطوير القيم الايديولوجية أن تقف في وجه سلب حرية الاختيار الفردية عن طريق حيل الإيحاء العديدة أو تهديدات عنف الدولة العديدة. وإذا كنا نأسف لنوع الهجر والتلف الذي سقطت فيه ايديولوجيات العصر، فذلك بالتحديد لأننا نرى في ذلك تراجعاً جسيماً للحرية في شكلها الأسمى، الأكثر إبداعاً. إن مجتمعاً لا يوجد فيه غير موردين للأفكار – بعدد محدود وبخدمة محكومة – ومستهلكين للأفكار- في حالة سلبية شبه تنويمية، - مجتمعاً تؤول فيه التبادلات الثقافية إلى تحضيرات معملية، من جانب، وإلى تبديات طقسية للولاء وللحماس الاستفتائي، من الجانب الآخر، إن مجتمعاً كهذا المجتمع لن يكون، تحت مظاهر ربما تكون أكثر رحمة، لا أكثر ولا أقل بشاعة من التنظيم الهتلري للعبودية.


وخلافاً للمذاهب، والتي يتمثل هدفها في بلورة – ومن ثم تثبيت – رأي عام حول تعاليمها، وهي نفسها جامدة وعظام فاقدة للحياة، فإن كل ايديولوجية إتما تتسع بدعوة ضمنية إلى تجاوزها هي نفسها. وليس هناك في هذا الصدد من تدريب أفضل للذهن غير ذلك الذي يتألف من الهجوم العنيف على القناعات – الحدود، من التوسع الذي لا يكل لمجالها البصري. وعلى مدار مئات ومئات السنين، جرب الذهن الحاجة المشؤومة إلى الاحتماء خلف سلاسل لا نهاية لها من الخطوط المحصَّنَة والتي شَكَّلَ كل خط منها، في زمانه، خط الجهل الأعظم. لقد عاشت البشرية حتى الآن بشكل وحيد تقريباً في ظل امبراطورية المعتقدات اللاعقلانية أي ممتثلة. وفي كل مرة كان يحدث فيها فتح من فتوح العقل الرامية إلى إكساب الإنسان حصة متزايدة من الحرية، فإن قوى التقهقر، المرتبكة للحظة، لم تكن تتأخر عن استعادة الساحة الضائعة أو عن تسريح الحماسات التحريرية، أو عن إقامة هياكل عبادة جديدة أو عن تحديث الأوثان القديمة، بكلمة واحدة، عن حبس منجزات العبقرية الإنسانية في منظومة انضباط شعائري حيث لا تفعل غير أن تكرس يهيبتها العودة المتصلة إلى القهر، وهكذا ينشأ بين الإنسان والحرية عذاب لقاء قريب تارة بعيد تارة أخرى. وهو عذاب حقيقي تتوارى فيه الحرية في اللحظة عينها التي يتبارى فيها كل شيء على تحقيق انتصارها فتُخْلي المكان لبنيان استبدادي ما يلمعُ اسمها على مدخله مع ذلك كماركة مزيفة على سلعة مهربة.


إن النضال المعادي للايديولوجية لا ينزع إلاَّ إلى نزع سلاح الذكاء، إلى تجريده من وظيفته التساؤلية، إلى تعويده على احترام حقائق مرتبة بشكل هرمي وصالحة حتى للنظام الجديد. وبدعوى التخلص من التأملات المجردة، نتحرك صوب عقائد جامدة بدائية، صوب تعاليم اجتماعية مرعبة حيث تأفل الكلمات الأكثر إثارة للحماسة تحت ضربات المطرقة.


سوف يكون المثل الأعلى للواقعيين هو تحويل الذكاء إلى نوع من "صحيفة رسمية". فهل يناقش المرء "الصحيفة الرسمية"؟ إن المرء يعرف عن طريقها مراسيم اليوم. بينما في الشوارع وفي الساحات العامة، سوف تتكفل أُلهيات مختارة بالحفاظ على شعور الاستثارة المؤاتي لدى الجماهير. ومن الذي يمكنه أن يجادل في أن الاستعراضات في الساحة الحمراء مسؤولة عن جانب كبير من رسوخ النظام الستاليني؟ هكذا يخدم الواقعيون القلب والذهن بتقديم أعلاف متكافئة لهما. ويوم يهجر البشر الاستعراضات والأضرحة، سوف يتهمهم الواقعيون دون ريب بأنهم فقدوا قلبهم، في حين أنهم لن يكونوا قد فعلوا شيئاً غير الحفاظ على نبضاته لاستخدامها استخداماً أفضل.


إن الواقعية السياسية إنما تتأسس على صيغتين لا يوجد تكامل بينهما إلاَّ من الناحية الظاهرية. يقول لنا الواقعيون: "كل الوسائل حسنة". ويضيفون فور ذلك: "يجب تعلم التكيف مع الظروف". إن التنافر الذي يجعل هاتين الحكمتين غير قابلتين للارتباط فيما بينهما، لن ينجح في شد انتباه الواقعيين طويلاً. فالواقع أنه لا توجد بالنسبة لهؤلاء تنافرات نهائية، مثلما لا توجد بالنسبة لهم تناحرات عصية على التوافق فيما بينها. والشيء الوحيد المهم بالنسبة لهم هو القيام انطلاقاً من جوامع الكلم باستحداث فلسفة تمويه مخصَّصَة لتوفير أنسب حرية مناورة لهم. وعند اللزوم سوف يتخيل المرء أنهم يقولون: "كل الوسائل حسنة لتكييف الظروف". لكن تكييف الظروف، بدلاً من مجرد التكيف معها، إنما ينطوي على رغبة في تغيير الواقع والضغط على العقبة لا الانجرار إلى التشكل وفق نموذجها.


إن الواقعيين يخافون المجهول. ودورهم ليس هو تغيير الواقع، بل مراعاة جانبه. وإلاَّ فأين سوف يكونون أكثر ارتياحاً إن لم يكن في واقع ودي ومألوف يكافئهم بنجاحات من كل نوع، عن الاستقرار الذي يدين به لهم؟ وفي النهاية قد لا يكون من الأسهل أن نميز من، الواقع أم الواقعي، هو الذي قام بتطويع الآخر. إلاَّ أنه إذا ما فرض تغيرٌ جذريٌّ ما نفسهُ، فإن كل شيءٍ يصبحُ من جديد واضحاً تماماً. فعندئذٍ تكون "كل الوسائلِ حسنةً" من أجل إرجاء هذا التغير، من أجل إثبات عدم جدواه، وفي التحليل الأخير، من أجل سحق أنصاره. إن تفويض الأمر إلى الواقعي للاهتمام بتغيير الأوضاع، هو كتكليف صبي يخدم في سيرك بشق طريق في الغابة.


كلا، ليست الوسائل حسنة جميعها! فهناك بعض الوسائل، خاصة تلك التي يلتمسها الواقعيون أكثر مما عداها، التي لا تعتبر حسنة إلاَّ لحرف مسار التداعي الطبيعي للأحداث ولإدخال انحراف على خطط العمل المرسومة بشكل يكفي معه هذا الانحراف عموماً لشل حركة قوى النهوض التي تندفع دون طائل إلى مفترق الطرق. وشأنها في ذلك شأن تلك الجراح العصية على الالتئام، فإن الزوايا التي تفتحها "الانحرافات الواقعية" تصبح، عند محيد معين، عصية على الالتقاء من جديد. وذلك بقدر ما أن الواقعية تتألف من الإقامة في الانحراف واعتباره لا حالة وسيطة بل حالة نهائية، وضعاً في ذاته، وهو وضع سوف يتعين على اللاواقعيين العزم على بتره، بالأسلوب الوحشي إلى حد ما الذي كان يعاقبة علم 93 (17) يبترون به الرؤوس.


وعندما يتحدث السياسيون، الذين لا يحيون إلاَّ بالتحايل عن السماح بالانطلاق الحر للإرادة الشعبية، فلنكن واثقين من أن هذا اللجوء إلى الشعب لا يشكل غير تحايل إضافي في لعبتهم، والقاعدة الدائمة من جهة أخرى هي أن هؤلاء السياسيين لا يلجأون إلى الشعب إلاَّ عندما يتعرضون لخطر إزاحتهم على أيدي عصابة منافسة، أكثر براعة وأكثر ثراء في التحايلات. وغالباً ما طرحت مسألة ما إذا كانت للجماهير مصلحة في التجاوب مع نداءات ظرفية ونفعية من هذا النوع. ففي صفوف الكادحين، يوجد عدد من أساتذة الواقعية يكاد يكون قريباً من عدد أقرانهم في المعسكر المناوئ. ومن الغريب أن نرى هؤلاء الماكيافيللات ذوي الكاسكيتات وهم يتولون بخفة عقد التحالفات الأكثر خطورة، والتصالحات الأكثر مدعاة للحزن والأواصر السياسية الأقل استحقاقاً. ومن عام 1935 إلى عام 1939، فإن هذه التقاربات المضادة لطبائع الأمور بين الشعب والصالونات، بين المصنع والكنيسة، قد أسهمت إسهاماً بالغاً في تفسيخ العناصر التي كانت ما تزال سليمة وصدامية في قارة أوروبية لم تكن محتلة بعد وإن كانت ناضجة بالفعل للاحتلال. وفي هذا السباق على الزنا السياسي، يبدأ المرء بخيانة مثله الأعلى مع الجار المقابل له، ثم ينتهي إلى اقتسام أي سرير مع أي شريك.


إن الشعب يملك في نفسه موارده الخاصة، بشره الخاصين، أدوات نضاله الخاصة، مفهومه الخاص عن السلطة. وهو ليس بحاجة إلى أن يستأجر من الباطن محترفين مستهلكين بالفعل في خدمة الآخر، لكي ينجزوا له مهمته الخاصة. كما أنه ليس بحاجة إلى أن يسلم طاقاته وراياته لمشاريع إنقاذ السياسيين والأحزاب الذين والتي طالهم وطالها الفساد على حد سواء، الأوائل من جراء الممارسة غير المحدودة للدسائس والأخيرة من جراء الممارسة غير المحدودة للمساومات.

وعندما تجد الجماهير نفسها مدعوة إلى الفعل من جانب شخصيات أو جماعات لا تدين ببقائها إلاَّ لانعدام فعل الجماهير، فإن من حق هذه الأخيرة تماماً أن تنزعج. فالمسألة كما هو واضح لا يمكن أن تكون غير مسألة فعل معين موجه إلى اتجاه معين. وقد نجح السياسيون حتى الآن مرات كثيرة في تأطير فعل الجماهير، ولم تنجح الجماهير قط في تأطير فعل السياسيين. وأولئك الذين يحثون الجماهير على الانقياد لذلك الرجل العظيم أو ذاك – "القائد الممكن الوحيد" – أو لهذا الحزب أو ذاك الحزب المسارع إلى الانحطاط إلى حزب وحيد، والحُرَّيْن ، الأول والآخر، في التصرف على هواهما في الرغبات الشعبية، أولئك الذين يزعمون أنه سوف يسمح للشعب، من فرط الإخلاص بالرغم من كل شيء، بالتأثير على قرارات القائد أو الحزب، أولئك هم في الحقيقة ناصحون غرباء، يمكن للمرء تماماً أن يتعلم من أفواههم فن تزوير التاريخ.


إلاَّ أنه من غير الوارد، بسبب الخوف من استمالة الحماسات الشعبية واستثمارها من جانب عملاء الرجعية، الارتداد إلى مأزق الاستنكاف. فالجماهير لها دور كبير، دور فائق، عليها لعبه. لكنه دور مستقل. وفي كل مرة يلزم فيها مغازلتها من فوق منبر، يجري الحديث عن ثقلها في ميدان القوى السياسية. وهذا الثقل حقيقي. والمسألة الجوهرية هي معرفة ما الذي يحركه.


إن فعل الجماهير المستقل مع ما يلزمه من الرومانسية من أجل استعادة الوحدة الأخلاقية بين الغاية والوسائل، تلك الوحدة التي فصم عراها السياسيون الواقعيون، - هذا الفعل المستقل يجب أن يتمكن من أن يسوي بالأرض الركامَ المريع من التحايلات والحيل الذي نجازف، على المدى الطويل، بأن نُدْفَنَ تحته دفن البلهاء.


يقال إن السلطة مفسدة. هذا صحيح إلى حد معين. لكن الخوف من السلطة مفسدة أكبر. إن هذا الخوف من السلطة، من سلطة لا يدينون بها تحديداً إلاَّ إلى فعل الجماهير المستقل، قد اجتاح على مدار سنوات أبرز ممثلي اليسار الأوروبي وألقى بهم شيئاً فشيئاً في معسكر الواقعيين والمحتالين. فما أكثر الفرص التي لا تعوض والتي أهدرت لمجرد أن هؤلاء التعساء الذين استولى عليهم الذعر قد لوحوا للجماهير بتشخيصهم المفضل: "إن الوضع لم ينضج بعد!". وهو ما يعني في كل تسع من عشر مرات أنه يجب تركه ينضج لحساب العدو!


إن المرء لا يشفى بسهولة من الخوف. لكنه قابل للشفاء ممن يروجونه. ولابد من إخراج الدياليكتيكيين البواسل من حالة الهلع. وهو ما يعني أن التكليفات الصادرة إليهم يجب، مع كل أشكال المراعاة الممكنة وقبل أن تنضج أوضاع، أن تعفيهم من مسؤولياتهم.


بين زعماء الأحزاب الشعبية وزعماء الأحزاب الرجعية لا يوجد غير فاصل طفيف مصدره أن خوف كل طرف منهما لا يستهدف هدفاً واحداً عاماً. فعلى اليمين، هناك الخوف من المبادئ لذاتها. وعلى اليسار، هناك الخوف من تطبيقها.
الخوف من السلطة، الخوف من الأوضاع جد الناضجة ومن الوسائل جد المستقيمة، الخوف من الإفصاح عن الذات، الخوف من الرفض، - إن كوارث السنوات العشرين الأخيرة هذه قد ترتبت على تراكم جميع هذه الحقارات. والآن يجب الخروج من الليل، وذلك هو الشيء الأصعب. فمثلما تعتاد العيون على الظلمة، يعتاد الذهن على الجهل، يعتاد العقل على تقدم عبادة الأوثان، يعتاد الإنسان الحر على الكوابح التي يصوغها سادته تحت الاسم اللطيف: "الانضباط المقبول دون إكراه".


يجب الخروج من الليل، والحال أنه لا بلاغة الخطباء ولا بطولة الشهداء بوسعهما مساعدتنا في ذلك. ففي الرد على ادعاء الأحزاب الكبرى امتلاك مرجعية دوجماتية مطلقة، في رد هذه الأجهزة المتضخمة، المسلَّمة بلا ضابط إلى حفنة من أمناء السر "الواقعيين" إلى حجم الإنسان، في تحويل الممارسة الفردية للقدرات النقدية لا إلى عنصر اتهام في محاكمات عبثية للتخريب والخيانة، بل إلى شرط ضروري لوضوح اجتماعي كامل لم يسبق نيله قط، في هذا الاتجاه وبهذا الثمن سوف يكون بالإمكان ارتسام خلاصٍ أول.


لا بلاغة الخطباء، ولا بطولة الشهداء، بل امتلاك زمام وعي حر ومنتهك للمحرمات من جانب بشر ليسوا بحاجة بعد إلى شفعاء أمام القدر.



القاهرة، أواخر يوليو 1944

الملحق -1

إن تشوش اللغات هو، في السياسة، واقع معلوم تماماً. ومنذ سنوات عديدة، قامت السياسة بإخضاع اللغة لنظام مجنون ومخبول. وبرج بابل هذا لايرجع تاريخه إلى اليوم. لقد تركت السياسة نفسها عرضة للإصابة بفيروسٍ معروفٍ في تاريخ الفلسفة بمسمى الاسمية. وقد تم اكتشاف الاسمية من جانب الرواقيين الذين برهنوا على أن غالبية الأفكار والتعميمات التي غذت النقاش الفلسفي في زمانهم ليست غير كلمات. والحال أن فترة الاسمية السياسية لزماننا فيما بعد الحرب (العالمية الأولى) قد نجحت في إغراق البشرية في دوامة من المشكلات الزائفة التي يجري التعبير عنها بمصطلحات ملتبسة ومنحطة. إن جميع الأحزاب المتنازعة على السلطة مسؤولة – كل فيما يخصه – عن هذا الوضع، ولكن أولاً وأساساً الحزاب الفاشية المنبثقة من الحرب. وهكذا فإن الناس قد وجدوا أنفسهم محولين عن حاجاتهم الفعلية ومجرورين إلى تيه من المرايا المشوهة. وعلى سبيل المثال، فإنه إذا ما تشكل حزب لمحاربة الاشتراكية ولحماية مصالح الملاك، فمن الواضح أنه سوف يرتدي قناع حزب "اجتماعي"، ديمقراطي"، أو حتى "اشتراكي". وإذا ما وصف حزب ما نفسه بأنه "راديكالي" (جذري)، فمما لا جدال فيه أن المراد هو حزب بالغ الاعتدال. وإذا ما نشأ حزب جديد عن انقسام وقع في حزب قائم، فإنه سوف يسمي نفسه "حزب الوحدة". وإذا ما حصل حزب على تعليمات ودعم من الخارج، فبوسعك أن تكون واثقاً من أنه سوف يتظاهر في جميع المناسبات بأنه المدافع عن الاستقلال الوطني.


إن هذه الاسمية السياسية غالباً ما تعرض سخرية كئيبة على المسرح المعاصر. فعندما يجري إرسال قوات إلى بلد صديق لمجرد المساعدة على استمرار الحرب الأهلية فيه، فإن هذه العملية الصغيرة تسمى، وأنتم لا تجهلون ذلك، "عدم تدخل". وعندما يجري إلقاء خصومٍ سياسيين، مصيرهم "الضرب بالنار عند محاولة الفرار"، في السجن، فإن ذلك دائماً هم من أجل تأمين حمايتهم. والمحاكم السياسية التي لا هدف لها إلاَّ إرهاب الرأي العام، تسمى "محاكم شعبية"، وبرامج التسلح تُبَرَّرُ في كل مكان بذريعة أن واجبها هو العمل على صون السلم. وإذا ما خنت تعهداتك، فلا تكاد توجد حاجة إلى توضيح أن ذلك إنما يحدث "لإنقاذ شرفك".



إجنازيو سيلوني
("مدرسة الديكتاتوريين"، 1939، لندن، ص 164 – 165)


الملحق – 2

ألا تعجبون لجميع هذه التماثيل التي تقام في كل مكان. لكل هذه الاحتفالات والمناسبات التي يجري الاحتفال بها في كل لحظة، لأسماء الشوارع هذه التي يجري تغييرها دون أن يتمكن المرء تماماً من معرفة السبب، لعدد المعبودين من كل نوع والذين يجري تقديمهم لتأمين عبادة الشعب لهم؟


إن في كل هذه الحاجة إلى التبجيل والتي يجري إشباعها بلا توقف، تفاهة ما، وضاعة ما...



بول لوتو
(نوفيل ريفي فرانسيز، أول ديسمبر 1928)

الملحق – 3

أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية لا يمكن أن توهب لأحد، بل يتوجب فقط على الجميع انتزاعها، ولا أنها "تتعارض مع الضعف"، كما قال فوفنارج، أي تتعارض مع الأنانية والتفاهة وذهنية التحايل، والوصولية والانتهازية والهرب من المسؤوليات، والبلاهة المزهوة وكسل الفكر، واحترام المال، والنبرة المتشدقة، والخداع وتكلف العواطف التي تصنع كل ديماجوجية، وعبادة النجاح السهل والذي تجيء به الصدف، والخوف من الضربات، والخوف من الكلمات الواضحة، - باختصار، كل ما يميز الأخلاق السياسية لديموقراطياتنا المزعومة وأمزجة "جمهورها العظيم" التي ترعاها وتستغلها السينما والكتب الرديئة التي تطبع منها آلاف وآلاف من النسخ، والدعاية، أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية تتعارض مع هذا كله، أولئك الذين لا يعرفون البرهنة على أنهم قد فهموا ذلك – أولئك لا يستحقون شيئاً أفضل من هتلر.



دوني دو روجمون
("حصة الشيطان"، مونتريال، 1942، ص 174)

ترجمة بشير السباعي

عن الأصل الفرنسي

0 التعليقات: