لطف الله سليمان

(1918-1994)


عناصر سيرة


بشير السباعي


ولد لطف الله حنا سليمان في المنصورة في عام 1918، غداة الثورة الروسية وعام نشوب الحرب الأهلية في روسيا ونشوب الثورة الألمانية وعشية ثورة 1919 في مصر، وهي أحداث تاريخية كبرى سوف تحدد تطوره الفكري والسياسي وتترك بصماتها الواضحة عليه كما على مجمل جيله من المثقفين الراديكاليين.


اعتماداً على المكتبة الخاصة لسيدة ألمانية في مسقط رأسه، لعبت دور راعية له، أخذ يتعرف خلال الشطر الأول من الثلاثينيات على تفاصيل مجزرة 1914-1918 الإمبريالية الكبرى ومجريات ومصائر الثورة الروسية وأعمال أبرز مفكري الغرب، مما أتاح له بلورة منظور حداثة ديموقراطية أممية التوجهات. وقد قاده هذا المنظور إلى التعاطف مع الثورة الأسبانية (1931-1939) وإلى اتخاذ موقف العداء السافر من الفاشية التي كسبت توسعاً جديداً في ألمانيا مع وصول هتلر إلى الحكم في عام 1933، وإلى اتخاذ موقف مماثل من الستالينية التي كانت قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل انحطاطها اليميني مع المؤتمر السابع للكومنترن في عام 1935.


غداة توقيع الميثاق الألماني – السوفيتي في صيف عام 1939، حضر لطف الله سليمان من المنصورة إلى القاهرة لكي يشهد ندوة في مقر "الاتحاد الديموقراطي" حول الفاشية، حيث ندد بالميثاق المذكور باعتباره دليل خيانة آخر من جانب البيروقراطية الستالينية للحركة العمالية. وقد قوبل الشاب المنصوري باعتداء جسدي من جانب العناصر الستالينية المحتشدة هناك، لم يخلصه منه غير تدخل جورج حنين (1914- 1973) ورمسيس يونان (1913-1966)، مؤسسي جماعة "الفن والحرية" (1939-1946). وقد أدى هذا اللقاء الأول بينه وبين الأخيرين إلى تعاون مشترك على أساس الرومانسية الثورية والحداثة الديموقراطية.


في عام 1940 نشر لطف الله سليمان دفاعاً عن "العقلانية الحديثة" في مجلة "دون كيشوت" القاهرية الصادرة بالفرنسية والتي هيمن السورياليون المصريون على أبوابها الأدبية والفنية، وقد شكل هذا الدفاع تجلياً لخلاف مبكر مع سوريالية جورج حنين ورمسيس يونان.


خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، آزر لطف الله سليمان جماعتي "الفن والحرية" و"الخبز والحرية" وتعاون بشكل حاسم مع مجلة "المجلة الجديدة" عند انتقال رئاسة تحريرها إلى رمسيس يونان حيث تحولت إلى منبر للراديكالية الديموقراطية إلى أن جرى وقفها بأمر من الحاكم العسكري العام في عام 1944. وقد نشر لطف الله سليمان في تلك الفترة ترجمة كراس عن كارل ليبنخت (1871-1919)، الأممي الألماني وقائد انتفاضة عمال برلين في يناير 1919. وخلال حملة انتخابات عام 1945 النيابية في مصر، قام لطف الله سليمان بحملة دعائية واسعة تأييداً للمرشح الاشتراكي الوحيد، فتحي الرملي، تحت شعارات "الأرض للفلاحين والمصانع للعمال" و"الخبز والحرية للجميع" و"تحيا وحدة المثقفين والعمال". وقد تولى لطف الله سليمان تمويل منشورات الحملة الانتخابية من حصيلة استيلاء على أموال من أحد البنوك.


في منتصف الأربعينات، برز عداء لطف الله سليمان للهيمنة الإمبريالية على المنطقة وللمخططات الصهيونية في فلسطين، كما ساعد أنور كامل (1913-1991) على نشر كراس عن الصهيونية في عام 1944 وشارك الأخير في تحرير كراس صدر في عام 1947 تحت عنوان "اخرجوا من السودان"، داعياً إلى جلاء القوات البريطانية عن وادي النيل وإلى حق الشعب السوداني في تقرير مصيره بنفسه ومشدداً على فشل الأحزاب البورجوازية في تحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية التي تسعى إليها الكتل الشعبية في وادي النيل. وعند تفجر النزاع المسلح على فلسطين في عام 1948، نشر بياناً تحت عنوان "لا لحربكم ولا لسلامكم!" دعا فيه إلى شن حرب ثورية ضد الدولة الصهيونية.


في كتابه الصادر بالفرنسية في باريس في عام 1989، "نحو تاريخ دنيوي لفلسطين"، شخَّص المجموعة التي ارتبط بها خلال الأربعينيات، مجموعة جورج حنين ورمسيس يونان ورفاقهما، بأنها مجموعة تميزت باتجاهات سوريالية وتعاطفات تروتسكية. وتشير دلائل متفرقة إلى أن هذه المجموعة – ذات الميول السوريالية الواضحة وغير المنسجمة من الناحية الفكرية – السياسية - كانت لها مع ذلك مراسلات مع الأممية الرابعة أو صحافتها على الأقل.


خلال الخمسينيات، انهمك لطف الله سليمان في أعمال النشر، فأسس "دار النديم" ثم أنشأ "الدار المصرية للكتب"، ونشر أعمالاً لكتاب مصريين وأجانب ساعدت على تشكيل وعي اليسار آنذاك، وربما كان أهم هذه الأعمال هو كتاب إبراهيم عامر "الأرض والفلاح".


عبرت نشاطات لطف الله سليمان في مجال النشر وصلاته مع ممثلي الحركات القومية الاستقلالية في القاهرة (خاصة ممثلي حركات تحرر الشمال الأفريقي) في تلك الفترة عن تقاربه الملحوظ مع أطروحات ميشيل بابلو (رابتيس) حول "المعسكر الشرقي" والثورة الكولونيالية، ووجد ارتباط لطف الله سليمان بالبابلوية تعبيراً مثيراً عنه في جزائر بن بلة (1962-1965)، حيث كان واحداً من مستشاري الرئيس، جنباً إلى جنب ميشيل بابلو، بعد فصل الأخير من الأممية الرابعة. وقد راود الرجلين حلم تحويل الجزائر إلى كوبا أخرى.


بعد شهور من سقوط بن بلة، رحل لطف الله سليمان عن الجزائر إلى فرنسا حيث عمل مع مكتب الجامعة العربية في باريس، ثم تفرغ للنشاط الصحافي.


واجه لطف الله سليمان الاعتقال غير مرة خلال العهد الملكي والعهد الناصري – فقد اعتقل خلال حملة 11 يوليو 1946 التي شنها إسماعيل صدقي ضد القوى الوطنية – الديموقراطية واليسارية، وأعيد اعتقاله في أوائل عام 1948، وكان ضمن من اعتقلوا خلال حملة عبد الناصر المضادة للشيوعية في عام 1959، ولم يخرج من المعتقل إلاَّ بعد تدخل أحمد بن بلة شخصياً لدى عبد الناصر.


نأى لطف الله سليمان بنفسه عن مساعي محمد حسنين هيكل ولطفي الخولي الرامية إلى حشد المثقفين اليساريين وراء عبد الناصر في منتصف الستينيات وآثر البقاء في منفاه في باريس.


مات لطف الله سليمان في 18 ديسمبر 1994 في باريس ودفن في جبانة مونمارتر.


جريدة "الجريدة" (بتاريخ ؟)

0 التعليقات: