في عِزِّ النهار

قسطنطين كافافي

كنت جالساً ذات مساء بعد العشاء في كازينو سان ستيفانو بالرمل. وكان صاحبي ألكسندر أ.، الذي أقام في الكازينو، قد دعاني وشاباً آخر، صديقاً لكلينا، إلى تناول العشاء معه. ولما لم تكن الأمسية أمسية موسيقية، فقد كان الرواد جد قليلين، وهكذا أصبح المكان خالياً لثلاثتنا.
تحدثنا عن أشياء متباينة. وبما أن أياً منا لم يكن ثرياً جداً، فقد تحول الحديث بشكل طبيعي بما يكفي إلى المال، إلى الاستقلال والمسرات التالية التي تترتب عليه.
قال صديقنا الشاب إنه يود لو كان معه ثلاثة ملايين من الفرنكات وأخذ يصف ما سوف يفعله، وخاصة ما سوف يكف عن فعله، لو توفر لديه مثل هذا المبلغ الضخم.
أمَّا أنافقد رأيت، بشكلٍ أكثر اعتدالاً، أن بوسعي القناعة بعشرين ألف فرنك في السنة.
عندئذ قال ألكسندر أ. : "لو كنت قد شئت، لأصبحت اليوم مليارديراً – لكنني لم أجرؤ".
أحسسنا أن هذا كلامٌ غريب. فقد كنا نعرف حياة صاحبنا أ جيداً، ولم يكن بوسعنا أن نتذكر أنه قد أتيحت له في أي وقت من الأوقات فرصة لكي يصبح مليارديراً. ولذا فقد تصورنا أنه كان يستخف بنا، وأنه سوف يُثَنِّي بنكتة. لكن وجه صاحبنا كان ممتقعاً، فطلبنا إليه أن يوضح كلامه الغامض.

تردد للحظة – ثم قال: "في صحبةٍ أخرى – لو كنت وسط أناس يسمون أنفسهم "متطورين" مثلاً – لما أوضحت كلامي، لأنهم سوف يسخرون مني ويهزءون بي. لكننا نعتبر أنفسنا أرقى قليلاً من هؤلاء الناس "المتطورين" المزعومين. أعني أن تطورنا الروحي الكامل قد ردنا إلى البساطة مرة أخرى، لكنها بساطة دون جهل. لقد أكملنا دورتنا. وعدنا من ثم، بالطبع، إلى نقطة انطلاقنا. لكن الآخرين لم يتجاوزوا منتصف الطريق. وليس بوسعهم أن يعرفوا أو أن يتخيلوا إلى أين تفضي بهم السبل".
لم يذهلنا البتة هذا الكلام. فكل واحد منا كانت فكرته سامية عن نفسه وعن الإثنين الآخرين أيضاً.
كرر ألكسندر: "أجل، لو كنت قد جرؤت، لأصبحت مليارديراً – لكنني كنت خائفاً.

"ترجع الحكاية إلى عشر سنوات خلت. لم أكن أملك مالاً كثيراً – فحالي بالأمس كحالي اليوم – أو بالأحرى لم أكن أملك مالاً بالمرة؛ على أنني، بشكل أو بآخر، كنت أشق طريقي وأواصل العيش بشكل معقول بما يكفي عموماً. كنت أقيم بشارع شريف باشا. وكان البيت يخص أرملة إيطالية. كانت شقتي تتألف من ثلاث غرف مؤثثة بأثاث جميل، وكانت عندي خادمة، ناهيك عن صاحبة العقار التي كانت مستعدة لعمل أي شيء من أجل راحتي وهنائي.

"كنت قد ذهبت ذات مساء إلى روسيني. ولما كنت قد سمعت هناك ما يكفي من الهراء، فقد قررت مغادرة المكان والعودة إلى البيت لأنام. كان عليّ أن أستيقظ مبكراً في الصباح التالي، لأنني كنت مدعواً إلى رحلة إلى أبو قير.
"عندما دخلت غرفتي، رحت كالعادة أتحرك فيها، مستعيداً أحداث اليوم. لكنها لم تكن مهمة، وسرعان ما استولى عليَّ الخدر، فرقدت مستسلماً للنوم.

"لابد أنني نمتُ ساعة ونصفاً أو ساعتين دون حلم، إذ أذكر أنني استيقظتُ ربما بعد ساعة من منتصف الليل بسبب جلبة في الشارع، وبوسعي أن أتذكر أنني لم أحلم. استلقيت للنوم مرة أخرى نحو الواحدة والنصف، وبدا لي عندئذ أن رجلاً قد دخل غرفتي – متوسط القامة، في نحو الأربعين من عمره. كان يرتدي نوعاً ما ثياباً سوداء وقبعة من القش. وقد بان من يده اليسرى خاتم تزينه زمردة جد كبيرة. صدمني ذلك لكونه لا يتماشى مع بقية ملابسه. كانت له لحية سوداء تتخللها شعرات بيضاء، وكان في نظرته شيء خاص، فهي نظرة ساخرة وسوداوية في آن واحد. لكنه بشكل عام، كان يبدو شخصاً عادياً تماماً، كأي واحد نصادفه مراراً وتكراراً. سألته ماذا يريد مني. لم يجب على الفور، بل رمقني بنظرة فاحصة لدقيقة طويلة كما لو كان مرتاباً، أو كما لو كان لكي يتأكد من أنه لم يخطئ ضالته. ثم تكلم بنبرة، متوسلة، ذليلة:
" " أنت فقير. أعرف ذلك. ولذلك جئت إليك لكي أدلك على طريق يمكن أن تصبح عبره ثرياً. أعرف موضعاً قرب عمود السواري يرقد مدفوناً تحته كنز ضخم. لا أريد شيئاً من هذا الكنز لنفسي – سآخذ صندوقاً صغيراً من الحديد، يوجد أسفل الكنز. وما عدا ذلك، كل ذلك الكنز، سوف يكون من نصيبك".
"سألته: "ومم يتكون هذا الكنز الضخم؟"
"قال: "من عملات ذهبية، لكنه يتكون أساساً من أحجار كريمة. هناك عشرة أو اثني عشر حُقاً ذهبياً تمتلئ كلها بالماس واللؤلؤ وأظن " – كما لو كان يحاول التذكر – " أن بها ياقوتاً أزرق".

"عجبت لماذا لم يذهب وحده لأخذ ما يريد، ولماذا يحتاجني. وقبل أن يتسنى لي طرح السؤال أجاب: "بوسعي رؤية ما يجول بخاطرك. أنت تتساءل، لماذا لا أذهب أنا وآخذ ما أريده بنفسي؟ هناك سبب لا يمكنني ذكره لك، ويمنعني من عمل ذلك. بعض الأشياء لا يمكنني القيام بها حتى أنا نفسي". عندما قال "حتى أنا نفسي"، أشرق شيءٌ من اللمعان من نظرته، ولثانية قلب كيانَه شعورٌ بالعظمة المريعة. لكنه استعاد على الفور مسلكه المتواضع. "هكذا سوف تسدي لي معروفاً جليلاً بالمجيء معي. فأنا بحاجةٍ ماسة إلى أحدٍ ما، وقد اخترتك لأنني أتمنى لك الخير. قابلني غداً. سوف أنتظرك منذ الظهيرة حتى الرابعة بعد الظهر، في الميدان الصغير، في القهوة المتاخمة لدكاكين الحدادين".
"وما إن قال ذلك اختفى.

"وعندما استيقظت في الصباح التالي، كان الحلم قد تلاشى تماماً من ذهني. لكنه بعد أن غسلت وجهي وجلست لتناول طعام الإفطار، عاد، وبدا لي غريباً تماماً. قلت لنفسي "آه لو كان ذلك صحيحاً"، ثم نسيته مرة أخرى.
"انضممتُ إلى الرحلة إلى الريف وقضيت وقتاً جد ممتع. كنا مجموعة كبيرة – نحو ثلاثين رجلاً وامرأة، كانوا كلهم في حالة معنوية مرتفعة بشكل غير عادي. لن أروي لكما تفصيلات الرحلة، فهي لا تتصل بموضوعنا".
هنا قال صديقي د. : "ولا ضرورة لها. لأنني أنا على الأقل أعرفها. فقد اشتركت في تلك الرحلة، إن لم أكن مخطئاً".
"هل كنتَ معنا؟ لا أذكر أنك قد جئت".
"ألم تكن تلك هي الرحلة التي أعد لها ماركوس ج. ، قبل رحيله النهائي مباشرة إلى انجلترا؟"
"بلى، تلك هي. تتذكر إذاً مزاحنا. لقد كانت أزمنةً رائعة. أو بالأحرى، أزمنة ولت منذ زمن بعيد. والأمر سيان. ولكن لنعد إلى حكايتي – عدت من رحلتنا مجهداً تماماً وفي وقتٍ جد متأخرٍ من المساء. كان من الصعب عليَّ أن أجد متسعاً لأغير ملابسي ولأتناول العشاء، قبل أن أتجه إلى منزل بعض الأصدقاء حيث كانت أمسية عائلية للعب الورق على قدم وساق، حيث بقيت، مواصلاً اللعب حتى الثانية والنصف ليلاً. ربحت ليلتها مائة وخمسين فرنكاً وعدت إلى البيت، أكثر من مسرور. وتمددت على فراشي مرتاح القلب ثم استولى عليَّ النومُ فوراً، إذ كنت مُجهَداً جراء يوم طويل حافل.

"لكنني ما كدت أنام حتى حدث شيء غريب. رأيتُ نوراً في الغرفة، وعجبت لماذا لم أطفئه قبل الذهاب إلى الفراش، وعندئذ رأيت قادماً من عمق الباب – كانت غرفتي جد واسعة – رجلاً تعرفت عليه فوراً. كان يرتدي الملابس السوداء نفسها، وقبعة القش العتيقة نفسها. لكنه بدا مستاءً، وقال لي: "انتظرتك منذ الظهيرة وحتى الرابعة في القهوة. لماذا لم تأتِ؟ أدلك على سبيل الثراء، ولا تقفز إليه؟ سأنتظرك مرة أخرى في القهوة بعد ظهر اليوم، من الظهيرة إلى الرابعة. لا تتأخر عن المجيء". وعندئذٍ، كما في الليلة السابقة، اختفى.

"لكنني هذه المرة استيقظت وقد استولى عليَّ الرعب. كانت الغرفة مظلمة. أضأت اللمبة. كان الحلم حقيقياً وحَياًّ إلى حدٍ مثير، بحيث إنني وجدت نفسي معه في حالة من الذهول والهلع. لم يكن بوسعي مقاومة النهوض للتأكد من أن الباب كان مغلقاً. فوجدته مغلقاً، كالعادة. نظرت إلى الساعة، كانت الثالثة ونصفاً، وكنت قد ذهبت إلى الفراش في الثالثة.

"لا أخفي عليكما، ولا أخجل البتة من الاعتراف بأنني كنت مرتاعاً جداً. لقد خفت أن أغمض عينيَّ حتى لا أرى مرةً أخرى زائري الخيالي، إن استولى عليَّ النوم. جلست على مقعد، وكل أعصابي مستثارة. ونحو الخامسة، بدأ النهار يطلع. فتحتُ النافذة وراقبتُ الشارع وهو يستيقظ تدريجياً. كانت أبواب قليلة قد فُتحت، وكان أوائل بائعي اللبن القلائل يمرون، وكانت تمر عربات أوائل بائعي الخبز. أدخل ضوء النهار السكينة إلى نفسي نوعاً ما، وتمددت على الفراش مرة أخرى، ونمتُ حتى التاسعة.

"عندما استيقظت، وتذكرت الأرق الذي انتابني خلال الليل، أخذت صورهُ تفقد الكثير من قوتها. بل إنني قد تعجبت لاستسلامي لمكابدات تلك الحالة. فكل إنسان يحلم بالكوابيس – وقد حلمت بكثيرٍ منها في حياتي. ثم إن هذا الحلم يصعب أن يكون كابوساً على الإطلاق. صحيح أنني قد حلمت الحلم نفسه مرتين. فعلى أي شيء يدل ذلك؟ وبادئ ذي بدء، هل حلمته مرتين فعلاً ؟ أليس من المحتمل أنني حلمت أنني رأيت الرجل نفسه مرة ثانية ؟ وبعد أن راجعت ذاكرتي جيداً، استبعدت هذه الفكرة. لاشك في أنني حلمت بالحلم قبل ذلك بليلتين. وحتى لو كان الأمر كذلك، فلماذا يجب أن أعتبر ذلك غريباً؟ يبدو أن الحلم الأول كان جد قوي، وأن أثره عليّ كان من القوة بحيث إنني قد حلمته مرة أخرى. لكن منطقي، هنا، كان هشاً إلى حدٍ ما. لأنني لا أذكر أن الحلم الأول قد أثر عليّ بهذه الدرجة. فعلى مدار اليوم التالي له، لم أفكر فيه للحظة. وفي الرحلة، وفي لقاء ذلك المساء، مر بخاطري كل شيءٍ يمكن تخيله، إلاَّ ذلك الحلم. فما الذي يدل عليه ذلك أيضاً ؟ ألا نحلم كثيراً بأشخاصٍ لم نرهم ولم نفكر فيهم لسنواتٍ طويلة ؟ يبدو أن صورتهم تظل منقوشة في مكانٍ ما داخل الروح، لتعاود الظهور فجأة في حلم. فما الغرابة في أن أحلم الحلم نفسه خلال أربع وعشرين ساعة، حتى وإن لم أكن قد تذكرته خلال النهار ؟ ثم قلت لنفسي لعلني قرأت في مكان ما عن كنزٍ مستتر، شغل ذاكرتي؛ لكن أي إمعانٍ في التأمل لم يذكرني بأنني قرأت أي شيءعن ذلك.

"أخيراً، إذ أرهقني التفكير، أخذت في ارتداء ملابسي. كان عليَّ أن أحضر عرساً، وسرعان ما أدت عجلتي ومسألة أي ثياب ألبس إلى إبعاد الحلم كليةً عن ذهني. عندئذ جلست لتناول طعام الإفطار، و، لتمضية الوقت، انهمكت في قراءة دورية صادرة في ألمانيا، أظن أنها دورية هيسبيروس.

"ذهبت إلى العرس، حيث التقيت كل شخصيات المجتمع الراقي الموجودة في المدينة. في تلك الأيام، كانت لي صلات كثيرة، ولذا كنت مضطراً، بعد الحفل، إلى أن أكرر مراتٍ لا حصر لها أن العروس جميلة، ولو أنها شاحبة إلى حدٍ ما، وأن العريس شاب وسيم، كما أنه ثري، وما إلى ذلك. ونحو الحادية عشرة ونصفاً، كان الحفل قد انتهى، فخرجت إلى محطة بولكلي لأتفقد بيتاً كنت قد سمعت عنه، لاحتمال استئجاره لأسرة ألمانية من القاهرة، كانت تعتزم قضاء الصيف في الإسكندرية. والواقع أن البيت كان يتمتع بحسن التهوية وكان رائع التنسيق، لكنه كان أصغر مما قيل لي. ومع ذلك، وعدتُ المالكة بأن أقول إنه مناسب. وبعد أن أغدقت عليّ هذه السيدةُ الشكرَ، وأملاً في أن تكسب تعاطفي معها، أخذت تحدثني عن كل عذاباتها، وكيف ومتى مات المرحوم زوجها، بل وكيف أنها زارت أوروبا وأنها ليست أصلاً ذلك النوع من النساء اللاتي يؤجرن بيوتهن، وأن والدها كان طبيباً خاصاً لباشا لا أذكر الآن اسمه، إلخ، إلخ. وبعد أن أديت هذه المهمة، عدت إلى المدينة. وصلت إلى شقتي حوالي الواحدة وتناولت غداءً طيباً. وبعد أن تناولت القهوة، خرجت لزيارة صديق كان نزله قريباً من قهوة باراديزو، آملاً أن نرتب شيئاً للمساء. كان ذلك في شهر أغسطس، وكانت الشمس حارقة. هبطت إلى شارع شريف باشا ببطء لأتفادى رشح العرق. وكما هو معتاد في مثل هذا الوقت، كان الشارع مهجوراً. لم أقابل غير محام طلبت إليه إعداد الوثائق المتصلة ببيع قطعة أرض صغيرة في محرم بك. كانت القطعة الأخيرة من أرضٍ كبيرةٍ تماماً كنت أبيعها قطعةً قطعة على فترات لكي أغطي جانباً من نفقاتي. والحال أن المحامي، وهو رجل نزيه – وهذا مبرر اختياري له – كان أيضاً ثرثاراً عظيماً. وكان الأفضل عندي أن يحتال عليّ قليلاً من أن يدفعني إلى الضجر إلى حد الخروج عن طوري بسبب هرائه. لقد كان يتذرع بأتفه الذرائع لكي ينطلق في ثرثرة لا تنتهي – فهو يتحدث عن القانون التجاري والقانون الروماني ويستدعي جوستنيان ويستشهد بقضايا قديمة كان قد ترافع فيها في أزمير، ويمتدح نفسه، ويكشف النقاب عن آلاف التوافه، بل ويمسك بطية صدر سترتك، وهو شيء لا يمكنني تحمله. وكان عليّ أن أصبر على ثرثرة هذا الأحمق لأنه كلما كانت قدرته على الكلام تخونه، كان بوسعي أن أطرح سؤالاً عن الصفقة التي كنت في أمس الحاجة إليها. وقد أخرجتني هذه المحاولات عن طوري، لكنني تحملته. وبعد السير على رصيف البورصة في ساحة القناصل، دخلنا إلى الشارع الصغير، المتصل بالميدان الصغير، حيث، حال وصولنا إلى مركزه أخيراً، كنت قد حصلت على كل المعلومات التي تهمني، ثم تركني المحامي ما إن تذكر عميلاً قريباً كان عليه أن يزوره. وقفت لحظة أراقبه وهو ينسحب، ولعنت هراءه الذي ضلل خطواتي في مثل هذه الحرارة والشمس الحارقة.
"كنت على وشك أن أعود في اتجاه قهوة باراديزو. عندما زلزلني فجأة أن أجد نفسي هنا في الميدان الصغير. قلت لنفسي "هنا حدَّدَ موعدَ لقائِنا صاحبُ الكنزِ الشهير" ، وابتسمت وأدرت رأسي تلقائياً إلى تلك الوجهة حيث توجد دكاكين الحدادين.

"ياللهول! لقد كانت هناك بالفعل قهوة صغيرة، وكان هو جالساً هناك بالفعل. كان رد فعلي الأول نوعاً من الدوار، وقد أحسست أنني على وشك السقوط. استندت إلى كشك تاجر، وعاودت النظر. إنها الثياب السوداء نفسها، والقبعة القش نفسها، والملامح نفسها، والنظرة نفسها. أما هو، فقد كان يراقبني، دون أن يطرف له رمش. توترت أعصابي كما لو أن توترها ناشيء عن نقل حديد سائل إليها. أصابني بالشلل خاطر أننا في عز الظهيرة – أن الناس يواصلون السير غير عابئين بشيء، كما لو أن شيئاً غير عادي لا وجود له، بينما أنا، أنا وحدي، أعرف أن أكثر الأشياء إثارةً للرعب ماثل: أنه يجلس هناك شبح يملك ما لا أحد يدري من القدرات ويجيء من أي عالم لا نعرف عنه شيئاً، من أي جحيم، من أي ظلام سحيق. رحت أرتعد. لم تحد قط نظرةُ الشبح عني. فاستولى عليَّ الرعب من أن ينهض من مكانه ويدنو مني – ويتحدَّث إليّ – ويأخذني معه! فلو حدث ذلك، ما العون الذي يمكن أن تقدمه لي أية قوة بشرية؟ قفزت في عربة حنطور، طالباً من الحوذي أن يسرع بي إلى ناحية نائية لا أتذكرها الآن.

"وعندما تمالكت نفسي قليلاً، انتبهت إلى أننا قد وصلنا تقريباً إلى سيدي جابر. وإذ أصبحت أكثر هدوءاً، بدأتُ في تأمل ما جرى. طلبت من الحوذي أن يرجع بنا إلى المدينة. قلت لنفسي "إنني مجنون، لقد خدعت نفسي. لقد كان شخصاً شبيهاً بالرجل الذي رأيته في الحلم. يجب أن أرجع لأتأكد من ذلك. والأرجح أنه سيكون قد غادر المكان، وهو ما سوف يثبت أنه ليس الرجل نفسه – لأنه كان قد وعد بأن ينتظر حتى الرابعة".

"عندما اكتملت هذه الأفكار في رأسي، كنتُ قد وصلت إلى مسرح زيزينيا؛ وهنا، مستجمعاً كل شجاعتي، طلبت من الحوذي أن يتوقف، شاداً يده بعنف بحيث إنه كان على وشك السقوط عن مقعده، فقد كنا نقترب جداً – جداً – من القهوة؛ ولأنه كان هناك، هناك كان الشبح جالساً لا يزال.

"قررت أن أفحصه بإمعان نظر، آملاً في أن أجد اختلافاً ما بينه وبين الرجل الذي رأيته في الحلم، وكأن هناك حاجة إلى برهان أكثر من واقع جلوسي في عربة حنطور وتحديقي فيه بنظرة تخترق صميمه بحيث إن أي شخص سواه كان من الطبيعي أن يعتبر ذلك شيئاً غريباً وأن يسأل عن سببه. وهو مالم يحدث بالمرة، فقد رد على نظرتي بنظرةٍ نافذةٍ مثلها، وكان تعبير وجهه يدل تماماً على أن الخيار الذي يواجهني يستبد بفكره. وبدا أنه يقرأ أفكاري، مثلما قرأها في حلمي، ولكي يريحني من أي شكٍ حول شخصه، حول يده اليسرى نحوي كاشفاً – بشكل جد ملحوظ بحيث إنني خشيت أن يلحظ ذلك الحوذي – عن خاتم الزمرد الذي كان قد صدمني به في حلمي الأول.

"صرخت رعباً وطلبت إلى الحوذي، الذي كان آنذاك قد أصبح قلقاً على صحة زبونه، أن يأخذني إلى ميدان الرمل. كان هدفي الوحيد هو الابتعاد بعيداً جداً. وعندما وصلنا إلى ميدان الرمل طلبت إليه أن يتجه إلى سان ستيفانو، ولكنني عندما رأيت الحوذي متردداً، يكلم نفسه، نزلت من العربة ودفعت له أجرته. أوقفت عربة أخرى وطلبت إلى حوذيها أن يتجه بي إلى سان ستيفانو.

"وصلت في حالة مريعة. وعندما دخلت قاعة الكازينو الرئيسية، هالني منظر وجهي في المرآة – لقد كان شاحباً شحوب جثة. ومن حسن الحظ أن القاعة كانت خالية. ارتميت على كنبة وحاولت التفكير في خطوتي التالية. كانت العودة إلى البيت مستحيلة. فمن غير الوارد أن أعاود الدخول إلى تلك الغرفة التي تسلل إليها، ليلاً، كخيالٍ غيبيٍ، ذلك الذي رأيته الآن لتوي جالساً في قهوة عادية تحت مظهر إنسان عادي. لكن هذا منطق فاسد من جانبي، لأنه، بطبيعة الحال، يملك القدرة على أن يصل إليَّ في أي مكان على الأرض. لكنني ساعتها كنت لوقت معين فاقداً رشدي.
"وبعد لأي قررت العثور على صاحبي ج. ف. في محرم بك".
سألتُ: " أي ج. ف. ؟ غريب الأطوار الذي اعتاد قضاء وقته في دراسة السحر؟"
"هو بعينه – وقد لعب ذلك دوراً في اختياري له. أما كيف ركبت القطار، كيف وصلت إلى محرم بك، متلفتاً يميناً ويساراً كمجنون في رعب من أن يظهر لي الشبح مرة أخرى إلى جواري، وكيف وصلت إلى غرفة ج. ف. ، كل هذا لا يمكنني تذكره إلاَّ بشكلٍ غائم ومشوش. كل ما أذكره هو أنني وقد وجدت نفسي معه أخيراً أخذت أبكي بشكلٍ هستيري، مرتعداً من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، وأنا أحكي له محنتي المريعة. تمكن ج. ف. من تهدئتي، وقال لي، شبه جاد، شبه مازح، ألاَّ أخاف؛ وأن الشبح لن يجرؤ أبداً على دخول بيته، وأنه لو دخل، فسوف يطرده فوراً. قال إنه يعرف هذا النوع من الأشباح الغيبية، كما أنه يعرف سبل طردها. ثم توسل إليَّ أن أصدق أنني لم يعد لديَّ أيّ مبرر للخوف، لأن الشبح كان قد جاء إليَّ من أجل هدف محدد، هو الحصول على "الصندوق الحديدي الصغير"، والذي يبدو أنه كان عاجزاً عن تحقيقه دون وجودِ ومساعدةِ إنسان. وقد فشلت هذه الخطة؛ ولابد أن الشبح قد أدرك الآن، من هلعي، أنه لم يعد أمامه أي أملٍ في النجاح. ولاشك في أنه سوف يحاول إقناع شخص آخر. وكل ما أعرب ف. عن أسفه بشأنه هو عدم اتصالي به في الوقت المناسب حتى يتسنى له الذهاب ورؤية الشبح والتحدث معه، لأنه، كما أوضح، تَرِدُ إشارةٌ في كتاب تاريخ الأشباح إلى أن ظهور هذه الأرواح أو الشياطين في عزِّ النهار غير عادي إلى حد بعيد. لكن كل هذا الكلام لم يفلح في تهدئة خاطري. قضيت ليلة جد قلقة واستيقظت في الصباح التالي مصاباً بالحمى. والحال أن جهل الطبيب وتوتر جهازي العصبي قد تسببا في إصابتي بحمى دماغية، كنت على وشك الموت بسببها. وعندما تماثلت للشفاء إلى حدٍ ما، سألت عن تاريخ اليوم. كنت قد رقدت على فراش المرض في الثالث من أغسطس، وتصورت أننا في السابع أو الثامن منه. لكنه كان الثاني من سبتمبر.

"لكن رحلة قصيرة إلى جزيرة في بحر إيجه، عجلت وأكملت شفائي. قضيت فترة مرضي كلها عند ف. الذي اعتنى بي بكل ما تعرفانه عنه من لطف ورقة. كان مستاءً من نفسه لأنه لم يكن لديه من قوة الشخصية ما يكفي لأن يطرد الطبيب، ولأن يتولى معالجتي بالسحر وحده، الذي أعتقدُ أنه كان بوسعه أن يشفيني، في هذه الحالة على الأقل، بالسرعة نفسها التي شفيت بها على يد الطبيب.
"هاكما، صديقاي : فرصتي في أن أصبح مليونيراً – وكل ما في الأمر هو أنني لم أجرؤ. لم أجرؤ ولست نادماً على ذلك".
هنا توقف ألكسندر عن الكلام. كانت الثقة التامة والبساطة التامة اللتان روى بهما ما حدث له كافيتين لاستبعاد أي تعليق قد يعنُّ لنا. ثم إن الساعة كانت سبعًا وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل. وبما أن القطار الأخير المتجه إلى المدينة يتحرك في الثانية عشرة ونصفاً، فقد كنا مضطرين إلى توديعه والخروج مهرولين إلى الشارع.


ترجمة بشير السباعي عن الإنجليزية

0 التعليقات: