شعرية الهبة

دنيا أبو رشيد



قراءة في إهداءات دواوين أنسي الحاج



ترجمة بشير السباعي

أنسي ودنيا


إلى الأغلى، إلى الأجمل، التي تغمر بالنور قلبي، إلى الملاك، إلى المعبودة السرمدية. (بودلير)

الإهداء تحية يقدم بها كاتب عمله إلى شخص ما، عبر كلمة مطبوعة على رأس العمل. إلا أن هذه التحية يمكن أن يتم التعبير عنها بثلاثة أشكال مختلفة. وأول هذه الأشكال يتمثل في قيام المبدع بتوقيع نسخة من عمله بصفة شخصية، كما يفعل أحد المغنين عندما يهدي شريطه، مصحوبا بتوقيعه، لواحد من المعجبين.. أمٌا الشكل الثاني للتعبير عن الإهداء فهو يتمثل في إخضاع العمل الإبداعي لمقصد مسبق، يحكم تنفيذه، وفي هذه الحالة يندرج العمل الإبداعي في خانة نوع أدبي وشكل خطابي محدد (التحيات، الكلمات القصيرة التي تُلقى في مهرجانات التكريم، المديح وقصائد المناسبات المعروفة جيدا في التراث الشعري العربي) ، لكن الشكل الذي يهمنا هو الشكل الذي يدرج العمل الإبداعي في المجانية الفنية، والذي ينطلق في مجانية الهبة التي تصبح منذ تلك اللحظة احتفالا مطلقا، بما يفتح مجالا للثناء الموجه إلى الفوز بانتباه واهتمام شخص ما _ وليس بعد كمجرد تحية له. ومن ثم يكون الإهداء، كما قال رولان بارت، "حدثا لغويا يرافق كل هدية عشق، فعلية أو منتواة و، بشكل أعم، كل إيماءة، فعلية أو باطنية، تهدي بها الذات شيئا ما إلي المحبوب" .

والإهداء شائع عموما في النصوص التي تحمل العلامة الأكثر وضوحا للإهداء، والتي تتمثل في استخدام أداة الجر: إلى أو حرف الجر: ل. والحال أن أنسي الحاج، في منطقه التقويضيّ المطلق، إنما يدخل أصالة جديرة بالإعجاب في أشكال كتابة الإهداء.


ديوان 'لن'
إلى زوجتي


إهداء الديوان الأول، ديوان فترة الشباب، هو وحده الذي يظل مندرجا في مسار استخدام تقليدي للإهداء: إلى زوجتي. وإنه لأكثر من مدعاة للاستغراب، عندما نعرف الإهداءات الأصيلة المرتبطة بنصوص غنائية كـ ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة، أو كـ الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع، أن نرصد تقليدية، بل سطحية إهداء الديوان الأول، الأكثر تقويضا في مضمونه وفي لغته.


فهل يعني ذلك أن الشاعر لم يكن قد بلغ بعد نضجه، أو أن هذا الإهداء تحية بالفعل من جانب عاشق أبدي _ ومن العاشق المفتون الذي سوف يكتشفه في نفسه فيما بعد _ لتلك التي اصطفاها في حياته الواقعية، لتلك التي يتعذر العثور عليها في الديوان إن لم يكن خلف قسمات المرأة التي يتواري خلفها:


يُسلمني النوم، ليس للنوم حافة، فأرسم على الفراش طريقة: أفتح نافذة وأطير، اختبي تحت امرأتي.


أو أيضا، خلف قسمات أم ثانية، لكنها لا تقوم مقام الأم الراحلة.


دون أن أزعم الخوض في البعد الخاص بسيرة الشاعر، لا شك أن هذه المرأة هي، بكل بساطة، تلك التي تحملت ورافقت الجنون التدميري لمؤلف ديوان كـ (لن) . فالإهداء المعبر عنه بهذا الشكل (إلى زوجتي)، والمكتوب بخط اليد وليس بحروف الطبع، إنما يصور الشاعر كضحية بالمعنى التضحوي للمصطلح: فشاعر لن، في اللحظة التي يعبر فيها عن إهدائه (حيث يجيء هذا الإهداء، عادة، بمجرد الانتهاء من تأليف العمل) لا يمكن في الواقع إلا أن يكون مستنزَفا من جراء سيرٍ خبطَ عشواء إلى هذا الحد.


الرأس المقطوع
انتفاء الإهداء!


علي سبيل التفسير، يمكن أن نقول إن غياب الإهداء إنما يتماشى عموما مع فترات اعتزال الشاعر. والكلام ينطبق هنا علي الفترة التالية لصدور لن، ذلك أن الثورة المأمولة لم تحدث، على الأقل في الاتجاه وبالمعنى الذي كان الشاعر يصبو إليه: تغيير الحياة!. والقول نفسه ينطبق على الديوان السادس الذي صدر بعد سنوات من الصمت.


بيد أن "القصائد" كما يشير إلي ذلك باول تسيلان الذي لا يرى فارقا بين مصافحة وقصيدة، "إنما تُعد هي أيضا هدايا". ويوضح رولان بارت محقا أن "المرء لا يمكنه مناولة اللغة (إذ كيف يمكن نقلها من يد إلي أخرى؟)، بل يمكنه إهداؤها _ فالآخر إله صغير. والشيء المُهدى إنما يذوب في كلمة النذر الجليلة، المهيبة، في إيماءة الإهداء الشعرية، والهبة تكتسب زخما في الصوت الوحيد الذي يقولها ... ".


ومن ثم يكون إهداء قصيدة بمثابة تقديمها كهدية، منحها ومن ثم منح شيء من ذات مهديها، وهو شيء ثمين. وعندئذ يتم التعويض عن غياب الإهداء بإيماءة تجعل الشعر نفسه نوعا من القربان. وعبر هذه الإيماءة، هناك نوع من توليد الكتابة الشعرية يعبر عن نفسه، بما يجعل من القصيدة موقعا مقدسا حيث تحتفظ القصيدة بعلاقة مؤرقة مع القربان..


وهكذا، فعلى غرار فيرلين الذي يقدم قلبه قرباناً "هاك قلبي!" ، يقدم أنسي الحاج رأسه قرباناً. والإهداء غائب عن الديوان لأن الديوان يتضمن (منذ العنوان) التنازل عن أغلى ما في الكائن، رأسه. ثم إن الشاعر، مقطوع الرأس، إنما يقدم نفسه ممتنعا عن استهلال ديوانه بصيغة من صيغ الإهداء، إذ يبدو أن من المستحيل عليه توجيه إيماءة المنح الخاصة، لأن المنح إنما يؤول بالنسبة له، في مرحلة قطع الرأس هذه، إلى تلطيخ وإثارة رعب وهلع المحبوب (أو القارىء).


ديوان ماضي الأيام الآتية
إليَّ


من الاتجاه إلى أو لذاتٍ أخري غير الشاعر، يتجه الإهداء هنا إلى كاتبه (إليَّ)، بما يشكل ذروة توليد الكتابة الشعرية، ذروة التعبير عن نرجسية أكيدة لدى الشاعر عبر إيروسٍ (بالمعنى الأفلاطوني) محتدم.


فالشاعر، "يستسلم للتراب"، ليس بمعنى اضطراره إلي "معانقة" "الحقائق الواقعية الفظة" (حسب عبارة رامبو) بل بمعنى الاستسلام لما هو جوهري، أي للحياة بألف ولام التعريف. وذلك كما لو أن الشاعر يتبنى كلمات بندار: "آه يا روحي الغالية، لا تطمحي إلى الحياة الخالدة، بل استنفدي حيز الممكن" مع تفاوت طفيف: فحيز الممكن المقصود هنا هو الحب، هو معرفة الجوهر الأنثوي.


والإهداء إلى الذات يتطابق في هذا الديوان مع استبطان يتم القيام به انطلاقا من الدواوين الأولى. وهو يترافق مع تأمل للماضي الشعري في الاتجاه الذي يسائل فيه الديوان الكتابة العنيفة والتقويضية المميزة للديوانين الأولين، بيد أن هذا أيضا عمل عميق يتفحص به الشاعر نفسه، فيجعله يستكشف أغوار كينونته الأعمق ويقود إلى المعرفة النهائية (وهو ما يعيد إلينا صيغة أراجون الشهيرة) والتي سوف تحدد ملامح الدواوين التالية: "وعلمت شيئا: احتلت المرأة مكاناً في المستقبل: سوف تكون الماضي".


والواقع أنه انطلاقا من هذا الاكتشاف إنما يحدث انقلاب التوجه الشعري عند أنسي الحاج. فهو يهدي ديوانه لنفسه لأنه علي حافة التنازل عن كل شيء، حيال المحبوبة، حيال الرقة، حيال الحب. وهو يهدي لذاته كما لو أنه يستجيب لحاجة أساسية، بحسب ريلكه ، قوامها العمل علي الذات قبل أن ترتمي أو أن تنسكب في الآخر بما هي عليه من انعدام للتماسك ونزو وتلعثم وارتباك وتشوش. وإذ يشدد ريلكه على ضرورة توافر وحدة باطنية عظمى لأجل الإبداع، فإنه يشير أيضا إلي الدور المهم الذي يلعبه هذا المجهود الاستبطاني في الحب: "الحب صعب. فالتحاب من كائن بشري نحو كائن بشري آخر، ربما كان أصعب مهمة يمكن أن تفرض علينا، فهو أقصى وأسمى امتحان وبرهان، وهو المجهود الذي ليس من شأن أي مجهود آخر بالنظر إليه أن يكون سوى تمهيد ".


فالحب شاق وفادح. وتيمة المشقة والفداحة محورية لدى ريلكه كما لدى أنسي الحاج. فهي ترتبط بتيمة العمق التي تستدعي" إنسان الأعماق" لدى نيتشه والذي يعد ثقيلاً إلي أبعد حد، و"يسقط بلا توقف، لكي يهبط أخيرا، إلي الأعماق". وفي هذا الصدد يلخص ريلكه على نحوٍ يدعو إلي الإعجاب، السيرورة التي يتحقق بموجبها هذا المجهود الذي يبذله أنسي الحاج كيما يخرج أخيرا من مرحلة السير خبط عشواء ويلج المرحلة الغنائية: "ينبغي أن تكون بالنسبة لنفسك كونا، وأن تكون فداحة مشقتك في مركزك وأن تجتذب هذا المركز. ويوما ما، سوف تمتد قوة جاذبية هذه الفداحة إلى ما هو وراءك، إلي مصير، إلى كائنٍ بشري، إلى الله. وعندئذ، عندما تصل إلى أقصى مدى لها، سوف يدخل الله في مشقتك".


ومن ثم فالعمل على الذات متضَمن برمته في الإهداء إلى الذات. والمصير هو الحب. والكائن البشري هو المرأة. وهذه الأخيرة سوف تقود الشاعر إلى الله في الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع!


ماذا صنعت بالذهب
ماذا فعلت بالوردة

منكِ


ينعكس انقلاب كتابة أنسي الحاج من ثم أيضا في صيغ الإهداء، فالتوجه الذي اتخذه الشاعر في الديوان الثالث إنما ينبئ بإهداء الديوان الرابع ويشكل دافعا ويقدم تفسيرا لهذا الإهداء.


بل إن الانقلاب إنما يحدث في التقليد المرتبط بالإهداء: فبدلا من إلى أو لـ، ومن ثم بدلا من أن ينبع الشيء المُهدى من الكاتب لكي يذهب إلى شخص آخر، ترسَلُ إليه الهبة، نجد أن أنسي الحاج يقدم التحية إلى المرأة المحبوبة بعزوه النص إليها، وليس بعد بإهدائه إليها: "منكِ".


وأداة الجر "من" يمكن أن تعني المكان الذي يأتي منه المرء (هو آتٍ من بيروت) أو الزمان (من البداية). كما أنها تشير إلى الأصل (هو من بيروت). وهذا يوضح حجم استنتاجات الديوان الثالث المطروحة هنا، فالمرأة هي نبع القصيدة، نبع الكتاب، وهي ليست نبعا بمجرد المعنى الشعري لنبع الإلهام (ليس بهذا المعنى وحده علي الأقل) بل هي النبع بمعناه الرمزي من حيث هو مبدأ وأصل، بل سبب الوجود ومبرر الوجود. كما أنها النبع بمعناه الخاص من حيث هو مكان الارتواء الذي يمتد إليه شعر الرسولة.


وهكذا نجد أن إهداء هذا الديوان الرابع إنما يتميز بشكل حاسم عن الإهداءات السابقة بالاستخدام الأصيل للأداة "من" وإن كان أيضا بكتابته الخطّية علي بياض الصفحة: فخلافا للإهداء السابق الذي كان مكتوبا بحروف الطبع، نجد أن "منكِ" بخط اليد، أي من يد الشاعر مباشرة. وخلافا للديوان الأول الذي كان إهداؤه أيضا مكتوبا بخط اليد لكن بحروف صغيرة الحجم فيها شيء من الخوف والخجل والتقوقع، نجد أن إهداء "منكِ" مكتوب بحروف أكبر وأكثر دائرية وحرارة وانفتاحا وأنوثة وحسية (والقراءة نفسها تنطبق على الإهداء التالي). وهذا يوضح مدي سخاء إيماءة منح النص الذي يرتبط به هذا الإهداء. فقصائد ماذا فعلت بالذهب تعد منذ تلك اللحظة هدايا توضح حضور الشاعر الذي يحتفي بحضور محبوبته فيه. فهو يمنحها ما يدين به لها، أي يعيده إليها. وهو ليس سوى ناقل. لكن ما ينقله إنما يعد فادحا جدا بالنسبة له وحده: وإهداء قصيدة إنما يعني منحها، والحال أن القصيدة من لغة، أي أنها رؤية معينة للعالم يتم التعبير عنها من جانب الشاعر، ووفق توزيع معين. ومن ثم فإن الشاعر إنما يسلم نفسه بالكامل، أي يتمومس، إذا ما اجترأنا على تطبيق تعبير بودلير على هذا العاشق الذي هو، منذ تلك اللحظة، مملوك ولا يملك شيئا في آن واحد.


الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع
مغلوبكِ


"ساعدني / ليكن فيّ جميع الشعراء / لأن الوديعة أكبر من يديّ ".


يبلغ الضنى وسلب اللب والولع أقصى مدى. وإهداء الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع هو عين تجلي الحب من خلال فناء المحب في المحبوبة، وخضوعه لها. وبما يشكل أوجا لشعرية الهبة الحاجية، نجد أن الشاعر يهب أيضا ما يعوزه.


وإذا كانت "منكِ" تعبر عن الاتحاد في الآخر، فإن تعبير "مغلوبكِ" إنما يعد مستلهما من روح الديوان حيث يعلن الرجل إذعانه للرقة. فالشاعر يستسلم أمام سلطة الضعف الذي تمثله المرأة، العظيمة بنعومتها وقدرتها على العفو وخصوصا برقتها ("غلبتني الرّقة"). تلك الرقة جد الغالية في نظر ريلكه الذي يشبهها بالشهد الذي يدخره المرء للمستقبل، "نحن نحلات اللامرئي. نجني بجنون شهد المرئي، كيما نراكمه في قفير اللامرئي الذهبي الشاسع".


هنا نجد مثالا صارخا للهبة المجانية والتي تطالب في الوقت نفسه. فهو إذ يهب كلمات، إنما يطالب بالحب. والحال أننا نعرف إلي أي مدى تعتبر العلاقة باللغة إيروتيكية عند أنسي الحاج. فالقصيدة جد الطويلة هي من هذه الزاوية محاكاة للحب الذي يريد الانصهار، الفناء. والجمل الطويلة، النفس المتواصل، إنما يحاكي الحالة الدائمة _ المشتهاة _ لمتعة الاتحاد بالآخر، متعة احتواء الآخر مثلما تحتوي الجمل الكلمات ومثلما تحتوي الصفحات الجمل ومثلما يحتوي الديوان القصيدة.


إلا أننا لا يجب أن ننخدع، فالنشوة إنما يتم بلوغها بمخاطبة الآخر، بالحلم به. والحال أن الشعر هو من حيث جوهره تعبير عن الغياب، عن الفقد. وبهذا المعنى، فإن القصيدة الممنوحة إنما تظل "في الطريق"، فهي" تتجه صوب شيء مجهول، صوب مكان مفتوح يتوجب حصاره، صوب أنت قابل للمناداة، صوب واقع يتعين استحضاره".


والمرأة في شعر أنسي الحاج نوع من التجريد، فهي الحاضرة _ الغائبة. ومن ثم فإن كل المجهود الشعري إنما يتمثل في تأكيد حضور هذا الغياب، فهو غياب مُشتهى بشكلٍ ما لكي تظل الرغبة مقيمة. ولا شك أن ذلك هو ما يدفع باول تسيلان إلى تشبيه القصيدة بـ "زجاجة ملقاة في البحر، متروكة على أمل أن يتم يوماً ما، في مكان ما، التقاطها على شاطيء، ربما شاطيء القلب". وهذا هو ما يقوله نزار قبانـي (1923­-1997 ) في تصديرٍ لـ "قالت ليَ السمراءُ":


شعري أنا قلبي... ويظلمني
من لا يرى قلبي علي الورق


ديوان "الوليمة"
انتفاء الإهداء


يصدر ديوان الوليمة بعد نحو عشرين عاما من الصمت. وهو ديوان خيبة الأمل، ديوان تهاوي القوى، لكنه أيضا ديوان تسوية الحساب، مع الشعر ومع الشعراء ومع عبثية الوجود. والديوان، الخالي من صيغ الإهداء، إنما يقدم نفسه عبر عنوانه كمثال صارخ على القربان بالمعنى المباشر. فإذا كان الشاعر يستغني عن صياغة إهداء يُقدّم به ديوانه، فما ذلك في واقع الأمر إلا لأنه يقدم نفسه قربانا للقارئ في مأدبة.


فالقصيدة "هبة" مجانية وسخية. والحال أن السخاء إنما يفترض خسارة، إنفاقا لفظيا من جانب من يهب كلاماً، إنفاقاً عاطفياً من جانب من يفضي بحالة روحية، بعاطفة، ويتعرى ويجعل نفسه مهدَّدا ومحل مساءلةٍ، وإنفاقاً مادياً من جانب من يقوم، علي حافة هاويته، بإبعاد موضوع رغبته حتى يشتهيه اشتهاءً أفضل.


والواقع أن الوليمة إنما يقدم تشكيلة معجمية مدوِّخة تدخل في باب الهاوية والخسارة والسقوط والفقد، إذ يقيم المرء وليمة تكريما لشخص ما. وسوف يكون بوسعنا تخمين أن الوليمة إنما تقام هنا تكريما للمحبوبة. والحال أننا نجد في القصيدة قبل الأخيرة، والتي تحمل عنوان المتفرج المجهول (والذي قد يكون القارئ مثلا)، أن أنسي الحاج يفضي بما يلي:


لم أكن أعرف،
أن الوليمة التي دعوت إليها بغباوة ألمي، لعنة ودمار
وأن الوليمة التي دعيت إليها هي روحي وجسدي.


ويظل الشاعر بالرغم من كل شيء جائعا:


جائع، تسمعون جائع وظمآنا، و:


النبع، أكثر حزنا من العطشانة


ومن ثم لا تكفي القصيدة للتجاوب مع رغبة الشاعر في غمر محبوبتة بالهدايا، إذ يعلن الشاعر "في أحد الأيام سيرجع الكون جميلا": "ففي بلادنا أنا وأنت، العاشق لا يهدي حبيبته أقل من حياته"


بيد أن التعبير المأساوي الذي يميز علاقة المحبين عند أنسي الحاج إنما يصل إلي أقصى توهج له في قصيدة يوم بعد المطر على الأخص:


"- ما هو الوعد؟
- ­ يوم بعد المطر.
- ­ ماذا تقطفين؟
- ­البستان والعالم.
- ­ ماذا تتركين له؟
- ­ صوت الصيف ليناموا.
- ­ ما اسمك؟
- ­ اسمي على الشاطئ.
- ­ متي نلتقي؟
- ­في غيابٍ آخر"


ومن الواضح أنه يبقى النظر في تلقي القصيدة. ويعرف أنسي الحاج أن قصائده لن تُغَنَّى كقصائد نزار قباني، الذي جرى تلحين نحو عشرين قصيدة من قصائده عن المرأة، وذلك بفضل شكل القصائد القبانية الغنائي شبه الكلاسيكي، والمكتوبة كشعر حر يعتمد القافية والتفعيلة. وهو يعرف أنها ربما تُقرأ، في صمت. ومع قصيدة يجري تقديمها في صمت، سوف يتجاوب تلق صامت، ومع وحدة الكتابة، سوف تتجاوب وحدة القراءة. وسوف يقول الشاعر في ماضي الأيام الآتية:


"وحدة عرفت،
ووحيدين صنعت"


وهذه الوحدة هي في آن واحد وحدة الخلوة مع النفس والتأمل والتساؤل والتوحد، كما أنها الوحدة التي تسمح، في سواد الليل والحبر، بقيام علاقة القراءة / الكتابة، الإيروتيكية، في الصمت.


"إن علاقة القراءة / الكتابة، سواء أكانت معلنة أم غير معلنة، هي دوما علاقة جنسية". والحال أن أنسي الحاج غالبا ما يعتبر نفسه، في أحاديثه الصحافية، شاعرا إيروتيكيا، أو يوافق، علي أية حال، على أن شعره، في جانب كبير منه، يندرج في مسار الأدب الإيروتيكي، خاصة دو لاكروا، إلا أنه إذا كان هذا الملمح جليا في بعض فقرات الديوانين الأولين، على المستويين المعجمي والنحوي، فإنه لا يكاد يظهر بعد ذلك علي المستوي النحوي. فالقصيدة تتشبث، في الواقع، كما يقول مارسلان بلينيه بصدد نص دوني روش، "بعين موقع التناقض بين المباح به أو غير المباح به"، وذلك لأن دينامية الكتابة / القراءة لا تبوح في الواقع أبدا، أو لا تبوح إلا في مناسبات نادرة، بعلاقتها بالجنس، بالموت، بالرغم من عدم توقفها عن الضرب علي وترها. وربما، على وجه التحديد، عندما يبدو أن على هذه العلاقة أن تكون أكثر وضوحاً (أعني في المروية الأيروتيكية) فإنها تكون أكثر عرضة للنقد _ فالأدب الإيروتيكي يشدِّد لا محالة على الطابع التمثيلي _ الحضوري للعلامة، علي إمكانية ترجمتها، علي فاعليتها كمترجم، بحيث إن التصوير الإيروتيكي التوجه إنما يجد نفسه محكوما بأنه في هذا الموقع، بأكثر مما في أي موقع آخر، وإنما كأساس لهذه الثقافة، تعد العلامة، في تنوع ترجماتها، تعبيرا عن القضيب. فالذات تضفي طابعا إيروتيكيا لا محالة على هذا الغياب المعبر عنه في آخَرها: العلامة.


وفي سياق ما يسميه م. بلينيه بـ "توتر الواقع / الخيال، الذي يجب تمييزه عندئذ بوصفه توتر الواقع / الاستيهام"، نجد أن عناوين القصائد والعناوين المتقابلة إنما تكتسب دورا له الصدارة _ يسمح بالتوحدات فيما بين الذات والعلامة: "الغزو"، "في إثرك"، "فصل في الجلد"، "للدفء"، "فقاعة الأصل أو القصيدة المارقة"، "على ظفرك إلى ضعفي“


ومن ثم فإن عين نشاط القراءة من حيث هي رغبة هو الذي يقود إلى إشباع كتابة هي، دوما ومن حيث الجوهر، معوزة.

0 التعليقات: