مصطفى حسنين المنصوري (1890-1972)

بشير السباعي


وافق عام 1990 الذكرى المئوية لميلاد داعية الإصلاح الاجتماعي – السياسي المصري مصطفى حسنين المنصوري.
وجاءت هذه الذكرى لتثار من جديد مسألة مكانة عمل المنصوري في التاريخ الحديث لدعوات الإصلاح الاجتماعي – السياسي في مصر والتي كان قد أثارها المستشرق الروسي زلمان إ. ليفين في عام 1968 على صفحات مجلة "شعوب آسيا وأفريقيا" الاستشراقية الروسية، والمستشرق الألماني جيرهارد هيوب في عام 1973 في مساهمته المنشورة في موسكو، هذا إذا اقتصرنا على الإشارة إلى أصحاب الإسهامات الجادة والتي يبدو أن أغلب الباحثين المصريين في الموضوع لم يسمعوا بها حيث لا ترد في كتاباتهم إشارة واحدة إلى هذه الإسهامات.


سيرة المنصوري:


وُلد مصطفى حسنين المنصوري في القاهرة عام 1890 لأسرة ميسورة، حيث كان والده ضابطاً في الجيش المصري ومالكاً عقارياً يمتلك سبع دور سكنية واثنين وسبعين فداناً.


وقد تسنى للمنصوري استكمال تعليمه العلماني الحديث رغم اضطراب الأحوال المالية لأسرته بعد تبديد عائلها لثروته ثم انتحاره. وحصل المنصوري في عام 1911 على شهادة الليسانس في التربية والآداب. وكان على دراية جيدة بالإنجليزية والفرنسية.


وغداة تخرجه من الجامعة الأهلية انتظم المنصوري في السلك التربوي والتعليمي حيث عمل مدرساً في الدقهلية ثم ناظراً لمدرسة طوخ الإعدادية ثم مديراً للتعليم في الفيوم وقد جرى فصله من هذا المنصب الأخير في عام 1930، نتيجة لوشاية محلية ضده. فاستقر في "عزبة المدير" في الشواشنا بالفيوم، وهي العزبة التي حملت هذا الاسم نسبةً إلى الوظيفة التي كان يتقلدها حتى ذلك الحين.


وباستثناء المشاركة في عدد من الندوات الثقافية واجتماع شبه سياسي عرضي بعد الحرب العالمية الأولى، لم يرتبط المنصوري بأية نشاطات سياسية حزبية، وكان بعيداً، بوجهٍ عام، عن الحركة التحررية – القومية المصرية المناوئة للاحتلال الأجنبي وأكثر قُرباً إلى اتجاه أحمد لطفي السيد (1872-1963) المعتدل الداعي إلى التركيز على الإصلاح الداخلي في ظل الاحتلال البريطاني.


في عام 1915، نشر المنصوري كتابه "تاريخ المذاهب الاشتراكية" الذي صدر بعد عامين من صدور كتيب سلامة موسى (1887-1958) "الاشتراكية". وفي عام 1919 نشر ترجمة عربية لرسالة تولستوي (1839-1910) "ماذا نحن فاعلون إذاً" (1886) تحت عنوان "مساوئ النظام الاجتماعي وعلاجها". وفي عام 1920 نشر ترجمة عربية لكتاب هنري جورج (1839-1897) "التقدم والفقر" (1879). وخلال فترة عزلته في الفيوم نشر سلسلة من المقالات تحت عنوان "فلسفة الحياة" في صحيفة "قارون" المحلية الصادرة في الفيوم وكتيباً عن تاريخ الفيوم، كما كتب رسالة تحت عنوان "سبعة أيام في الجنة" لم تنشر بعد.


مصادر كتاب "تاريخ المذاهب الاشتراكية":


في حديث مع كاتب هذه السطور في أواخر سبتمبر 1969، أشار المنصوري إلى أنه قد اعتمد في كتابه المذكور على كتاب افرنجي تحت عنوان "تاريخ الاشتراكية" إلا أنه لم يتمكن من تذكر اسم مؤلف هذا الكتاب الأخير.


ويفترض كاتب هذه السطور، بشكلٍ أوليّ، أن الكتاب الرئيسي الذي اعتمد عليه المنصوري هو كتاب الاقتصادي والسوسيولوجي الإنجليزي توماس كيركاب (1844-1912) "تاريخ الاشتراكية" الذي صدرت طبعته الأولى في لندن في عام 1892 ثم صدرت طبعته الخامسة المنقحة في عام 1913 بمراجعة أ. ر. بيز، وهي الطبعة التي يحتمل أن يكون المنصوري قد اعتمد عليها. إلا أنه لن يتسنى التحقق من مدى صحة هذا الافتراض إلا بفحص كتاب كيركاب نفسه، وهو مالم يتسن لنا حتى الآن.


نبذة عن كتاب "تاريخ المذاهب الاشتراكية":


بعد مقدمة يسوق الكاتب من خلالها تعاريف لعدد من الكتاب الأجانب عن الاشتراكية، يخصص المنصوري فصلاً للاشتراكية في فرنسا ثم فصلاً ثانياً للاشتراكية في انجلترا ثم فصلاً ثالثاً للاشتراكية في ألمانيا ثم يخصص فصلاً للفوضوية في روسيا (يبدو أنه لم يكن يعلم شيئاً عن الديموقراطيين الثوريين أو عن الماركسيين الروس) وفصلاً آخر عن انتشار الاشتراكية ثم فصلاً عن الجمعية الاشتراكية الدولية ثم يخصص فصلاً لمناقشة علاقة الاشتراكية بالداروينية ويتحدث بعد ذلك في فصل تالٍ عن فوضى النظام الاجتماعي المعاصر له، ثم يتناول في فصلٍ تالٍ ما فعلته الاشتراكية لإصلاح المجتمع ثم يترجم مقتطفاً من عمل للأديب الفرنسي أناتول فرانس (1844-1924) ويختتم الكتاب بفصل تحت عنوان "مصر والاشتراكية".


والمحتوى الرئيسي للكتاب هو عرض تيارات الفكر الاشتراكي الأوروبي المختلفة ونشاطات الأحزاب الاشتراكية الأوروبية الرئيسية وبرامجها ونتائج نشاطها بالنسبة للطبقة العاملة الأوروبية.


أما مساهمة المنصوري الخاصة في الكتاب فهي تلك المتعلقة ببرنامج الإصلاحات الذي اقترحه في الفصل الأخير من كتابه وهو برنامج يتألف من ستين مطلباً أهمها الدعوة إلى جعل الوزارة مسئولة أمام الهيئة البرلمانية وكفالة حرية الانتخابات وإيجاد محلفين بالمحاكم الأهلية وتعديل القانون الشرعي بما يتماشى مع الروح العصرية وإلغاء جميع القوانين التي تقيد حرية الاجتماع والخطابة والصحافة. وتندرج جميع مطالب المنصوري ضمن منظور إصلاحي ليبرالي وهو ما أكد عليه المستشرق الروسي زلمان أ. ليفين في كتابه " الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر" والذي ترجمناه إلى العربية ونشرنا ترجمته في عام 1978(1).


وتتكشف حدود منظور المنصوري في تجنبه إثارة مسألة إحلال جمهورية محل الحكم السلطاني ومسألة الدعوة إلى انتخاب جمعية تأسيسية شعبية لإقرار دستور ديموقراطي للبلاد ومسألة الدعوة إلى حل المسألة الزراعية حلاً ديموقراطياً وفق مبدأ "الأرض لمن يفلحها"، كما تتكشف حدود هذا المنظور بشكلٍ صارخ في مجال المسألة القومية حيث يقتصر برنامج المنصوري على الدعوة إلى إلغاء امتيازات الأجانب وإلى عدد من المطالب الثانوية دون أن يثير مسألة ضرورة إلغاء الحماية البريطانية وجلاء الإنجليز عن مصر. ويبدو أن المنصوري لم يكن يدرك أن المسألة المركزية التي كانت تواجه مصر في زمانه هي مسألة انتزاع الأمة المصرية حقها في تقرير مصيرها بنفسها وأن تجاهل هذه المسألة يعني سد السبيل أمام أي حل جذري لمشاكل مصر الاجتماعية – الاقتصادية. والأسوأ من ذلك أن المنصوري رغم إقراره بأن الاستعمار يؤدي إلى استعباد الأمم المستعمرة يعلن في كتابه أن "الاستعمار ضروري جداً لانتشار العمران لأن الأمم المنحطة لا تنهض من تلقاء نفسها وإذا نهضت فإن نهوضها يكون بطيئاً جداً" (2) وهو إعلان كان من المستحيل حتى على سلامة موسى، داعية الفابية المصري، أن يؤيده.


والواقع أن هذا المنظور هو الذي يفسر ابتعاد المنصوري عن معسكر الجلائيين وتعاطفه مع تركيز أحمد لطفي السيد على الإصلاحات الليبرالية الداخلية، كما يفسر في الوقت نفسه إعرابه عن الأسف لاغتيال القيصر الروسي أليكسندر الثاني (1818-1881) الذي اعتبره "مصلحاً كبيراً ميالاً إلى الحرية" (3) بينما كان الديموقراطي الثوري نيكولاي تشيرنيشيفسكي (1828-1889) قد اعتبر الإصلاح الذي أعلنه القيصر في 3 مارس 1861 دليلاً على سوء النية الإمبراطورية، وقد ذكر كارل ماركس (1818-1883) في عام 1873 أن الإصلاح الذي أعلنه القيصر لم يكن غير خدعة (4).


المنصوري والإشتراكية:


مع أن المنصوري قد قدم في كتابه عرضاً موجزاً لجوانب من أفكار الماركسية وتاريخها (5)، إلا أنه – كما يؤكد على ذلك ز. أ. ليفين – لم يكن هو نفسه ماركسياً (6) فهو يبدو في كتابه أكثر إعجاباً بسياسات الجناح اليميني للاشتراكية الديموقراطية الأوروبية الغربية، ويتبدى ذلك، مثلاً، في إعجابه بسياسة الوزارة التي شكلها رينيه فيفياني (1863-1925) في فرنسا في 20 أغسطس 1914 إلى حد اعتباره أن فرنسا قد أصبحت في ظل هذه الوزارة بلداً اشتراكياً تماماً! (7) وذلك في الوقت الذي أدان فيه الماركسي الروسي ف. أ. لينين (1870-1924) برنامج فيفياني (8).


ومن الشطط بعد ذلك أن يعلن كاتب مصري للمرة الثانية أن المنصوري لم يكن ماركسياً وحسب، بل كان لينينياً أيضاً! وهو ادعاء سبق للمستشرق الألماني جيرهارد هيوب أن اعتبره مظهراً من مظاهر الرعونة (10).


وإذا كان المنصوري قد حقق انتقالاً من الحماس للاشتراكية الاستيزارية (11) في أوروبا الغربية، فإن هذا الانتقال لم يكن في أي وقت من الأوقات في اتجاه الماركسية بل كان في اتجاه تبني آراء هنري جورج والتي كان ليو تولستوي قد أرشد المنصوري إليها من خلال كتابه "ماذا نحت فاعلون إذاً؟".


في هذا الكتاب الأخير – الذي ترجمه المنصوري – يشير تولستوي إلى أن وجود الملكية الخاصة في الأرض – كما رأى هنري جورج – هو سبب الشقاء والبؤس، وقد تحمس المنصوري لهذا الرأي فترجم كتاب هنري جورج ونشره بعد عام واحد من نشره لترجمة كتاب تولستوي.


والحال أن هنري جورج كان يرى أن السبب الرئيسي لانقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء هو تجريد الشعب من ملكية الأرض لحساب احتكار من جانب كبار ملاك الأرض، الأمر الذي أدى إلى إفقار الشعب. وقد رأى أنه لا يمكن إنهاء هذا الإفقار إلا عن طريق تأميم الدولة البورجوازية للأرض وتأجيرها للأفراد واستخدام الإيجار في الإنفاق على تلبية الحاجات الاجتماعية.


والواقع أن دعوة هنري جورج لم تكن جديدة بالمرة، إذ ترجع أصولها إلى دعوة مماثلة كان قد بادر بها الاقتصادي الفرنسي البورجوازي الصغير جان كولينز (1783-1858) وتلامذته الملتفون حول مجلة "فلسفة المستقبل" الباريسية الذين سموا أنفسهم بـ "الجماعيين العقلانيين".


والحال أن كارل ماركس قد فند هذا الرأي في رسالته إلى سورج والمؤرخة في 20 يونيو 1881، غداة صدور كتاب هنري جورج، حيث بين أن التأميم البورجوازي للأرض لا يزعزع أسس الرأسمالية، بل يساند تطورها ولا يحرر الطبقة العاملة من الفقر. وقد ذكر ماركس في رسالته بأنه كان قد سبق له توضيح ذلك في كتابه "بؤس الفلسفة" الصادر في عام 1847 (12). وقد فصل ماركس رأيه في هذا الموضوع في المجلد الثالث من كتاب "رأس المال" كما طوره في سجاله مع جوهان رودبيرتوس (1805-1875) في كتاب "نظريات القيمة الزائدة". وفي عام 1887، أوضح فريدريك انجلز (1820-1895) تباين آراء ماركس وآراء هنري جورج حول مسألة الأرض فقال : " إذا كان هنري جورج يعتبر احتكار الأرض السبب الوحيد للفقر والشقاء، فمن الطبيعي أن يجد العلاج في استيلاء المجتمع كله على الأرض.

والحال أن الاشتراكيين من مدرسة ماركس يطالبون، هم أيضاً، باستيلاء المجتمع على الأرض، وليس على الأرض فقط بل على جميع وسائل الإنتاج أيضاً. ولكن حتى إذا تركنا هذه الأخيرة جانباً، فإن هناك فارقاً آخر. فما الذي يجب عمله مع الأرض؟ إن الاشتراكيين الحديثين، كما يمثلهم ماركس، يطالبون بضرورة حيازتها وفلاحتها بشكل مشاعي ولحساب الجميع، والشيء نفسه، يجب عمله مع جميع وسائل الإنتاج الأخرى للإنتاج الاجتماعي والمناجم والسكك الحديدية والمصانع.. إلخ، ويريد هنري جورج الاقتصار على تأجيرها للأفراد كما هي الحال في الوقت الحاضر والاكتفاء بتنظيم توزيعها وتحويل الإيجارات إلى خدمة أغراض خاصة كما هي الحال الآن. أما ما يطالب به الاشتراكيون فإنه ينطوي على ثورة كاملة في مجمل نظام الإنتاج الاجتماعي. إن ما يطالب به هنري جورج يترك النمط الحالي للإنتاج الاجتماعي على حاله" (13).


ورب قائل أن دعوة هنري جورج تكتسب في ظروف بلد متخلف وشبه كولونيالي كمصر في العشرينيات بعداً جذرياً، من حيث أنها تكون في تلك الحالة موجهة ضد نمط إنتاج قبل رأسمالي، وبهذا المعنى فإن تبني المنصوري لدعوة هنري جورج يدرج الأول في عداد الديموقراطيين البورجوازيين الذين عرفهم العالم الثالث من أمثال صن يات صن (1866-1925) (14)، لكن المشكلة تتمثل في أن التجربة التاريخية سرعان ما أثبتت استحالة إنجاز مهمات الثورة الديموقراطية البورجوازية التاريخية في العالم الثالث في ظل هيمنة البورجوازية، وهو ما يثبت أن هؤلاء اليموقراطيين البورجوازيين كانوا يوتوبيين.


وفي حالة المنصوري الشخصية، كما في حالة تولستوي الشخصية، فإن النوايا الحسنة تجاه الفلاحين وحسن معاملتهم في عزبة المدير، كما في ياسنايا باليانا (15)، لم تحل دون إرهاقهم بعد وفاة المنصوري، كما بعد وفاة تولستوي، حين استولى الورثة على الأرض!


الهوامش:


1- انظر، ز. أ. ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر، ترجمة بشير السباعي، دار ابن خلدون، بيروت، 1978، ص 290.
2- مصطفى حسنين المنصوري، تاريخ المذاهب الاشتراكية، 1915، ص 80.
3- المصدر السابق، ص 65.
4- انظر، مؤتمر لاهاي للأممية الأولى، دار التقدم، موسكو، 1976، ص 614 (بالإنجليزية).
5- يفتقر هذا العرض، ضمن أمور أخرى، إلى الإشارة إلى تصور ماركس عن دور الصراع الطبقي في التطور التاريخي.
6- انظر، ز. أ. ليفين، مصدر سبق ذكره، ص 290.
7- انظر، مصطفى حسنين المنصوري، مصدر سبق ذكره، ص27.
8- انظر، ف. أ. لينين: الأعمال الكاملة، المجلد 21، دار التقدم، موسكو، 1964، ص178 (بالإنجليزية). وللاطلاع على سياسة وزارة فيفياني، انظر، تاريخ فرنسا من ثورة 1789 إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، دار التقدم، موسكو، 1978، ص ص 594-598 (بالفرنسية).
9- انظر مجلة "اليسار" القاهرية، عدد أكتوبر 1990، ص ص 86 – 88.
10- انظر، تاريخ واقتصاد بلدان الشرق العربي، دارالعلم، موسكو، 1973، ص283 (بالروسية).
11- بدأت الاشتراكية الاستيزارية مع دخول الاشتراكي الفرنسي ألكسندر ميلليران (1859-1943) الوزارة الفرنسية في عام 1899.
12- انظر، ك. ماركس و ف. انجلز: المراسلات المختارة، دار التقدم، موسكو، ص 1965، ص ص 342-343 (بالإنجليزية).
13- انظر، ك. ماركس و ف. انجلز: حول بريطانيا، دار النشر باللغات الأجنبية، موسكو، 1962، ص 11 (بالإنجليزية).
14-للاطلاع على مناقشة ماركسية لبرنامج صن يات صن الزراعي، المستمد من دعوة هنري جورج، انظر، ف. أ. لينين: الأعمال الكاملة، المجلد 18، دار النشر باللغات الأجنبية الأجنبية، موسكو، 1963، ص ص 163-169 (بالإنجليزية).
15-ياسنايا باليانا – عزبة تولستوي.

0 التعليقات: