هنري عويس

مناقشة أطروحة السيدة دنيا أبو رشيد باديني
(تصوير ب. س.)

السبت 9 ديسمبر/ كانون الأول 2006
المعهد القومي للّغات والحضارات الشرقية – باريس
مجلة شعر اللبنانية وأحد رموزها: أنسي الحاج
فهرس محتويات مجلة شعر ودراسة عمل أنسي الحاج الشعري

الخطة

1ـ الإقامات البيروتية
2ـ الأقنعة الخمسة
3ـ باليه اللغات
4ـ الغرب مرجعًا
5ـ ترجمة شاعر شعرًا
6ـ على سبيل التحية


1- الإقامات البيروتية

كان ذلك نحو أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما اتصل بي السيد الپروفيسور سليم عبو، الذي كان، على التعاقب، عميدًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية ورئيس جامعة سان چوزيف، لكي يخبرني بمجيء دنيا أبو رشيد إلى بيروت، وقد لفت انتباهي إلى أمرين: الأمر الأول هو أن الطالبة الشابة مهتمة بالحركة الشعرية لمجلة شعر وخاصة بأنسي الحاج، والأمر الثاني أنها مقيمة بدار الآباء في شارع مونّو. وبعد ذلك ببضعة أيام، زارتني الطالبة في مكتبي في شارع أوڤلان وعرضت عليَّ مشروع أطروحتها. وبالنظر إلى ما أحسست به من الحماسة والإصرار لديها، أدركت على الفور أنها جاءت لتزور مباشرةً أماكن ما سماه أنسي الحاج في افتتاحية يوم الخميس 12 نوڤمبر/ تشرين الثاني 1998 في صحيفة النهار بـ«جزيرة الحرية»، وهي الافتتاحية التي أعيد نشرها بالفرنسية في مجلة «قنطرة»، الصادرة عن معهد العالم العربي، وقد عاين فيها ما يلي: «خسر العرب بتقويض لبنان أكثر مما خسروا في الأندلس وفلسطين، خسروا جزيرة الحرية»، لأنه، في رأي أنسي الحاج: «تلك الجزيرة هي لبنانيو الخيال وعرب الخيال الذين حلموا حلمًا صار موجودًا وغير موجود. وصنعوا كتابةً أبلغ ما فيها هو الحلم. وصنعوا عالمًا واقعه أسطورة وأسطورته واقع. واخترقوا حتى الحدود التي رسموها هم».


ومن ثم فإن دنيا أبو رشيد، مدفوعةً بحنين معين إلى الماضي، قد تفضلت بإعادة بناء ستينيات القرن العشرين ومقابلة الفاعلين فيها والقيام، في الساحة، بتشمم عطر حركة تجديدية كان عمرها في عمر الزهور. وبعبارة أخرى، فإن طالبة درجة الدكتوراه قد أخذت على عاتقها القيام بالمهمة النبيلة التي تتمثل في عدم ترك تجربة مجلة شعر تسقط في النسيان وتقديم أنسي الحاج، منشطها الأساسي، إلى الوسط الجامعي الفرنسي عبر دراسة أعدت إعدادًا محكمًا في جزءين يتألفان من ستة فصول تتضمن 18 قسمًا، تنتشر على 634 صفحة. وكان على الطالبة، لكي تنجز مشروعها، أن تقوم بعدة إقامات في بيروت قضت خلالها ساعات طويلة في الجامعة الأميركية أو في المكتبة الشرقية بجامعة سان چوزيف أو مع المتخصصين والقريبين من مجلة شعر، كما مع نقاد هذه المجلة. وكانت تبحث عن معلومات وتوضيحات أو عن إجابات على تساؤلاتها. وغالبًا ما حدثتني عما آلت إليه بحوثها وقد شعرتُ بأن اختيار ممثل مرهف الحس ورقيق وشفاف سوف يتجه إلى أنسي الحاج، ذلك الشاعر المتفرغ للشعر على مر الأيام. فالواقع أن أنسي الحاج لم يلعب قط دور الشاعر، لم يؤد قط دور الشاعر، بل هو، بشكل طبيعي وبسيط، شاعر. وبما أن أنسي الحاج شاعر فريد، فقد كان شاعرًا قبل مجلة شعر وأثناء صدورها وبعد توقفها.

2- الأقنعة الخمسة


أَمَا وقد قلتُ ما قلت، فإنه يبدو لي أن دنيا أبو رشيد، لكي تصل بدراستها إلى غايتها، قد استعارت عدة أقنعة: أولاً قناع كاتب المذكرات وواضع البيبليوجرافيا، ثم قناع عالِم الاجتماع والناقد، وأخيرًا وبالأخص قناع المترجم. كاتب المذكرات التاريخية، فصاحبة الأطروحة قد أعادت على مدار 360 صفحة بناء ذكرى جانب ملحوظ بأكمله من حياة شعر عبر كتاباتها وأبوابها وندوات خميسها ومنشوراتها وتصنيف محتوياتها، وهي تستحق بالفعل لقب حارسة ذاكرة شعر أو أيضًا حافظة ذاكرة شعر، و، لم لا، مفهرسة شعر. ومن حيث كونها واضعة بيبليوجرافيا، فإنها قد تتبعت على مدار 183 صفحة، بشكل يدعو إلى الإعجاب، مسيرة أنسي الحاج الشعرية، ذلك الطفل الذي فقد أمه في السابعة من عمره على أثر سرطان أصيبت به، وذلك اليافع الذي أحب القراءة وكان له عالمه الخاص، وأنسي الزوج الشاب، أنسي الذي أخذ يخطو خطواته الأولى في الكتابة ... وبالأخص أنسي الفريد عبر مجموعاته الشعرية التي قدمتها دنيا أبو رشيد وحللتها بكثير من الرهافة.


كما أن طالبة درجة الدكتوراه كاتبة تراجم. ومن حيث كونها عالمة اجتماع، فقد وضعت حدث شعر الشعري في سياقه الاجتماعي ودرست، على غرار ريچيس دوبريه، قنوات «ميديولوچيا» المشروع الحداثي ليوسف الخال ورفاقه استنادًا إلى مرويات وصفية ومجموعات صور (ص ص 249 – 251)، وهي تتزود عندئذ بصفة بحاثة في علم الاجتماع. أمَّا من حيث كونها ناقدة، فقد تمكنت من الحفاظ على نظرة موضوعية عبر مراعاة جميع المواقف فأوْلتْ لكل موقف منها الاهتمام عينه، من مجلة الآداب إلى نازك الملائكة وخالدة سعيد وصبري حافظ (ص ص 310 – 337)، وذلك في صميم أسلوبها في تقديم هذه المواقف أو مناقشتها، فأضافت عندئذ إلى ألقابها السابقة لقب صاحبة المنهج النقدي أو أيضًا صاحبة الروح النقدية. بيد أن دنيا أبو رشيد باديني، في أطروحتها كلها، كان لها باستمرار مسلك المترجم، أعني الوسيط، الممسك بالميزان، وفاعل التوصيل والمفاوِض. وقد يرجع إلى «حالة المترجم» أو «وضعية المترجم» هذه تمكينُ هذه الدراسة من زيارة اللغة العربية في أكثر نصوصها تركيزًا وتجديدًا وفهمُ هذه النصوص ومناقشتُها وتحديدُ موقعها وتوضيحُها في لغة أخرى، أي فهمُها بالعربية وإفهامُها بالفرنسية. والأرجح أن طالبة درجة الدكتوراه قد اتبعت النهج المقابل لنهج أناس شعر الذين كان لهم بدورهم مسلك المترجمين: فقد فهموا بالفرنسية أو الإنجليزية، بيد أنهم عبروا عن أنفسهم أو جعلوا أنفسهم مفهومين بالعربية.

3- باليه اللغات


بيد أن حركة الذهاب والإياب هذه بين لغتين إنما تدفعني إلى التساؤل: لو لم يكن أناس شعر ثنائيي اللغة، هل كان الشعر العربي سيفقد لقاءه مع قصيدة النثر؟ وترتيبًا على ذلك، أَلاَ يُعَدُّ نتاجهم بالأحرى ترجمة أو تعريبًا أو نتاجًا مشتركًا ؟ ثم أيجوز اعتبار هذا النتاج بمثابة الأصل أم أنه يظل بالفعل مجرد مستنسخ ومن ثم لا يعودُ موقعُ الإشكالية على مستوى «التراث» و«الحداثة» الذي جرت معالجته معالجة عميقة في ص ص 270 – 305، بل على مستوى القابل للترجمة وما لا يقبل الترجمة ؟ لنأخذ على سبيل المثال مقدمة «لن»، فهل هي النص المنقول إلى العربية عن النص الأصلي الفرنسي الذي وضعته سوزان برنار ؟ وهل ينحصر تساؤلنا في مجرد معرفة ما إذا كانت هذه الترجمة عمل مترجم مصدري أم عمل مترجم ناقل إلى لغة أخرى عن مصدر أصلي، بحسب التعبير العزيز على قلب چ.ر. لادميرال ؟ وهو ما يعني أن نقاشنا لا يتصل بالمضمون من حيث كونه مضمونًا بل من حيث كونه استراتيچية ترجمة. اسمحوا لي أن أقص عليكم ما يلي: لقد قرأت في سبعينيات القرن الماضي نتاجًا، قصيدة نثر، بالعربية، لصديقٍ شاعرٍ لبناني. وإذ أبديت له انعدام أي استجابة من جانبي بالنظر إلى الانعدام الكامل للفهم، سألني صديقي ما إذا كنتُ قد قرأت أرتو أو بونفوا أو بريتون ... ولم يردَّ صديقي على سؤالي: أَلاَ يكون نصك مفهومًا إلاَّ بالاستعانة بالأسماء الثلاثة التي أسلفتَ الإشارة إليها ؟ فهل ستكون للقارئ العربي وحيد اللغة فرصة فهم نتاج شعر ؟ أم أن هذا النتاج لا يخاطب غير نخبة معينة يمكنها في نهاية المطاف الاستغناء عن العربية المنقول إليها والاتجاه رأسًا إلى المصدر، فما الذي يبقى للقارئ العربي لكي يفعله ؟ أيمكن أن نستعير من أنسي الحل ونقترح: « الاختناق أو الجنون» ؟


في كتاب بلغتين صدر في عام 2005 في مجموعة اللغات المصدر – اللغات المنقول إليها، تحت عنوان: «ماء الورد، ماء الخَل: الكتابة، الترجمة، المتعة»، وهو عمل لأربعة مؤلفين، كتبتُ مع زميلي چرچوره حردان حول اللغة العربية والثنائية اللغوية: «فيما يتعلق بسكان هذه المنطقة من العالم (لبنان)، فإن لهم تاريخًا خاصًّا مع اللغات. فهم أشبه ما يكونون بمن تجتاحهم على نحو متواصل موجات متباينة وغير مستقرة، مشدودين بين حركتي مد وجزر، منتقلين من الهدوء الأتم إلى الهياج الأكثر جنونًا. فهم في ترحال أبدي بين مختلف اللغات. وقد سعوا إلى عدم خلط نبرة إحداها بنبرة الأخرى. بيد أن الغالبية بينهم ينتجون خليطًا نادرًا غالبًا ما يهدد بقطع أنفاسهم. وإذا ما حدث لهم وبلغوا سرعة بارجةٍ في التعبير باللغة الأولى، فهل سيكون بوسعهم الحفاظ عليها دون اللجوء بشكل لا يُقَاوَمُ إلى أساليب اللغة الثانية أو الثالثة أو الرابعة ؟ ومن الذي يمكنه الزعم بأنه يحافظ على استيعاب كامل ومتوازن للغة ولغة أخرى أو عدة لغات أخرى ؟ وإذا ما افترضنا حدوث ذلك وأن التوازن بين اللغتين هو من أكثر التوازنات كمالاً، فهل يمكن الزعم عندئذ بأن للمرء لغتين أمين قامتا معا بإرضاعه وهدهدته في المهد وإحاطته بالحنان والحب ؟ وما الذي أَحَسَّ َ به وأي خير عميم حلّ به إن نادى أمه فأجابته اثنتان: يا عيون أمك، أو يا عيون أميك أو أمهاتك ؟!
العربية بألف خير. ولكن سلوا من يجترها ويستهلكها استهلاكًا ألديه الجرأة على الابتكار ؟!

4- الغرب مرجعًا


لقد أجزت لنفسي التوقف عند ثلاث نقاط: الترجمة والثنائية اللغوية واللغة العربية ليس لكي أشكك في القيمة الشعرية لمجلة شعر، خاصة قصيدة النثر، أو لكي أدافع «بشكل إيديولوچي» عن اللغة العربية ولكي أرفض الثنائية أو الثلاثية اللغوية، وإنما لكي أطرح نقطة رابعة هي نقطة الغرب بوصفه المرجع الوحيد والأخير. وبعبارة أخرى، ادعاء أن الضفتين لا يمكن أن تقوم بينهما علاقات قائمة على الاحترام والتبادل والإثراء المتبادل على نحو ما ذكره ألبير چاكار في رُبَّان الكلمات: «إنني، دون أن أعي ذلك، أتكلم العربية والصينية والتركية والسنسكريتية. أنا الذي أتصور أنني لا أتكلم سوى الفرنسية، "أجمل لغات العالم"، كما هو واضح. لكنها إذا كانت "الأجمل"، فما ذلك إلاَّ لأنها قد تمكنت من استيعاب الكلمات التي اقترحتها عليها اللغاتُ الأخرى، وتمكنتْ، بقبولها لهذه الكلمات، من إثراء نفسها بالمفاهيم التي تستدعيها الكلمات (...)»، ويختتم چاكار كلامه بـ«إنني لا أنتمي إلى جنس، بل أنتمي إلى النوع البشري، وينبع ثراء هذا النوع من أن البشر يملكون المقدرة الغريبة على أن يتهادوا بعضهم مع البعض الآخر جميع تساؤلاتهم عن العالم المحيط بهم و، بالأخص، عن أنفسهم». فهل صحيح أن شعري لن يتم الاعتراف به إلاَّ إذا تماهى مع الأصل الغربي، وأن لغتي وحياتي اليومية ومسلكي لن يتم الاعتراف بها أو قبولها البتة إلاَّ إذا تطابقت مع لغة الغرب وحياته اليومية ومسلكه ؟ إن هذه المقاربة التي تتحدث عن عالمين إنما تضعهما في نزاع مباشر وتؤدي إلى أشكال رفض متبادلة وإلى مواقف متصلبة نتيجتها الوحيدة هي التعصب وترجمتها العملية الوحيدة هي العنف. وفي حالة أنسي وشعراء حركة شعر، هل ينبع الاعتراف بهم كشعراء حديثين وكحركة حديثة من نجاح معين في الاقتراب إلى أقصى حدٍّ من الأصل، الغربي ؟ أهم شعراء ليس مشهودًا لهم إلاَّ بحكم ذلك ؟ وأنسي إزاء القارئ العربي وحيد اللغة هو بدرجات مختلفة شاعر، ولكن إزاء پريڤير أو آرتو، ألخ، أهو شاعر أم منتحل ؟ وهل نتاجه هو الأصل أم أنه تقليد تافه القيمة ؟


إن الدراسة المعمَّقة التي قامت بها السيدة باديني قد أحيت من جديد نقاش سبعينيات القرن الماضي المجيدة عشية النكبة اللبنانية مباشرة، وهو نقاش ما تزال له راهنيته في «جزيرة الحرية» التي برغم النار والدم والدموع ما تزال في الشرق، بحسب ناديا تويني، «الملاذ الوحيد الذي يمكن فيه للإنسان دومًا أن يتدثر بالضياء».

5- ترجمة شاعر شعرًا


سوف تتصل النقطة الخامسة في مداخلتي ببعض عناصر أنسي الشاعر المقيم دومًا في مملكة الأدب. أمَّا فيما يتعلق بالنقطة السادسة فسوف تتصل بـ«الترجمة شعرًا»، وهي مهمة يتقاسمها أنسي ودنيا في آن واحد.
العنصر الأول هو حساسية الطفل ابن السابعة من العمر، والذي عذَبه موت من اعتمد عليها، فقدُ من كانت تحتضنه، والحال أن مرهفي الحس العظماء الموجودين في حياة الكائنات التي تعاني هم في الفن كائنات تبدع، فتثأر بطريقتها من تعاسات المصير. وكان فعل الكتابة ثأر أنسي، أسلوبه في اللعب مع أمه «الصغيرة»، أسلوبه في أن يوضح لها ما أصبح قادرًا عليه، ومن المؤكد أن مردوده لا يعود يخصه وحده، لأنه قد دعا الآخر، القارئ، «رسميًّا»، اعتبارًا من عام 1963، تاريخ ظهور «لن»، و«الرأس المقطوع»، إلى «وليمتـ»ـه التي تمكَّن، بالرغم من كل رغبته في الانفتاح، من إخفائها في مخابئ تحمل عناوين «ماضي الأيام الآتية» في عام 1965 و«ماذا صنعت بالذهب ؟ ماذا فعلت بالوردة؟» في عام 1970 و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» في عام1975. بيد أن أنسي في كل مكان، قبل وخلال وبعد تجربة مجلة شعر، إنما يسكن هذا العنوان لچورچ شحاده «السابح في حب واحد». فأمه كانت بالنسبة له امرأة ولغة ووطنا وقصيدة نثر وشعر نثر.


إنه الطفل ذو الأعوام السبعة الذي لم يتوقف قط عن ألعابه، حتى في إهداءاته: منكِ، إليّ، إلى زوجتي، مغلوبُك. وتشير طالبة درجة الدكتوراه إلى أن أنسي «يعرف أن قصائده لن تُغَنّى كقصائد نزار قباني، يعرف أنها قد تُقْرَأُ، في الصمت». ولكن لماذا هذه الملاحظة ؟ إن قباني شاعر بطريقته، وكذلك أنسي، وقد لا تكون الأغنية مصدرًا للمجد ولا دليلاً على السطحية. والآخر، القارئ، هو الذي يملك الحق في الاختيار، في أن يخصص ستة أيام من الأسبوع لأحدهما، وفي أن يخصص أيام الآحاد أو أيام العطلات للآخر. إن طزاجة طفل في السابعة من عمره لهيَ الشعرُ الخالص، فأليس في هذا العمر يظهر «الأمراء الصغار» الذين يتحاورون مع الذئاب والورود والذين يرسمون الأفاعي على شكل قبعة ؟ والدهشة يجب أن تضاف إلى الحساسية. فالواقع أن أنسي لم يكف البتة عن إدهاشنا ويا لها من مهارة أبدتها دنيا عندما وجهت اختيارها إلى مقتطفات كاشفة :


« تريدون شعراً؟
ومتى كان الشاعرُ يكتب شعراً؟ »
«الوليمة»
أو أيضًا
« ريشةٌ صغيرةٌ تهبط من عصفور
في اللطيف الربيع
تقطع رأسي »
«ماذا صنعتَ ...»


أَلاَ ترى السيدة باديني، ذات الدراية الثاقبة بحركة شعر وبأنسي، أن أنسي شاعر فريد ؟ وأن شعر أو التشابه مع شعراء على الضفة نفسها أو على ضفاف أخرى ما كانا غير لحظاتٍ مناسبةٍ، وقت تناول قهوة في شُرفة، لتبادل تحية الصباح أو لتبادل بضع كلمات ؟
أمَّا فيما يتعلق بالترجمة، فإن الإشكالية إنما تقع على المستوى المزدوج لنشاط الترجمة في حد ذاته والمجال الذي يقترح على نفسه العمل فيه. وفيما يتعلق بالمستوى الأول، فإنه كان قد طرح إلى حد بعيد مع «الترجمات الجميلة غير الأمينة» لچورچ مونان مع التشديد على ذلك التعارض بين عدة حجج حول إمكانية واستحالة الترجمة. وهذا بالأخص هو المجال الذي تحدث فيه الترجمة والذي يهمنا، مجال الشعر، بعبارة أخرى: هل يمكن ترجمة الشعر؟ إن المترجمين لم يتوقعوا قط إجابة عن هذا السؤال، وهم منذ زمن بعيد ترجموا الشعر، كما أن أنسي ودنيا قد ترجماه. ولكن كيف يمكن تعريف الترجمة ترجمة شعرية ؟ أهي مجرد بسط صحيح لكلمات مطابقة لكلمات الأصل، مع، في حالة العربية، ذلك التبديل البسيط للاتجاه في الكتابة بين اليمين والشمال ؟ أم هي نقل لموقع المعنى بعد نزع الافصاح العزيز على دونيكا سيليسكوڤيتش وماريان لوديريه وجماعة المدرسة العليا للترجمة الفورية والترجمة التحريرية ؟ وهل سيكون على المترجم أن يكتب أو يعيد الكتابة أو يشارك في الكتابة أم أنه أيضًا لا يعرف فعل الكتابة لأنه ليس غير محوِّلٍ أو جهاز تثبيت للتيار لكنه لا يكون البتة تيارًا، فالتيار هو الآخر، هو السيد صاحب العمل، الشاعر ؟ ثم هل سيكون للنص الجديد عين أثر النص القديم ومن ثم سيكون أمينًا له ؟ وهل يخاطب دومًا المخاطَبَ نفسه ؟ والحال أنه إذا كان الشاعر نفسه لا يعرف أو لا يريد أن يعرف أو يتعرف على مخاطَبِهِ أو محاوِرِه فماذا يفعل المترجم وكيف سيختار استراتيچيته ؟ في حديث مع كريستين لو بوف، المترجمة، تسألها فلورانس بوتييه، وهي نفسها مترجمة أدبية، في ميتا، المجلد 2، عام 2004: «أخيرًا، هل يمكنك إخباري بماهية التأملات التي تَعَنُّ لكِ عند ذكر هذه الفكرة لجريجوري راباس، الذي قال إن الترجمة تتيح «متعة الكتابة دون ألم»؟ ألن يكون بوسعنا أن نقول أيضًا العكس، حيث إن غياب وجودنا في كل مكان يمنعنا من أن نكون في آن واحد الكاتب والمترجم ؟». وترد لو بوف بأن «عبارة جريجوري راباس التي تستشهدين بها إنما تجعلني أبتسم، فهناك ألم الولادة، فيما يخيَّلُ إليَّ، أليس كذلك ؟». بيد أن هناك كتابًّا يلدون في سعادة. ومتعة كتابة ترجمة ليست مستثناة من المكابدات، عندما لا يتوصل المترجم إلى العثور على الصيغة التي تليق بالأصل ! وما يمكن قوله هو أن الترجمة تجعل هذه المتعة في متناول من لا يحوزون شيئًا شخصيًّا يحتاجون إلى كتابته. أمَّا فيما يتعلق بالانجذاب إلى الجهتين، فمن المؤكد أن كثيرين من ذوي الأسماء الشهيرة كصمويل بيكيت ونانسي هيوستون يشكلون استثناءًا بترجمتهم أعمالهم بأنفسهم، إذ يجدون في ذلك فرصة لاستكمال النص الأصلي. بيد أن المرء لا يمكنه أن يكون في آن واحد الكاتب والمترجم، وتختتم لو بوف كلامها بقولها: «بيد أن المترجم هو كاتب الترجمة». فاسمحي لي أيتها السيدة باديني بأن أطرح عليك أربع أسئلة بشأن الترجمة شعرًا والكتابة :


1- عند ترجمتك نصوص أنسي، هل ترين أنك قد أنجزت فعل الكتابة ؟
2- ما العلاقة التي عشتها مع أنسي عبر ترجماتك، أهي علاقة كاتب – مترجم، كاتب – شريك في الكتابة، ممثل لأنسي بالفرنسية، دنيا شاعرة تستلهم أنسي ؟ هل مشيتما بإيقاع واحد كما يشير إلى ذلك الكتابُ الذي يحمل عنوان : «الكاتب ومترجمه» في سويسرا وفي أوروبا، تحت إشراف ماريون جراف، صور ايڤون بوهلر، دار نشر ZOE، 1998 ؟
3- هل قرأتِ لأنسي نصوصه مترجمةً ؟ وماذا كان رد فعله ؟
4- ما الذي سَهَّلَ لكِ مهمة ترجمة النصوص إلى الفرنسية، أهو الشاعر أنسي، بعد الرجوع إليه، أم هو نصه بلغته وبنيته أم هو وفاق تام، مشاركة شعورية ؟


6- على سبيل التحية


لقد حاولتُ في مساهمتي في هذه المناقشة جد الثرية بتنوع أعضاء اللجنة: المغرب، فرنسا، لبنان، إيطاليا، وبأداءات الممثلة الرئيسة في هذا الحدث، كاتبة المذكرات وواضعة البيبليوجرافيا وعالمة الاجتماع والناقدة والمترجمة، أن أسلط الضوء على ست نقاط ما تزال تغذي النقاشات الأكثر حدة حول: الترجمة، الثنائية اللغوية، اللغة العربية، الغرب، أنسي الشاعر الفريد تمامًا، والترجمة شعرًا، ومن المؤكد أن الأسئلة التي تنبثق عن ذلك إنما تشهد على أهمية هذا العمل وجودته، خاصة اجتماع المحبة والحماسة اللتين ميزتا مجمل مرحلة التحضير. ويبقى عليَّ أن أشير، تعليقًا على هذه الفكرة الواردة في الصفحة 560، السطر الثالث، بشأن «الشعر الذي تعلم استحضار الحياة اليومية، تفاصيل جميع الأيام...» إلى أن كل شعرنا العربي، بدرجات مختلفة، قد قام، منذ الجاهلية، بتصوير الحياة: الديار، المعارك، الغراميات، الليل، الترحال، المؤامرات السياسية، السادة، وأَلاَ يقالُ عن شاعر ذلك العصر أنه كان كاتب يوميات (كاتب أخبار) زمنه ؟!


وختامًا، أود انتهاز هذه الفرصة لكي أعلن أن مجموعة اللغات المصدر – اللغات المنقول إليها، التي أشرت إليها أعلاه، والتي تصدرها مدرسة المترجمين والمترجمين الفوريين ببيروت بجامعة سان چوزيف، والتي يشرف عليها چرچوره حردان وأنا إنما تقترح على نفسها أن تكون هذه الأطروحة ضمن العناوين التي سوف تصدرها في عام 2007، والمجموعة ترحب تمامًا بنشر مشترك مع المعهد القومي للُّغات والحضارات الشرقية مماثل للنشر الذي حققناه مع دار نشر جامعة أوتاوا لعمل چان دوليل. شكرًا أيتها السيدة باديني على عملك. واسمحي لي بالمناسبة أن أصحح كل ألقابك السابقة وأن أسميك «سفيرة» الجمهورية الشعرية اللبنانية، جمهورية الحلم والتجديد. أمَّا لك يا أنسي، فقد يكون صحيحًا أن « قمر الشعر انكسر/ وغرق في دماء لبنان » كما تقول في «الوليمة». لكننا أبدًا أبدًا لن نتخلف عن تلبية ندائك:


انقلوني إلى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي
انقلوني إلى جميع الأماكن لأحصر حبيبتي
لترى أنني قديم وجديد
«ماذا صنعتَ بالذهب ؟ ماذا فعلتَ بالوردة ؟»



بيروت – باريس، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2006
ترجمة: بشير السباعي

0 التعليقات: