جورج حنين وإيرريكو مالاتيستا

بشير السباعي


ايرريكو مالاتيستا

عندما نقلب رسائل جورج حنين (1914-1973) إلى الروائي الواقعي الفرنسي هنري كاليه (مات عام 1956) بين عامي 1935 و 1956، تلك الرسائل التي تكشف عن جوانب مهمة من رؤى وشواغل الشاعر السوريالي المصري الكبير، لن نجد إشارة واحدة إلى إيرريكو مالاتيستا (1853-1932)، الفوضوي الإيطالي البارز، رغم أننا سوف نجد دلائل على تأثير الأخير على الأول.

ومن ناحية أخرى فإننا لن نجد يبن كتابات معاصري جورج حنين التي نشرت إثر موته وكرست لإحياء ذكراه غير إشارة واحدة للدكتور مجدي وهبة إلى حوار دار في أحد الأيام عام 1942 في مقر مجلة "المجلة الجديدة" القاهرية بين المنور التطوري المصري سلامة موسى (1888-1958) وجورج حنين تكشف – بشكل عابر – عن وقوف شاعرنا على عمل مالاتيستا، فقد أشار الدكتور مجدي وهبة إلى أن جورج حنين قد تحدث أثناء الحوار عن "خيانة الدور الثوري للاتحاد السوفيتي. واستشهد بمالاتيستا". وربما جاز لنا أن نتكهن بأن جورج حنين قد استشهد بالمقدمة التي كتبها مالاتيستا في عام 1922 لكتاب تلميذه "لويجي فابري": "روسيا: الدكتاتورية والثورة". ومن المعروف أن جورج كان يجيد الإيطالية.

وإلى أن يتسنى نشر أعمال ورسائل جورج حنين الكاملة، خاصة رسائله إلى أصدقائه الفوضويين، وفي مقدمتهم الرسام الإيطالي المعادي للفاشية أنجيلو دي ريز، والذي أهدى إليه جورج حنين إحدى قصائده الأولى، سوف يكون من الصعب تقدير الأبعاد الكاملة لتأثير مالاتيستا على رؤى ومواقف شاعرنا.

ورغم ذلك، فإن هناك من المبررات ما يسمح بمحاولة رسم ولو صورة أولية لوجوه الشبه في الرؤى والمواقف بين الشخصيتين البارزتين.

متمردان على الأرستقراطية:

ينحدر كل من إيرريكو مالاتيستا وجورج حنين من أصول أرستقراطية ذات ارتباطات قوية بالملكية الكبيرة للأرض الزراعية وذات مكانة متميزة ضمن الهرم البيروقراطي للدولة.

فالأول ينحدر من عائلة كانت تتسلط – قبل الريسورجيمنتو– على إحدى المقاطعات الإيطالية، سواء أكان ذلك من الناحية الاجتماعية - الاقتصادية أم من الناحية السياسية. وقد واصلت التمتع بنفوذ هام خلال الريسورجيمنتو وبعده.
والأخير هو ابن صادق حنين باشا، أحد رموز البيروقراطية المصرية العليا في العهد الملكي، وقد كان سفيراً للقاهرة لدى مدريد بين عامي 1924-1926، وليس هناك ما يدعو للشك في أنه كان يتمتع بثقة الملك فؤاد الأول (والأخير!) الذي كان يملك وحده حق تعيين السفراء!
ومثلما حدث كثيراً في التاريخ، خاصة التاريخ الحديث، فإن أيرريكو وجورج قد تمرد كل منهما على الأرستقراطية التي ينحدر منها. وقد بدأ هذا التمرد، في حالة كل منهما، بالتمرد على أخلاق التسامح مع الوضع القائم، والتي تلقاها الأول على يد "الإيسكولابيس" والأخير على يد مدرسيه في "مدرسة العائلة المقدسة".

أما الأول فقد عبر عن هذا التمرد بينما كان لا يزال في الرابعة عشرة من العمر، حيث كتب إلى الملك فيكتور عمانوئيل الثاني رسالة كلها إهانات وتهديدات، ثم دفع ثمن هذه الجرأة بدخول السجن. وصار بذلك أصغر سجين سياسي في إيطاليا آنذاك (1867)!.
وأما الأخير فقد عبر عن تمرده من خلال التهكم، في مجلة علنية، على "الشرعية" التي وصفها – ابن الحادية والعشرين – بأنها "كمامة لأفواه الشعوب". وفي العام نفسه الذي نشر فيه هذا الكلام (1935)، نشر - بالاشتراك مع صديقه جوزيف حبشي، الذي آثر إخفاء اسمه الحقيقي واستخدام اسم "جو فارنا" المستعار – كراساً تحت عنوان (التذكير بالقذارة أو فرض القذارة Rappel à L'ordure وهو عنوان يهزأ من تعبير Rappel à L'ordre التذكير بالنظام أو فرض النظام)!

وطبيعي أن من غير الوارد – في حدود هذا المقال – استعراض مسلسل تمرد مالاتيستا وحنين على الوضع القائم وأخلاق الوضع القائم. ويكفي أن أشير إلى أن كلاً من الرجلين قد واصل تمرده حتى النفس الأخير. وعندما مات مالاتيستا في 22/7/1932، اتخذ الفاشيون كل التدابير لمنع حدوث مسيرات جنائزية، ثم تناوب رجال البوليس محاصرة قبره بعد أن ووري التراب لمنع الناس من الاقتراب ووضع باقات الزهور! وكان مالاتيستا الشيخ قد كتب إلى صديقه أرماندو بورجي في 7/3/1932 – قبل نحو أربعة شهور من موته – يشكو من اعتلال صحته ويعبر في الوقت نفسه عن أمله في استعادة حيويته مع قدوم الربيع، حتى يتمكن من مواصلة النضال من أجل قضية التحرر. أما جورج حنين فقد شارك في انتفاضة مايو 1968 في باريس وكتب – ساعتها – يقول: "العصيان شفقٌ قطبيٌّ شمالي، لن يقوى أحد بعد الآن على أن يجعل منه غسقاً!"، وعندما وافته المنية في الساعات الأولى من 18/7/73، طلب إلى من كانوا إلى جواره في المنفى الباريسي أن يدفن وحيداً في بلاده، بعيداً عن جبانات مختلف الملل والنحل!

داعيتان للكوزموبوليتية الثورية:

من المعروف أن أرستقراطيات المجتمعات قبل الرأسمالية وأرستقراطيات المجتمعات التي وصلت إلى الرأسمالية متأخرة، رغم ما تتميز به تلك الأرستقراطيات من ضيق أفق محلي، قد طورت – على المستوى العملي – نزعة كوزموبوليتية خاصة بها يبدو أنها لم تدرس حتى الآن دراسة كافية.

ولعل من ملامح هذه الكوزموبوليتية هو تلك الزيجات التي كانت تعقد بين أبناء وبنات مختلف البيوتات الأرستقراطية المنتمية إلى أجناس وشعوب متباينة، واعتماد أرستقراطيات معينة أساليب حياة أرستقراطيات أخرى، أجنبية.

ومن الواضح أن كوزموبوليتية هذه الأوساط الأرستقراطية ليست لها علاقة بعملية التدويل التي مست مختلف وجوه حياة البشر مع نشوء وتعزز السوق الرأسمالية العالمية، فهي كوزموبوليتية محصورة الأبعاد، كانت تخص جماعة اجتماعية كان التطور الرأسمالي ينذر بزوالها. وبدلاً من هذه الكوزموبوليتية، كان إيرريكو مالاتيستا وجورج حنين داعيتين لكوزموبوليتية جديدة، ثورية.

لقد حارب مالاتيستا ووقف – على جبهات عديدة امتدت إلى أمريكا اللاتينية – ضد اضطهاد الإنسان للإنسان. وقد يدهش القارئ – ولابد له من أن يدهش– إذا عرف أن مالاتيستا الشاب قد جاء إلى مصر في عام 1878 لكي يساند وقوف المصريين ضد التسلط الأوروبي وأنه قد طرد من مصر في ذلك العام نفسه بأمر من القنصل الإيطالي، وأنه برغم تجربة الطرد هذه قد غادر لندن في عام 1882 متجهاً إلى مصر، مرة أخرى، لكي يساند تمرد المصريين ضد التسلط الأوروبي!.

أما جورج حنين، من ناحية أخرى، فقد دشن في القاهرة فور نشوب الحرب الأهلية الأسبانية (1936) حملة واسعة لمساندة الجمهوريين الأسبان ضد التمرد الفاشي، وانخرط في نشاط المنفيين الإيطاليين المعادين للفاشية، بعد أن وطد الصلات معهم من خلال أنجيلو دي ريز.

لقد كان مالاتيستا وحنين عدوين لدودين للشوفينية القومية. ومنذ عام 1892، كتب مالاتيستا يقول: "ليس هناك ما يجمع بيننا وبين الوطني الإيطالي الذي يقول: لا يهم أن يموت كل الإيطاليين من الجوع، مادامت إيطاليا سوف تصبح عظيمة ومجيدة". أما جورج حنين فقد أعرب غير مرة عن تقززه من المتاجرين بالنزعة القومية في مصر، وكان قد سخر، قبل ذلك، من العنصرية الفاشية ومن الهوس العنصري الذي كان يدفع المرضى الألمان واليهود إلى التشاجر في المستشفيات! وأدان نزعة الجامعة السلافية التي عمل ستالين (1879-1953) على بعثها خلال الحرب مع ألمانيا (1941-1945)، واستنكر، بشكل خاص، حديث ستالين أمام جنود الجيش الأحمر في 7 نوفمبر 1941 – الذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر – عن "أمجاد" الأسلاف الروس وفي مقدمتهم الأمير ألكسندر نيفسكي، الذي كان قد تمكن في عام 1942 من إلحاق الهزيمة بفرسان الأخوية التيوتونية، وتساءل: ماذا عن بوجاتشوف وستينكا رازين المدافعين الأسطوريين عن القضية الفلاحية"؟ وقال: "بدلاً من الإشادة بالأبطال الشعبيين الروس والألمان الذين تلاقوا عبر التاريخ في نضالات تحريرية واحدة، نجد ان أجهزة الدعاية السوفيتية سرعان ما تجد لذة في هوس شنيع لا تنبثق منه غير رموز من أسوأ الرموز في تاريخ روسيا".

كما أدان جورج حنين عنصرية الجنرالات الأمريكيين الذين كانوا يتحدثون عن الشعب الياباني خلال الحرب العالمية الثانية بوصفه "جراداً أصفر" وأشاد بالجندي الألماني الذي لجأ – فور نشوب الحرب الألمانية – السوفيتية – إلى موقع سوفيتي، معلناً أنه لا يريد حمل السلاح ضد دولة بروليتارية. وقال جورج حنين: "إن هذه العبارة وحدها قد دوت، أمام التاريخ، دوياً أقوى من دوي مآثر العتاد الحربي التي سبقتها أو التي تلتها. فقد دلت، فوق قصف المعارك، على أن إخاء الكادحين يعلو ويجب أن يعلو على انقسام الناس إلى جماعات عرقية وقومية".

الحلم بالوطن:

لم ير مالاتيستا وحنين أي تناقض بين النزعة الأممية الثورية والشوق إلى أن يكون وطن الإنسان حراً، سعيداً، وإلى أن يتمكن أبناؤه من المساهمة في تحرر الجنس البشري من كل أشكال الاستلاب.

إن كلاً من مالاتيستا وحنين قد قضى زمناً في المنفى، وعندما كان مالاتيستا يتسلل عبر المجر لكي يشارك في انتفاضة الهرسك ضد الأتراك في عام 1875، وعندما كان يوزع الحلوى على الأطفال في شوارع لندن في عام 1880، وعندما كان ينظم فروع المقاومة العمالية في الأرجنتين في عام 1885، كان يحلم ببلاده، باليوم الذي تنتزع فيه حريتها من أعدائها الداخليين.

وعندما كان جورج حنين يهيم على وجهه في شوارع أثينا، وروما، وباريس، كان يتذكر بلاده التي نسيته، وكان لا يزال بوسعه أن يقول لها:

فيك
أكون في النهاية
تحت رحمة نفسي!.




مجلة "الكتابة الأخرى" ، القاهرة، ديسمبر 1992

0 التعليقات: