تعددية الأطراف ونهاية التاريخ

كانط


بقلـم : فيليب مورو دوفارج*
ترجمة: بشير السباعي

هل تحمل تعددية الأطراف في داخلها «نهاية التاريخ»؟ بحسب هذه الرؤية، سوف يكون السلام الدائم في متناول يد البشرية بفضل تلاقي تكاثر التبادلات وانتشار الديموقراطية وإضفاء طابع مؤسسي على العلاقات الدولية. والحال أن تعددية الأطراف، تطبيق المبادئ الديموقراطية على العلاقات فيما بين الدول، إنما تهدف تحديداً إلى خلق مجتمع دول بفضل «تعاقدات» (وكذلك مواثيق منظمة الأمم المتحدة). بيد أن تعددية الأطراف تصطدم بصعوبتين أساسيتين. ففي المقام الأول، من شأن الحقائق الواقعية للدول نفسها، التفاوتات فيما بين الدول، بصرف النظر عن الدينامية المساواتية التي تتميز بها تعددية الأطراف، أن تجعل من هذه الأخيرة غير قادرة على محو قلب الدول نفسه و، بالدرجة الأولى، رغبتها في حماية السيطرة على القوة الشرعية – خاصة العسكرية. وفي المقام الثاني، تعتبر تعددية الأطراف نفسها عالمية؛ والحال أنها، باجتهادها في دمج جميع الدول في منطق واحد، ليست مع ذلك أقل غربية. وفي مستقبل منظور، فإن تعددية الأطراف، مع إسهامها في فرض الانضباط على الدول وفي تمدينها، لن تكون وليس بوسعها أن تكون السلام الدائم.

بوليتيك ايترانجير

تعددية الأطراف، شأن كثير من المفاهيم الأخرى، سوف تتعرض لأزمة. فمنظمة الأمم المتحدة، وهي قلب تعددية الأطراف الكوكبية، لم تمنع الولايات المتحدة من إرسال جنودها، من طرف واحد، لغزو العراق. وصندوق النقد الدولي، وهو عمود آخر من أعمدة تعددية الأطراف، لن يكون في نهاية الأمر غير أداة في خدمة الدول الكبرى القائمة تهدف إلى تقييد بلدان الجنوب اقتصادياً. أمَّا فيما يتعلق بمنظمة التجارة العالمية، فهي سوف تعزز، بشكل دوجمائي، التبادل الحر، دون مراعاة التفاوتات الجسيمة الفعلية فيما بين الدول.

والحال أن تعددية الأطراف، كلية الحضور اليوم، قد انسلت إلى التاريخ من الباب الضيق(1). فغداة الحرب العالمية الثانية، تماهت مع الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الجات) و، بشكل أكثر تحديداً، مع «بند الأمة الأولى بالرعاية» الشهير، والذي يطلق كل دينامية هذا الترتيب. فبحسب هذا البند، عندما تتوصل دولتان طرفان في الجات إلى الحصول على تنازل متبادل (تخفيض الرسوم الجمركية مثلاً)، يمتد هذا التنازل تلقائياً إلى جميع الدول الأطراف الأخرى. وتصبح كل ميزة تم التفاوض عليها والتوصل إليها ثنائياً متعددة الأطراف وتفيد بشكل متساو جميع المشتركين في النظام. وشيئاً فشيئاً، تتجاوز تعددية الأطراف حدود هذا الحقل «التقني»، لتكتسب معنى أوسع بكثير: حلول تعددية الأطراف محل كل نظام يجمع عدة دول، فترتبط هذه الدول فيما بينها بالتزامات متساوية ومتبادلة، بقواعد مشتركة. وفي هذا المنظور، فإن مجمل كوكبة منظمة الأمم المتحدة، أي منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة، إنما تكتشف أن ما يديرها هو تعددية الأطراف.

ولكن من أين تنبع تعددية الأطراف ؟ وما هي عناصرها الأساسية ؟ وهل هي حاملة لنظام دولي مختلف جذرياً عن الغابة المشتركة فيما بين الدول والتي تدير العالم منذ قرون ؟ قبل تناول هذه المسائل، يجب في الوقت نفسه تقديم تعريف مرن لتعددية الأطراف: تعددية الأطراف هي تطبيق المبادئ الديمقراطية على العلاقات الدولية.

تعددية الأطراف، ابنة التنوير والولايات المتحدة

الإحاطة بأصول مفهوم ما مشروع ضروري ومحفوف بالمخاطر. فكل فكرة هي النتاج غير المستقر لدروب معقدة، محتجبة غالباً، يتوجب محاولة استعادة اكتشافها. وفي ما يتعلق بتعددية الأطراف، فإن البذور الأولى قد غُرست في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مع دخول أوروبا الحداثة. إذ يتساءل جروشيوس وهوبز وكانط عن مجتمع الدول، كما عن السبل اللازمة لكفالة السلم فيما بينها. ومنذ «ما قبل التاريخ» هذا، قيل كل شيء: فمن الواضح أن الدول تشكل مجتمعاً، إذ يحاول قانون البشر إدراجها في شبكة التزامات متبادلة. والسلام، إذا كان يرجو أن يكون «دائماً» (كانط، 1795)، إنما يتطلب ميثاقاً بين هذه الدول، يحدد حقوقها وواجباتها، ويؤسس آليات تسوية المنازعات. وما سوف يسمى فيما بعد بتعددية الأطراف إنما يأخذ بالتكون في هذه المعالجة العقلانية والمعقولة للعلاقات فيما بين الدول. فبالنسبة لهؤلاء الفلاسفة الذين يعيدون التفكير في أسس المجتمعات، لم يكن من الممكن لمسألة العقد الاجتماعي أن تقتصر على التنظيم السياسي لجماعة بشرية خاصة (كالبريطانيين أو الفرنسيين، الخ) بل إنها تقود إلى مناقشة العلاقات فيما بين الدول و، أبعد من ذلك، فيما بين جميع البشر.

وفي هذا المجرى، نجد أن الفكر الليبرالي (كفكر بنيامين كونستان، الذي يرى أن التجارة مصيرها أن تحل محل الحرب)(2) إنما يتأمل، هو أيضاً، شروط سلام لا يمكن اختزاله في هدنة بين حربين، وإنما يستقر بصورة مقيمة. وبالنسبة للِّيبرالية الكلاسيكية، فإن التجارة والصناعة تجيئان بالسلام، إذ تدفعان البشر إلى إدراك أنهم، ببلوغهم مرحلة معينة من مراحل الثراء والتمدن، سوف يمكنهم العيش بشكل أفضل عبر تعزز التبادلات فيما بينهم مما عبر نهب بعضهم البعض الآخر بشكل متبادل.

وتحقق النزعة الأممية الليبرالية اختراقها السياسي مع النقاط الأربع عشرة التي طرحها الرئيس الأميركي ويلسون (خطاب 8 يناير/ كانون الثاني 1918) (3). وتقترح النقطة الرابعة عشرة: «وجوب تكوين رابطة عامة للأمم […] سعياً إلى تقديم ضمانات متبادلة بشأن الاستقلال السياسي ووحدة التراب الوطني للدول الكبرى كما للدول الصغرى». والحال أن هذا النص، دون أن يستخدم مصطلح تعددية الأطراف، إنما يقوم بتعريفها: فهي اتفاق بين، إن أمكن، جميع الدول، «يضمن للجميع الحقوق والواجبات نفسها». وهنا تتكشف جذور تعددية الأطراف: السعي إلى نظام دولي أخلاقي، الإيمان شبه الخلاصي بأن بالإمكان بناء مجتمع حقيقي أو حضارة حقيقية تجمع بين الدول، الثقة بالقانون وبالمؤسسات. والحال أن ويلسون، وهو ذهنية متدينة وجامدة إلى حد ما، هو أستاذ للقانون. وهو يعتقد أن «عصبة أممـ»ـه سوف تجلب السلام الحقيقي للعالم.

وعبر الولايات المتحدة، عبر رؤسائها (وودرو ويلسون وفرانكلين د. روزفيلت وهاري ترومان)، تصبح هذه النزعة الأممية الليبرالية مشروعاً سياسياً. ومنذ البدايات الأولى لديبلوماسية الولايات المتحدة، نجد أن هذه الديبلوماسية إنما تدور حول مسألة مركزية: كيف يمكن ضمان بقاء الجمهورية الأميركية ؟ كيف يمكن السهر والحرص على ألاّ تؤول هذه التجربة، الفريدة آنذاك، إلى القضاء عليها عن طريق أطماع الآخرين، و، خاصة، أطماع الملكيات الأوروبية ؟ وينصح جورج واشنطون، في وصيته، باعتماد الانعزالية: فالولايات المتحدة، المتمتعة بحمايات طبيعية (تتمثل في المحيطين الأطلسي والهادئ)، يجب وبوسعها عمل كل شيء من أجل صون حصانتها البحرية والبقاء على قدميها خارج اضطرابات العالم. لكن العالم، وأوروبا أولاً، بما فيه من تنافسات، لا يمكن نسيانه. والولايات المتحدة تتحول إلى قوة تجارية جد عظمى لا يمكنها أن تحيا بالاعتماد على نفسها فقط. وفي هذه الظروف، لا يبقى سوى تحويل الكوكب وإقامة نظام دولي جديد يتماشى مع القيم الديموقراطية.

وتتميز تعددية الأطراف بتناقض ولدت به: فمع فهمها على أنها «لا جغرافية»، أي عالمية، نجد أنها لا يمكن فصلها مع ذلك عن مخطط جيوسياسي: أمن الجزيرة الأميركية عن طريق حشد المعمورة حول القيم الديموقراطية التي أنشأتها الولايات المتحدة في قلب هذه الجزيرة. وعلى امتداد الحرب العالمية الثانية، يحشد روزفيلت ثم ترومان رأسمالهما السياسي لأجل إنشاء منظمة الأمم المتحدة(4). والمقصود هو عدم السماح، مهما كان الثمن، بتكرار أخطاء فترة ما بين الحربين العالميتين: عدم مشاركة الولايات المتحدة في عصبة الأمم، عجز هذه العصبة في مواجهة الدول الفاشية. فالديموقراطية الأميركية لن تكون في أمان ما لم تكن محاطة بدول تتقاسم المبادئ نفسها، مع ضمان هذه المبادئ من خلال منظمة دولية. وبالنسبة للولايات المتحدة في أواخر أربعينيات القرن العشرين، بين الحربين العالميتين والحرب الباردة، تظل تعددية الأطراف المثل الأعلى، الخير. وفي فجر تسعينيات القرن العشرين، على أثر انهيار الكتلة السوفييتية، يستعيد جورج هـ. و. بوش ويواصل حجاج سلفيه، ويلسون وروزفيلت: إن النظام العالمي الجديد سوف يستند إلى الديموقراطية واقتصاد السوق ومنظمات دولية قوية.
ومن ثم فإن تعددية الأطراف ناتجة عن أصول معقدة وتظل فاعلة دوماً. وأشكالها جد متنوعة. وهي تتجسد في هياكل عالمية وإقليمية، وتقنية وسياسية، في آن واحد. وهناك تعددية أطراف «صلبة»، تتأسس على قواعد صارمة (كالمؤسسات الأوروبية)، وتعددية أطراف «رخوة»، أو مرنة، تعلي من شأن التصرفات (كرابطة أمم جنوبي-شرقي آسيا).

العناصر الرئيسية لتعددية الأطراف

التجارب متعددة الأطراف إلى الآن عديدة ومتنوعة بما يكفي لتمييز أربعة عناصر رئيسية لهذه الممارسة:
ـ كل مفهوم متعدد الأطراف إنما ينطلق من ميثاق اجتماعي. فتعددية الأطراف تعيد، بالنسبة للدول، صياغة المسألة التي يطرحها الفلاسفة على أنفسهم، بالنسبة للأفراد: كيف يمكن الانتقال من حالة الطبيعة، أي من الغابة، إلى حالة الثقافة، أي إلى المجتمع ؟ من الواضح أن المرحلة الأولى هي عقد اتفاقٍ، عقدٍ فيما بين الأطراف المشتركة. وبهذا القانون الواضح، المكتوب، تزود الأطراف أنفسها بقاعدة موضوعية يمكن أن يتذرع بها الجميع. أمّا القانون الطبيعي، الغريزي، غير المكتوب، فهو لا يتجاوز حدود علاقات القوة: فالقوى يأمر والضعيف ينصاع. بينما الميثاق يؤدي إلى مولد نظام تحكمه النصوص. هذا هو طموح عصبة الأمم كما هو طموح منظمة الأمم المتحدة: إيجاد مجال للقواعد وللإجراءات، يجب ويمكن للجميع الاعتراف به.
وتعددية الأطراف، استيعابية شاملة ويجب أن تكون كذلك. فهي لا يمكنها العمل بشكل جيد إلاَّ إذا توصلت إلى عدم ترك أي واحد (هنا، أي دولة) في الخارج. فهدف تعددية الأطراف هو دمج جميع الدول في مشترك واحد من القواعد. والدول التي تبقى خارج هذا الترتيب إنما تثير الشك في مشروعيته. وينظر الترتيب إليها على أنها منحرفة، جانحة، يتوجب اجتذابها عن طريق مزيج من المكافآت والعقوبات. بيد أن هؤلاء المتمردين (وهم، في عام 2004، كوريا الشمالية وإيران وكوبا) إنما يعتبرون الترتيب عديم الشرعية وغير عادل؛ فهو أداة في خدمة الدول الكبرى القائمة؛ ومن ثم يجب القضاء عليه.

ـ هذا الميثاق متعدد الأطراف مساواتي، فهو يحدد للأطراف المشتركة حقوقاً والتزامات واحدة. والحال أن الطبيعة الديموقراطية لتعددية الأطراف إنما تجد ترجمة لها بالأخص في المساواة بين الدول في الحقوق والواجبات. وتعددية الأطراف تطالب الدول المتمدينة التي تمثلت هذه المبادئ بـ: احترام وحدة التراب الوطني للدول الأخرى، وبعدم اللجوء إلى القوة في حالة النزاع، ومراعاة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. ويمكن لتعددية الأطراف أن تتعايش، في أقصى تقدير، مع دول غير ديموقراطية (حيث أن كل جماعة سكانية حرة من حيث المبدأ في إدارة أمورها بالشكل الذي تراه)، بيد أنها لا يمكنها التعامل إلاَّ مع دول يمكن التنبؤ بتصرفاتها، لأنها قبلت بشكل كامل قواعد اللعبة ولأنها تطبق هذه القواعد بحسن نية. ويجب أن تكون هناك ثقة متبادلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الثقة لا يمكنها أن تتوطد إلاَّ إذا لم تكن هناك ميزة خاصة لأحد وإلاَّ إذا كان الجميع يتحملون التزامات واحدة.

وفي الممارسة العملية، يتضمن كل ترتيب متعدد الأطراف بعداً من أبعاد انعدام المساواة. فمن المستحيل إنكار واقع النظام الدولي نفسه و، بشكل أكثر تحديداً، وزن الدول المتفاوت. ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية توضح هذا الالتباس: فخمس دول، هي الدول الكبرى النووية في الأول من يناير/ كانون الثاني 1967، هي أكثر مساواة من الآخرين؛ فهي تملك حق الاحتفاظ بترساناتها النووية، بينما جميع الدول الأخرى المشتركة في الترتيب متساوية على مستوى «أدنى»، وذلك بتخليها عن حيازة السلاح النووي وبقبولها تفتيشات من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتخذ من فيينا مقراً لها.

ـ هذا الميثاق الديموقراطي يجب أن يفترض إمكانية وقوع نزاعات فيما بين الأطراف المشتركة وكذلك إمكانية انتهاك الميثاق. ومن هنا آليات تسوية المنازعات أو استعادة النظام. فتعددية الأطراف تستند إلى حسن النية والثقة، إلاَّ أنه لا يمكن استبعاد سوء النية والغدر وانتهاك القاعدة. والمواثيق متعددة الأطراف (منظمة الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية، الخ) تنشئ مجموعة متنوعة من الأدوات للتغلب على النزاعات فيما بين الأطراف أو لتسوية هذه النزاعات: التفاوض، الوساطة، التحكيم. بيد أنه لا مفر من توقع أسوأ الأمور: أكان استحالة التوصل إلى حل وسط فيما بين الدول المتنازعة أو المخَالَفَة السافرة. ولابد من شرطي للسهر على احترام مبادئ المنظومة: وتلك تحديداً هي مهمة مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة: فبما أنه مسئول عن صون السلم، فإن عليه أن يتدخل أولاً للفصل بين الدول التي تتعارك (أي تتحارب، بشكل سافر).

ـ وأخيراً، تتطلب تعددية الأطراف أن يكون كل قطب من أقطاب السلطة (ومن ثم الدول) تحت الرقابة. وكما يتساءل كانط في كراسه مشروع من أجل السلام الدائم، فهل يكفي وجود ميثاق فيما بين الدول لفرض الانضباط عليها ؟ إن الدول قد تجد غواية في استخدام هذا الميثاق كأداة للحجب في خدمة مزاياها المكتسبة، بما أن الرابطة الموجودة بين الدول تسمح لها بأن تكفل لنفسها، على نحو متبادل، السلطة التي تمارسها على شعوبها. وفي أعوام 1815-1830، ألم يشكل التحالف المقدس ميثاق سلام فيما بين الملكيات الأوروبية، اتحدت بموجبه هذه الملكيات في حجب انتشار الأفكار الثورية بين صفوف الشعوب ؟ ومن ثم فمن المهم أن ينشئ الميثاق متعدد الأطراف، بشكل يتجاوز الدول الأطراف، آليات مستقلة لمراقبتها ويكون بوسعها مساءلتها. وتظل أوروبا المعمل الأول لهذا البُعد من أبعاد تعددية الأطراف، حيث توجد مؤسسات للوقوف ضد الدول تتمثل بالأخص في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومحكمة العدل للمجتمعات الأوروبية.


تعددية الأطراف والدول المعاندة

من الطموحات التاريخية لتعددية الأطراف تحول الغابة المشتركة بين الدول إلى مجتمع دول. ويبدو أن تكاثر المنظمات المشتركة فيما بين الدول على اختلاف مراميها، وعلى جميع المستويات، والتطور الموازي لعدد لا حصر له من الحركات الخاصة، إنما يثبتان النجاح الملحوظ للعملية. على أن واقع الدولة ما يزال قائماً. والتفاوتات الفعلية (الحجم، السكان، الموارد، القدرات العسكرية، الخ) بين هذه الدول تواصل الضغط بكل ثقلها.

وقبول تعددية الأطراف متغير أولاً بحسب الدول. وهكذا نجد أن القوة الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة، تخضع للقواعد متعددة الأطراف في المجال التجاري، إدراكاً منها لواقع أنها لا يمكنها أن تطالب الدول الأخرى (خاصة الدول البازغة) بالخضوع للقواعد التجارية الدولية إن لم تلتزم هي نفسها بهذه القواعد. إلاَّ أنه ما أن يتعرض لب السيادة والقوة الأميركية للتهديد، فإن الولايات المتحدة تبتعد عن الانضمام وعن تقييد نفسها (عدم المشاركة في الاتفاقية الأميركية المشتركة لحقوق الإنسان، رفض المحكمة الجزائية الدولية). كما أن روسيا والصين ترفضان المحكمة الجزائية الدولية، شأنهما في ذلك شأن إسرائيل التي تعرف، وهي التي تخوض حرباً متصلة، أن عدداً من أفعالها يمكن أن يؤدي إلى جرها إلى المثول أمام هذه المحكمة.

وبعض المجالات تتكيف مع تعددية الأطراف بشكل أفضل من مجالات أخرى. فعند أحد الطرفين القصويين، نجد أن التجارة تنظم نفسها بشكل سهل ضمن إطار متعدد الأطراف. وعند الطرف الأقصى الآخر، وهو الذي يتمثل في الحرب، نجد أن كل الدول تقريباً تنفر من تعددية الأطراف، لأن هذه الدول ليست مستعدة للتخلي عن حقها الأسمى في اتخاذ قرار بالحرب. وتزعم منظمة الأمم المتحدة أنها تكفل إخضاع جميع أعضائها للالتزامات الواحدة التي يمليها القانون الدولي. والحال أن المادة 51 من الميثاق تنص على أن «أي ترتيب وارد في هذا الميثاق لا يمكنه المساس بالحق الطبيعي في الدفاع المشروع، الفردي أو الجماعي». وهذا التذكير، حتى وإن كان مقيَّداً، إنما يعيد إدخال الغابة إلى مجتمع الدول، وذلك لأن أياً منها، وأولاً لأن أياً من الدول الأقوى، ليست مستعدة للتنازل عن استخدام القوة. والآليات متعددة الأطراف تنشئ مجتمعات مشتركة بين الدول، لكن هذه المجتمعات لا تلغي الغاية، بل تُضاف إليها.

وقد ولدت المبادئ الديموقراطية وتطورت في داخل دول (الولايات المتحدة، فرنسا، الخ)، إذ كان جهاز الدولة من الكفاءة بما يكفي لاحتواء أو اختزال التفاوتات. واللحظتان الديموقراطيتان اللتان عرفتهما البشرية (المدن الإغريقية، الدول-الأمم منذ أواخر القرن الثامن عشر) إنما تربطان التطور الديموقراطي بوجود مجتمعات سياسية، مؤسسية قوية: فالمساواة يجري قبولها باسم الانتماء إلى مواطنة مشتركة. والحال أن تعددية الأطراف هي الديموقراطية دون هذا الجهاز القوي لتحقيق التجانس ولاختزال التفاوتات، والذي هو الدولة. وتستند كوكبة منظمة الأمم المتحدة على المساواة في الحقوق بين الدول، لكنها لا تملك لا الشرعية ولا القدرات اللازمة لتسوية التفاوتات فيما بين الدول. وعلى سبيل المثال، نجد، من حين لآخر، أن فكرة ضريبة عالمية يتم طرحها، لكن منظمة الأمم المتحدة لا تملك السلطة التشريعية التي تؤهلها لسن قانون بضريبة كهذه. وسوف يتمثل السبيل الممكن الوحيد في معاهدة مشتركة بين الدول، لن تتطلب من الدول سوى توقيعها والتصديق عليها. ومن المقدَّر لتعددية الأطراف أن تتجسد في ترقيعات قاصرة.

وبحسب صيغة ماكس فيبر، فان الدولة تحوز احتكار العنف الشرعي (الشرطة، الجيش). والحال أن تعددية الأطراف، إذا ما وصلت إلى أقصى مدى لها، إنما تحول هذا الاحتكار إلى شرطي عالمي. وفي روح ميثاق منظمة الأمم المتحدة، تصبح الحرب انتهاكاً يتوجب على مجلس الأمن منعه أو معاقبته. لكن الدول جد بعيدة عن أن تكون مستعدة لأن تقفز قفزة ملحوظة كهذه. ومجلس الأمن لا يملك إرادة في صون السلم ما لم يتوصل أعضاؤه إلى اتفاق. أما فيما يتعلق بجيش منظمة الأمم المتحدة الذي تنص عليه المواد 45 إلى 47 من الميثاق، فإنه لم ير النور قط، وذلك لإصرار الدول الكبرى، في المقام الأول، على الاحتفاظ بالسيطرة على الإمكانات العسكرية.

تعددية الأطراف والقطبية المتعددة

يتكرر وجود الصدام بين الحقائق الواقعية للدول ومنطق تعددية الأطراف المساواتي في العلاقات المعقدة بين القطبية المتعددة وتعددية الأطراف. فالمصطلحان غالباً ما يجري تقديمهما على أن كلاً منهما يمكن أن يحل محل الآخر. والحال أن الأولى والأخرى إنما ينبعان من فلسفتين متعارضتين بشأن النظام الدولي.

فالقطبية المتعددة ليست غير أحد الأشكال الممكنة لتنظيم الغابة المشتركة بين الدول. وكل نظام يستند إلى عدة أقطاب للقوة تتوازن بعضها مع البعض الآخر إلى هذا الحد أو ذاك هو نظام متعدد الأقطاب. وهو ما كان مع أوروبا الكلاسيكية التي نظمتها الألعاب فيما بين الملكيات الأوروبية الكبرى: فما أن تحاول واحدة منها السيطرة على الأخريات، تتحالف الأخريات فيما بينها لتحطيم الطموح الهيمني. أمّا نظام الشرق-الغرب، الذي كان ثنائي القطبية (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي)، ثم أصبح ثلاثي القطبية (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، الصين)، فهو أيضاً نظام متعدد الأقطاب، تحكمه التوازنات وتنويعاتها فيما بين قطبي النظام، ثم فيما بين أقطابه الثلاثة. ولا تتطلب القطبية المتعددة أي ميثاق دائم بين أطراف مشتركة؛ فشأن وحوش الغابة، يمكنها أن تتعايش، وأن تتجاهل بعضها البعض الآخر تارة، وأن يواجه بعضها البعض الآخر تارة أخرى. أمّا تعددية الأطراف فهي لا تقوم دون عقد تأسيسي. ولا يعود القانون هو القانون الطبيعي، الغريزي، المتماهي مع وضع القوى، فهو قانون خارجي، مبني، ويتخذ مظهراً موضوعياً. والقطبية المتعددة أرستوقراطية ـ فالسلطة فيها تخص كبار الإقطاعيين. أمّا تعددية الأطراف فهي ديموقراطية.

وفي الواقع العملي، يمكن الجمع تماماً بين القطبية المتعددة وتعددية الأطراف. وذلك بحسب توليفات متنوعة. ومن شأن تكاثر أشكال الاعتماد المتبادل، وتطور القانون والمؤسسات الدولية جعل كل نظام متعدد الأقطاب مصبوغاً بتعددية الأطراف. وقد أنتج نظام الشرق-الغرب ما هو متعدد الأطراف (كمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا). وبالمثل، قلّما توجد تعددية أطراف إلاّ وبها مكوِّنات من تعددية الأقطاب. فمنظمة الأمم المتحدة، المتعددة الأطراف، إنما تتضمن في قلبها مستوى متعدد الأقطاب، وذلك بما أن الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن قد جرى تحديدهم بوصفهم الدول الكبرى الخمس الأولى في العالم، المسئولة عن صون السلم.


تعددية الأطراف ليست نهاية التاريخ

تشكل تعددية الأطراف جزءاً من مبادئ غربية عديدة لها اتجاهها العالمي. فالمساواة فيما بين الفاعلين، وتعزيز المعايير المكتوبة، والتسوية السلمية للمنازعات، كل هذا مقصود به أن يكون قابلاً للتعميم على مستوى العالم. وفي الوقت نفسه، فقد أدين عدد من المنظمات متعددة الأطراف بوصفه أداة في خدمة الدول الكبرى القائمة. وفي منظمة الأمم المتحدة، نجد أن المنتدى المتعدد الأطراف تماماً، أَلاَ وهو الجمعية العامة حيث تعد جميع الدول الأعضاء متساوية، لا يُصدر غير توصيات. فالمستوى الأوليجاركي، أَلاَ وهو مجلس الأمن، هو الذي يحوز السلطة الإلزامية من الناحية الحقوقية، وذلك بموجب الفصل السابع من الميثاق. وفيما يتعلق بصندوق النقد الدولي، فان مبادئه التي يقال إنها عالمية، لا تفعل سوى التعبير عن الأرثوذكسية النقدية والمالية: «توافق آراء واشنطون» الشهير. وأَمَّا فيما يتعلق بمنظمة التجارة العالمية فهي تُلزم كل دولةٍ من الدول الأعضاء بالخضوع لقواعد تجارية ليبرالية وتتجاهل تفاوت أحوال البلدان، إذ يجري اعتبار جميع -البلدان المتقدمة والبلدان النامية- متساوية. ولن تكون المساواة سوى زعم كاذب يسهم في إضفاء الشرعية على صدارة البلدان الغربية. ثم إن جميع هذه الهياكل متعددة الأطراف إنما تنتج بيروقراطيات تزعم أنها المتحدث بلسان المصالح العامة للبشرية، بينما هي، في الواقع، تفرض على الكوكب معاييرها هي.

وفي الوقت نفسه، تمارس كل هذه الهياكل متعددة الأطراف سلطة جاذبيةٍ قوية. فهي أندية واسعة إلى هذا الحد أو ذاك، من المستحسن الانتماء إليها. وفي أغلب الأحوال، تدق الدول غير المنتمية إلى النادي على بابه. فبالنسبة لدولة من الدول، يعني انتماؤها للنادي أنها ليست وحيدة تماماً، وأن بوسعها التذرع بقواعد النادي في العلاقات مع الدول الأخرى، وأن بوسعها التمتع بحاجز يحميها. وتضم منظمة التجارة العالمية بالفعل ثلاثة أرباع دول العالم (147 عضواً في 22 أبريل/ نيسان 2004). ومن لم يلتحقوا بها بعد (روسيا، عدة بلدان عربية) يتكالبون على الانضمام إليها، مدركين أنهم لن يُعتبروا شركاء تجاريين محترمين إلاّ إذا انضموا إلى المنظمة. كما أن الاتحاد الأوروبي لا يفتقر إلى مرشحين للانضمام إليه. فالانضمام إلى الاتحاد إنما يعني الاستفادة في آن واحد من ساحة للتبادلات ومن حماية في مواجهة من ليسوا أعضاء فيه.

ومن ثم تظل تعددية الأطراف في توسع سافر. وما يؤدي إلى انتشارها هو تكاثر أشكال الاعتماد المتبادل وحاجات خلق أطر مؤسسية لهذا الاعتماد المتبادل. وإذا كانت تعددية الأطراف تمر بأزمة، فهي ناتجة عن تبنيها من جانب الدول غير الغربية كما من جانب المنظمات غير الحكومية. فقد ازدهرت تعددية الأطراف غداة الحرب العالمية الثانية، في أندية دول غربية (الجات أو الجماعة الأوروبية). لكنها تفلت اليوم من هذه الأندية المحدودة. ذلك أن بلدان الجنوب والمنظمات غير الحكومية سواء بسواء إنما تريد تبنيها وإعادة صياغتها سعياً إلى الفوز بمراعاة مطالبها على نحو أفضل. وهذه السيرورات تعيد بالضرورة تعريف تعددية الأطراف. فالدول غير الغربية، وقد تحررت من أوهام تكتل العالم الثالث، إنما تبحث شيئاً فشيئاً عن توازن بين مطلبها في الاستقلال وقبول الضوابط الدولية. وتطالب المنظمات غير الحكومية بأساليب أكثر شفافية لاتخاذ القرار، بيد أن عليها بالمثل تعميق حجاجها والتوصل إلى فهم أفضل لما هو ممكن ولما هو غير ممكن.

إن تعددية الأطراف، والتي أنجبها الحلم الكانطي أو الولسوني عن السلام الدائم، إنْ هي إلاّ أداة تعزِّزُ وتوطِّدُ المجتمع المشترك فيما بين الدول. وقد يبدو أنها تعد بـ«نهاية التاريخ» وبإلغاء الحرب وبمجئ بشرية متحررة من عنفها الأزلي. لكن واقع الدولة، والتفاوتات فيما بين الدول، وسيطرة القوة، إنما تظل معطيات لها وزنها الجسيم. وما يوحي به التاريخ هو أن كل تقدم نحو مزيد من النظام، نحو مزيد من التنظيم، إنما تصاحبه ردود فعل وأشكال مقاومة، ومفاجآت. وكل الجهود المبذولة للتوصل على نحو أفضل إلى السلم، وفي عدادها تعددية الأطراف، إنما تستثير إعادات ابتكار للعنف. وليس أي بنيان مؤسسي بمأمن من كارثة: أزمة اقتصادية، حرب … ولا يجب أن نطلب من تعددية الأطراف ما هو أكثر مما يمكنها تقديمه.

ــــــــ
* فيليب مورو دوفارج، وزير مفوض، وباحث بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ومحاضر بمعهد الدراسات السياسية بباريس.

01 Voir, par exemple, l'article «Multilaréalisme» dans M.-C. Smouts, D. Battistela et P.Vennesson (dir.), Dictionnaire des relations internationals ,Paris, Dalloz, 2003, p, 333-335.

02 «لقد وصلنا إلى عصر التجارة، العصر الذي لابد له بالضرورة من أن يحل محل عصر الحرب، مثلما كان لابد لعصر الحرب أن يسبقه بالضرورة». هكذا تكلم بنيامين كونستان في De l'esprit de conquête et de l'usurpation dans leurs rapports avec la civilization européenne, Paris, Gallimard, «La Pléiade», 1964, p. 959.

03 P.Bobbitt, The Shield of Achilles, Londres, Penguin Books, 2003, notamment p. 367-410.

04 S.C.Schlesinger, Act of Creation. The Founding of the United Nations: A Story of Super Powers, Secret Agents, Wartime Allies and Enemies and Their Quest for a Peaceful World, Boulder (CO), Westview Press, 2003 .




نشر في مجلة بوليتيك ايترانجير، 3/2004.

0 التعليقات: