جورج حنين ومأساة إسبانيا

بشير السباعي

عندما اختار جورج حنين الانحياز إلى جانب المعسكر الثوري خلال الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939)، لم يكن ذلك الاختيار مجرد ترجمة لعدائه السافر للفاشية التي أنجبتها أزمة المجتمع البورجوازي وعززتها أزمة قيادة الحركة العمالية، بل كان أيضاً نتاج تجربته المباشرة مع الواقع الأسباني على مدار عامين من أعوام التكوين الأولى لمثل الإنسان الذي سوف يصبح، فيما بعد، شاعراً ثورياً.
كان ابن العاشرة قد وصل إلى أسبانيا في عام 1924، بعد ست سنوات فقط من انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كانت قد ساعدت على تزايد ثراء كبار المزارعين الأسبان من خلال اتساع صادراتهم من المحاصيل الزراعية إلى الدول الأوروبية المنخرطة في الحرب. وقد ساعدت أرباح الصادرات على تمويل التنمية الصناعية في برشلونة، وفي سانتاندر وفي بيلباو، مما قاد إلى نمو البروليتاريا الصناعية في تلك المدن وإلى ظهور حركة عمالية ثورية.

لكن انتهاء الحرب قد أدى إلى خسارة الأسواق الخارجية وإلى احتداد الأزمة الاجتماعية – السياسية داخل أسبانيا. وقد وصل جورج حنين إلى مدريد بعد نحو عام واحد من بدء مناورة احتواء الأزمة.

ففي عام 1923 دشن الجنرال بريمو دي ريبيرا، في ظل الحكم الملكي، ديكتاتورية عسكرية سوف يقول عنها تروتسكي (1879-1940)، فيما بعد، أنها كانت "تحمل في داخلها رذيلة الملكية الأسبانية التي لا علاج لها، فهي وإن كانت قوية تجاه كل من الطبقات المنفصلة، إلا إنها قد ظلت عاجزة فيما يتصل بالحاجات التاريخية للبلاد".

وبينما كان صادق حنين باشا، سفير مصر لدى أسبانيا (1924-1926)، ووالد جورج، يذهب إلى حفلات الاستقبال الباذخة في القصر الملكي الأسباني أو يجتمع مع رموز الديكتاتورية العسكرية وممثليها في وزارة الخارجية الأسبانية، كان الابن يتحسس عجز هذه الديكتاتورية عن تلبية "الحاجات التاريخية للبلاد".

لقد كانت أسبانيا بلداً زراعياً. وعندما وصل جورج حنين إلى هناك كانت نسبة 80 في المائة من سكان البلد تتألف من أشباه بروليتاريين زراعيين، من معدمين رازحين تحت نير مختلف صور القهر والاستغلال والتحلل في مستنقع الفقر والبطالة، علاوة على التجهيل المتواصل لهؤلاء المعدمين على يد جيش جرار من الرهبان والراهبات كان عدده آنذاك يساوي عدد تلاميذ المدارس الثانوية ويزيد مرتين على عدد تلاميذ الكليات الجامعية في كل إسبانيا في ذلك الوقت.

ولم يكن حال البروليتاريا الصناعية أفضل كثيراً من حال فقراء الجنوب الزراعيين.

ولابد أن الفتى الذي لاشك في أنه قد توقف طويلاً أمام أعمال فرانشيسكو دي جويا (1746-1828) قد قال لنفسه أن الشعب الذي أنجب جويا (كان في مستهل حياته حرفياً يعمل بصناعة السجاد)، جدير بمصير أحسن.

ولا شك أن سقوط دي ريبيرا في يناير 1930 وإعلان الجمهورية في أبريل 1931 قد قوبلا بترحيب شاعرنا، إلا أنه سوف يشعر بسرور أكبر عندما يسمع أخبار الهبات الثورية التي نظمها الفوضويون في كاتالونيا في يناير 1932، وانتفاضة عمال المناجم في آستورياس في أكتوبر 1934، واستيلاء الفلاحين على الأرض في ايستريمادورا في مارس 1936، واستيلاء العمال، بالقوة، على الأسلحة في برشلونة في يوليو 1936 ومقاومتهم الجبارة للتمرد الفاشي الإجرامي.

وبعد معارك برشلونة الظافرة، سوف يكتب قصيدة: "عاشت كاتالونيا" محيياً عمال كاتالونيا البواسل الذين نسفوا مواقع المدفعية الفاشية في برشلونة عن طريق عمليات تتميز بالجسارة الثورية النادرة.

ولا شك أن جورج حنين سوف يشعر بالحزن العميق حين يسمع خبر استشهاد ديوروتي (1896-1936)، القائد الفوضوي اليساري الأسطوري الذي دوخ الفاشيين في كاتالونيا وفي كاستيل، والذي سقط شهيداً في معارك الدفاع عن مدريد ضد الهجوم الفاشي البربري. وسوف يشعر جورج حنين بالاشمئزاز حين يسمع خبر اغتيال أندريه نين (1892-1937)، عدو الفاشية السافر، على يد رسل ستالين الذي كان قد قرر التضحية بالثورة الأسبانية لحساب وفاق مع البورجوازيتين الفرنسية والبريطانية.

كانت فرنسا الجبهة الشعبية وبريطانيا العظمى قد وقعتا في 15 أغسطس 1936 ميثاق عدم التدخل في شئون أسبانيا بعد أقل من شهر من بدء تمرد الفاشيين. وحتى أول أكتوبر 1936، التزم ستالين بموقف عدم التدخل في الوقت الذي كانت تتسع فيه عمليات الفاشيين الأسبان المتحدين خلف الجنرال فرانكو. وعندما قرر ستالين أخيراً التخلي عن موقف "عدم التدخل"، كان يهدف إلى حصر الثورة الأسبانية داخل الأطر الديموقراطية البورجوازية ومنع تحولها إلى ثورة اشتراكية حتى لا يخسر فرنسا وانجلترا، خاصة بعد أن وقعت ألمانيا واليابان في ديسمبر 1936 الميثاق المعادي للكومنترن. وسوف يصل الأمر بستالين إلى حد حل الكومنترن نفسه في عام 1943 تبديداً لمخاوف البورجوازية الأنجلو – ساكسونية.

وعندما تتكشف أبعاد جريمة "عدم التدخل"، سوف يكتب جورج حنين قصيدته العظيمة : "عدم التدخل"، ليشجب خونة الثورة الأسبانية. وسوف تظهر هذه القصيدة في صدر ديوانه الأول: "لا مبررات الوجود".

على أن انحياز شاعرنا إلى جانب الثوريين الأسبان لم يقتصر على التعاطفات القلبية وكتابة القصائد. فقد شرع فور نشوب الحرب الأهلية في 17 يوليو 1936 بتنظيم حملة تبرعات في مصر لمساعدة الجمهوريين، وسوف تتسع هذه الحملة مع وصول الكتائب الأممية إلى مدريد في نوفمبر 1936.

وقد كتب إلى هنري كاليه، الروائي الواقعي الفرنسي، يخبره، في أواخر عام 1936، بمجهوداته في هذه الحملة ويشيد بأساليب الفوضويين اليساريين الجذرية في التعامل مع عملاء فرانكو، مؤكداً: "إنني لم أيأس من المشاركة يوماً في فعل الخلاص العام هذا".

وسوف يستقبل رواية أندريه مالرو (1901-1976) "الأمل"، التي تتحدث عن الأيام الأولى للحرب الأهلية، استقبالاً حماسياً، مختلفاً في ذلك مع تروتسكي الذي اعتبر الرواية " تقريراً كاذباً من ساحة القتال"، لأن مالرو قد تستر على دور الستالينية التخريبي في الثورة الأسبانية. لكن جورج حنين سوف يشير إلى هذا الدور في رسالة إلى كاليه في فبراير 1939، بعد ثلاثة أشهر من انسحاب الكتائب الأممية من أسبانيا، وقبل شهر واحد من انتهاء الحرب الأهلية، وسوف يكتب في العدد الأول من نشرة "الفن والحرية" (مارس 1939) مقالاً تحت عنوان : "خونة أسبانيا" يدين فيه خيانة البيروقراطية العمالية للثورة الأسبانية.

لقد حول الفاشيون أسبانيا إلى خرائب، كما تشهد على ذلك مأساة جيرنيكا في أبريل 1937. وسوف ينشر جورج حنين لوحة "جيرنيكا"، التي رسمها بابلو بيكاسو، على ظهر بيان : "يحيا الفن المنحط!" والذي كتبه شاعرنا في ديسمبر 1938، فور عودته من باريس.
وعندما يحاول المراءون البحث عن عزاء كاذب بالإشارة إلى أن ذخائر أسبانيا الفنية لم تمس بسوء، رغم أن أسبانيا نفسها قد تحولت إلى أشلاء، سوف يتهمهم جورج حنين، في فبراير 1939، بأنهم "جامعون لجثث الشهداء، يستثمرونها استثمارات عاطفية رخيصة رائعة"، وسوف يعلن أن اعتبار الفن تعويضاً عن الهزيمة ليس أكثر من إهانة قصوى يوجهونها إلى الفن : "إن قدر الفن الآن هو أن يخرج إلى الصفوف الأمامية للنضال، جنباً إلى جنب البشر الذين يريدون قهر الماضي بجميع السبل، وذلك بوصفه تحدياً وبوصفه تأكيداً روحياً تخريبياً في آن واحد. إن لوحة يتردد الفاشيون في إطلاق رصاص مدافعهم الرشاشة عليها أو في رشقها بحرابهم ليست من الفن في شيء، بل هي خسة فنية".



مجلة "الكتابة الأخرى"، القاهرة، ديسمبر 1992

0 التعليقات: