الحركة السوريالية في مصر

جان جاك لوتي
2 من 2
ترجمة
بشير السباعي
من بين الشركاء الأوائل، أشرنا إلى جانب جورج حنين إلى اسم إدمون جابس. وقد اكتشف بمفرده، في صدر شبابه، مرشده إلى السوريالية: ماكس جاكوب، الذي كان هو نفسه قد تخلى عنه السورياليون. وقد نصح ماكس جاكوب جابس بالاتصال ببول ايلوار في 1936/1937 ، وهو ما فعله بالفعل. وقد سارع جابس، لدى عودته إلى القاهرة، إلى التعريف بماكس جاكوب، بل إنه قد نشر الرسائل الذي كان هذا الأخير قد أرسلها إليه. وقد طلب جورج حنين إلى إدمون جابس أن يرتبط بشكل رسمي أكثر إلى الحركة التي أسسها. وكما ذكرنا أعلاه، فقد اشتركا في تأسيس لابار دو سابل. كما لعب إدمون جابس دوراً ثقافياً لا ينكر. وعلى أثر خلاف مع صديقه، أسس جابس وأشرف على مجموعته الخاصة: لو شيما دي سورس ونشر الأعمال التالية في مائتي نسخة فقط للعمل الواحد:

1- ج. جرينييه: الاضرابات، 1955.
2- ج. بونور: صمت رامبو، 1955.
3- ر. شار: إنسان الثلوج الكريه، 1956.

أما فيما بتعلق بعمله الشعري، فقد نشر جابس بين عامي 1930 و 1947 ست مجموعات شعرية، في القاهرة. وقد حاول أن يوضح لقرائه الحائرين، وقوف الحلم الأبدي في وجه الأرق، بما فيه من مسرات وخيبات أمل. كما نرصد في قصائده ميلاً واضحاً إلى الشعوذة اللفظية وشكلاً من الخبث الطفولي إلى جانب رغبة صادقة في التحرر من القيود العروضية. والحال أن هذه الروح المتمردة قد استخلصت لحسابها شيئاً من خيال ماكس جاكوب. وبعد أن أدت الأحداث إلى نضج الشاعر، أحداث حربي أسبانيا والحبشة ثم أحداث الحرب العالمية الثانية، فإنه يتوقف عن اللعب بالتورية، إلاَّ أنه بما أنه كان شبه جاد شبه مازح دائماً، فقد نشر سلسلة من "الأغنيات" التي تلخص كل مرارة الحياة والمجتمع وفيما بعد، حتى بعد ظهور أعمال رئيسية مثل أشيد داري (1959) أو كتاب الأسئلة أو حتى ايل أو الكتاب الأخير (1973)، فإننا نلحظ أن رؤية جابس للكائنات وللأشياء هي رؤية فريدة. ولا مراء في أنها رؤية أكثر اتصالاً بالواقع مما بالاستشباح، تجتمع، علاوة على ذلك، مع سذاجة موقف بكر تماماً من العالم. ولا يفتقر إدمون جابس إلى الاستغلال الصارم لأبسط زوايا الحياة الباطنية.

*

في الحركة السوريالية في مصر، احتلت ماري كافاديا (1901-1970) مكانة خاصة إلى حد ما. لقد كانت من أوائل من دعموا نشاط حنين وجابس الأدبي، حيث فتحت له أوسع أبواب صالونها بل وعرضت نفسها للخطر من جراء ذلك. ومازال إنتاجها الشعري مبعثراً في المجلات المحلية بحيث يصعب الوصول إليه. أما فيما يتعلق بمجموعاتها، فهي تقتصر على إعادة إصدار لكتاب الربيع (1943) وعلى سلسلة من الحكايات ظهرت تحت عنوان بشرة الملاك (1944). وهذا العمل الأخير وحده هو الذي يمكن اعتباره سوريالياً بحكم موضوعه أولاً، ثم بحكم استخدامه لعدد من المكملات الملازمة للسوريالية: اللقاءات غير المتوقعة، الاختفاءات، الممسوخات، وخاصة بحكم استخدام ألفاظ جديدة يتكفل السياق بتوضيحها: بليز، ريشي، موردور... كما نرصد إحساساً مثيراً أبدياً بالألم الروحي وبالرعب وبالمستحيل إدراكه وبالقسوة وبالشبق الحزين وبالإيمان بأباطيل التطير والذي يفضي إلى الإشارات الأكثر مدعاة للاستغراب.

*

وإذا كان حنين وجابس قد ظلا ضمن الإطار الدقيق للسوريالية، إلاَّ أن الكتاب الذين جاءوا بعدهما قد أعطوا الأولوية لعدد من الجوانب جد المحددة لهذا النهج في الإبداع. وهكذا فإن حورس شنودة ( ولد عام 1917) قد حافظ في عمليه: استيهامات (1942) و الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم (1946) على غرابة الصورة. وتحت فوضى ظاهرية بأكثر مما هي واقعية، فإن عمق الفكر يتحالف عنده مع المنطق الباطني. وهذا هو ما يختلف فيه اختلافاً أساسياً مع السورياليين الذين يحتقرون وينبذون كل منطق، وكل سيطرة للعقل. فخلافاً للحال عندهم، نجد أن الرؤى والصور التي تنسرب في شعره إنما ترغم القارئ على التوقف والتأمل. عندئذ تظهر بشكل واضح فلسفة كاملة عبر الرموز الحلمية العزيزة على المدرسة السوريالية.

إن بعض القصائد هي عبارة عن رؤى مهلوسة عن الرذيلة، في حين أن بعضها الأخر، في المقابل، إنما يدفع القارئ إلى عتبة الروحانيات. ونادرون هم الشعراء الذين ألقوا نظرة أكثر حدة من نظرته هو على الأحلام التي تجوس بذهن مخمور منتشٍ. والحال أن الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم هو عمل تال للاستيهامات بأربع سنوات. وفي هذا العمل، لا نعرف ما إذا كان يجب علينا أن نعجب بالترف جد الشرقي للصور أكثر أم بقوتها الإيحائية الملحوظة. وفي هذا الثراء البالغ، لا يوجد مع ذلك لا فوضى ولا عدم تماسك. والمجازات، بالرغم من تعددها الوفير وبالرغم من تنوعها الشديد، ليست محل مراكمة وتكديس عاديين، بل يجري جمعها بصرامة وفق متطلبات الفكر وتجليات كل مجاز منها تتوافق دائماً بالكامل. والشاعر، بدلاً من أن يدع خياله يستولي عليه،إنما يوجهه هو ويسيطر عليه بلا توقف. وهو إذ يراقب نفسه بأعظم انتباه، فإنه إنما يستبعد ويختار ويعيد تركيب الصور، أي أنه، باختصار، يحاول إنتاج عمل فني.

*

ومع ميريّ فنسندون (1910)، نبتعد أكثر إلى حد ما عن السوريالية. فالخروج على مألوف عمل الحواس عندها يفتقد مكانه لكن الشاعرة تحتفظ بعنف المجاز الذي يظهر في مجموعة حوار الأشباح (1953). ونحن نرى أننا بإزاء شعر متحرر من القيود الكامنة في هذا النوع الأدبي بأكثر مما أننا بإزاء التزام بالسوريالية... ثم إننا نجد في قصائد م. فنسندون خط التوجيه الذي يسمح بالمغامرة، دون مكابدة أليمة، في ولوج الشبكة المعقدة للوحدة المتشامخة وللانطواء الذي لا يرحم وللكبرياء التي لا علاج لها، وهي تيمات موجِّهة تكشف عن الأسرار الأكثر احتجاباً عبر توضيحها من داخلها.

*

أما فيما يتعلق بأندريه شديد، فلم تعد هناك حاجة للتعريف بها في فرنسا، فأعمالها قد حظيت هناك بالشهرة إن لم يكن بالمجد الذي تستحقه. ومنذ عام 1949، نشرت أندريه شديد عشر مجموعات شعرية يقبل عليها المعجبون بها إعجاباً قوياً. ولن نشير هنا إلاَّ إلى المجموعات التالية: بلد بديل (1965)، المدينة الخصبة (1972) و أُخوة الكلمات (1978). والحال أن أصالة العمل الأول والذي هو، في الواقع، جمع لغالبية القصائد السابقة أو الكتيبات التي كانت قد نشرت من قبل بالفعل، إنما تكمن في أن شيئاً لم يتغير في هذه الأشعار منذ خمس عشرة سنة، أي منذ أقدم الإصدارات. وفي القصائد الأقدم، تعتبر غنائية أندريه شديد رائقة وموجزة، كما لو كانت أشبه ما تكون ببرهان أخاذ لا ينطوي على أي لغز: إذ يبدو أن كل شيء إنما يقال بوضوح وتحديد، لكننا نشعر خلف كل قصيدة بمنفذ عاصف إلى الأسطورة ... وفيما بعد، خاصة مع العملين الأخيرين اللذين أسلفنا الإشارة إليهما، تتباعد أندريه شديد عن شار وبول ايلوار وتتقارب أكثر مع جورج شحادة. لكن من واجبنا، مع الشعراء، أن نشك دائماً في التسميات التي نسارع إلى إلصاقها بهم. إن أندريه شديد إنما تتحول في اتجاه شعر يعتبر فيه جانب الخرافي أكثر وضوحاً، لكنها، في الوفت نفسه، في قصائد الحب، تجد حيوية جديدة وأحياناً تحليقات جميلة. وعندئذ تظهر إيماءات استشراق خفيف في قصائدها تدين بها لصور ولألحان التقت بها في طفولتها. وفي المجموعة الأخيرة التي أشرنا إليها، يصبح شعر أندريه شديد أكثر نقاء وشفافية ويبتعد عن الصورة البراقة المتوهجة. لقد تخلت عن حناناتها الرقيقة القريبة من إيلوار. فتنسرب حكمة معينة بين الكلمات. والذروة الصارخة لهذا التحول هي مجموعة أخوة الكلمات التي نالت جائزة أكاديمية مالارميه. وهناك من يعتبرون الغنائية مجرد حيلة أو وعاء لصوغ التجربة. أما أندريه شديد فإنها تعتبرها تأكيداً لحقيقة شفافة لا يمكن فيها للنثر وللشعر أن يفترقا.

*

وقد يتصور المرء بعد ذلك أنه مع أندريه شديد فإن الشعر السوريالي قد اختتم مسيرته بين الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية على ضفاف النيل. لكن هذا يعني نسيان جويس منصور (1928). فالواقع أنها تمثل الجيل الجديد من الشعراء السورياليين المصريين. ويبدو أنها تعرف جيداً علوم السحر والتنجيم والقبالة وطقوس السحر، فالتعبيرات الغامضة لهذه الحقول تعاود الظهور بشكلٍ متواصل في أعمالها. وعنفها الاستفزازي، حيث يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمتي الحب والموت، جد القريبتين إحداهما من الأخرى، ليس من شأنه إلاَّ أن يذهل القارئ. إذ يبدو له عندئذ أنه يقرأ استحضارات مأساوية لإلهة أسطورية عطشى إلى الدماء. فمن مجموعة "صرخات" (1953) ومجموعة "تمزقات" ... وحتى "حكايات وبيلة" (1973)، نجد انفجاراً كانفجار الحمم لصور مهلوسة حيث يتمدد في كل قصيدة هاجس مسبق عن الاشمئزاز والرعب. والحال أن جويس منصور، بمشاركتها في جميع المطبوعات السوريالية، قد قدمت إلى الحركة عنصراً فريداً ولا بديل عنه. إن شعراء مثل بيير-جان جوف وأندريه بريتون، ونقاد مثل ماكس- بول فوشيه وجان روزلو، قد صدمتهم النبرة الحزينة، بل والغاضبة والعميقة عمقاً قاسياً لدى الشاعرة الشابة التي تعبر، دون احتيال أدبي، عن ردود فعلها تجاه الحياة والحب والموت.

*

وقد قدم كتاب آخرون كثيرون أمثلة للحركة السوريالية في مصر، وليس بوسعنا الإشارة إليهم كلهم. على أننا لايمكننا نسيان رولان فوجل، وهو معماري من أصل سويسري قضى عدة سنوات في القاهرة قبل أن يرحل عنها ليستقر في تايلاند. ونحن لا نعرف له مجموعة شعرية وقصائده موزعة دائماً في المجلات المحلية. أما منير حافظ، فقد برز أكثر من مرة في التجمع السوريالي. وقد ظهرت كتاباته في القاهرة وفي باريس؛ وقصائده وأبحاثه لا تفتقر لا إلى العمق ولا إلى الموهبة.

*

لم تقتصر الحركة السوريالية على التوجه إلى الأدباء وحدهم، فقد جرت دعوة الفنانين أيضاً إلى المشاركة فيها. ثم إننا قد أشرنا إلى ذلك بالفعل. وقد لعبت الحركة التي دشنها جورج حنين في مصر دور المحرك. ففي إطار حركة "الفن والحرية"، نظمت معارض الفنانين المستقلين في عامي 1940 و 1941 في عمارة الإيموبيليا وفي عام 1942 في فندق كونتينينتال، وأخيراً في عامي 1944 و 1945 في قاعة الفنون بالليسيه الفرنسي في القاهرة. كما كانت هناك ثلاثة معارض للفنانين المستقلين نظمت في القاهرة تحت رعاية جورج حنين: نحو المجهول في عام 1958 و المجهول لايزال في عام 1959 وأخيراً الفن الحر في عام 1960. وعلى مدار سنوات، وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، كانت "الفن والحرية" بؤرة لقاء الفنانين المحليين والأجانب الذين اعتصموا بالبقاء في مصر خلال أعوام الحرب. وقد عرفت الجماعة الجمهور بالرسم الحديث وأتاحت للفنانين المصريين فرصاً لطموحات فنية جديدة. وفي تلك اللحظة وحدها، أصبح بابلو بيكاسو وبول ديلفو وإيف تانجي وسلفادور دالي وماكس إرنست أساتذة معترفاً بهم من مصر.

والحال أن جماعة "لابار دو سابل"، التي تأسست في عام 1947، لم تكن غير محاولة عابرة لإحياء جماعة سوريالية، حيث كان فؤاد كامل، مع آخرين، رساماً يعتمد على النزعة التلقائية وصاحب رسوم تتميز بالحدة وبالرسوخ قام بها لأجل مجموعة "استيهامات" (1942) لحورس شنودة. وبعد ذلك، انخرطت "لا بار دو سابل" في طريق أدبي أكثر يتماشى على الأرجح تماشياً أفضل مع ميول أتباعها. على أننا لا يمكننا أن نتجاهل أن عدداً من الفنانين المشاهير، إلى جانب فؤاد كامل، مثل كامل التلمساني ورمسيس يونان وباروخ، بين آخرين، قد وجدوا في السوريالية مصدر إلهام لهم.

وقد انخرط كامل التلمساني في عالم فن التصوير خلال زمن الحرب (1939-1945). وقد احتفظ منه بالتمرد والجيشان. والحال أن التوترات وخيبات الأمل والاحتدام، باختصار، إنما ترمز عنده إلى تلك الأزمنة غير العادية. وغالباً ما تطغى لوحة ألوانه الحادة على الإحساس الذي تود نقله. وفيما بعد، ومع احتفاظه بالطابع العنيف لعمله، فإنه يميل إلى الاستسلام لقواعد الرسم الزيتي. على أن الفعل التصويري إنما يبدو له مدعاة للسخرية إزاء بشرية عطشى للدم دائماً وعمياء تجاه المظالم الاجتماعية. وعندئذ، إذ يتخلى عن الرسم في عام 1944، فإنه ينشد في السينما الوسيلة اللازمة لإعادة بناء عالم جديد أكثر تناغماً وانسجاماً من العالم القديم.

وقد اشترك كامل التلمساني بشكل مباشر في الحركة السوريالية برسمه لوحات لمجموعة قصص الناس إللي ربنا نسيهم (1941)لألبير قصيري ولمجموعة قصائد لا مبررات الوجود (1938) لجورج حنين. كما أعد رسوم مجلة التطور العربية.

والحال أن واحدة من أروع تلامذة كامل التلمساني، أعني إنجي أفلاطون، قد شاركت إلى جانبه في معرضي الفن والحرية في عامي 1942 و 1943.

أما رمسيس يونان، فقد استقر في القاهرة في عام 1940. وقد شارك في مختلف معارض الفن الحر و لابار دو سابل، بل إنه قد شارك في معرض السورياليين الدولي الذي نظم في باريس في عام 1947. وبعد ذلك بعام، نجح في إقامة معرض خاص لأعماله في المدينة نفسها.

ويحكم فن رمسيس يونان استيعاب التمرد الذي يدعمه، وسورياليته لها وجه إنساني واضح. فهي تقبل التحليل وتظل شخصياتها المرسومة خاضعة لعقلانية الأشياء.

والحال أن هذا الرسام الذي ترجم كاليجولا إلى العربية (1947)، قد كابد محنة كبرى من جراء موت كامي. فلم يبق للرسام غير ترامي أطراف الصحراء وعناد النبات وصمت المعدن. فهل يمكن للإنسان المتمرد الذي كانه أن يظل أسير التمرد الصامت والشكوى من لاجدوى الفعل؟ كلا، لأن رمسيس يونان هو قبل كل شيء فنان يستخدم الوسائل التي خلفها له التراث. وإذا كان قد أخذ الثورة على عاتقه، فإنه يجهد على الأقل في تحمل أعباء هذا التناقض.

والفنان الثالث الذي يمكننا ضمه إلى هذه الجماعة هو باروخ. وقد بدأ هو أيضاً مسيرته في الوقت الذي كانت السوريالية تصوغ فيه في مصر وعياً فنياًّ جديداً. على أن باروخ، خلافاً للتلمساني وليونان، لم يستسلم لإغراء الحلم. فقد طالب بحقوق العقل. بيد أن موقفه لم يمنعه من المشاركة في معارض الفن الحر. وسرعان ما يتطور في اتجاه شكل فني خاص جداً. وقد أتاحت له رحلة قام بها في عام 1946 إلى فرنسا فرصة الاتصال بكل من أ. جليزيس و ج. فيون و م. جرومير و ف. ليجير و ج. براك. والحال أن هؤلاء الأساتذة قد زودوه بالعناصر الأساسية لتحوله. والموضوع الذي شغله حتى ذلك الحين يختفي في عام 1949 لحساب تعبيرٍ صافٍ وإيقاعي لأشكال ولألوان متحررة من العبودية للموضوع. ومنذ عام 1954، يستقر باروخ في فرنسا.

أما فيما يتعلق بفؤاد كامل (1919)، والذي أشرنا إليه بالفعل، والذي اندرج في الحركة السوريالية في مصر منذ بداياتها، فقد أصبح واحداً من دعاتهاالمتحمسين. وهذا الفنان النشيط ولكن الرزين، ينتقل من السوريالية إلى التعبيرية في بداياته الفنية إلى الفن غير التصويري خلال الستينيات. وهذا تطور يستحق التنبيه إليه.

ومن المناسب أيضاً الإشارة إلى فنانين مثل حسن التلمساني وعبد الهادي الجزار وحسن حسن وخديجة رياض وسمير رافع وكذلك إلى آخرين كثيرين أجانب مثل إيريك دو نيميش (1910). فهذا الفنان الذي استقر في القاهرة في عام 1940، قد شارك في معارض الفن الحر وفي بينالي الإسكندرية في عام 1955. وقد اشتهر برسومه التصويرية لأعمال مثل المَنون الفتية لبول فاليري والجحيم لدانتي وبحث حول التراجيديا لسيريل دي بو، وهو كاتب مصري يكتب بالفرنسية. ويجب أن نذكر أيضاً أنجيلو دي ريز (1910) الذي شارك في الحركة السوريالية وعرض أعماله في معارض الفن الحر. ولا يمكننا أن ننسى أندريه نوميكوس وميشيل كنعان وريمون أبنر الذين تجب الإشارة إلى أهميتهم في الحركة السوريالية في مصر. ومما لاشك فيه أن فترة الحرب العالمية الثانية كانت الأكثر إثراءً من الناحية الفنية لأن الفنانين المحليين والأجانب الموجودين في مصر في ذلك الوقت قد سعوا، بسبب انقطاع الاتصالات والعلاقات الخارجية، إلى الاستفادة من وضعهم عبر تبادلات كانت مثمرة، وذلك بالرغم من الظرف غير المستقر السائد آنذاك.

*

وفي ختام هذه الدراسة، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان للسوريالية من أثر على الأدب المكتوب بالعربية أولاً. والحال أنه بالرغم من الجهود التي قام بها جورج حنين في مجلة التطور لكي ينشر رسالة السوريالية بين الجمهور المثقف الذي يقرأ ويكتب بالعربية، إلاَّ أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتراف بأن النتائج كانت جد طفيفة وقليلة التشجيع. ويبدو لنا أن السبب في ذلك إنما يكمن في تنافر معين مع القواعد الشعرية المقررة في مصر آنذاك. فخلال الثلاثينيات والأربعينيات كان الأدب العربي لا يزال وثيق الارتباط بالتراث وبالتقاليد وكان يبحث دائماً عن نماذجه بين الشعراء السابقين على الإسلام وعند أساتذة راسخين مثل المتنبي أو الجاحظ. والحال أنه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مؤسسي الحركة السوريالية. ولم يكن بوسع الشعر العربي الحديث أن يلج دروب مغامرة الأدب الطليعي دون أن يجازف بفقدان هويته هو، أو على الأقل، كان ذلك هو اعتقاده. ثم إن إحياء الفن الشعري العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان لا يزال حدثاً قريباً جداً بحيث يتعذر نبذه فجأة. وكان أمثال البارودي والمنفلوطي وحافظ إبراهيم لا يزالون جد حاضرين في الأذهان بحيث يصعب أن يحل محلهم أحد. كما لا يجب أن ننسى التحيزات، المنتشرة غالباً، والناشئة عن الوضع السياسي (خاصة الاحتلال البريطاني)، والتي كان الأدباء الذين يكتبون بالعربية يزكونها تجاه الكتاب الأجانب، الأمر الذي حال دون ترويج أفكار جديدة في الأدب. على أن أصواتاً لها مكانتها قد نجحت في التعبير عن نفسها. ونحن نجد في مجلة التطور بين كثيرين من المسهمين رمسيس يونان، الرسام والأديب، وحفني ناصف، الشاعر المهم،(3) وعبد الحميد الحديدي وحسين محمود وآخرين كثيرين. ونحن نرى أن الوحيد الذي أخذ على عاتقه مهمة مواصلة الرسالة السوريالية هو كاتب موهوب وإن كان محل سوء فهم دائماً، أعني عبد القادر الجنابي. فهل كانت الرسالة السوريالية سابقة للأوان إلى حد بعيد بحيث تعذر الترحيب بها من جانب الجمهور الناطق بالعربية؟ إن مثل هذا الافتراض يستوجب التدقيق والحذر.

أما المسألة الثانية فهي مسألة الحكم على الأثر الذي كان للحركة السوريالية على الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر. ولنقل بوضوحٍ تام أن السوريالية هي أول حركة أدبية تولد في هذا البلد في الوقت عينه تقريباً الذي ولدت فيه في فرنسا. فجميع الحركات التي سبقتها كانت تجيء متأخرة زمانياً بشكلٍ ملحوظ، وأحياناً كانت تجيء بعد جيل. أما فيما يتعلق بالسوريالية، فقد كانت القاهرة مواكبة لباريس.

ويمثل الشعر السوريالي في الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر محاولة واعية للتحرر من الشعر التقليدي أو الرومانسي أو الرمزي، والذي كان الشعراء المحليون يمارسونه آنذاك. كما أن السوريالية تمثل محاولة لتجاوز قواعد العروض. وعندئذ يظهر عدد كبير من الشعراء. ولما كانوا قد تحرروا من جميع القواعد، فإنهم يكفون عن الالتزام بالقواعد التي كانت قد بددت طاقات جميع أولئك المتحرقين إلى الإمساك بالقلم. وقد هيمن الاعتقاد بأنه يكفي رصف الكلمات (الكتابة الآلية)، والجمل ونثارات الأحلام والصور الأكثر غرابة وليدة الروح الفاقدة للاتزان، حتى يتسنى إنتاج عمل فني، في الشعر كما في الرسم. ولم تتأخر مثل هذه المفاهيم عن الإساءة إلى الحركة برمتها. أما أولئك الذين كانت لديهم الملكات والمواهب الكافية والمناسبة فإنهم وحدهم هم الذين واصلوا السير في هذا الطريق وعرفوا النجاح... في باريس.

ولعل أفضل ظهور للحركة السوريالية هو ظهورها في فن التصوير. فالأدب، إجمالاً، لم يكن يهم غير جماعات محدودة من المصريين أو الأجانب، في حين أن فن التصوير، وهو اللغة الدولية للون وللإشارة، كانت لديه فرصة أكبر لأن يثير الأذهان ولأن يجتذب الجمهور. وقد رأينا كيف أن لقاء الرسامين الأجانب والمصريين خلال سنوات حرب 1939-1945 كان مفيداً للجميع. لقد حدث ازدهار للمواهب المتباينة وحدثت تبادلات ولقاءات لم نحلل غير بعض جوانبها. وكان فعل السوريالية هو أصل تجديد تصويري عميق مازلنا نشعر إلى اليوم بآثاره البعيدة. كما أنها أول حركة فكرية انتمى إليها فنانو مصر بشكل عفوي وقدموا إليها إسهاماً أصيلاً. وهي، علاوة على ذلك، الحركة الوحيدة التي تمكنت من تعبئة الإنتلجنسيا المحلية ومن حفز اتخاذ موقف سياسي. فألا يعد ذلك نجاحاً كبيراً للحركة السوريالية؟

باريس، نوفمبر 1980
تعليقات من المترجم

1- لم يوقع جورج حنين (1914-1973) البيان المذكور في مكسيكو، إذ كان في باريس آنذاك.
2- صدر البيان المذكور في ديسمبر 1938، بينما تأسست الجماعة في يناير 1939.
3- لم تنشر التطور أية نصوص لحفني ناصف، بل نشرت مقالات لابنه عصام الدين.

0 التعليقات: