الغنائية والمفارقة الزمانية : البيداجوجيا التأريخية في شعر قسطنطين كافافــي

ناتالـي ميلاس
جامعة كورنيل
ترجمة : بشير السباعي


المروية السردية في شكلها الواقعي، الخطّي، هي الجنس الأدبي، بل، يمكن القول، أنها مفهوم الزمن الذي يحكم كتابة التاريخ. ومن المفروض أن الجنس الأكثر بعداً عن كتابة التاريخ هو الشعر الغنائي، لأنه، عموماً، يؤكد اللحظة المنفصلة، لا الديمومة أو الاستمرارية، فهو يفصل اللغة إلى أبعد حد ممكن عن إحالتها إلى الواقع، ويميل إلى التيمات المألوفة أو عبر التاريخية و، عندما يعالج موضوعات تاريخية، فإنه إنما يعالجها على نحو بطولي أو مادح. وهناك استثناء لهذا المخطط التصوري عن الاستبعاد المتبادل فيما بين الشعر الغنائي والتأريخ هو الشاعر اليوناني-السكندري قسطنطين كافافي، الذي يصف نفسه بنفسه بأنه «مؤرخ – شاعر». ودعوني أستشهد بتصريح رواه واحد من أوائل من كتبوا سيرة كافافي(1) :

أملك مقدرتين: كتابة الشعر أو كتابة التاريخ. وأنا لا أكتب التاريخ، والوقت اللازم لذلك أصبح الآن متأخراً جداً. وسوف تسألني: وكيف يمكنني أن أعرف أن بوسعي كتابة التاريخ ؟ إنني أشعر بذلك. وقد مررت بتجربة التساؤل: «كافافي، أيمكنك كتابة روايات ؟»، فهتفت عشرة أصوات: «لا !». ثم تساءلت: «كافافي، أيمكنك كتابة مسرحية؟»، فهتفت أيضاً خمسة وعشرون صوتاً: لا !». ثم تساءلت مرة أخرى: «كافافي، أيمكنك كتابة التاريخ ؟»، وكان بوسع مائة وخمسة وعشرين صوتاً أن ترد: «يمكنك ذلك» (ليدل 1974، ص 123، نقلاً عن مالانوس 1971، ص 148).


كان كافافي قارئاً مولعاً بالتاريخ وعليماً به. والباحثون الذين أمعنوا النظر في ملاحظات قراءاته يشيرون إلى أنه، من جهة، انخرط في مناقشات تأريخية بالغة الحدة حول مدى مصداقية بعض الوثائق، مثلاً، أو حول السعر الدقيق لقطعة من الحرير الوردي في عام 30 قبل يسوع المسيح أو حول توافر ورود طازجة في مقدونيا في شتاء عام 190 قبل يسوع المسيح، كما أنه، من جهة أخرى، قد اتخذ موقفاً في السجالات المتعلقة بتفسير التاريخ. ونجد في شعره آثاراً لهذين الجانبين لقراءاته التاريخية: الدقة في التفاصيل التاريخية والالتزام في إيديولوجية وفلسفة التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالمناقشة حول الهيللينية الجديدة، أي حول الصلة بين الحداثة اليونانية وماضيها. فنحو أواخر القرن التاسع عشر، توزعت هذه المناقشة إلى موقفين: فالموقف الأول، المستند إلى أطروحات جيبون ورينان، قد نظر إلى الحداثة اليونانية بوصفها في قطيعة مع ماضيها المباشر – المسيحية، الإمبراطورية البيزنطية – وإن كان قد وصلها وفق صيغة زمانية للنهضة باليونان القديمة، العقلانية والوثنية. أمَّا الموقف الثاني فقد دافع بالمقابل عن استمرارية الثقافة اليونانية عبر بيزنطة والمسيحية ونظر إلى الهيللينية الجديدة وفق صيغة ديمومة متواصلة (هاس، 1996، ص ص 17-26). ومن الواضح أن كافافي كان مؤيداً لهذا الموقف الثاني. وهو يرى أن هذا الموقف يتضمن أيضاً اتخاذ موقف يمكن أن نسميه اليوم بأنه موقف استشراقي جديد. وذلك بالبدء مع جيبون الذي كتب مثلاً في كتابه الرائع انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية أن الإمبراطورية البيزنطية قد «عاشت ألفاً وثمانية وخمسين عاماً في حالة من الخراب السابق للأوان والمقيم» وأن «… رعايا الإمبراطوريـة البيزنطيـة […] إنما يحملون ويجـرون العار على اسمَي اليوناني والروماني» (جيبون، 2003). وقد نظر تراث كامل من الخطاب الأوروبي الشمالي في القرن التاسع عشر إلى العصر البيزنطي ليس فقط بوصفه عصر انحطاط، وإنما أيضاً بوصفه عصراً يتعارض تعارضاً حاسماً مع كل أنوار اليونان القديمة. وقد ذهب البعض إلى حد التأكيد على أن اليونانيين المحدثين لا تربطهم أي صلة انتماء – ثقافي أو تاريخي أو حتى عرقي – باليونانيين القدماء، وهو ما يعني إدراجهم في فئة الشرقيين العامة والكولونيالية. والحال أن كافافي، بتأكيده عبر أعماله المنشورة على استمرارية العرق والثقافة اليونانيين، خاصة عبر اللغة اليونانية، قد أدار ظهره لرؤية نقائية كما لمفهوم ترابي للهيللينية. وكما يلاحظ ذلك ببلاغةٍ الروائي الإنجليزي إ. م. فورستر :

كان النقاء العرقي يزعجه، كما كانت تزعجه المثالية السياسية … والحضارة التي كان يقدِّرها كانت مزيجاً يهيمن فيه العنصر اليوناني وكان يندرج فيه، من عصر إلى آخر، أجانب، لكي يعيدوا صياغة هذه الحضارة ولكي يعيدوا صياغة أنفسهم .. وإذا كان العنصر اليوناني قد تلاشى من جراء ذلك، فليست لذلك أهمية تذكر: ذلك أنه قد أدى مهمته وترك لزمن طويل على تلٍ آسيوي قطعة عملة تحمل البروفيل الجميل لملك تأثر بالهيللينية. إن بيريكليس وأرستيديس وتيميستوكليس إنما يعدون مستبدين نموذجيين. فماذا يعرفون عن هذا الامتداد الذي يتزايد دوماً والذي يبدو أنه، عندما كان كافافي يتكلم، إنما يستوعب كل الجنس البشري (فورستر، 1951، ص ص 249-250) .


إن الجانب الأعظم من أعمال كافافي المنشورة إنما يتعامل مع موضوعات تاريخية مستمدة من التاريخ الطويل و-بالنسبة لهؤلاء القراء الغربيين- الغائم للهيللينية الشرقية، وهي هيللينية مبعثرة في أرجاء ساحة شاسعة تتطابق تقريباً مع فتوحات الاسكندر الأكبر وتبقى، أو على الأقل تواصل البقاء، عبر العصور الهيللينستي والروماني والبيزنطي والعربي إلى حاضر كافافي في الاسكندرية الحديثة خلال العقدين الأولين من القرن العشرين. وهيللينية كافافي، خلافاً لهيللينية الشعر الغربي، لا هي أثرية ولا أسطورية ولا مجيدة ولا عالمية. فهيللينية كافافي التي يمكن القول إنها استشراقية إنما تصبح هيللينية أجنبية بالنسبة له، كما يعبر عن ذلك في قصيدة غير منشورة كتبها في عام 1914، «العودة من اليونان»:

نحن أيضاً يونانيون – وهل يمكن أن نكون غير ذلك ؟ -
ولكن بأهواء ومشاعر من آسيا
ولكن بأهواء ومشاعر
تبدو غريبة على الهيللينية (آبانتا بويتيكا، 1999، ص276).

والحال أن الرهان التاريخي، بل والتأريخي، لشعر كافافي إنما يرتبط ارتباطاً حميماً بخصوصية تكوين شعره. فهذا الشعر يتميز بقطيعة يمكن إرجاعها إلى عامي 1903-1904، عندما كابد كافافي ما يسميه بـ«أزمة فلسفية». وقد أعدم آنذاك عدداً كبيراً من قصائده غير المنشورة ونبذ قصائد أخرى – دون أن يعدمها. وخلال تلك المرحلة، يحرر كافافي شعره من كل أثر للرمزية، ويطور الأسلوب جد الفريد الذي يومئ إلى نضجه والذي يرجعه هو نفسه –فهو هاو عظيم دوماً لتسجيل التواريخ- إلى عام 1911. وهو أسلوب وصفه النقاد بأنه «واقعي» (انظر الاستشهادات في هاس، 1996، ص 335)، فهو أسلوب خال من زخارف الشعر المألوفة وقريب جداً، إلى أبعد حد ممكن، من النثر. وفي قصائد مرحلة نضجه، يهتم كافافي اهتماماً متزايداً باطراد بموضوعات تاريخية يعيد لأجل معالجتها تحوير أشكال كان قد تم هجرها: المونولوج الدرامي، الكتابة على الشواهد، الابجرامات. وعلى أثر الأزمة أيضاً يصوغ الشاعر أسلوبه الأصيل في التوزيع: فهو يوزع قصائده الجديدة في أوراق منفصلة على مجموعة من القراء ؛ وعندما يجتمع عدد كاف من هذه القصائد، يجمعها في كراس. ولدى موته، تشكل هذه القصائد مجموع أعماله «المنشورة» أو النهائية – وهي عبارة عن كراسين يتضمنان قصائد مرتبة بحسب موضوعاتها ويحملان عنواني قصائد 1905-1915 وقصائد 1916-1918 وأخيراً ملزمة من الأوراق تحمل عنوان قصائد 1919-1932. وتبقى أيضاً القصائد غير المنشورة والتي كان لا يزال يعمل عليها وأخيراً القصائد «المحجوبة»، المنبوذة ولكن التي لم يجر إعدامها. ومن جهة، نجد أنفسنا حيال عمل جرى الانكباب على بلورة صياغته واختير بعناية، لكننا نجد أنفسنا أيضاً، من جهة أخرى، حيال عمل لم يتم إنجازه بشكل جذري. وكما يشير إلى ذلك الشاعر سيفيريس، فإن عمل كافافي «يجب أن يُقرأ وأن يتم الحكم عليه ليس بوصفه سلسلة من القصائد المنفصلة، وإنما بوصفه قصيدة واحدة، بوصفه «عملاً متواصلاً»… لا يعد منتهياً إلاّ بموت الشاعر..» (سيفيريس، 1983، ص63)، وعدم الانتهاء يحول دون خاتمة تحليلية لنقد العمل – إذ لا يمكن لأي تعميم أن يصمد إطلاقاً، لكن الخط الواصل بين القصائد المنشورة وغير المنشورة إنما يسمح بأن نلاحظ مؤقتاً بعض السمات التي توحد بين هذه وتلك، وأهم هذه السمات هو التركيز شبه الحصري على موضوع الهيللينية في التاريخ. وقد كتب كافافي قصائد تعالج الكثير من الموضوعات الأخرى، لكنها لا تشكل جانباً من العمل المنشور بعد عام 1904. والحال أن إدوارد سعيد، وهو قارئ مولع بكافافي، إنما يأخذ عليه امتناعه التام عن الإشارة في شعره إلى مصر الحديثة، العربية، والتي قضى فيها كل عمره تقريباً (سعيد، 2004). ويمكن الرد على هذا النقد بالإشارة أولاً إلى أن من بين القصائد المستبعدة من العمل المنشور، تتصل قصيدتان بمصر الحديثة [«شم النسيم» (1892) و«27 يونيو، 1906، الساعة الثانية» (1908)]، أو أيضاً أننا في غالبية القصائد الإيروتيكية، وزمانها العصر الحديث، نجد أن أصل الغلمان المحبوبين أوالمحبين غير محدَّد بالمرة ومن ثم يمكن أن يكونوا غلماناً عرباً أو إيطاليين أو أرمن كما يمكن أن يكونوا يونانيين. لكن الشيء الجوهري ليس هنا. فشعر كافافي، بالرغم من كونه واقعياً في أسلوبه، ليس شعر محاكاة، أي أنه لا يفرض على نفسه مهمة إنتاج صورة أمينة وشاملة للواقع المحيط. فرهان هذا الشعر، إذا ما قرأناه بوصفه عملاً واحداً، هو بالأحرى رهان مشروع تاريخي: كتابة انتشار واستمرار الهيللينية في التاريخ.

ولا يوجد عمل تاريخي حول هذا الموضوع، وقد لا يتسنى له أن يوجد، ذلك أنه يفتقر إلى حدود زمانية وجغرافية مميزة. والمروية التأريخية إنما تعد بالضرورة مقيَّدة ومحدَّدة بحدود جغرافية تتماشى في الأغلب مع حدود لها أساسها السياسي – لأمة شأن فرنسا أو مصر، أو أيضاً لإمبراطورية كالإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية البيزنطية، أو لمنطقة: كشرق البحر المتوسط أو افريقيا الشمالية، أو لها، بشكل أكثر ندرة، أساسها العرقي – قبيلة أو شعب. ثم إن كتابة التاريخ الرسمي والأكاديمي إنما تميل، كما أنه مما لا جدال فيه قد أتيحت لنا الفرصة لكي نعاين ذلك، إلى الارتباط ارتباطاً مباشراً بالسلطة ومن ثم إلى التجلي في إطارٍ تحدده الهيمنة. فالتاريخ الرسمي هو دوماً تاريخ الغالبين. ويتفتت المغلوبون في هذه المروية الكبرى؛ فهم يفقدون الحدود الواضحة التي من شأنها أن تميزهم كذوات تاريخية، وكفاعلين جماعيين يصنعون الأحداث الكبرى. ومن وجهة نظر التاريخانية، أي من وجهة نظر المنطق التقدمي والغائي للمروية التاريخية، فإنهم يصبحون غير مميزين وبالأخص مفارقين للزمن، منسيين. وذلك لأن مروية الغالبين، مروية القوة والسلاح، هي أيضاً التي تحدد العصور التاريخية كحدود زمانية لكتابة التاريخ وتفرض على التاريخ هذا الشكل السردي الذي يتألف من بداية وأوج واضمحلال ونهاية. وكل ما، وكل من يقعون خارج حدود هذه الصيغة هم في واقع الأمر غير ملائمين أو متخلفون أو غير ناضجين قياساً إلى معيارية عصر من العصور. وربما نجد لهم وجوداً في كتب الحوليات والأخبار، بيد أنهم يفتقرون إلى الأهمية بالنسبة للحاضر، فيجري نسيانهم. وهذا الافتقار إلى الملاءمة هو بالضبط حال جل الشخصيات التاريخية التي تتخلل شعر كافافي ونسمع صوتها غالباً فيه.

فلنتذكر، مثلاً، قيصرون، قيصر الصغير أو بطليموس السابع عشر، ابن كليوباترا وقيصر، آخر ورثة سلالة البطالمة المجيدة، والذي نجد في قصيدة «ملوك سكندريون» (1912) وصفاً تفصيلياً لردائه الفاخر يوم تتويجه «ملكاً للملوك» وهو في الرابعة عشرة من عمره. فهذه الشخصية التي لم تنضج بعد والبالية في آن واحد، سوف يجري اغتيالها بعد ذلك بثلاث سنوات تنفيذاً لأوامر أغسطس، الإمبراطور الظافر. وفي زمن القصيدة، عام 34 قبل يسوع، كانت قضية قيصرون ميئوساً منها بالفعل: «أحس أهل الاسكندرية تماماً أن هذا كله لم يكن غير كلمات، وألاعيب مسرحية» (يورسونار، ديماراس، 106). وكما تلاحظ ذلك يورسونار وديماراس في حاشيتهما، فإن كافافي إنما يرجع في هذه القصيدة إلى مصدرين تاريخيين: بلوتارك وديون كاسيوس، الذي يعدل روايته ويوسعها – ويبتكر كافافي، بالأخص، كل الوصف جد الدقيق والتفصيلي لرداء قيصرون. ومن شأن دقة في التفاصيل المبتكرة تحاكي الدقة التأريخية أن تسمح له بأن يعيد، بلغة التاريخ، خلق شخصية نسيها التاريخ. وفي قصيدة ثانية عنوانها «قيصرون» (1918)، تدخل هذه الشخصية حاضر الشاعر الحديث من خلال الثغرات المتعلقة بموضوعها في النصوص التاريخية. وهي واحدة من القصائد التي يمكن تسميتها «تأريخية»، بين قصائد كافافي، والتي تقدم قراءة لوثائق تاريخية، أو قراءة للتاريخ في التاريخ (انظر أيضاً «في شهر هاتور» (1917)، «إيمينوس» (1919)، «إلى أولئك الذين يقاتلون في سبيل العصبة الآخية» (1922) )، وفي هذه القصيدة، يتحدث شاعر – مؤرخ عن خبرة قراءة تاريخية في الماضي القريب :

كيما أتحقق من أحد التواريخ، وكيما أسلي نفسي أيضاً، تناولت مساء أمس كتاب نصوص ترجع إلى زمن البطالمة. فوجدتها تردد التملقات عينها والثناءات عينها في الحديث عن الجميع: فكل واحد منهم هو بدوره عظيم ومجيد وقوي وفاعل للخير ؛ وكل ما يأمرون به مفعم بالحكمة. أمَّا فيما يتعلق بزوجاتهم، من أمثال بيرينيك وكليوباتره، فكلهن جديرات بالإعجاب.
كان من الوارد أن أطوي دفتي الكتاب لولا أن إشارة قصيرة وغير مهمة إلى الملك قيصرون قد لفتت انتباهي فجأة.
… آه، ها أنت ذا، بوسامتك الغائمة ! في كتب التاريخ، اختصوك بالكاد ببضع كلمات، ومن ثم يمكن لمخيلتي أن تعيد خلقك بحرية أكثر. لقد جعلتك عاقلاً وجميلاً. وفني يمنح وجهك عذوبة الحلم المؤثِّرَة. مخيلتي أجادت إعادة خلقك بحيث إنني البارحة، حيث انطفأ مصباحي (تعجلت انطفاءه)، خيل إليَّ أنني أراك تدخل إلى غرفتي، شاحباً ومتعباً، في كامل ألمك، مثلما لابد أنك كنت في الاسكندرية المغلوبة، آملاً ما تزال في أن يرأف بك الأشرار، أولئك الذين كانوا يتهامسون: «كفانا قياصرة ! » (يورسونار، ديماراس، 145).

هاتان الكلمتان – وهما باليونانية اسم مركب واحد : πολυкоιρανιη - مأخوذتان مباشرة من بلوتارك، الذي يقدمهما كصياغة جديدة لما أورده هوميروس(2)، وهو الأمر الذي يضيف أيضاً طبقتين زمانيتين نصيتين إلى القصيدة التي تتضمن بالفعل الإشارة إلى كتاب النصوص البطلمية، وزمني أحداث القصيدة – زمن القراءة الأولى وزمن ظهور الملك الصبي المتخّيَّل. وتوحي لنا القصيدة بأننا نشهد السيرورة التي تصبح بها شخصية منسيةٌ حاضرةً من جديد وتأخذ مكانها عَرَضَاٌ في الزمن. فقيصرون يظهر عن طريق قراءة التاريخ، ولكن بالرغم من، وتحدياً لما يتضمنه أرشيف التاريخ المكتوب. ولا تحاول القصيدة إصلاح أو تصحيح الثغرة في الكتابة التاريخية بسدها وبجعلنا نرى شخصية ممحوة بالشكل الذي من المحتمل أنها كانت عليه بالفعل في زمانها، أو باستعادة مروية مفقودة، رواية تاريخية بديلة. فالتأكيد إنما ينصب بالأحرى على الإثارة التي استولت على الشاعر وهو يستحضر الشخصية. ويظل قيصرون نفسه «غائماً»، عديم الملامح تقريباً، والحال أنه عبر هذه العتامة تحديداً تكتسب القصيدة بعداً بيداجوجياً. لأنه إذا كان الشاعر-المؤرخ لا يقدم لقرائه صورة أو وصفاً واقعياً لشخصية تاريخية، فإنه إنما يبين فعلياً إمكانية الحميمية التاريخية. والمؤرخ-الشاعر، إذ يجسد في شخصه وفي لغته لقاءً بين الماضي والحاضر، إنما يخلق مثال تجربةِ حاضرِ ماضٍ وماضيَ حاضرٍ.

وهذه القصيدة إنما تنتج ما أود تسميته هنا بالوقع الغنائي للمفارقة الزمانية، وذلك لأنها تأخذ شكل القصيدة الغنائية لأجل تصوير شخصيات وأشكال للزمانية تمثل في مجملها ديمومة تاريخية، لكنها تقع خارج حدود المروية التاريخية الكبرى التي لا تبدو فيها إلاَّ بوصفها مفارقة زمانية. ولا يحاول شعر كافافي إعادة إدراج هذه الشخصيات في مروية التاريخ، أي لا يحاول نزع مفارقتها الزمانية عنها، بل يحاول بالأحرى إيجاد موقع وزمان في اللغة يمكن فيهما لهذه الشخصيات أن تدل على ديمومة. ويجري تصوير هذه المفارقة الزمانية الغنائية في قصيدة «قيصرون»من خلال صيغة رغبة إيروتيكية مثلية، تعد عند كافافي إحدى الصور الأكثر أهمية ومفارقة (والصورة الأخرى هي اللغة اليونانية) لاستمرارية الهيللينية في الزمن. وذلك لأن صيغة معينة لهذه الرغبة، بما تنطوي عليه من إيماءات وأسرار ومشاعر متكررة دوماً وجديدة دوماً، إنما تخلق استمرارية في التاريخ تختلف اختلافاً أساسياً عن الاستمرارية التي يمثلها الشكل السردي للمروية. والحال أن الاستمرارية، أو، بتعبير أكثر تحديداً، الديمومة المعبر عنها في مفارقة زمانية غنائية، إنما تأخذ شكل سلسلة من التكرارات غير المحدودة نظرياً تربط، ليس فقط فيما بين الأزمنة المختلفة والأماكن جد المتفرقة للهيللينية القديمة، وإنما تربط أيضاً، ضمنياً، فيما بين الماضي والحاضر، ومن ثم فيما بين قصائد العمل المنشور التي تقع في الماضي القديم والقصائد الإيروتيكية التي تقع في المدينة الحديثة.

والحال أن «الحالية الصارخة»، إذا ما استعرنا من مارجريت يورسونار تعبيرها بالغ الدقة، للعصر القديم –وللحداثة- في شعر كافافي إنما تنبع من هذه المفارقة الزمانية الغنائية التي تمثل ديمومة تتجاوز الحدود الزمانية للعصور المتعارف عليها في المروية التاريخية. ولا يوجد عند كافافي أي أثر للغنائية الإنشادية، ولا للمؤثرات الشعرية التي تطرح عنصراً من الماضي خارج الزمن اليومي، بهدف إعطائه قيمة مثال مفارق للتجربة أو مجاوز للزمان، ومن ثم تجعل الماضي بطولياً أو تذكارياً أو أسطورياً. وقد قال الناقد اليوناني بيير فلاستوس عن قصائد كافافي إنها «أشبه ما تكون بقواعد لا تنتصب فوقها تماثيل» (أورده سيفيريس، ص 77). وهي قصائد حافلة بشخصيات وبلحظات لم تحظ حتى بقواعد في كتابة التاريخ، فهي حافلة بشخصيات صغيرة عادية ولا اسم لها (صائغ، نحاتون، تجار، مراهقون عاشقون، محتضرون وموتى، متشاعرون، سوفسطائيون) وشخصيات قليلة الشأن تركت آثاراً عديمة الأهمية في حوليات التاريخ، كأنطيوخس الرابع «ايبيفانوس»، الذي كان ملكاً على جزء مما هو الآن سوريا، والذي شهد، وعاش بعد، الهزيمة الكاملة للملوك الهيللينستيين المقدونيين في عام 168 قبل يسوع المسيح، أو الهزيمة الكاملة لديميتريوس سوتير، ابن أخيه، الذي يجري إدخاله إلى القصيدة المتصلة بموضوعه بهذه العبارة : «كل توقع من توقعاته ثبت أنه باطل» («ديميتريوس سوتير، 162-150 قبل يسوع المسيح»). وبما أن المفارقة الزمانية الغنائية تهتم بكل ما يتجاوز المرويات التاريخية الكبرى، فإنها تتيح موقعاً نصياً للكثافة التاريخية للفشل، للهزيمة، وبالأخص لما يبقى بعد الفشل، ما يتواصل عبر الهزيمة، وليس على الرغم منها. ومن غير الوارد لديميتريوس سوتير، مثلاً، أن يقهر اليأس، أن يجد خلاصه خارج الزمن – فهذا معناه السقوط في الوهم المحض. والهيللينية كما يقدمها عمل كافافي إنما تتواصل عبر الخسارة واليأس، وهي محايثة للفشل وتتجاوزه أيضاً إذ تبقى بعده. وهذا هو السبب في أن تواصل هذه الهيللينية يفلت من منطق المروية. إذ كيف يمكن أن نروي حكاية ما يحدث بعد النهاية الحاسمة، ما يستمر بعد الهزيمة الأخيرة، ما يواصل البقاء خارج زمانه الخاص، أو خارج ما تحدده مروية التاريخ الكبرى بأنه لحظته الملائمة ؟ يوحي لنا عمل كافافي بأن هذه الديمومة لا تشتغل وفق نظام المروية أو أنها، إن جاز القول، غير قابلة للسرد، لأنها تتكون من حشد، قد يكون لا نهائياً، من الحكايات الصغيرة المتفرقة التي لا تقود إلى أي مكان، ومن كمية من الإيماءات والألوان وأساليب المتعة، ومن الآثار المهجَّنة والبقايا التي نسينا أصلها. ومن ثم نجد أنفسنا حيال كتابة للتاريخ تخص الشعر الغنائي على نحو ما يمارسها المؤرخ – الشاعر كافافي.

ــــــــ
1ـ «أنا مؤرخ-شاعر. وأنا لا أقدر على كتابة روايات، أو للمسرح، لكن أصواتاً باطنية تقول لي إن مهمة المؤرخ بمقدوري. بيد أنه لم يعد هناك وقت لذلك …» [ ورد في مقدمة بقلم تيودور جريفا لترجمة لقصائد مختارة من كافافي، لوزان، 1947، وأوردته يورسونار، ص 16].
2ـ " оυк αγαθον πολυкоιρανιη " الإلياذة II 205. أوديسيوس هو الذي يقول ذلك لجندي عادي وهو يحاول إعادة جمع الجيش الآخي الذي يتهيأ لمغادرة طروادة بعد خطبة أجاممنون الزائفة. ومن الواضح أن الإشارة هي إلى الصراع بين بطلين شهيرين، أخيل وأجاممنون، الأمر الذي يجعل استشهاد بلوتارك بهذا القول، في معرض الإشارة إلى قيصرون وأغسطس، مفارقة ساخرة.
ـــــــــــــــــــ
بيبليوجرافيا

Cavafy, C. P. Apanta Poietika . Athens: Ypsilon, 1999.
--- . Poimata. ed. George Savvidis Vol. I and II. Athens: Ikaros, 1963.
Cavafy, Constantin. Poèmes. 1958. Trans Marguerite Yourcenar and Constantin Dimaras. Paris: Gallimard, 1978.
Forster, E. M. Two Cheers for Democracy. London: Edward Arnold, 1951.
Gibbon, Edward. The Decline and Fall of the Roman Empire. 1776 – 1778. Ed. Hans-Friedrich Mueller. New York: Random House, 2003.
Haas, Diana. Le Problème Religieux Dans L'Ouevre De Cavafy: Les Années De Fornations (1882-1905). Paris: Presses de l'université de Paris-Sorbonne, 1996.
Keely, Edmund. Cavafy's Alexandria. Princeton, N.J. : Princeton University Press, 1976.
Liddell, Robert. Cavafy: a Biography. New York: Pocket Books, 1978.
Said, Edward. "Thoughts on Late Style". London Review of Books (2004).
Seferis, George. "Cavafy and Eliot – a Comparison". The Mind and Art of C. P. Cavafy: Essays on His Life and Work. Ed Denise Harvey. Athens: Denise Harvey and Company, 1947; 1983.
__________
ناتالي ميلاس، أستاذة مساعدة في الأدب المقارن بجامعة كورنيل nam5@cornell.edu

0 التعليقات: