حروب السلامةِ العامةِ: العنف العقابي

بوصفه سيرورة تضحية وتأمين

ألن فيلدمان
ترجمة بشير السباعي


حروبُ السلامةِ العامةِ المجاوزةُ للأطر الإقليمية


انبثقت استراتيجيات جديدة لإعادة إنتاج سيادة الدولة الأميركية، وهي استراتيجيات يمكن تشخيصها على أنها حروب سلامةٍ عامةٍ مجاوزةٌ للأطر الإقليمية وغير محدَّدة. وهذه الحروب لا تتركز حصرياً على فتح أراضٍ. بل هي تتركز بالأحرى على الاختراق الإقليمي-«الإرهابي»، والاختراق الديموغرافي والبيولوجي المنسوب إلى أطراف أخرى. وهـذه الحملات لا تحدد بنيتها أهـدافٌ سياسية محدودة زمنياً بل هي مفتوحة على الأفق الزماني دون نهاية محددة. وهي ليست مجرد أدوات جيو-ستراتيجية ـ أي وسائل لتحقيق غاية سياسية. فحروب السلامة العامة المجاوزةُ للأطر الإقليمية هي أشكال ثقافية جيو-سياسية يمكنها تحقيق هيمنة داخلية نوعية داخل المجال العام الأميركي عبر تعايش الخوف المستبطن وعدوان آخر موجَّه. ومن الواضح أن المؤشر على ذلك هو حملات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق والرد على ترويعات الإرهاب البيولوجي الأخيرة. على أن هذه الحروب قد أنبأت بها من قبل حملات أسبق ضد المخدرات واللاجئيـن لأسباب اقتصادية والباحثين عن ملجأ وملاذ والمهاجرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية، وذلك بالإضافة إلى حملات الشرطة ضد الجرائم المتصلة بنوعية الحياة والتي استهدفت بشكل زائد عن الحد جماعات مدينية ملونة داخلية.


وخلافاً لحروب القرن العشرين، لا تعد هذه الحـروب المتحـررة من قيود الشكل التقليدية حروب يوتوبيا، بل تعد حروب ديستوبيا [خوف من تجاوز الوضع القائم] تفترض أن الديموقراطيات الليبرالية «المُثلى» معرضة لتهديد خطر غير مرئي، آخذ باخـتراقها. وهكذا فإن الفانتازيا السياسية لما بعد 11/9 قد روَّجت الاستقطابات اللاتاريخية عن الحضارة في مواجهة البربرية، أو المفهوم العقلاني الليبرالي اللاتاريخي بالمثل عن «حـروب الحضارات». والمؤشر على ذلك هو التبني القومي السريع لموتى مركز التجارة العالمي من جانب الدولة ووسائط الإعلام. وقد جرى امتداح مركز التجارة العالمي بوصفه مجالاً طوباوياً مـنتهكاً للعمل الذي اكتسب طابعاً عبر قومي ولرأس المال الرمزي ولإنتاج الثروات الذي اكتسب طابعاً ديموقراطياً وغير استبعادي. على أن هذه الصورة قد كّذَّبها عددُ العمال الأجانب غير المسجلين الذين كانوا في السابق ولايزالون إلى الآن غير مرئيين والذين اختفوا مرةً ثانيةً في انهيار البناية. والحاصل أن الحرب المجاوزة للأطر الإقليمية إنما تروج أيديولوجية فضاء يهيمن عليه جنون الريبة وهي رد ضمني عدواني على نهاية الاستقطاب المميزة لفترة ما بعد الحرب الباردة كما على الدوار الثقافي-الاقتصادي الذي ترتب مؤخراً على العولمة. وهكذا فإن حروبَ السلامةِ العامةِ الجديدةَ إنما تستهدف صور شخصيات تجتاز الحدود جرى إضفاء ملامح شيطانية عليها وتشمل تجار المخدرات والإرهابيين والباحثين عن ملجأ وملاذ والمهاجـرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية، بل والميكروبات. وترافق مخيالات الحرب الجديدة هذه بنى ذات مواقع استراتيجية للإزاحة وللتوقع ولاختيار الأهداف ولاستبدال الأهداف. ونحـن الآن خاضعـون لبنية عليا جديدة لفانتازيا الحرب يعد فيها المستهدفون بالحرب وأعداء السلامة العامة مرنين ومطواعين كصورة حُلمية. وسوف أعرض في هذا البحث عدة خصائص للأشكال المنبثقة للحرب وللسيادة: «المفهوم البوليسي للتاريخ»؛ «دولة العلاج» الآخـذة في الانبثاق؛ الثقافـة البصـرية الجديدة للحرب؛ بنية التضحية المميزة للإرهاب السياسي المعاصر؛ والبنية التأمينية للعنف السياسي.

المفهوم البوليسي/ العسكري للتاريخ


هذه البيئة الأيديولوجية تحفز مفهوماً بوليسياً للتاريخ، أي إعادة تأطير السيرورة التاريخية في ثنائية فضاء آمن مثالي وفضاء مزدوج، ديستوبي ومثقل بالمخاطر. وفي هذا النموذج الإرشادي، فإن فضاءات النظام إنما تقوضها فضاءات الخطر المحتكة بها. وهذا المفهوم عن التاريخ إنما يطرح السوسيولوجيا المعيارية للسيرة الشخصية: من الذي ينتمي ومن الذي خارج المكان. كما أن المفهوم البوليسي للتاريخ يتناسب مع الاقتصاد المعولم الجديد: فهو يحفز مفهوماً معيارياً عن الاقتصاد العالمـي بوصفه فضاءً منظَّماً للحركة الاقتصادية تؤدي فيه الجماعات والأفراد وظائف مناسبة وتحـتل فيه مواقع مناسبة. أَمَّا الحركة غير المناسبة والمتعدية، والتي تجد رموزاً لها في صور التلوث البيولوجي-الاجتماعي، كمرض الإيدز ومرض جنون البقر والسارز وتجارة المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين، فهي محل خوف وموضع هجوم.

وهكـذا فإن الإرهابيين المتسللين هـم في آن واحد مثلٌ ومفهومٌ جامعٌ لفكرة الحركة غير المناسبة. وممارسة التأمين البوليسي في هذا الإطـار الخاص بالحركة المنظَّمة/ غير المنظَّمة إنما تتعلق بالتوزيع المرئي للوظائف وللمواقع داخـل مجتمع من المجتمعات وفيما بين المجتمعات؛ وتتعارض هذه الممارسة مع انبثـاق ذاتيات جديدة تقاوم معايير الحركة و/ أو تمارس أشكالاً غير شرعية للحركة. وهذا الشكل من أشكال ممارسـة التأمين البوليسي إنما ينبثق مع اختفاء الحدود القومية المادية القابلة للتفعليل ويعوض عن خسارة الحدود المادية بخلق شبكات حدود جديدة تعد مضمرة وتنشط عبر وسائط غير مباشرة وتتخذ من المراقبة الإلكترونية ركيزة لها. وهكذا فإن وقف أو تعطيل الاقتصاد الأخلاقي للحركة إنما يتم تشخيصه عندئذ بوصفه «حادث-خطر» ديستوبي، أي بوصفه تعطيلاً للسير السلس المتَخَيَّل لعمل جهاز الحركة والذي من غير المتصور حدوث شيء فيه. فـ«الحالة السوية» هي حالة امتناع وقوع الحدث، والتي تعني في واقع الأمر التوزيع المناسب للوظائف والشغل المناسب للمواقع المحدَّدة وصون الصيغ الاجتماعية المناسبة. وهكذا فإن فهم أشكال التأمين البوليسي المطابقة لهذه الحالة إنما يتطلب تدقيقاً مفاهيمياً عن قرب. وكما هي الحال تماماً مع الحدود، فإن التأمين البوليسي إنما ينتقل مـن الطبيعي [المادي] إلى المضمر.


يرى جاك رانسيير أن البوليس أقل اهتماماً بالقمع من اهتمامه بوظيفة أساسية أكثر: هي وظيفة تحديد ما هو قابل للرصد أو ما ليس قابلاً له، وتحديد ما يمكن أو ما لا يمكن رؤيته. وهذه أسماء أخرى للتكوين الرمزي للاجتماعي: الاجتماعي بوصفه يتكون من جماعات ذات أساليب نوعية يمكن تمييزها والتعرف عليها تِسِمُ أشكال عملها، وهذه الأساليب في العمل إنما تُحَدَّدُ لها هي نفسها بشكل شبه طبيعي على نحو مباشر مواقع يتم فيها أداء هذه المهن(1). ويعارض رانسيير التطبيق البوليسي لمتَّصَلِ الحركة على السياسة، التي هي تجلي الذاتية من حيث هي خروج على المواقع والوظائف المحدَّدة، كما يعارض البيئات المكانية المستقرة (وذلك بقدر ما أن شَغْلَ والانحباس في بيئة مكانية مستقرة، كوظيفة اجتماعية أو فضاء ذي طابع مرضي كالـ«غيتو» أو العالم الثالث أو الهامش، يُعَدُّ شغلاً لموقع مناسب، واكتساباً لشكل صحيح). والحاصل أن الاقتصاد الأخلاقي للحركة المناسبة وتكنولوجيا الشكل السياسية إنما يؤديان إلى ظهور سياسة معيارية عن المرئي؛ ما هو مقصود به أن يكون مرئياً فـي المـجال العام للدولة-الأمة أو في الاقتصاد عبر القومي، والواقع الرُهابي المتمثل في أن هذه القابليـة المعيارية لأن يكون الشيء مرئياً إنما يخيم عليها ويتهددها غير المرئي (سواءٌ كان متمثلاً في إرهابيين أم جماعات سكانية متحركة لا تنتمي إلى أية دولة أم ميكروبات). وهكذا فإن المفهوم البوليسي للتاريخ إنما يُعَدُّ تكنولوجيا سياسية متمحورة على الرؤية، وتركيزاً بصرياً على التحكم في المسطحات الاجتماعية وفي التخريب السري المحتمل لها، إلى جانب كونه تركيزاً على التحكم في إضفاء طابع بصري عام على «الأحداث» أو التسللات الخَطِرة. ويتمثل جزء لا يتجزأ من التحكم في الحركة في التنظيم الاستراتيجي لصور الحركة والذي إمَّا أنه يفرز المعياري [السوي] أو يفرز المتعدي من زاوية الفوائد السياسية الآنية.


وداخل وخارج الدولة-الأمة المحاصَرَة خارجياً وداخلياً، تتطلـب حملات السلامة العامة كلاً من بولَسَة الجيش وعسكرة البوليس. فالتأمين البوليسي الحضري، مثلاً، يتركز بشكل متزايد على استئصال أو التحكم في الجرائم المتصلة بنوعية الحياة. وهذه الجرائم تعديات تجد منشأها في مناطق بؤس الأقليات الاقتصادي ـ وهي موقع الاختزال وعدم الاستثمار في العصر بعد الصناعي، والانخراط المتبادل للجماعات التي طالها الفقر في «الاقتصادات السوداء» غير الرسمية. وفي هذا السياق، يكف التأمين البوليسي عن التركيز على القبض على متعدين أفراد ويركز بدلاً من ذلك على المراقبة الجغرافية المتميزة بالشمول واحتلال أحياء بكاملها والانقضاض على مجمل سكانها. ويصبح التأمين البوليسي تنويعاً على الحرب المضادة للعصيان مع تزايد اعتبار الجريمة ممارسة مقاومةٍ اقتصاديةٍ وأشكالاً غير رسمية للحركة الاقتصادية السرية ـ وكلها يتطلب احتجازاً مكانياً/ مراقبةً لجيوب الأقليات. وفي الأصل، كان قد جـرى فهم «المدينة المزدوجة» على أنها نتيجة اقتصادية للعولمة انفصلت فيها بنيوياً هوامشٌ حضريةٌ داخليةٌ بأكملها عن النمو الاقتصادي والتطور. على أن المدينة المزدوجـة، في المفهوم البوليسي للتاريخ، قد تحولت إلى هدف أيديولوجي يتم فرضه عن طريق تكنولوجيات التحكم في المكان.


وتسهـم الحملات ضد الجرائم المتصلة بنوعية الحياة في تكوين «مشهد» حضري جديد «ممسوح مسحاً تلفازياً» يتميز بمناطق تحكم اجتماعي(2). وسعياً إلى ضمان الاستقرار السياسي فإن قاعدة مجال مدني مفتوح الآفاق له إحداثيات خبرة في المجال العام إنما تحول دونها حالياً ترتيباتٌ خطابية وعملية جـديدة للتأمين البوليسي وللسلامة العامة وللتنظيم الحضري. وهذا الاستقطاب ذو الطابـع العسكري للمشهد الحضري مزدوج الاتجاه بذات درجة خضوع الهوامش الاقتصادية الحضرية الإشكالية للاحتلال من جانب البوليس. وتتتميز مناطق التركز الاقتصادي ببنيات مكتبية دفاعية معسكَرَة (مجهزة بتكنولوجيات المراقبة وبتدريع هيكلي) وبوجود جماعات محروسة خلف البوابات بقوات أمنية خاصة، وهي بنيات منفصلة هيكلياً عن البيئة الحضرية المحيطة بها بينما تهيمن هيمنة بصرية على هذه الساحة.


وجانب كبير من هذه التكنولوجيا السياسية للتفريع الجغرافي المنظم جرت تجربته لأول مرة فـي جمهورية جنوب أفريقيا في عصر تميز بتطبيق سياسة الأبارتهيد حيث قامت الدولة لاعتبارات استراتيجية بإنشاء شبكة طرقها السريعة بهدف تجاوز المناطق ذات الطابع المرضي والمؤلفة من «فوائض بشرية سكانية» في مدن الأكواخ الأفريقية. ويقوم الإسرائيليون حالياً بإجراء استخدام مماثل لشبكات الطـرق السريعة والأنفاق في الضفة الغربية لضمان كل من أمن المستوطنين والهيمنة المكانية على قرى العرب من أهل البلاد الأصليين. وفي هذا الاجتماع لتنظيم الطرق متعددة الفروع، تحاط الجماعات العربية وأراضي الزراعة العربية المحيطة بها بجيوب من ممرات الطرق السريعة المرتفعة والأنفاق التي تربط المستوطنات الإسرائيلية (القائمة غالباً فوق التلال). والمستوطنات نفسها جماعات ذات طابع عسكري محروسة خلف البوابات تباهي بحيازتها لأحدث منظومات المراقبة الإلكترونية.

دولة العلاج


الأجهزة العسكرية في مناطق الطوارئ السياسية غالباً ما تعمل في آن واحد كقوات مراقبة وقوات «حفظ للسلام» ملتزمة بتنظيم استخدام المجال العام من جانب جماعات سكانية يجري اتهامها بأنها موبوءة بالإرهاب. ويمكن أن نرى أمثلة لذلك في البلقان وغربي افريقيا وفي التنظيم الاحتجازي للاجئين وللباحثيـن عن ملجأ وملاذ ومراكز احتجاز «أسرى الحرب» في العراق وفي خليج غوانتانامو. وفي هذا السياق ذي الدوافع المختلطة من الناحية الظاهرية، تجري عسكرة التدخلات الإنسانية وتقوِّضُ التدخلاتُ العسكرية وتستغلُ الخطابَ عبر القومي الخـاص بحقوق الإنسان. والحاصل أن الإرهابي واللاجئ هما في آن واحد هدفا ونتيجة التدخلات العسكرية. والشخصية القانونية للإرهابي بوصفه «محارباً غير شرعي» والشخصية القانونية للاجئ والباحث عن ملجأ بوصفه مقيماً وعاملاً غير شرعي إنما تتميزان على نحو متبادل بالحرمان من حقوقهما في المواطنة في بنية دولة-أمة قائمة. وكلاهما كيانان غير سياسيين إلى درجـة تصنيفهما على أنهما موجودان خارج جماعة سياسية معترف بها، ولأن سياقهما ومسلكهما قد جـرى نزع الطابع السياسي عنهما ومن ثم جرى تجريمهما.


ويتصل بعسكرة المساعدة الإنسانية الدمج الأيديووجي والعملي لمعسكر الاعتقال ومعسكر اللاجئين، حيث يمكن للأشخاص الذين فقدوا مواطنة دولتـهم-الأمة أن يموتوا من الجوع بسهولة أو أن يتعرضوا للإبادة العسكرية والتعسف من جانب البوليس وهيئات الأمن الأهلية. وفي الوقت نفسه، يمكن إطعامهم وتوفير الملبس والسكن لهم، كما يمكنهم الحصول على المساعدة الطبية. وعلى سبيل الإيضاح، فإن معسكر أسرى الحرب في خليج غوانتانامو، الذي لا يخضع فيه المحتجزون لا للقانون المدني الأميركي ولا لاتفاقيات جنيف، يقدم لمحتجزيه رعاية صحـية شاملة ويسمح لهم بأداء فرائضهم الدينية وفرائض غذائهم، وذلك بالاجتماع مع جدول معتاد للتحقيق الذي يتم فيه الإكـراه والذي يتاخم التعذيب والتعطيل المتقطع للحواس. وهذه الدينامية لا تقتصر على «حالات خاصة»: فالأفراد المحتجزون في السجون الأميركية يجربون هم أيضاً مثل هذه العناصر المتباينة من الناحية الظاهرية.


والدولة المعسكَرَة هي أيضاً «دولة العلاج»، جهاز متخصص في التحكـم في الرعاية الحراسية السايكو-اجتماعية للجماعات السكانية الخارجة على المجتمع. وتتحقق بسرعة نبوءة فوكوه عن انتشـار وامتداد الآليات الانضباطية إلى الأجهزة العصبية الاجتماعية في طور يعقب طور الاعتماد على السجـون. وقد يكون مريحاً للبعض أن التكنولوجيات والميديا العسكرية/ الانضباطية التي سبق ذكرها يجري تطبيقها على ما يسمى بجماعات الإرهابيين النائمة واللاجئين ومسيئي استخدام العقاقير وتجار المخدرات، إن اكتفينا بهؤلاء فقط. لكن مثل هذا الارتياح واهـم بالنظر إلى التوسع الهائل لمفهوم الجرم الموضوعي كبنية للحكم. والحاصل أن إنشاء جهاز أمن وطـني وانكبابه على الاستثمار في إنشاء شبكات «وعي إعلامي كامل» إنما يشير إلى تبدل بنيوي للمجال العام الأميركي وللوضعية الشخصية العامة الأميركية عن طريق تحويل الخطر، و، من ثم، الجرم، إلى علامات رقمية. ومن المقرر تدشين ميكرولوجيا مراقبة لن تقوم فقط بالمراقبة وبالترقب، بل سوف تقوم أيضاً بالتشخيص وبالوقاية وبالتدخل. فالمقصود من بنى أشكال السلوك في الحياة اليومية وأنماط الاستهلاك والاتصال والنشاط الاجتماعي إلى جانب الانتماء العرقي والإثني شطر الشخصية الاجتماعية وتحويل أدق أشكال السلوك إلى موضوعات لعلوم أوبئة مختصة بالتعرف على التهديد الإرهابي المحتمل. ويصبح كل واحد، في ظل إضفاء طابع عيني رقمي على المجال العام، متواطئاً دون أن يدري في حفز خطر إرهابي. وهذا الجرم الموضوعي الجديد هو المحو الرقمي للقصديـة مـن مفهوم ما هو سياسي أو ما هو جنائي.


والجرم الموضوعي، المسجل في أدق جزئيات الحياة اليومية، إنما يعد ضرورياً لأيديولوجيات الحرب الجديدة. لأنه، كما في كل أيديولوجيات التأمين البوليسي، لا تهدف حروب السلامـة العامة إلى استئصال الهدف «المستهدف من وراء التأمين البوليسي»، سواءٌ كان إرهابياً أم مهاجراً لا يحـوز وثائق هجرة رسمية أم مسيء استخدام للعقاقير المخدرة. فهذه الحروب تتطلب بالأحرى الحضور المباين المتواصل للهدف المستهدف من وراء التأمين البوليسي وذلك لأجل تبرير استمرار سيادة الدولـة والتفصيـلات الجديدة لها. والواقع أن الحروب ضد المخدرات واللاجئين لأسباب اقتصادية والمهاجـرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية إنما تتطلب الوجود المتصل لاقتصادات كبرى غير رسمية قومية وعبـر قومية قد تتغير إلاَّ أن من غير المحتمل محوها من الوجود عن طريق التأمين البوليسـي أو المراقبة. ويمكن قول الشيء نفسه عن الشبكات الإرهابية المعتمدة على منظومات الصرافة البنكية والائتمان والضمان المالي. إلاَّ أنه وراء تواصل الاقتصادات الكبرى غير الرسمية المتعدية يكمن ببساطة عدم تحديد المصطلحات والذي يمكن فيه استخدام مصطلح الإرهابي استخداماً يشمل مجموعة متنوعة من الأهداف والأشياء والسيناريوات الرائجة. وهكذا، ففي مستهل غزو العراق، صدقت غالبية الأميركيين أن صدام حسين مسئول مسئولية مباشرة عن الهجوم على مركز التجارة العالمي، وذلك بالرغم من غياب أوهي دليل على ذلك.

الثقافة البصرية للحرب


ناقشتُ بالفعل الأنماط البصريـة الناشئة لدولة «العلاج» فيما يتعلق بالمناطق وبالجماعات السكانية الموسومة بالجرم الموضوعي. وقد أسهم مفهوم الجرم الموضوعي في إمكانية قبول مفهوم الخسائر الملازمة غير المباشرة من حيث أن الخسائر الملازمة غير المباشرة طبيعيةٌ في ظـل ظروف سياسية يجري فيها نزع الطابع الفردي عن الجرم وتوزيع الجرم بشكل يتميز بالشمول. والحاصل أن الثقافة البصرية الجديدة للحرب إنما تعزز أيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة عبر ترشيح الصور. فالإثارة البصرية المتلفَزَة لـ«الصدمة والرعب»، وللقنابل الذكية التي تذيع سقـوطها على بناية، إنما ترشح مشاعر آلام ومكابدات وأحزان الضحايا والناجين من بينهم. وهي تنشئ أيديولوجيات جمهورٍ مشاهدٍ قوامها عدم الانتباه والتسلية بالنسبة للمشاهد التلفازي. ويقف ضحايا الخسائر الملازمة غير المباشرة في تعارض بصري مع العنف المثير لـ«الصدمة والرعب»، إلى درجة أن أيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة تجتمع مع المحورية البصرية للصدمة والرعب لتغييب وعي الجمهور المشاهد عن محنة الضحايا «الهامشيين»، العرضيين والذين سقطوا بالصدفة، كأولئـك الضحايا الذين سقطوا من جراء قصف ساحة السوق العراقية والذين ماتوا بشكل غير مرئـي في الميديا الأميريكية. وقد ضمن ترشيح الصور ألاَّ يحوز مثل هؤلاء الأشخاص البتة الأهمـية البصرية الملحة أو ألاَّ يحوزوا الاهتمام البصري الذي حازته محاولة القضاء على صدام وتدمير «مراكز القيادة والتحكم» العراقية في الميديا الأمريكية. فـ«مركز القيادة والتحكم» الذي هو الفرد الغارق في الحياة اليومية، والذي هو صرح الدمقرطة، إنما يمكن محوه محواً جوهرياً في المرشحـات الإدراكية لعدم الانتباه والتي تكمن في صميم أيديولوجيات الخسائر الملازمة غير المباشرة والعذر. والصدمة والرعب هي الإنتاج المسرحي لأحداث تكنولوجية وخلق لا-أحداث من العنف اللامرئي أو الخسائر الملازمة غير المباشرة.


والحاصل أن أطلال مركز التجارة العالمي هي التـاريخ في درجة صفر أبدية. فالبنايات المحطمة والجثث قد ذابت وانصهرت لتشكل مخلوقاً فرانكنشتاينياً جـديداً، يعمل الآن كعضـو صناعي ثقافي، وهو جهاز للإدراك التاريخي، جهاز تطلَّبَ ظهوره إلى الوجود ما يصل إلـى ثلاثة آلاف من الضحايا. وكانت ثلاثة آلاف من الضحايا الذين حولهم جورج بوش إلى ضحايا للأمة هي الثمن المدفوع في سبيل الحرية، والثمن المرتفع الذي تطلَّب مضاعفةً له في أفغانستان والعراق والفلبيـن وإندونيسيا وأجزاء أخرى من العالم كيما يتسنى توسيع ملكوت الحرية القائمة على التضحيـة. والمشروع الإمبراطوري الأميركي الجديد هو نشر الأصفار القاعدية. فكما تعلَمْتُ في آيرلنده الشمالية، يعد استنساخ الأصفار القاعدية النتيجة الأكيدة للعنف العقابي والانتقامي، وهو عنف يعيد تمثيل ويعيد تجريب هجومٍ وتعدٍّ أصليين(3).


ونجد هنا تجاوباً مع القصف الإشباعي لأفغانستان. فالحاصل أن القصف الجوي الشامل، كما ذكرت في بحث حول عاصفة الصحراء، هو نمط للقابلية الإجبارية للرؤية(4).فالبانوبتيكون العسكري يخلق خصوماً ويَظْهَرُ آخرون خلال وبعد إطلاق المتفجرات. والقصف الجوي الإشباعي في أفغانستان، كما في العراق، هو استشراق جديد، فهو الجهاز الإدراكي الذي نجعل به الآخر الشرقي مرئياً. لأنه قد جرى اعتبار الأفغان والعراقيين مسئولين وأهلاً للمحاسبة عن التواريخ المحتجبة والجغرافيات المحتجبة التي شاع الظن بأنها هـي التي هاجمت أميركا في الحادي عشر من سبتمبر.وقد أصبح مركز التجارة العالمي غباراً وأنقاضاً، أي موادَّ تقاوم البصريات. على أن قنابلنا تسعى بالأحرى إلى اختراق ما سماه إرنست بلوخ بـ«الغبار التاريخي»، الغبار المجازي الذي راكمته الجيو-سياسة الأميركية والأيديولوجية الانعزالية الشعبية الداخلية. والغبار أكثر من حالة أيكولوجية مناخية. فهو رمز للتاريخ غير القابل للاختراق والذي يكمن في أساس موت كثيرين وكثيرين من الناس، وهو تاريخ تعمى عنه النزعة الاستثنائية الأميركية. وقد جرى جعل أفغانستان تجسيداً لغبارنا التاريخي، لعمانا التاريخي، للظلمة التي لا يمكنـنا أن نرى فيها موتانا، وتلك الآخرية التي تصبح مسقط رأس «الآخر الإرهابي». وبما أننا قد أَدْمَنَّا، وإن كنا لا نرتاح إلى، واقعية الميديا في تصوير موت البناية، فإننا نسعى في القصف الجوي إلى الارتياح إلى جعل الإرهابي مرئياً، وإلى إخضاع الإرهاب لإزاحة قنابلنا الذكية للغبار. وبالدرجة نفسها التي يقاوم بها مركز التجارة العالمي الاختراق البصري والفهم، فإننا نحيل حاجتنا إلى تفسيرٍ شفافٍ للهجوم على مركز التجارة العالمي إلى أبصار/ مواقع قنابلنا البانوبتيكية التي حولت أفغانستان إلى مقبرة في الهواء الطلق للخسائر البشرية الملازمة غير المباشرة. وبالدرجة نفسها التي صدم بها انهيار مركز التجارة العالمي وأصاب بالرعب الأميركـيين، فإن الجغرافيات المتصَوَّرة وذات الطابع الفانتازي لـ «الآخر الإرهابي» لابد من إخضاعها لنظام «الصدمة والرعب» الفارز. فالأخير أكثر من تاكتيك عسكري؛ فهو في آن واحد تمرين على مشهد الحرب بوصفه ثقافة بصرية لأجل الاستهلاك البصري من جانب جمهور تلفازي وأيديولوجية تحديث. وكما لاحظ هيجل مشيراً إلـى البونابرتية، فإن زحف جيش عـبر جغرافية قومية إنما يجسد فكرة التقدم التي يجري الآن إخضاع تلك الجغرافية السياسية لها بالإكراه.

أداء ثقافة الإرهاب: تكرار التضحية


تحت المنطق البصري لـ«الصدمة والرعب»، سواء طَبَّقَتْهُ أصولية بوش أم أصولية بن لادن، تكمن بعض النصوص الفرعية اللاهوتية التي يشير إليها كل من مفهوم «الرعب» وإضفاء طابع شيطاني على الخصوم. فالجماعات السكانية الخاضعة لهذا المنطق يجب تعريضها للصدمة والرعب عن طريق العنف الإرهابي. والواقع أن أعجوبة الرعب هي التفصيل الثقافي للخوف من خلال أعمـال تكنولوجية مثيرة، سواءٌ كانت هذه الأعمال أداءات بصرية للقصف الإشباعي أو لرطم طائرة ببنايـة مرتفعة جداً. والحاصل أن إخراج الإرهاب السياسي الحديث هو من حيث الجوهر مشهد تضحية.

والمعدل بين المعالجة المطهِّرة ذات الطابع البصري للصدمة والرعب من جهة والخسائر الملازمة غير المباشرة من الجهة الأخرى هو معدل يقاس على مستوى التضحية. فالملازم وغير المباشر هو ذلك الذي تجري التضحية به لإنشاء هيمنة العنف ذي المظهر البصري. وكسيرورة طقسيـة، يختار/ ينشئ العنف التضحوي موضوعات عامة كمواد خام عرضة لاتخاذ مظهر موضوعي قابل للتغير. وتتطلب سيرورة التضحية ممثلين رمزيين يمكنهم اتخاذ شكل تيارات ذاكرة جماعية متعددة، ويستوعبون ويعكسون فانتازيات جماعية متنوعة ومتناقضة غالباً. والتضحية أداة سياسية للإرهاب السياسي يتم من خلالها تعبئة المعاني الجماعية والتغير التاريخي وإضفاء طابع بصري ودرامي عليها في الاختيار المرئي والإزالة العنيفة للهدف المختار عن طريق فعل عنيف. وتنطوي التضحية على الفصل الرمزي لجزء عن الكل و، من ثم، أن يكون الجزء أو الضحية رمزاً للكلية الاجتماعية التي يراد المساس بها من خلال التدخل التضحوي. والتضحية تستحضر الإهانة والعدوى والتلوث والتعدي الذي تحاول تصحيحه عن طريق إضفاء طابع كلي على النظام الاجتماعي أو الجماعـة أو المؤسسـة المسئولة عن الإهانة وذلك على شكل الضحية الرمزية. ويتم اختيار الضحية من داخل النظام الاجتماعي المستهدف، وهي تتميز بقدرات سيميوطيقية وتذكيرية يتم إطلاقهـا مع تطبيق العنف. ويركز الفعل التضحوي الذاكرة التاريخية التي لم يتم التصالح معها والتناقض الاجتماعي في شخصية رمزية. ويتم توظيف ضحية الأفعال التضحوية في حمل رسائل ويقصد بضحيـة هذه الأفعال تغيير الواقع الاجتماعي في عين تمزيق تجسده. وغالباً ما يتم تصور انتقال الضحايا بالعنف من الحياة إلى الموت على أنه يتيح انتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تليها.

والموضوع التضحوي متردد بشكل كامن فيه وهو مُعْدٍ ومطهِّر ومثير للفوضى ومنظِّم وكامن بشكل أصيل في النظام الاجتماعي ودخيل عليه، لأن التضحية بالنسبة لفاعليها هي طرد التناقض من التاريخ في عربة الرسول الضحية(5).


عند هذه النقطة، لابد لي من أن اختلف جزئياً مع أطروحة جيورجيو أجامبن ومفهومه عن «الإنسان المقدس»، الذي يشكل «استثناءً» من السيادة محروماً بشكل جذري من الحصانة، والذي لا يسهم إذلاله القطعـي وموته العنيف بأي شيء في إعادة الإنتاج التضحوية للمؤسسات السائدة. فالإنسان المقدس موقعـه خارج المجتمع وخارج المنطق التضحوي لأن هذا اللا-شخص يمكن قتله دون عقـاب ودون طقوس. والإنسان المقدس يتطابق مع حالة الموت الاجتماعي(6). وهذه المقولة يمكـن أن تنطبق على الكثير من الأوضاع السياسية والمؤسسية كالسجين في السجن والملاجئ، والجسد الذي ينقل المرض المعدي ولكن إلى حد معين. على أنني لا أعتقد أن مفهوم «الإنسان المقدس» يصـف ضحايا البرامج المنظَّمة للإرهاب السياسي وللإرهاب السياسي المضاد (والذي يرهب هو الأخر). وقد تكون المذلة الجذرية هي النتيجة النهائية للإرهاب السياسي لكن السيرورات التي تنتج الذليل تحمل كل علامات الطقس التضحوي. وأنا أفكر هنا في ممارسات التعذيب والاختفاء والخطف السياسيين والاعتقال والاحتجاز التعسفيين والاغتيال السياسي وأعمال الإرهاب التي تستهـدف الأفراد والجماعات والسكان المحليين استناداً إلى معايير الجرم الموضوعي. وأنا أزعم أننـا يجب أن نتحرك بعيداً عن تحليل حقوقي تصنيفي، كتحليل أجامبن، وفي اتجاه تحليل أدائي للإرهاب السياسي من حيث كونه فعلاً تضحوياً.

فعندئذ يمكننا أن نرى أن تعويل الإرهاب السياسي على الطـرد التضحوي، للهدف الذي يستهدفه، من الحياة اليومية ومن الجماعة والدولة-الأمة ومقولات المواطنة يمكن أن يخلق كل أنواع القيمة الأيديولوجية والتطهيرية وهو وسيلة أولى لإعادة الإنتاج الشاملة للسيادة. فخلافاً لكون التضحية غير ضرورية، تعد التضحية ضرورية لإعادة إنتاج السيادة أو لإضفاء الشرعية على دعاوى السيادة. ثم إن مفهوم أجامبن عن الاستثناء من السيادة غالباً ما يتم توليده وترويجه عبر كل من الخطاب الأيديولوجي والتدخل الأدائي. و«المستثنى»، أو الذليل اجتماعياً، إنما يمتلك سيرة حياة تنقل هذا الكيان من وضع داخليةٍ داخل جماعة من الجماعات إلى وضع خارجية. إلاَّ أنه عبر فعل «الانتقال» التضحوي، أي عبر تطبيق العنف البنيوي أو التعاملي و/ أو الحرمان من الحياة اليومية والجماعة والدولة-الأمة والمواطنة، تحمل التضحية معها ذاكـرة تاريخية تحقق في العنف اجتماع أضداد قوياً ومكثفاً.


والإرهاب السياسي المعاصر، خاصة الإرهاب الذي يمس مدنيين وغير مقاتلين، إنما يظهر بوصفه شكلاً خاصاً للتضحية. وشكل التضحية هذا يتميز باضطراب إجباري، تكراري، حيث نجـد أن المحاولات الأولية لطرد التناقض الاجتماعي-السياسي عبر التضحية الرمزية تفشل حتماً في الوصول إلى اكتمالهـا. وهكذا فإن هذه المحاولات لابد من تكرارها إلى ما لا نهاية إلى أن يكف الهدف الاجتماعي لهذه الأفعال عن تحمل تكاليف خسائره. وفي هذه الدينامية التكرارية الإجبارية، يخضع الفعل التضحوي نفسه بشكل غير واع لمنطق تضحوي وذلك لفشله في حل التناقض ولعجزه عن تحقيـق الاكتمال التاريخي. وتتم معاقبة التضحية نفسها كمعنى يحمل شكلاً عبر تكرار إجباري يسلط الضوء على افتقاره المطلق للفاعلية وفاعليته الفارغة وإن كانت مثيرة. ويعاد امتصـاص المنطق النفعـي للفعل التضحوي في مسرحية التدمير المباشرة قصيرة الأجل. والحاصل أن الفعل التضحـوي، المحاصَرُ بين الجدوى، علاقات الوسائل والغايات، من جهة، والمنطق الرمزي، من الجهة الأخـرى، إنمـا يصبح استحضاراً رمزياً لجدوى سياسية-تاريخية فارغة. وهو يرمز إلى الذاكرة التاريخية والتحـول السياسي، إلاَّ أنه يطمس الأخير في معاناة ضحايا الفعل العشوائيين إذ يفشل في تحقيق هدفه السياسي الخاص بنقل المجتمع إلى مرحلة تاريخية جديدة. والحاصل أن عجز الفعل التضحوي عن إنتاج ارتياح بعد تضحوي وتصالح مع الوجود الاجتماعي إنما ينتقل إلـى السيرورة الطقسية نفسها. ويتم تكرار التضحية كتدخل مادي وإعلان مادي للرغبة يعجز عن توفير الارتياح وعن دعم ذاكرة قيمٍ واستقـاماتٍ اجتماعية جري الاضطلاع به لخدمتها. ويقصد بالتدخل التضحوي أن يكون محصلةً للخبرة التاريخيـة ومـع ذلك فـإن الفعـل نفسه إنما يفشل فـي مصالحة جماعة شهود مع الخبرة التاريخية. ويظل التاريخ ثابتاً فـي مكانه؛ إذ لا تعجيل هنـاك لمسيرة التاريخ، إذا ما استخدمنا مصطلح راينهارت كوزليك(7).


وفي نهاية المطاف، فإن المظالم الاجتماعية التي كان الهـدف من وراء العنف التضحوي إبرازها وعلاجها إنما تضاف إليها تبادلات خبيثة للأفعال التضحـوية بوصفها المحتوى الصادم والأولي للذاكرة الاجتماعية لكل من مرتكبي العنف وضحاياه (الذين يتحولون إلى مرتكبين انتقاميين للعنف). فالمظالم الاجتماعية الأولى كالعنصرية والاستغلال الاقتصـادي والتمييز المؤسسي إنما تضاف إليها ذكريات صادمة عن الأفعال العنيفة التي كان الهدف منها، بادئ ذي بدء، نقل رسالة احتجاجٍ وعلاج المظالم. وتضاف علاقات التناحر السياسي (الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن ظروف التناحر السياسي وتجسيدها) إلى الظروف والسياقات الأصلية للتناحر. وفي نهاية المطاف تصبح علاقات التناحر القائمة السياق السياسي الأولي في وعي المتحاربين.


وقراءة البنية التحتية الأدائية وأشكال دور الإرهاب السياسي كمكونات للتكرار الإجباري إنما توضح لنا السبب في أن معظم أفعال الإرهاب السياسي المعاصرة قـد اتخذت في آن واحد شكلاً مضاداً للحداثة وبعد حداثي بشكل حاسم. ففي كثير من أفعال الإرهاب السياسي اليوم، نجد تركيزاً بلاغياً وبصرياً متناقضاً على الإماتة وتمزيق الأشلاء والوحشية، من جهة، وقدرة غير محدودة تقريباً على تنظيف الفعل العنيف من الناحية التقانية، من الجهة الأخرى(8). وفي الحالتين سواء بسواء، تعد الضحية نتيجة للإسراف التضحوي، لأفعال عنف تنتج ضحايا وتنتج، عبرهم، ذاكرة تاريخية ملموسة تطمس من ثم في أعقابها ذلك المنتج. وهذا التغاير بين العنف المتمحور على الوحشية/ التشريحي والعنف التنظيفي/ الممحو و/ أو «عنف القنابل الذكية/ الخسائر الملازمة غير المباشـرة» إنمـا يتضمن في ذاته منطقاً ثنائياً تضحوياً في العنف السياسي الحديث. وهـذا المنطق الثنائي يستتبع الانتقال من الضحية الممزقة المفتوحة جسدياً إلى التاريخ، إلى انتقال الضحية الممحوة من التاريخ؛ وهو انتقال من أفعال عنيفة للذاكرة السياسية إلى فجوة تاريخية يجري حفـزها بشكل مصطنع. إذ يتعين إرهاب الجماعات السكانية لكي تلزم الصمت والنسيان حيال العنف الذي ربما تكون قد شهدته وجربته، ويتعين أن تختفي سراً الآثارُ والإحداثيات المادية لذلك العنف. ولعل التمثيل الأكثر فجاجة لهذا هو ممارسة رينامو في موزمبيق لقطع الأطراف الحسية لكل من شهـود وضحايا عنفها. فقد جرى قطع الآذان وفقأ العيون وقطع الألسنة والشفاه لأن مرتكبي العنف كانـوا يسعون إلى تدمير القدرة الاجتماعية للذاكرة وللشهادة في أعقاب أفعالهم الإرهابية الأصلية. وتتجسد القدرة على الإنكار في كثير من أفعال الإرهاب التضحوي، بما يشكل تقريباً اعترافاً ضمنياً بالعجـز السياسي لهذه التدخلات، ناهيك عن خزيها.

العذر وتسوية التضحية


في عالم الإرهاب السياسي، تتميز الأونطولوجيا المعاصرة للتضحية بمفارقـة أن ضحيـة خالصة نادراً ما تواجه معتدياً خالصاً على المسرح التاريخي العالمي. فزوج المعتدي/ الضحية لا يعنـي سـوى شكلين للتضحية أو ضحايا يتحولون إلى معتدين، يواجه كل منهما الآخر بتدرجات تكافلية لوضع خاضعٍ نوعي عام. وهذا هو الأصل المرضي للعنف. وفي هذا المنطق المتعلق بأصل المرض، يمكن وصف أي أحد بأنه ضحية وأية ضحية يمكن تمييزها على أنها المعتدي أو أن تتخذ وضع المعتـدي. والاتجاهات الأخلاقية التي تميز تلقي وإنزال الألم إنما تنساب في اتجاهات كثيرة. وقد نرغب في أن يكون الأمر على خلاف ذلك على الصعيد الأخلاقي. إلاَّ أنه، من زاوية الإبستمولوجيا التاريخية، هذا هو الأسلوب الذي يفهم به الفاعلون الاجتماعيون دوافعهم وأفعالهم. والعنف السياسي يتضافر مع ضحايا المعتدي، سواءٌ كان هؤلاء مدافعين عن الأبارتهيد أم طائفيين دينيين عصبويين في آيرلنده الشمالية أم قوميين ألبان أو صرباً في كوسوفو. فالضحايا والمعتدون مقولات متغيرة وكل معتـد يعتبر نفسه ضحية وكل ضحية تعتبر من جانب المعتدي معتدية. وإذا ما رفضنا هذا الاعتبار للنفس وللآخر بوصفه رطانةً وخرافةً سياسيتين، فإن الواقع هو أنه يولِّدُ آثاراً مادية ـ ضحايا جدداً. وانقلاب الأدوار بين ألبان وصرب كوسوفو حالة حديثة جداً في هذا الصـدد. وبالإضافة إلى ذلك، فخلال جلسـات الاستمـاع المخصصة لرجال الشرطة من ممارسـي التعذيب في ظل نظام الأبارتهيد أمام اللجنة الأفريقية الجنوبية لتحري الحقيقة وللنظر في العفو عنهم، زعم هؤلاء أنهم قد أصيبوا دون أن يشعـروا بتوتر تالٍ للشعور بالصدمة وبإساءة استخدام للعقاقير بسبب سوء معاملتهم هم لسجنائهم.


وهذا التحول السهل للمعتدين إلى ضحايا والعكس إنما يعني أن الضحايا يشتبه في مخامرتهم إمكانية العدوان؛ إنهم محـل شفقة ومصدر خوف في آن واحد. والضحية التي تلقت العنف تلقت الذاكرة التاريخية المفرطة لمجتمع من المجتمعات، بما يعد تناقضاً اجتماعياً لم يتم حله. وبوصف الضحية المصدومة حاملة لفائض ذاكرة غير جائز، فإنها إنما تعاد صياغتها بسهولة عبر مجموعة متنوعة من القوى والخطابات لكي تتحول إلى فاعل عنيف، كما رأينا في العدوان الأميركي على العراق وفي الانتقام الذي أعقب الغزو ضد الاحتلال الأميركي للعراق. وأحياناً ما تكون هذه الطاقة العدوانية اختيار هوية وراثية للضحايا وأحياناً ما تكون فانتازيا أيديولوجية مفروضة على الضحايا مـن جانب مضطهدين أو من جانب أولئك الذين لم يفعلوا شيئاً لمنع أو لتخفيف التضحية بهم. وفـي أي من الحالتين، فإن انكماش المسافة الأدائية والأخلاقية بين المعتدين والضحايا إنما يطرح قضايا حرجة تتعلق بأيديولوجية الحرب العادلة. فهذا الانكماش الأخلاقي يكيف حجج الحرب العادلة مع نموذج إرشادي أخلاقي آخر، وهو نموذج يرتبط على نحو مميز بمعايير أدائية تعالج أفعال عنف محددة من زاوية العدالة في الحـرب(9). فهل يؤكد إدعاء وضعية الضحية دعاوى صدق أي فعل مـن أفعال العنف يتم ارتكابه لتصحيح هذه الوضعية ؟ لقد طرحت أحكام عفو اللجنة الأفريقية الجنوبيـة لتحري الحقيقة هذا السؤال المحـدد من زاوية معايير الدوافع السياسية والتناسب فيما يتعلـق بأفعال انتهاك حقوق الإنسان التي ارتكبها كل من موظفي جهاز الدولة وقوى المقاومة.

المنطق التأميني للعقاب


تهتم أيديولوجيات السلامة العامة بالتحكم في الخطر وببناء استشعار للخطر، ومن ثم فإنها خطابات تأمينية. وقوانين حقـوق الإنسان تتعامل مع فعل العنف باعتباره إزالة أو سرقة للكرامة المدنية لمن يتعرض لهذا الفعل. والهدف من معالجة حقوق الإنسان هو أن تكون شكلاً للعدالة الاستعادية التي تستعيد هذه الكرامة المسروقة. وفي هذا النموذج، يلحق العنفُ السياسي خسائر وأضراراً بملكية الشخصية القانونية. ويعتبر التجسد الآمن والمكرَّم ملكية شخصية قانونية. وهناك منطق اقتصادي لهذا الفهم الثقافي للفعل السياسي الإرهابي. فهناك اقتصاد عنف يعبر عن ويقيس ويقارن أفعال العنف والضرر بمصطلحات تأمينية كالخسائر والتناسب وتعادل القيمة والتعويض. وتنظم الذاكرةُ التأمينية التمثيل الحديث للعنف خاصة منذ الهولوكوست. فقد رفع النازيون إلى أعلى سوسيولوجيا الرعب بإدخال أشكال جديدة للكفاءة الزمنية/ الحركية في فرض الموت والمعاناة. والحاصل أن النتائج المترتبة على ذلك قد ميزت اتجاهنا الخاص إلى تمثيل مثل هذا العنف بلغة إنتاج تأمينية، وتحديد المعاناة والألم تحديـداً كمياً، وهو ما يتماشى مع منطق التناسب الكامن في أساس جداول الخسائر والخطر التأمينية.


وإضفاء طابع رقمي على المعاناة إنما يتضمن لاهوتاً محتجباً. ففي المنطق الثقافي للتحديد الكمي، يقاس الشر بحجمه(10). وقد ذهبت الباحثة الأنثروبولوجية براكيت ويليامز فيما يتصل بعقوبة الإعدام إلى أن فعل العنف لابد له، في ثقافتنا العامة، من أن يكون له حجمه، كيما يتسنى اعتباره شريراً بالفعل. وهذا صحيح بشكل خاص في عصر ما بعد الهولوكوست حيث رفع العنفُ الإبادي للبشر والعنف الإبادي للأعراق وخطرُ الحرب النووية مستوى ما يشكل العنف الأخروي حيث تعد الملايين مهمة ويتم تذكرها بشكل أهـم من الموتى المجهولين نسبياً بالآلاف أو بالمئات. وأحياناً ما يكمن الحجم ـ بوصفه ـ شراً ليس فـي الأعداد الفعلية وإنما في موقع وهدف العنف. وهكذا فإن مأساة الهجوم على مركز التجارة العالمـي لـم تقل فداحتها مع تناقص عدد الموتى المفقودين، لأن حجم دمار البنايتين العاليتين والهجوم المباغت على الأرض الأميركية من جانب عناصر خارجية هو الذي يكسب الحدث بعداً أخلاقياً واسعاً ومن ثم شـراً مطلقاً. فقليلون جداً يتذكرون عدد الموتى في بيرل هاربور، لكنهم يتذكرون فوراً تدمير أسطول المحيط الهادئ، كما يتذكرون بشكل أسرع انتهاك الحياة اليومية الأميركية المسالمة من جانب «الآسيويين الأشرار».


ثم إن أخلاق الحجم إنما تؤدي وظيفة مزدوجة. فهي، في آن واحد، تخصص للشر مستوى وجود مجرداً ـ الموت الذي لا يوصف والمعاناة الشاملة التي يصعب وصفها ـ وفي الوقت نفسه تسحب هذا التجريد عن طريق الوصف الكمي. وتصبـح الطبيعة الملموسة المزعومة للأرقام بديلاً عن تجريد المعاناة المضاعَفَة. وهكذا فإن ثقافتنا العامة حافلة بمناقشات الوصف الكمي فيما يتعلق بالعنف الجماعي وتتأكد هيراركيات الرعب برطانة الوصف الكمي والتي تسيطـر فيها على الخطـاب السياسي مصطلحاتٌ كالخطر والخسائر والتعويض بمختلـف أشكاله والخسائر الملازمة غير المباشرة. والواقع أن هذه المجادلات العددية هي مجادلات حـول الشـر النسبـي قياساً إلى الشـر المطلـق.


ويمكن لمثل هذا المجادلات أن تتخذ مساراً مثيراً، ففي إحصاء الموتى هناك أعداد أولية من الناحية الأخلاقية وأعداد ثانوية من الناحية الأخلاقية على حد سواء. وأيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة تُبقي الشر على مبعدة بإخضاع العنف لمنطق التقدير المعقول للخطر؛ فهي تخصص لحالات موت وإصابة معينة وضعيةً ثانويةً من الناحية العددية. وهنا، فإن طمس الخسائر المحسوبة عددياً، عن طريق المفهوم التأميني الخاص بالعنف العرضي، إنما يتضمن الطابـع الشرير الكامن بشكل أصيل في العنف أو يحيده عن طريق منطق الخطر المقبول ويطمره ضمن علاقة وسائل ـ غايات. وهذا أسلوب للحساب المزدوج: حالات الموت الجانبية في مقابل التبرير الأخلاقي للأهداف الأساسية، قصر ميلوسوفيتش في مقابل السفارة الصينية في بلجراد، مثلاً.


وهكذا فإن مناقشات الحساب الكمي إنما يبدو أنها تقدم منطقاً مطمئِناً غالباً للمعالجة الثقافية لذاكرة العنف. فالحديث عن 20 مليون عبد أفريقي أو ستة ملايين من اليهود، بالمقارنة مع الخسائر الملازمة للقصف وغير المباشرة على مشارف بلجراد أو بغداد إنما يسمح بتأسيـس أخلاقيات عامة و/ أو سياسات للعلاج. وهذا يمكن اعتباره جزءًا من التحكم في العنف والتحكم في الشر.


وكان من الحقائق البديهية لبحثي الإثنوغرافي حول العنف السياسي أنه نـادراً ما تناقش الجماعاتُ السياسية المنقسمة والمندرجة في المهاترات العنف السياسي ضمن إطار العنف/ اللاعنف. ففي النزاعات التي يعد العنف فيها واسطة أساسية للاتصال السياسي، تتعلق المناقشات بأساليب وبأنواع العنف، بالأشكال التي تعطل الشر ومن ثم يمكن استخدامها وبأشكال العنف التي تطلق الشر من عقاله ويتوجب من ثم اجتنابها والتشهير بها سعياً إلى تجريد الطرف الآخر من المشروعية. والواقع أن الكثير من الأفعال العنيفة إنما يرتكب كاعتراضات جانبية على مثل هـذه المناقشات، بقدر ما أنها تسعى إلى معاقبة استخدام «أشكال العنف غير المشروعة» بتدخلات تزعـم الصدق من خـلال ما يُسمى بأشكال العنف المشروعة. ولتنظروا إلى اختراق الجيش الإسرائيلي الأخير للضفة الغربـية رداً على الهجوم الانتحاري الفلسطيني. وأحياناً ما يكتسب الفعل الواحدالمشروعية أو يفقدها في تحول الوقت والمكان والهدف.


والحاصـل أن ظهور المعالجة الثقافية المنطقية التي وعدت بها العقلية التأمينية سرعان ما يتبخر عندما نراعي أيضاً أن العنف الانتقامي، الذي غالباً ما يقوم به جهاز الدولة أو أجهزة مضادة للدولة، هو أيضاً جزء من آلية التحكم في العنف. كما أن كل منطق انتقام يتخلله منطق تأميني يسعى إلى التعويض عن الخسائر وإلى تقليل المخاطر وإلى التمكن في نهاية المطاف من استعادة التناظر الاجتماعي عبر العنف التعويضي. وفي ثقافتنا التأمينية، تستخدم ممارسات الحساب مجموعة متنوعة من الأدوات ـ من الحاسب إلى القذيفة الموجهة بأشعة الليزر إلى الطائرة المخطوفة. ولعبة الأعداد هي أيضاً لعبة الصراخ.


ـــــــــ
1- Ranciere - NEED REFERENCE
2- "Scanscape” - NEED REFERENCE
3- Allen Feldman, Formations of Violence: The Narrative of the Body and Political Terror in Northern Ireland (Chicago: University of Chicago Press, 1991).
4- Allen Feldman, “From Rodney King to Desert Storm via ex- Yugoslavia: On Cultural Anesthesia, “in Senses Still: Perception and Memory as Material Culture in Modernity, ed. C.Nadia Seremetakis (Chicago: The University of Chicago Press, 1996) at 87-108.
5- See my discussion of sacrifice and my critique of the work of Rene Girard on the hegemony of sacrificial logic in A.Feldman, supra note 1 at 218-269.
6- Giorgio Agamben, Homo Sacer: On Sovereign Power and Bare Life, trans. Daniel Heller-Roazen (Stanford: Stanford University Press, 1998).
7- Reinhart Koselleck, Futures Past: The Semantics of Historical Time, Trans. Keith Tribe (Cambridge: MIT Press, 1985).
8- See Allen Feldman, “Violence and Vision: the Prosthetics, Aesthetics of Terror in Northern Ireland,” 10 (1) Public Culture [page numbers] (Fall, 1977).
9- See my discussion of amnesty criteria and amnesty hearings in South Africa in Allen Feldman, “Strange Fruit: The South African Truth Commission and the Demonic Economies of Violence, “46 (3) Social Analysis [page numbers??] (Fall, 2002).
10- I am grateful for a personal communication with anthropologist and MacArthur Fellow Brackette F.Williams on her groundbreaking theorization of the ideology of magnitude and evil, in her forthcoming magisterial study of capital punishment in America.


ـــــ
ألن فريدمان أستاذ مساعد لإيكولوجيا الميديا بقسم الثقافة والاتصال، جامعة نيويورك.



مجلة "عدالة" ’ داخل الخط الأخضر.

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

وكان هذا حقا للاهتمام. كنت أحب القراءة