ميخائيل ليرمونتوف، قصائد_3

"ما أَطْوَلَ وما أَرَقَّ حب كُلٍّ منهما للآخر"

ما أَطْوَلَ وما أَرَقَّ حب كُلٍّ منهما للآخر
ما أعمق أشواقهما واهتياج لهفتهما الجنوني!
لكنهما، كالأعداء، يتجنبان الاعتراف واللقاء،
وأحاديثهما القصيرة فارغة وباردة.

يتفارقان في أسى صامتٍ شامخِ الكبرياء
ولا يريان الصورةَ الأثيرةَ إلاَّ في الحلم، أحياناً.
ثم يدنو الموتُ: تلك ساعة اللقاءِ الجنائزي...
لكنهما، في العالم الجديد، لا يتعرف أحدهما على الآخر.

1841

"لا، لستِ أنتِ التي أُحب بكل هذا الجيشان"


لا، لستِ أنتِ التي أُحب بكل هذا الجيشان،
وإشراقُ جمالك ليس لي:
فيك أحب عذابات ماضية
وشبابي الذي ضاع.

إذ أنظر أحياناً إليك،
محاولاً سبرَ أغوارك بنظرةٍ طويلةٍ إلى عينيك:
أنشغلُ بحديثٍ خفيٍّ،
لكنني لا أتحدثُ معك بقلبٍ مفتوح.

مع صديقةِ أيامِ الصبا أتحدثُ،
في ملامحك أبحثُ عن ملامح أخرى،
وفي شفتيكِ النابضتينِ أبحثُ عن شفتينِ خرستا
منذ زمنٍ بعيد.
وأبحثُ في عينيكِ عن نارِ عينينِ منطفئتين.

1841

ميخائيل ليرمونتوف، قصائد_2

" لَكَمْ هو مؤلمٌ ومثيرٌ للأسى"

لَكَمْ هو مؤلمٌ ومثيرٌ للأسى
ألاَّ تمتد لأحدٍ يدٌ في لحظةِ عذابِ الروح...
الأماني!.. وما نفعُ التمني بلا طائلٍ وبلا نهاية؟
بينما الأعوامُ تمضي – خيرُ الأعوام!

الحب... ولكن من نحب؟.. إن كان لبعضِ الوقت –
فذلك لا يستحقُ سعياً،
أمَّا أن نحب إلى الأبد فهذا مستحيل.
أَلاَ تُلْق ِ نظرةً إلى أعماقكِ؟ - لا ماضي هناك
ولا أثر:
فالمسرات والعذابات وكل ما هناك عدم...

وما الأشواق؟ - عاجلاً أم آجلاً سوف يتلاشى
قلقُها العذبُ حين يعلو صوتُ العقل،
فالحياة، إذ ترنو بانتباهٍ باردٍ حواليك –
نكتةٌ فارغةٌ وسخيفة...

1840

مِمَّ؟

يجتاحني الأسى لأنني أحبك
وأعرفُ أنَّ ربيعَ شبابكِ الزاهر
لن يرحمهُ عسفُ النميمةِ الغادر.
فلقاء كلِّ نهارٍ مشرق ٍ أولحظةٍ عذبة
سوف تدفعين للقدر دموعاً وحسرة.
يجتاحني الأسى ... لأنك سادرةٌ في البهجة.

1840

امتنان

إني لأشكرك على كلِّ شيء، كلِّ شيء:
على عذاباتِ الحبِ الدفينة،
على حرارةِ الدموعِ وسُمِّ القبلات،
على ثأرِ الأعداءِ ونميمةِ الأصدقاء،
على استعارِ الروحِ، المبددِ في الخرابِ،
على كلِّ ما كنتُ مخدوعاً به في الحياة...
فليكن هذا دأبك، حتى لا أشكرك من
الآن بعدُ.

1840

"وداعاً، يا روسيا التي لم تتطهر من أدرانها"


وداعاً، يا روسيا التي لم تتطهر من أدرانها،
يا بلد العبيد، يا بلد الأسياد،
وأنتم، أيها الجندرمة في بزاتكم الزرقاء،
وأنت، أيها الشعب المستسلم لهم.

عَلَّني وراء أسوارِ القوقاز
أهرب من باشاواتكِ،
من عيونهم التي ترى كل شيء،
من آذانهم التي تسمعُ كل شيء.

1841

الصخر

تنامُ الغيمةُ الذهبيةُ ليلاً
على صدرِ الصخر – العملاق،
وفي الصباح الباكر تنطلقُ إلى الطريق،
لاهيةً في مرحٍ عبر الزرقةِ السماوية،

لكن أثراً رطباً يبقى في جوفِ
الصخر العجوز.
وحيداً يقف، ويستغرقُ في التفكير
ثم يبكي بكاءً رقيقاً وسط الصحراء

1841

ميخائيل ليرمونتوف، قصائد_1

(1814-1841)

"عند بوشكين تطمحُ الحياةُ إلى الشعر، والفعلُ إلى التأمل، وعند ليرمونتوف يطمحُ الشعرُ إلى الحياة، والتأمل إلى الفعل"


ميريجكوفسكي


الأمواجُ والبشر



الأمواجُ تتالى موجةً إثر أخرى
تتلاطمُ وتصخبُ صخباً عميقاً،
البشرُ يمرون في حشدٍ تافهٍ
واحداً إثر آخرٍ هم أيضاً.
حريةُ الأمواجِ وبردُها أغلى عندها
من الأشعةِ الحاميةِ لرائعةِ النهار،
البشرُ يريدون صونَ أرواحهم.. فما قيمة ذلك؟
إن أرواحهم لأكثر برودةً من الأمواج!



1830-1831


"لا، أنا لستُ بايرون، أنا رجلٌ آخر"



لا، أنا لستُ بايرون، أنا رجلٌ آخر،
صفيٌ مازالُ مغموراً،
هائمٌ – مثلهُ – مضطهدٌ من العالم،
سوى أن روحهُ روسية


قبل الأوانِ بَدَأْتُ، وقبل الأوانِ أَنْتَهِي،
نادراً ما يبلغُ فكري مراده،
وفي روحي، مثلما في محيط ،
ترقدُ سُفُنُ الآمالِ المحطمة


فمن ذا الذي يقوى، أيها المحيطُ الأسيان،
على سبرِ أغوارك؟
ومن ذا الذي يُحَدِّثُ الجموعَ عن شواغلِ روحي؟
أنا – أم الرب – أم لا أحد؟



1832


الشراع


يلوحُ الشراعُ بلونهِ الأبيضِ وحيداً
في حلكةِ البحرِ العميقةِ !..
عَمَّ يبحثُ في بلدٍ بعيد؟
ما الذي هجرَ في الوطن؟..



الأمواجُ تعبثُ – الريحُ تصفرُ،
والصاري يميلُ ويصدرُ صريراً...
هيهات! إنه لا يبحثُ عن السعادةِ
ومن السعادةِ لا يهرب!

تَحْتَهُ تَيَّارُ لازَوَرْديةٍ رائقة،
فوقهُ شعاعُ شمسٍ ذهبية...
لكنَّهُ، المتمرد، يطلبُ العواصف،
كما لو أنَّ في العواصفِ تكمنُ الطمأنينة!




1832


الشاعر


بحليتهِ الذهبيةِ يلمعُ خنجري،
النصلُ جديرٌ بالثقة، لا تشوبُهُ شائبة،
فولاذهُ الدمشقيُّ تحفظهُ عراقةٌ سريةٌ،
تراثُ الشرق ِ الهازئِ بالناموس.

لأعوامٍ كثيرةٍ خدمَ فارساً في الجبال،
دونَ أن يعرفَ للخدمةِ أجراً،
ما أكثرَ الصدورَ التي خلَّفَ فيها آثاراً مريعة
وما أكثرَ الدروع التي اخترقها.


يشاركُ في اللهوِ مشاركةَ عبدٍ مطيع،
ويصلُّ رداً على الكلامِ المهين.
في تلكَ الأيامِ كانت الحليةُ الثمينة
كسوةً غريبةً عنهُ ومشينةً له.

وراء التيريك انتزعهُ قوزاقيٌّ شجاع
من جُثَّةِ سيدهِ الباردة،
وفيما بعد رقدَ مُهملاً زمناً طويلاً
في عربةِ يدِ بائعٍ أرمينيٍّ جائل

الآن رفيقُ البطلِ البائسُ،
محرومٌ من الغمدِ العزيزِ الذي استهلكتْهُ الحرب،
كلعبةٍ ذهبيةٍ يلمعُ على الحائط –
وا أسفاه – مُهاناً وغير مؤْذٍ!

لا أحد يمسحهُ أو يحنو عليه
بيدٍ مُعْتَنِيَةٍ، كما اعتاد ذلك،
والكلماتُ المنقوشةُ عليه،
لا يهتمُّ بتلاوتها أحدٌ في صلاتهِ قُبَيْلَ الفجر...
___
أَلَمْ تَفْقِد، أيها الشاعر، قيمتك،
في زمانِنا المُخَنَّثِ،
ألم تستبدل الذهبَ بتلك السلطةِ
التي كان العالم يصغي إليها بإجلالٍ خاشع؟

كان صوتُ كلماتك الجبارة الموزون
يُشعلُ حماس المُحَاربِ للمعركة،
كان ضرورياً للجموع، كالكأسِ للمأدبة،
كالبخورِ وقت الصلاة.

كالروح الإلهي، كان شِعرك يهيمن على الجموع،
وكان نداء الأفكارِ السامية
يجلجلُ، كجرسٍ على برجِ الفيتشا(*)
في أيامِ انتصاراتِ وانكساراتِ الشعب.

لكن لغتك البسيطة والفخورة أصبحت
مصدر سأمٍ لنا، -
إذ تُلهينا البهارجُ والأكاذيب،
كالجمالِ الشائخِ، اعتاد عالمنا الشائخُ
سترَ التجاعيد تحت أصباغٍ وردية...

فهل تستيقظُ من جديد، أيها النبيُّ الأضحوكة؟
أم أنكَ، عند نداءِ الثأر،
لن تستل أبداً من الغمدِ الذهبي نصلك،
الذي علاه صدأ الهوان؟




1838



(*) الفيتشا: ندوة شعبية – في روسيا القديمة – لحل المسائل الاجتماعية، وكذلك المكان الذي تنعقد فيه مثل هذه الندوة.



ترجمة بشير السباعي


(عن الأصل الروسي)

انتحال وسوء ترجمة

بتاريخ 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1996، نشرت صحيفة الحياة (ص12) مقالاً عن الشاعرة الروسية آلينا فيتوخنوفسكايا منسوباً إلى الكاتبة اللبنانية أسما قساطلي مع ترجمة من جانب الأخيرة لثلاث قصائد للشاعرة المذكورة.
والحال أن قساطلي لم تكتب المقال المذكور، بل استولت – بتصرفٍ متعالمٍ – على مقال لأركادي فاكسبيرغ ظهرت ترجمته الفرنسية عن الروسية في مجلة europe الشهرية الأدبية الفرنسية (عدد نيسان / أبريل 1996، ص ص 187- 188 ، وهو العدد نفسه الذي ظهرت فيه الترجمة الفرنسية لأربع قصائد للشاعرة الروسية اكتفت قساطلي بترجمة ثلاث منها).
وبما أن المريب يكاد يقول خذوني، فقد زَجَّت قساطلي باسم فاكسبيرغ في المقال الذي نسبته لنفسها، من باب الاستشهاد بالرجل(!)، بينما هو صاحب المقال بادئ ذي بدء.
على أن الاستيلاء على أعمال الآخرين ليس غير مظهر من مظاهر قلة الحيلة وهزال التكوين وانعدام الأمانة، وهي أشياء تجد كلها تعبيراً واضحاً عنها في ترجمة قساطلي للمقال المنتحل وللقصائد في آن. ولما كنا لا نملك وقتاً لإعادة ترجمة المقال، فقد اكتفينا بالشيء الأهم، وهو إعادة ترجمة القصائد عن الترجمة الفرنسية التي ترجمتها قساطلي عنها، خاصة وأننا لم يَتَسَنَّ لنا بعدُ الحصول على الأصل الروسي، كما نضيف ترجمة للقصيدة الرابعة التي لم تترجمها قساطلي.


بشير السباعي


I


على الأرض
على الأرض
على الأرض
طريحَ الوجع
دماغٌ
مفلوقٌ.
ليس شهيراً،
ليس رناناً،
ليس عميق الأغوار.
لكنه،
دون وجود شيء داخله، طبيعةٌ صامتة.
مكللٌ بهالةٍ
من الأزيز
ملونٌ تلويناً مائياً بالزنابير.
هادئٌ تماماً
كمذنِبٍ من طراز "خذ الأمور بلا غضب"،
وسط الأرض المثقوبة
التي تبلع محورها.
لا أحد يصرخ فيه
"دع هذا!"
مثلما يفعلون مع كلبٍ مشاكس،
لا أحد يرمي إليه
عظمة
تليق بالوجع.
ولا أحد كان
بحاجةٍ إلى هذا الوجع.
الحياة ناخت بوطأتها
على كل كائنٍ حي.
وأشياء كثيرة
تتوالى، رتيبة ومكررة
(خاصة الشمس
التي لم تغرق قط
غاطسةً في الماء، رأسها أولاً)



II

لاجعران


لاجعران
مخلوقٌ بائس
ذو أربع قوائم،
متحقق في الوجود بالجوهر،
اسمه بين الأسنان،
مطليٌّ بصبغة اليود،
يزحف باتجاه نيويورك
عبر طريق نزوحٍ جماعي.

أحمق، بائس، لا لحم، لا سمك،
ولاجعران (كما حسبوه)،
يملكُ قوىً، ولكي يستنفدها
يزحف، إذ ما من شيءٍ آخرٍ أمامه ليفعله
(شريطةَ أن لا يأكله أحد).
ثم إنه حتى لو قضم أحدٌ
اللاجعران عديم المذاق
فلن يكون ذلك خسارة كبيرة بالنسبة له هو نفسه

III


هناك، خلف الباب، معتمدين على عجلات،
يشيعون جثثاً من جديد.
الهواء له رائحة السمك الميت.
في الحساء تغرق عظام الكلمات.
عندما يفتح المرء الطاقة،
يكفي أن يمد قصعته،
يكفي أن يصب
دمه المريض من الحلق.
أخرجوا كؤوسكم أيها الناس الطيبون!
بين ذراعي الطبيب الغريبتين،
عجوزٌ تبتسمُ لنا،
سافحةً قربانها الأحمر،
لا تطلب شيئاً.
في الحساء تغرق عظام الكلمات.
هناك، خلف الباب، معتمدين على عجلات،
يشيعون جثثاً من جديد.


IV


حين ترى كل هذه الحشر(ات) التي تز(حف)
لا جدوى من إغماض عينيك
عظاءةُ وهندباءُ وليثُ
سوف يمسونك، سوف يلعقونك.

تضع جمجمتك كبصلة
في الحوض، ضجراً من نفسك.
عظاءةُ وهندباءُ وليثُ
يصرخون فيك: "لا جد(وى) من هر(بك)"
"لماذا لا تكون رفيقاً لنا
نحن الحيوانات الأخرى؟ حباراً أو سرطاناً بحرياً؟
لماذا تدعك نفسك تحت الدوش
فتشبه آلة تسمير تدار؟"

وفر عليك خد(مات) الحمام التا(فهة)
فوقك ذبابات صغيرة وميكروبات
تطيل أمد الحياة حتى الحافة:
حتى لا تتخلص منها.

كل من حولك يهابون النـ(ـظر)
لأنه من المر(عب) جداً أن يكتشـ(ـفوا)
أن كل شيء له دائماً وفي كل مكان
طبيعتين: الد(اخلية) والخار(جية)

النظر إلى الداخل، حتـ(ـمي)
تماماً كالإصغاء إلى الداخل أو كالدخول.
لماذا تبكي إذاً دون عزا(ء)
ساخناً تماماً، مملحاً تماماً كحساء؟




حاشية: بما يتماشى مع أسلوب عالم تعاطي المخدرات في الكلام، والذي عرفته الشاعرة جيداً، فإنها لا تكمل عدداً من الكلمات في القصيدة الرابعة، وتضع نقاطاً في مكان الأجزاء غير المذكورة من الكلمات، وقد آثرنا إكمال هذه الأجزاء بين أقواس حتى يسهل على القارئ العربي متابعة القصيدة.

استيهامات_13

23 مارس 2010
تدركين، عزيزتي دنيا، أننا نكابد من الآثار الوخيمة للتجهيلية والتعصب، فتطور مجتمعنا، شأن تطور جميع المجتمعات، تطورٌ متفاوتٌ ومُركَّب. وعلى المستوى الثقافي، سوف تجدين السوريالية جنباً إلى جنب ابن تيمية! ومن المؤكد أننا لانملك ترف ترجمة كتاب بينيدكتوس عن المسيح، في بلدٍ لم يقرأ ديدرو، ولذا فلا معنى لاستيائك...


من جهةٍ أخرى، أَتَذَكَّرُ جيداً غضبكِ النبيل حيال البؤس والعنصرية وأشدُّ على يديكِ احتراماً ومحبة، وأهنئكِ على طفلك الجميل!

ألكسندر بوشكين

(1799-1837)


"إن خَادَعَتْك الحياة"



إن خَادَعَتْك الحياة
لا تحزن، لا تبتئس
كن رابط الجأش في يوم المُلِمَّات
وثِقْ أن نهارَ البهجةِ لابد آت
القلبُ في المستقبلِ يحيا
الحاضرُ لا بهجةَ فيه

كل شيءٍ عابر، كل شيءٍ سيأتي
وما سوف يأتي، عَذْباً سيكون



ترجمة: بشير السباعي
(عن الأصل الروسي)

استيهامات_12

20مارس 2010

تحدثينني عن كل أولئك "الواقعيين" الذين خسروا أنفسهم وتُذَكِّرينني بأنني صرتُ في النهاية وحيداً، ربما مثلما كنتُ دائماً، على الرغم من وفرة المعارف وكثرة الأصدقاء.

حسناً!

في لحظةٍ كهذه، لا يمكنني إلاَّ أن أُذَكِّرَكِ بمأثورة جان جرينييه: "ربما كان من المناسب أن يتغير الإنسانُ لكي يتواءم، ولكن دون إفراطٍ مع ذلك، وأَمَّا شرفه، فهو يتمثل غالباً في ولاءٍ، حتى وإن كان بلا أمل".

لوكنات باتاشاريا (x)

مدينةُ الأسلاف

انتظارٌ. خوفٌ . وماذا إن لم تحضر؟

عندما يخفتُ صوتُ الناي الأخير على الدروب، سوف تعلن أجراس المعبد عن صلاة المساء. عندئذٍ، ماذا إن لم تحضر؟ سوف تتبدد الكلمات في هذه الغرفة، سوف يشحب وجه الطفل. أتخيلُ أنها لن تحضر، حتى عندئذٍ.
ما يحاصرني هو موت أزهارٍ لا حصر لها. مَحْطَبَةُ أحلامٍ. لكن هذه الأزهار تلبثُ حيث لا يمكن لعينيَّ أن تذهبا، على الجهة الأخرى للباب، إلى البستان – أو إلى ما كان بوسعه أن يكون يوماً ما بستاناً. ليس هنا، على أية حال.
هنا، المكان محدود، منظم، كل السبل موصدة بعناية، بمحبة. والصمت يلهو، طفلاً خليَّ البال. على الجدران: صفوف من البيوت، أسوار قلعة. في الروح: اضطرام شمسٍ غاربة، مدينة ضائعة في نزواتها.

هناك، في الخارج، أهي الشمسُ التي تغربُ، الآن؟ وأجراسُ الصلاة، إن كانت تدق، فمن أي معبدٍ تدق؟ أين إذاً؟ من بعيدٍ جداً؟

وماذا إن لم تحضر؟

لم أتصل بها قط. هل تعرف فقط أين أسكن؟ أفترضُ أن لا. أنا، العنيدُ، مشيتُ دربي مغمضَ العينين حتى لا أرى إلى أين أصل أو الاتجاه الذي سرت ُ فيه وفي أيِّ ملتقى للدروب؛ ما تركته على يميني، على يساري؛ أي بيت أحمر أو أزرق. إلاَّ أنه على الطريق، بدا لي أنني أسمع موسيقى، بشكلٍ متصل. وبدا لي أيضاً، للحظة، أنني ألمس المرفأ الذي طالما اشتهيتهُ. وعندما توقف الطريق، اصطدمتُ من جهة أخرى بشيء ما وفتحت عينيَّ. رأيتُ الباب.
ما كدت أمسه حتى انفتح. عندئذ رأيت أيضاً السلم الدوار الصاعد. ثم توقف هذا السلم بدوره. باب آخر يتوجب اجتيازه. وما أن اجتزته، هذا الباب أخيراً، حتى وجدت نفسي من جديد في الغرفة.

باختصار، رأيت كل شيء دون أن أرى. وهكذا تحدثت عن البستان – أو عما كان بوسعه أو لم يكن بوسعه أن يقوم مقامه. وهكذا أيضاً طرحتُ فكرة المعبد. هذه اليقينيات وُلدتْ وأنا أمشي مغمض العينين. واليقين الآخر، الذي اتضح جيداً، بأنها تجهل أين أسكن، هذا أيضاً خطر ببالي وأنا أمشي مغمض العينين.

يحاصرني موت أزهار لا حصر لها، إنني واثق من ذلك. مَحْطَبَةُ الأحلام تتمتم بكلمات آتية من عصور منسية.

دون أن أرى كما هي الحال دائماً، دعوني مع ذلك أقول أيضاً ما يلي:

هذه مدينة الحجارة، والآثار والمآذن والأسوار حيث توجد غرفتي، في بيت بين بيوت أخرى. أسلاف تلك التي أنتظرها جاءوا هنا يوماً ما: كانوا على موعد مع موتهم. رحلة طويلة. الصرةُ على الظهر، وأخيراً، ملأَ الاشتهاءُ الحارُّ للَّيلِ أجسامَهم التي تنز عرقاً بأناشيد مثيرة للنشوة. ثم اختفوا كلهم الواحد بعد الآخر وما أن هبت عاصفة وأدى هبوب اللفحات إلى اندلاع النيران. في لون الشمس الغاربة، اختلط رمادهم بالتراب.

ولكن هل هذا سببٌ، كل هذا، لكي لا تتمكن من المجيء؟

ألهو بشكٍ وببعض اليقينيات. شيء لذيذ! خواطري تتسكع. هل ستجيء أم لن تجيء؟ أحياناً أكاد أقول لنفسي: لا, لا، أيتها المرأة، لا تجيئي، لا تجيئي! دعي أجراس الصلاة تدق ثم تصمت، منهكةً! دعي المعبد يغرق في نهر العتامة!
اليوم حملتُ أسلافكِ على كتفيَّ الهزيلتين. في هذه الغرفة، في قلب الانتظار، أبقيتهم يقظين، هنا، بين صفوف البيوت. تكفي أُذُنٌ منتبهة: بوسع المرء أن يسمع في الصمت طفلاً منشغلاً، غارقاً في نفسه: إنه يحرك لُعَباً لا أكثر.

ترجمة:
بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

(x) شاعر بنغالي – فرنسي، لقي مصرعه في حادث مأساوي على أثر زيارة إلى الأهرام.

جيل جوانار، نصوص_3

من "ذاكرة اللحظة"


وهكذا، "متخذاً لنفسي قاعدةً للانطلاق"، كما يقال عن حملة، هذا الركنَ من الماريه حيث الحي الأكثر إخلاصاً لنفسه مما في أحياءٍ أخرى ، أنتشرُ على مساحةٍ تمتد، على مدى ثلاثة ساعات من المشي الذي ألتزمُ به كل يوم، من محطتي قطار الشرق وقطار الشمال إلى الكونتر سكارب (المنحدر) ومن محطة مترو ناسيون إلى محطة مترو كونكورد، وكل ذلك عبر الأزقة وبكثير من الالتفافات بالطبع.


هذا الوطن الصغير (وهو بالنسبة لي، في الواقع، وطن بين أوطان أخرى) ، أتفقده وأعيد اكتشافه كل مرة، مستشعراً فيه عاطفةً قديمةً، أو أجد نفسي مندهشاً بمعايشته معايشةً جديدةً تماماً، تحفزها لوحة تذكارية ما كانت حتى ذلك الحين منسيةً (أو ثُبِّتَتْ حديثاً).


البارحة، مثلاً، في باكورة الصباح (ذلك هو الوقت الأثير لديَّ للمشي، خاصة حين يتأخر الجمهور ومكملاته ذاتية الحركة عن البدء في السير) مشيتُ محاذياً مرةً أخرى الحافة الشمالية لساحة دي فوج، واجتزت جادة بومارشيه و-عبر الرصيف المقابل، الذي يستضيف أولئك الباعة للأجهزة الفوتوغرافية التي تجعلني شارد الخاطر، ثم السيرك الشتوي المحروم من مجده الغابر- وصلتُ إلى ساحة لاريبوبليك، والتي كفتني بضع خطوات منها لكي أصل إلى كورنيش فالمي. وبرغم معرفتي كل شيء عن أبسط جيشان لمياه قناة سان مارتان، وبرغم أن الأوتيل دي نور المهيب يفقد شخصيته بالكامل ، فإنني أظل حساساً لألعاب الضوء هذه بين الأشجار التي تحرس طريق الماء.


(...)


لكنما من هذا الاجتياز لجهة من جهة أخرى، عاودني الإحساسُ الأكثرُ امتاعاً بأن العالم يتغير، حيث لا تتوقف الأشياء كلها عن التقارب والتماهي. وهذه الفكرة المتنافرة بشكلٍ ما مع ميلي إلى الهويات المصونة، أدخلت السرور على قلبي مع ذلك، حتى وإن كانت قد رمت بالزيف هذا الشعور الذي يسكنني دائماً وأبداً بضرورة السفر.
ولكن، بعد أخذ كل شيء في الحسبان، لنأخذ هذه المدن الصينية المتناثرة وهذه الأسواق العربية التي تحتل ثلاثين متراً بالكاد من الرصيف، لنأخذها على ما يمكن أن تكونه أيضاً: دعوة سافرة إلى السفر، نداء إلى الجهة الأخرى، التي تظل جهةً أخرى بالرغم من فعلِ الهدم الذي يمارسه الابتذالُ المسرف.


الأحد 6 سبتمبر 1998، الساعة 18:30 شارع بلان مانتو.


عندما أخرج صباحاً في نسيم الهواء المضطرب قليلاً، أحياناً ما تستولي عليَّ الرغبةُ الغائمةُ ولكن المعذَّبة في أن أقع هناك على مجموعة من الكلمات الهائمة التي فجاة وإن كان بشكل مُتَعَمَّد – وكأنها آتية من بعيد- تقتلعني فجأة من الطارئ والظرفي والشاغل –من تسلط النهار- لتغرقني في رهافة الانطباعات والهواجس والذكريات التي لا تملك زمناً أو موقعاً يمكن التعرف عليهما.


كل شيءٍ هناك لن يكون غير جوهر وانجباس، كهذه الينابيع التي تتمكن فجأة من إزاحة الأوراق الخفيضة لنباتات الحِراج ورمي شبكة الأحاسيس في فضاءٍ "فريد".


يبدو لي أنه عندئذٍ، ودون مجهود، يمكن أن تتمكن ببطء حالاتٌ وصفاتٌ معينة لحقيقةٍ أولى من تندية إيماءاتي ونظراتي ومن أن تُمْلِي عليَّ هذه اللغة البكر المحرَّرة من كل حدس ومن كل معرفة ومن كل اعتياد، والتي تنطق ببرهان الأشياء والأماكن واللحظات الموجع والقاسي.


سيكون ذلك كما لو أن استعمالات اللغة، التي تآكلت أيما تآكل بفعل الممارسات الآلية، قد جرى نبذها وتجريدها من الاعتبار لصالح كلمات تسمي الأشياء بشكل طبيعي على نحوٍ ما. سيكون ذلك أوج البساطة وأوج الصواب والدقة. سيكون ذلك كما لو أن ما هو غريب يجلجل مع ذلك بألفة، حيث يشعر المرء أنه هو نفسه تماماً وفي داره تماماً.


وعندما يكون كل شيءٍ حاداً بشكلٍ قاطع، فإنه سوف يمضي من تلقاء نفسه، حاملاً بالكامل لغزه دون نقيصة ودون تنازل. سيكون المرء جزءاً، وسيعرف أنه جزء، من هذا اللغز الذي سوف تخفف شفافيته كل جُزَيْء من جزيئات محيط الهواء في حرية سرعة وصمت انعدام جاذبية من شأنهما إعادة بناء العالم في ثقله النوعي.


النصُّ الذي سوف ينتج عن ذلك سيكون أجمل النصوص التي كُتبت قط، لأنه سوف يجمع على هذا النحو بين كفاءة تعدد المعاني وتناغم الموسيقات الأكثر اقتراباً من الوفاق الشامل الناجز.


لكنني الآن بعيدٌ عن ذلك، والسحابة الرقيقة التي تُقَدِّم لي، من الجسر الجديد، مشهداً غائماً، شِعرياً تماماً، على لسان فر-جالان، ليست غير ذريعة، وفرحة زائفة وغواية عابرة. فلو فتحتُ فمي، لن تخرج منه غير كلماتٍ عادية، سرعان ما سوف يتبددُ شأنها في تفاهة الصخب المحيط. ربما يحدثُ ذلك في المرة القادمة. ربما لو استيقظتُ مبكراً أكثر.


باريس، الخميس 23 سبتمبر 1998، على الجسر الجديد


سوف تتواصلُ ملاحتي خبطَ عشواءَ عبر التيارات المتواترة لشوارع الدوائر الخامسة والسادسة والسابعة، وسوف يكون بالإمكان رؤية خروجي من الضفة اليسرى بمحاذاة الجسر الجديد أو بمحاذاة جسر الفنون، حيثُ سأجد صعوبة في حرمان نفسي من اختراق الباليه رويال المنتصب وحيداً ورواقي فيفين ودوشوازول.


وإذ أعيدُ بذلك اكتشاف ماهو معروفٌ جيداً، سأقومُ مرةً أخرى بالحصر العفوي لأدنى التحولات ولتبدلات المُلاَّك وللترميمات وللتجصيصات المتباينة. كل ذلك يتيحه إلى حد الشَّرَه رقادُ البعض إلى الضحى ورحيل البعض الآخر إلى الريف والتوقف المؤقت للمواصلات المصلحية، ويالها من ظروف مؤاتية للاجتياز العفوي خارج ممرات المشاة.


وعندما أعود، ثرياً بكثيرٍ من الخطوات وبكثيرٍ من اللمحات البصرية والصوتية، مرهقاً على نحوٍ لذيذ بثلاث ساعاتٍ من المشي الرشيق، إلى المنزل رقم 15، شارع بلان مانتو، لا يعودُ لدي شكٌ بالمرة في هويتي سَيِّداً للعالم: ألم يدخل هذا العالم برمته فيَّ، جاراً خلفه كل ما فيه من واقعي وخيالي؟


شارع بلان مانتو، الأحد 4 أكتوبر 1998، الساعة 10:25.



في الساعات القصوى، مالم يكد المرءُ يقول بالأحرى في ساعات النهاية، تفصحُ باريس عن كل ما هي قادرةٌ عليه وتكف عن فرض صورتها كـ "حاضرةٍ عظمى" لكي تصبح من جديد ما يجعل منها ذات قيمة: أنطولوجيا حضرية من الأركان والخلوات، ومن الأحياء المنعزلة ومن التخوم والهوامش، ومن الأوكار ذات المفاجآت التي لابد من معاودة اكتشافها دائماً وأبداً.


هذا الامتياز الشعري تتمتع به مدنٌ كثيرة مثل براغ وسيينا وقرطبة وبودا، دون توقف، نهاراً وليلاً.


لابد للمرء في باريس أن يفقد زمام نشاطه المحموم، والذي يجعل منه مضخة ً لامتصاص نسغ بلدٍ بأكمله, لكي يعاود استخدام ذاكرته ويخلي السبيل أمام توسلات أعماقه الأرحب مرتين وثلاث مرات.


يظل صحيحاً مع ذلك أن الاستيقاظ مبكراً أو الاضطرار إلى العودة متأخراً يعوِّض ويحرِّر، يعوض المتسكع عند هبوط الليل ويحرر فيه امكاناتٍ رهيفة.


فبادئ ذي بدء، عندما يتحرر الهواء من شحنة الانبعاثات، التي تعاقب الأنوف والرئات، يصبح حياً من جديد وأكثر قابلية بالفعل، إلى حدٍ ما، لاستنشاقه.


كما أن الآذان تجد تعويضاً في مناخٍ يستعيد فيه كل صوت تميزه. ولا نتحدثن عن النظر: إنه الفائز الأكبر. إن خلفية جميع الأشياء التي تراجعت خلال النهار إنما عادت تطفو على السطح أخيراً، ودون ادعاء، تهمس وتتمتم، قبل ساعة من ارتداد كل شيءٍ إلى الجهر والإعلان.


عائداً إلى شارع بلان مانتو،
17 ديسمبر، في وقت لا يزال مبكراً من الصباح.




من "فضاءات العبور"


عبر شارع سانت أنطوان، من محطة مترو سان بول وعبر شارع فوبور الذي يشكل امتداداً له، أجتاز سيراً على القدمين ظريق الشرق الرحيب، الذي كان ينسرب في الماضي إلى الباستيل، والذي كان يمس القلعة حيث كان القديس ذو البواعث المريبة، تحت سنديانته الأثيرة، يصدر حكمه السامي. أثناء عبوري، سوف أقابل الدروب المسدودة والساحات الداخلية لمصانع الأثاث القديمة. وسوف أرى على الحوائط الخربة تلك البقايا من الكتابات الدعائية القديمة التي كان بعضها لا يزال يسطع، في هذا المكان نفسه، الجديد آنذاك، قبل خمسين عاماً.


بوسع المرء أن يجد هناك من جديد أثر تلامس نظرات كل أولئك العشاق، مشاة الضاحية الملهمين، الذي خلَّد واحد منهم إلى الأبد، جهة الأوتيل دوفيل، وقد ميزه دوانو في لمحة ٍ عابرة نحو عام 1950، الفنَّ الحميم، فنَّ أن تكون غائباً غياباً كثيفاً.


باريس، 16 نوفمبر
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

جيل جوانار، نصوص_2

من "ذاكرة اللحظة"

وهكذا، "متخذاً لنفسي قاعدةً للانطلاق"، كما يقال عن حملة، هذا الركنَ من الماريه حيث الحي الأكثر إخلاصاً لنفسه مما في أحياءٍ أخرى ، أنتشرُ على مساحةٍ تمتد، على مدى ثلاثة ساعات من المشي الذي ألتزمُ به كل يوم، من محطتي قطار الشرق وقطار الشمال إلى الكونتر سكارب (المنحدر) ومن محطة مترو ناسيون إلى محطة مترو كونكورد، وكل ذلك عبر الأزقة وبكثير من الالتفافات بالطبع.

هذا الوطن الصغير (وهو بالنسبة لي، في الواقع، وطن بين أوطان أخرى) ، أتفقده وأعيد اكتشافه كل مرة، مستشعراً فيه عاطفةً قديمةً، أو أجد نفسي مندهشاً بمعايشته معايشةً جديدةً تماماً، تحفزها لوحة تذكارية ما كانت حتى ذلك الحين منسيةً (أو ثُبِّتَتْ حديثاً).

البارحة، مثلاً، في باكورة الصباح (ذلك هو الوقت الأثير لديَّ للمشي، خاصة حين يتأخر الجمهور ومكملاته ذاتية الحركة عن البدء في السير) مشيتُ محاذياً مرةً أخرى الحافة الشمالية لساحة دي فوج، واجتزت جادة بومارشيه و-عبر الرصيف المقابل، الذي يستضيف أولئك الباعة للأجهزة الفوتوغرافية التي تجعلني شارد الخاطر، ثم السيرك الشتوي المحروم من مجده الغابر- وصلتُ إلى ساحة لاريبوبليك، والتي كفتني بضع خطوات منها لكي أصل إلى كورنيش فالمي. وبرغم معرفتي كل شيء عن أبسط جيشان لمياه قناة سان مارتان، وبرغم أن الأوتيل دي نور المهيب يفقد شخصيته بالكامل ، فإنني أظل حساساً لألعاب الضوء هذه بين الأشجار التي تحرس طريق الماء.

(...)

لكنما من هذا الاجتياز لجهة من جهة أخرى، عاودني الإحساسُ الأكثرُ امتاعاً بأن العالم يتغير، حيث لا تتوقف الأشياء كلها عن التقارب والتماهي. وهذه الفكرة المتنافرة بشكلٍ ما مع ميلي إلى الهويات المصونة، أدخلت السرور على قلبي مع ذلك، حتى وإن كانت قد رمت بالزيف هذا الشعور الذي يسكنني دائماً وأبداً بضرورة السفر.
ولكن، بعد أخذ كل شيء في الحسبان، لنأخذ هذه المدن الصينية المتناثرة وهذه الأسواق العربية التي تحتل ثلاثين متراً بالكاد من الرصيف، لنأخذها على ما يمكن أن تكونه أيضاً: دعوة سافرة إلى السفر، نداء إلى الجهة الأخرى، التي تظل جهةً أخرى بالرغم من فعلِ الهدم الذي يمارسه الابتذالُ المسرف.

الأحد 6 سبتمبر 1998، الساعة 18:30 شارع بلان مانتو.

عندما أخرج صباحاً في نسيم الهواء المضطرب قليلاً، أحياناً ما تستولي عليَّ الرغبةُ الغائمةُ ولكن المعذَّبة في أن أقع هناك على مجموعة من الكلمات الهائمة التي فجاة وإن كان بشكل مُتَعَمَّد – وكأنها آتية من بعيد- تقتلعني فجأة من الطارئ والظرفي والشاغل –من تسلط النهار- لتغرقني في رهافة الانطباعات والهواجس والذكريات التي لا تملك زمناً أو موقعاً يمكن التعرف عليهما.

كل شيءٍ هناك لن يكون غير جوهر وانجباس، كهذه الينابيع التي تتمكن فجأة من إزاحة الأوراق الخفيضة لنباتات الحِراج ورمي شبكة الأحاسيس في فضاءٍ "فريد".

يبدو لي أنه عندئذٍ، ودون مجهود، يمكن أن تتمكن ببطء حالاتٌ وصفاتٌ معينة لحقيقةٍ أولى من تندية إيماءاتي ونظراتي ومن أن تُمْلِي عليَّ هذه اللغة البكر المحرَّرة من كل حدس ومن كل معرفة ومن كل اعتياد، والتي تنطق ببرهان الأشياء والأماكن واللحظات الموجع والقاسي.

سيكون ذلك كما لو أن استعمالات اللغة، التي تآكلت أيما تآكل بفعل الممارسات الآلية، قد جرى نبذها وتجريدها من الاعتبار لصالح كلمات تسمي الأشياء بشكل طبيعي على نحوٍ ما. سيكون ذلك أوج البساطة وأوج الصواب والدقة. سيكون ذلك كما لو أن ما هو غريب يجلجل مع ذلك بألفة، حيث يشعر المرء أنه هو نفسه تماماً وفي داره تماماً.

وعندما يكون كل شيءٍ حاداً بشكلٍ قاطع، فإنه سوف يمضي من تلقاء نفسه، حاملاً بالكامل لغزه دون نقيصة ودون تنازل. سيكون المرء جزءاً، وسيعرف أنه جزء، من هذا اللغز الذي سوف تخفف شفافيته كل جُزَيْء من جزيئات محيط الهواء في حرية سرعة وصمت انعدام جاذبية من شأنهما إعادة بناء العالم في ثقله النوعي.

النصُّ الذي سوف ينتج عن ذلك سيكون أجمل النصوص التي كُتبت قط، لأنه سوف يجمع على هذا النحو بين كفاءة تعدد المعاني وتناغم الموسيقات الأكثر اقتراباً من الوفاق الشامل الناجز.

لكنني الآن بعيدٌ عن ذلك، والسحابة الرقيقة التي تُقَدِّم لي، من الجسر الجديد، مشهداً غائماً، شِعرياً تماماً، على لسان فر-جالان، ليست غير ذريعة، وفرحة زائفة وغواية عابرة. فلو فتحتُ فمي، لن تخرج منه غير كلماتٍ عادية، سرعان ما سوف يتبددُ شأنها في تفاهة الصخب المحيط. ربما يحدثُ ذلك في المرة القادمة. ربما لو استيقظتُ مبكراً أكثر.

باريس، الخميس 23 سبتمبر 1998، على الجسر الجديد

سوف تتواصلُ ملاحتي خبطَ عشواءَ عبر التيارات المتواترة لشوارع الدوائر الخامسة والسادسة والسابعة، وسوف يكون بالإمكان رؤية خروجي من الضفة اليسرى بمحاذاة الجسر الجديد أو بمحاذاة جسر الفنون، حيثُ سأجد صعوبة في حرمان نفسي من اختراق الباليه رويال المنتصب وحيداً ورواقي فيفين ودوشوازول.

وإذ أعيدُ بذلك اكتشاف ماهو معروفٌ جيداً، سأقومُ مرةً أخرى بالحصر العفوي لأدنى التحولات ولتبدلات المُلاَّك وللترميمات وللتجصيصات المتباينة. كل ذلك يتيحه إلى حد الشَّرَه رقادُ البعض إلى الضحى ورحيل البعض الآخر إلى الريف والتوقف المؤقت للمواصلات المصلحية، ويالها من ظروف مؤاتية للاجتياز العفوي خارج ممرات المشاة.

وعندما أعود، ثرياً بكثيرٍ من الخطوات وبكثيرٍ من اللمحات البصرية والصوتية، مرهقاً على نحوٍ لذيذ بثلاث ساعاتٍ من المشي الرشيق، إلى المنزل رقم 15، شارع بلان مانتو، لا يعودُ لدي شكٌ بالمرة في هويتي سَيِّداً للعالم: ألم يدخل هذا العالم برمته فيَّ، جاراً خلفه كل ما فيه من واقعي وخيالي؟

شارع بلان مانتو، الأحد 4 أكتوبر 1998، الساعة 10:25.


في الساعات القصوى، مالم يكد المرءُ يقول بالأحرى في ساعات النهاية، تفصحُ باريس عن كل ما هي قادرةٌ عليه وتكف عن فرض صورتها كـ "حاضرةٍ عظمى" لكي تصبح من جديد ما يجعل منها ذات قيمة: أنطولوجيا حضرية من الأركان والخلوات، ومن الأحياء المنعزلة ومن التخوم والهوامش، ومن الأوكار ذات المفاجآت التي لابد من معاودة اكتشافها دائماً وأبداً.

هذا الامتياز الشعري تتمتع به مدنٌ كثيرة مثل براغ وسيينا وقرطبة وبودا، دون توقف، نهاراً وليلاً.

لابد للمرء في باريس أن يفقد زمام نشاطه المحموم، والذي يجعل منه مضخة ً لامتصاص نسغ بلدٍ بأكمله, لكي يعاود استخدام ذاكرته ويخلي السبيل أمام توسلات أعماقه الأرحب مرتين وثلاث مرات.

يظل صحيحاً مع ذلك أن الاستيقاظ مبكراً أو الاضطرار إلى العودة متأخراً يعوِّض ويحرِّر، يعوض المتسكع عند هبوط الليل ويحرر فيه امكاناتٍ رهيفة.

فبادئ ذي بدء، عندما يتحرر الهواء من شحنة الانبعاثات، التي تعاقب الأنوف والرئات، يصبح حياً من جديد وأكثر قابلية بالفعل، إلى حدٍ ما، لاستنشاقه.

كما أن الآذان تجد تعويضاً في مناخٍ يستعيد فيه كل صوت تميزه. ولا نتحدثن عن النظر: إنه الفائز الأكبر. إن خلفية جميع الأشياء التي تراجعت خلال النهار إنما عادت تطفو على السطح أخيراً، ودون ادعاء، تهمس وتتمتم، قبل ساعة من ارتداد كل شيءٍ إلى الجهر والإعلان.

عائداً إلى شارع بلان مانتو،
17 ديسمبر، في وقت لا يزال مبكراً من الصباح.



من "فضاءات العبور"

عبر شارع سانت أنطوان، من محطة مترو سان بول وعبر شارع فوبور الذي يشكل امتداداً له، أجتاز سيراً على القدمين ظريق الشرق الرحيب، الذي كان ينسرب في الماضي إلى الباستيل، والذي كان يمس القلعة حيث كان القديس ذو البواعث المريبة، تحت سنديانته الأثيرة، يصدر حكمه السامي. أثناء عبوري، سوف أقابل الدروب المسدودة والساحات الداخلية لمصانع الأثاث القديمة. وسوف أرى على الحوائط الخربة تلك البقايا من الكتابات الدعائية القديمة التي كان بعضها لا يزال يسطع، في هذا المكان نفسه، الجديد آنذاك، قبل خمسين عاماً.

بوسع المرء أن يجد هناك من جديد أثر تلامس نظرات كل أولئك العشاق، مشاة الضاحية الملهمين، الذي خلَّد واحد منهم إلى الأبد، جهة الأوتيل دوفيل، وقد ميزه دوانو في لمحة ٍ عابرة نحو عام 1950، الفنَّ الحميم، فنَّ أن تكون غائباً غياباً كثيفاً.

باريس، 16 نوفمبر

جيل جوانار، نصوص_1

ولد عام 1937

من "مذاق الأشياء"


عندما يتوقفُ المرءُ، في سيارة أجرة، أمام إشارة المرور المنتصبة بمحاذاةِ الأوتيل ديو، عند مدخل ساحة كنيسة نوتردام، ينفتح أفقٌ أمام النظر، هو أفقُ شارع سان جاك الذي يجدُ امتداداً له في شارع فوبورسان جاك، وراء المرتفع الذي يراه المرءُ عن بُعد. يجدُ المرءُ صعوبةً في تصديق أنه بين هذه البنايات البورجوازية التي ترجعُ إلى القرن التاسع عشر، يتأبَّدُ الدربُ الذي كانت حيوانات الماموث تجيء عبره كل يوم لترتوي من نهر السين، عند أفول النهار. من أي ارتفاع كانت تهبط إلى السهل وافر العشب؟ أكانت ترعى، على مدار النهار، بين مونتاني سانت جونفييف وفوجيرار؟ أم إنها، بخطواتها التي لم يكن ليوقفها شيء، كانت تشق مساراً عبر الغابة المتواصلة، من جبال البرانس إلى الآردين؟ ذلك ما قد يتساءل عنه المرءُ وهو مسترخٍ في قلب سيارة الأجرة التي تقودنا صوبَ أصداءٍ أخرى.



باريس، مارس 1992




المشيُ في باريس يُمَثِّلُ واحدةً من تلك الأساطير التي يحيا عليها الأدبُ الفرنسي الأغزرُ نكهةً في هذا العصر. إن أكثر من نصٍ مكتوب قد استمد من هذا الموضوع زخمه وإيقاعه. وإنها لفرحةٌ رهيفة أن يُحاول المرءُ مماشاة نظرته مع نظرة جوَّابي الأعماق الغائرة الهائمين على وجوههم والذين تمثَّلوا في ريفردي وفولان وفارج وكاليه، والذين يَتَمَثَّلون اليوم في ريدا. خطوةً خطوةً، تمحو البصماتُ معالم المسار لنغرق في هذا العالم الحسي متبدل الألوان الذي لن يخرج منه أي مشروع سالماً. وفي المدى البعيد، تتوثبُ جغرافية جديدة، مخلوقة من تضاريسنا الحميمة. لا نعودُ نحنُ من يتقدم في العالم، فالعالم هو الذي يتقدم فينا، العالم هو الذي يتماشى مع النصوص التي نكتبها.



باريس، 27 مايو 1992

ترجمة بشير السباعي

(عن الأصل الفرنسي)

استيهامات_11


17 مارس 2010


مسيرة بنجامين دزرائيلي (1804-1881) مسيرة معقدة وذات آثار مهمة على تطور السياسة الإنجليزية داخليًّا وخارجيًّا. لهذا التفت ماركس كثيراً إلى تحركات ومبادرات هذا الإبن متعدد الوجوه لناقد أدبي يهودي ليس من النكرات.


ما أتذكره الآن من عبارات دزرائيلي الساخرة الكثيرة هو عبارته التي يقول فيها إن مصر سوف تظل موعودة إلى الأبد (!) بمستقبل عظيم! وهي عبارة تُذَكِّرُني هي نفسها بعبارة جورج حنين الساخرة التي يقول فيها "إنني أنتمي إلى بلد قادر على تبديد كل يأس ... وكل أمل!".


جورج حنين

نيكولاي جوميليوف_1*

(1886-1921)


الأزبكية

ما أغرب ذلك-
عشرُ سنواتٍ بالتمام والكمال مرَّت
مُذ رأيتُ الأزبكية،
الحديقة القاهرية الرحيبة،
مغمورةً في بهاءِ القمرِ جلالاً
في ذلك المساءِ السَّنِيِّ



* *



في تلكَ الأيامِ الخوالي
كُنتُ شقِياً بِحُبِّ امرأة
وما كان بوسع رياحِ البحرِ الملحيَّةِ النَّدِيَّة
ولا صَخَبِ الأسواقِ الشرقيةِ الآسرة،
ولا أي شيءٍ آخر،
أن يَهبني سلوى.
في تلك الأيامِ الخوالي،
صليتُ للرب راجياً الموت
وكنتُ مُستعداً للاقترابِ منه عن طيبِ خاطر.



* *



لكن تلك الحديقة
كانت من جميعِ الوجوهِ شبيهةً
بجنَّاتِ العالمِ البكرِ المقدسة:
هناك كانت النخلاتُ النحيلةُ تحملُ سعفاً،
كبناتٍ يحنو عليهنَّ الربُّ
وعلى التِّلالِ،
كانت شجيراتُ الدلب السامقةِ محتشدةً
كالكهنةِ الغاليِّين.



* *



كان شلالُ الماءِ يتدفَّقُ لامعاً في الحلكة
والكركدن يشب برقة
والفراشاتُ الليليةُ ترفُّ
بين الأزهارِ، مرتفعةً عالياً،
أو بين النجومِ- كانت النجومُ جِدَّ قريبة،
شبيهةً بنباتِ البارباريس اليانع



* *



أذكرُ أنني هتفتُ: " أسمى من الفجيعة
وأعمقُ من الموت – الحياة!
إليك، يا ربُّ، عهديَ الحُر:
مهما كان،
أياًّ كانت الأحزانُ والمهاناتُ المكتوبةُ لي،
لن تُراودني ميتةٌ سهلة
قبل أن أدلفَ مرةً أخرى
إلى مثل هذهِ الليلةِ المُقْمِرَة
تحت نخلات وشجرات دلب الأَزْبَكِيَّة".



* *



ما أغرب ذلك-
عشرُ سنواتٍ بالتمام والكمال مرَّت،
ولا يسعُني ألاَّ أفكرَ في النخلات
وفي شجراتِ الدلبِ، وفي شلال الماء،
وفي السديمِ المُشرب باللون الأبيض، كالكركدن
وفجأة أنْتَبِه،فأسمعُ في صفيرِ الرِّيح
وفي صخبِ الكلام البعيد
كلمة "الأزبكية" الساحرة



* *



بلى، عشرُ سنواتٍ فقط،
لكنني ، الرحالةُ الأسيان،
يجب أن أرحل من جديد،
يجبُ أن أرى البحرَ والسُحب والوجوهَ الغريبة
كل ما لم يعُد قادراً على إغرائي،
لكنني يجبُ أن أدخل تلك الحديقة وأكرر الوعد
أو أقول إنني قد وفيتُ به
وعندئذً أكونُ حُراًّ.


*نيكولاي جوميليوف: هو أحد رواد الحداثة في الشعر الروسي وهو أستاذ الشاعرة الروسية الشهيرة أنَّا أخماتوفا وزوجها.
زار جوميليوف مصر لأول مرة في عام 1907. وكتب قصيدة الأزبكية في عام 1917.
أُعدم جوميليوف رمياً بالرصاص في عام 1921 وصدرت له محموعة شعرية في روسيا غداة إعدامه ثم توقف نشر دواوينه في روسيا بعد عام 1923 وحتى عام 1988 حين صدر له ديوان ضخم.

أندريه بريتون

الارتباط الحر




امرأتي التي لها شعرٌ من نارِ حطب
التي لها أفكارٌ من بروق الحرارة
التي لها خصرُ ساعةٍ رملية.
امرأتي التي لها خصرُ ثعلبٍ مائيٍّ بين أسنانِ نمر.

امرأتي التي لها شفتانِ من فيونكةِ شعر ومن باقة نجومٍ في عظمتها الأخيرة
التي أسنانها آثارُ فأرةٍ بيضاء على الأديمِ الأبيض
التي لسانها من كهرمانٍ وزجاجٍ مصقولين.
امرأتي التي لها لسانُ قربانٍ مطعون
التي لها لسانُ دميةٍ تفتحُ عينيها وتغمضهما
التي لها لسان حجرٍ مدهش.

امرأتي التي لها أهدابُ خربشات كتابةِ طفل
التي حاجبا عينيها حافة عش للسنونو.
امرأتي التي جبينها ألواحٌ اردوازية لسقفِ دفيئة استنبات وبخار على الألواح الزجاجية.

امرأتي التي كتفاها من الشامبانيا ومن نافورة لها رؤوس دلافين تحت الجليد.
امرأتي التي معصماها من أعواد الثقاب.
امرأتي التي أصابعها من الحظ ومن آس القلب
التي أصابعها من الهشيم المحصود.
امرأتي التي لها إبطان من فراء السمور
ومن جوز شجرة الزان
ومن ليلة القديس يوحنا
من شجيراتٍ استوائية
ومن عش سمك ملائكي
ذات الذراعين اللتين من زبد البحر
ومن حواجز الأنهار
ومن امتزاج الحنطة والمطحنة.

امرأتي التي لها ساقان من ومضات تخطف الأبصار
ذات حركات دولاب الساعة واليأس.
امرأتي التي لها ربلتا ساقين من لُب البيلسان.
امرأتي التي لها قدما أحرفٍ أولى
التي لها قدما سلاسل مفاتيح،
قدما عصافير تشرب.

امرأتي التي لها عنقٌ من شعيرٍ غير مضروب.
امرأتي التي لها حنجرةٌ من وادي التبر
من مكان لقاءٍ في صميم مجرى التيار
التي لها نهدان من الليل.
امرأتي التي لها نهدا رابيتين بحريتين.
امرأتي التي لها نهدا بوتقة ياقوت
التي لها نهدا طيف وردة تحت الندى.

امرأتي التي لها بطن نشر لمروحة الأيام
التي لها بطن مخلبٍ هائل.
امرأتي التي لها ظهر طائرٍ يفرُّ عمودياً
التي لها ظهرٌ من الزئبق
التي لها ظهرٌ من النور
التي لها قفا عنقٍ من حجر مُمَلَّس وطباشيرٍ مبتَل
ومن سقوطِ كأسٍ شُرَبَ منها للتو.

امرأتي التي لها وركا زورقٍ شراعي صغير
التي لها وركا شمعدان
وريش سهام
وضمات ريش طاووس أبيض بندول غير مبال.

امرأتي التي لها ردفان من الطَّفْل الرملي والحرير الصخري.
امرأتي التي لها ردفان من ظهور البجع.
امرأتي التي لها ردفان من الربيع
التي لها فرج سوسنة.
امرأتي التي لها فرج من طمي التبر ومن خلدٍ بحري.
امرأتي التي لها فرج من عشبٍ بحري
ومن بومبوناتٍ قديمة.
امرأتي التي لها فرج مرآوي.

امرأتي التي لها عينان مغرورقتان بالدموع
التي لها عينان من بزةٍ بنفسجية ومن إبرةٍ ممغنطة.
امرأتي التي لها عينان من السافانا.
امرأتي التي لها عينان من ماءٍ للشرب في السجن.
امرأتي التي لها عينان من حطبٍ تحت الفأس دائماً
التي لها عينان من مستوى ماءٍ وهواءٍ وترابٍ ونار.



ترجمة بشير السباعي


(عن الأصل الفرنسي)

استيهامات_10

15 مارس 2010


صحيح أن التنوير الفرنسي لم يكن منسجماً تماماً، فهو ظاهرةٌ معقدة وذاتُ عناصر متباينة، ناهيكَ عن أنه كان مثقلاً أحياناً بتَحَيُّزاتٍ موروثة من المسيحية نفسها التي كان يُحاربُها. انظروا تصريحات فولتير عن الإسلام والمسلمين لتتأكدوا من ذلك.


لكن اتخاذ موقف نقدي من التنوير شيء وإدارة الظهر له كليةً شيء آخر.


لقد كان بونابرت، ابن التنوير الفرنسي وأحد المسهمين في ترويج أطروحاته منذ أن كان كاتباً مغموراً قبل الثورة، أكثر رهافةً في تعامله مع مكوناته، وقد تجلَّت هذه الرهافة بشكلٍ بالغ العُمق في منفاه في سانت هيلانة عندما أعاد قراءة مسرحية فولتير "محمد" وسَجَّل ملاحظاته النقدية عليها، وهذا في الوقت نفسه الذي كان يتخلى فيه عن إلحاده ويكتبُ وصيتهُ التي سَجَّلَ فيها أنه يموتُ مسيحياً!


والحال أن تحليل بونابرت للثورة المحمدية إنما يظل أوثق ارتباطاً بالحقيقة التاريخية، ولهذا السبب سوف يتبناه كارل ماركس بلا تردد، وهذا في الوقت نفسه الذي سوف يتبنى فيه جوهر فكرة فولتير عن الاغتراب الديني!


لم يكن كارل ماركس انتقائياً، بل كان أستاذاً في فن التركيب النقدي لمنجزات الفكر الإنساني التقدمي، وبهذا المعنى، سيكون إسهامه فاعلاً من جديد في زمن "عودة التاريخ" الذي نحيا الآن.

إيجور سيفيريانين_1

(1887-1941)




ما أغربَ ذلك!

نحيا في حلمٍ لا تفسيرَ له،
على واحدٍ من الكواكبِ المريحة...
حيث يتوافر كثيرٌ مما لا حاجة بنا إليه البتة،
بينما ما نشتهيه لا وجود له...

1909


الصدى

من باب المزاح، من باب التَّنَدُّر
أردتُ أن أحيا إلى الأبد!
لكن الصدى جاوبني:
"أجل!"
"إلى الأبدِ ستحيا!"
أَعِدْ.. مرةً أخرى .. مِنَ البداية..
مَنْ الذي لا يزولُ، كالأحلام؟
مِنْ جديد جاوبني الصدى:
"أنت!"

1909

لمَ لا يحدثُ لقاء؟

لمَ لا يحدثُ لقاء
بيننا في العشيات
عند البحيرات، عند الأنهارِ الناعسة،
في الأودية، في غاباتِ الصنوبر؟

ما الذي لا يجوزُ لنا أن نحلم به؟
شروق الشمسِ قبل الفجر؟
هذا ضربٌ من السعادة،
قولي فيهِ ماشئتِ هناك!

1909


رفيف

إلى إيفان لوكاش

الحماماتُ الزرقاء على ظهرِ مركبٍ رحيب
لكن قطرات المطرِ تساقطت، واحْتَسَتْهَا الحمامات.
على ظهرِ المركبِ الرحيبِ حماماتٌ زرقاء
احْتَسَتْ كل قطراتِ المطر، لكنَّ قطراتِ المطرِ تساقطت.

1911
ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الروسي)

عشرُ أغنيات_2

(1943-1945)

Edmond Jabès
إدمون جابس(Cairo, 1912 – Paris, 1991)

أغنية الغريبة



كانت واقفةً
بإزاءِ الشجرة.
كانت عاريةً.
كانت فرج الشجرة.

انتظرت الرجل
ومن عشقهما
سيولدُ العالم.

كانت شاحبةً.
كانت المحبة.
وبثها الرجلُ
اسم اخوته.

كانت ميتةً
ولم يَكُفَّ الرجلُ عن الكلام.



أغنيةُ الغريب


ها أنذا أبحثُ عن رجلٍ لا أعرفه
لم يُصبح قَط أنا نفسي إلى هذا الحد
إلاَّ منذُ بدأتُ البحثَ عنه.
أَلَهُ عينايَ ويداي
وكلُّ هذهِ الهواجسِ الشبيهةِ
بحطامِ هذا الزمن؟
موسمُ الألفِ غرق،
البحرُ يكُفُّ عن أن يكونَ البحر،
يصبحُ ماءَ القبورِ الباردَ المتجمدَ
ولكن، أبعدَ من ذلك،
من الذي يعرفُ أبعدَ من ذلك؟
صبيَّةٌ تُغنِّي للتقهقر
والليلُ يُخَيِّمُ على الأشجار،
راعٍ وَسَطَ خراف.
انتزعوا العطشَ من حبةِ الملح
التي لا يرويها أيُّ شراب.
بالحجارة، يدمدمُ عالمٌ
لكونه، مثلي، بلا مكان.


أغنيةُ المرأةِ الجالسة



هذهِ امرأةٌ جالسة
تنهشُها الشموس.

دموعُها في الزمنِ الغابرِ
ملأت الأرضَ أشجاراً
قلبُها يحترق.

هذهِ امرأةٌ جالسةٌ
على رُكبتيَّ. شاردةً
تحسبُ الأيام.



أغنيةُ الفتاةِ الشرسة



الفتاةُ
ذاتِ القبعةِ المبرقشة
- من هيَ؟ أنا لا أعرفُها-
تغرِزُ، ضاحكةً، يديها
في عيونِ النائمين.
عاشقةٌ للأغاني
جدُّ شرسةٍ بالفعل
- من هيَ؟ أنا لا أعرفُها-
وهيَ أيضاً تجْهَلُني
لأنَّ عيْنَيَّ، المغرمتين بِنَفْسَيْهِما
تلتهمان نَفْسَيْهِما عندَ هبوطِ الليل.



أغنيةٌ قصيرةٌ لِيَدِ الجُنديِّ الميِّت المُتصلِّبَة



يدُ الجُنديِّ الميت ما بَرِحَت متَشَبِّثَةً بالشجرة،
والسبَّابةُ على زِنادِ البُندقية.
ما أكثر النجومِ، ضحاياه.
يا هذا الجُندي،
إنَّكَ لَتَصْنَعُ لَنا سماءَ فَرَح.
إنَّهُ الصيف.
العُشَّاقُ يتَمَتَّعون بأجملِ سَقْف.
يا هذا الجُندي،
ها أنتَ ذا تَنام؛
ولكن ما الذي تَراه؟

ترجمة بشير السباعي
(عن الأصل الفرنسي)

عشر أغنيات_1


(1943-1945)


Edmond Jabès

إدمون جابس
(
Cairo, 1912 – Paris, 1991)




أغنية لأجل ملك الليل



هل تعرفُ الملكَ الأسود
الذي يحفظُ في قلبه
سيفأً وأزهاراً؟

هل تعرفُ أخواته؟

الأولى توقظُ الريح،
محلولةَ الشعرِ، مرفوعةَ اليدين.

الثانيةُ تهيِّجُ المحيط:
عمرها مائة عام.

الثالثةُ فأرةٌ، صبيةٌ جميلة،
يشبكها الملك
على كرافتة ابنه.

ذاتَ صباح
اغتالَ ثلاثونَ أميراً حاسدون
مليكهم،

تلك هي الحكايةُ الأسيفة
حكايةُ الملكِ الأسودِ مالاكو
الذي تسكنُ قلبه
ثلاثةُ أشباحٍ تبكي



أغنيةٌ لأجل الموتى الثلاثة الذاهلين




كنا ثلاثةَ موتى
لا نعرفُ ما الذي جئنا لنبحثَ عنه
في هذهِ المقبرةِ الفاغرة
أكبرنا سناً قال: "ياللروعة!"
الآخرُ قال: "الدنيا حر ..."
وأنا الذي أكادُ أفيقُ بالكادِ من نعاسي
بداهةً أقول:
"بمثلِ هذه السرعة؟"
كنَّا ثلاثةَ ظلال
بلا شِفاه، بلا رِقاب
وإن كنَّا نضحك
تحتَ الإبط
إن لم توجد الأحلام
ثم جاءتنا فتاة
عندَ هبوطِ الليل
لتكونَ في صُحْبَتِنا.




أغنيةٌ لأجلِ قارئي



لن تجدَ، يا قارئي، في ألبوم الأغاني هذا
أُغنيتي الأثيرة.
إنها تختفي في مكانٍ آخر،
في الريحِ التي تُذَهِّبُ أهدابك
هذهِ النظرةُ التي تشيع فيها الهواء..
لابدَّ أنَّك عندما تنام،
تسمعُ أغنيتي...

لستُ مُغَنِّي الليل.
أنا حيثُ تضحكُ، ضحكتك؛
وحيثُ تبكي، وروارُ دموعِكَ الذاهل.
كلُّ نسغ العالم على شفتيك.
لابد أنك عندما تستيقظ،
تغنِّي أغنيتي...




أغنيةٌ لأجلِ مساءٍ ممطر




رجلٌ انتظرَ
أن يُحب.

الأجراسُ بعيداً
تدُق.

بلا رجاء
انتظرَ الرجل.

كلُّ بابٍ موصد
يحفظُ سرَّه.

رجلٌ يبكي
المحبوبة...




أغنيةُ النهارِ الضائع




النهارُ سقط
كصرخةٍ ناضجة.
أنا لا أحبُّ الصرخات.

النهارُ سقط
كشمسٍ ناضجة.
أنا لا أحبُّ الليل.

هذا النهارُ الذي يتقدُ
في وجعي.

النهارُ سقط
كعصفورٍ عجوز.
أنا لا أحبُّ الأرض.

النهارُ سقط
كحلمٍ قديم.
أنا لا أحبُّ البحر.

هذا النهارُ الذي يموت
في النظرات.

النهار سقط
وسط الطريق.
لم يلتقطهُ أحد.




ترجمة بشير السباعي


(عن الأصل الفرنسي)

والت ويتمان

(1819-1892)



من [أغنية نفسي]
48

قلتُ إنَّ الروحَ ليست أكثرَ من الجسدِ
وقلتُ إنَّ الجسدَ ليس أكثرَ من الروح
وإنَّ لا شيء، ولا الله، أكثرَ روعةً من نَفْسِ المرء
وإنَّ من يمشي خطوتين بلا حُبٍّ إنما يمشي في جنازتهِ ملفوفاً في كفنه
وإنَّ بوسعي أو بوسعكَ وليس في الجيبِ عُشر دولارٍ أن نشتري طَرْحَ الأرض،
وإنَّ النظر إلى حبةٍ في قشرتها أو كشفها للنظرِ يُشَوِّشُ عِلمَ كُلِّ الأزمنة،
وإنَّ ما من حرفةٍ أو مهنةٍ إلاَّ وكان بمقدورِ الفتى الذي يُزاولها أن يُصبحَ بطلاً،
وإنَّ ما من شيءٍ بالغِ الرهافةِ إلاَّ ويُشِكِّلُ محوراً للكونِ الدَّوار،
وأقولُ لأيِّ رجلٍ أو امرأةٍ، دَع روحكَ تقفُ مستريحةً وهادئةً أمام مليون من الأكوان.

وأقولُ للبشرِ لا تكونوا فضوليينَ حيالَ الله، لأنَّني، أنا الفُضُوليُّ حيالَ كُلِّ واحدٍ، لستُ فُضُولياً حيالَ الله،
(ليسَ لأيِّ حشدٍ من الكلماتِ أن يُبَيِّنَ مدى هدوئي حيالَ اللهِ وحيالَ الموت).

إنّني أسمعُ اللهَ وأشاهدهُ في كلِّ شيءٍ وإن كنتُ لا أفهمُ الله بالمرَّة،
كما أنَّني لا أفهمُ من الذي يمكنهُ أن يكونَ أكثرَ روعةً من نَفْسي.
لماذا يَجبُ عليَّ أن أتمنى رؤيةَ اللهِ رؤيةً أفضلَ من رؤيتي له اليوم؟
إنَّني أرى شيئاً من اللهِ في كلِّ ساعةٍ من الساعاتِ الأربعِ والعشرين، بل وفي كلِّ لحظةٍ، في وجوهِ الرجالِ والنساءِ أرى الله، وفي وجهي أنا في المرآة،
أجدُ رسائلَ من اللهِ ملقاةً في الطريق، وكُلُّ واحدةٍ منها عليها توقيعُ الله،
أترُكُها حيثُ هي، لأنَّني أعرفُ أنَّني أينما ذَهَبْتُ، سوف تجيءُ رسائلٌ أخرى، دائماً وأبداً، توًّا وحالاً.


ترجمة : بشير السباعي
(عن الأصل الانجليزي)


Song of Myself

48


I have said that the soul is not more than the body,
And I have said that the body is not more than the soul,
And nothing, not God, is greater to one than one's self is,
And whoever walks a furlong without sympathy walks to his own
funeral drest in his shroud,
And I or you pocketless of a dime may purchase the pick of the earth,
And to glance with an eye or show a bean in its pod confounds the
learning of all times,
And there is no trade or employment but the young man following it
may become a hero,
And there is no object so soft but it makes a hub for the wheel'd universe,
And I say to any man or woman, Let your soul stand cool and composed
before a million universes.

And I say to mankind, Be not curious about God,
For I who am curious about each am not curious about God,
(No array of terms can say how much I am at peace about God and
about death.)

I hear and behold God in every object, yet understand God not in the least,
Nor do I understand who there can be more wonderful than myself.

Why should I wish to see God better than this day?
I see something of God each hour of the twenty-four, and each moment then,
In the faces of men and women I see God, and in my own face in the glass,
I find letters from God dropt in the street, and every one is sign'd
by God's name,
And I leave them where they are, for I know that wheresoe'er I go,
Others will punctually come for ever and ever.

أسفار

إلى إحسان


1
رأيتُ شمسَ الهندِ
تستحمُّ في نهرِ الجانجا
كانت مخضبةً بدماءِ الحجيجِ
الذين تهاوت بهم الجسور
فتساءلتُ
لماذا يكونُ الربُّ الحافظُ
هو ربُّ الدمار!!

2
ورأيتُ استنبول ليلاً من البحرِ
كانت تتلألأُ عاليةً
وسطَ النجومِ
وحين ارتقيتُ مدارجَ دروبها
رأيتُني أهبطُ إلى أحزانها
على ضوءِ شموعِ الفقراء

3
وعلى أرصفةِ موانئ الشمال
رأيتُ النساءَ
عبر غَبشِ آخرِ الليل
أرواحاً حزينةً
تمسحُ دموعَها
بمناديلِ سلامٍ ملائكي
فالليالي
سوف تُمسي أكثرَ برودةً
بعد رحيلِ الرجال
4
وحين ارتددتُ باتجاهِ الشرقِ
نَزَلتُ خلفَ قبرِ المليكةِ المرمري
ورأيتُ أطفالَ الشودرويين
عرايا في الهجير
ولم تكن في نهرِ يامونا قطرةُ ماء


فبراير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

مأثورات


ج. ك. ليشتنبرج
(1742-1799)




من بين أعظم اكتشافات العقل البشري، خلال هذه الأزمنة الأخيرة، يجب أن نذكر، في رأيي، فن الحكم على الكتب من دون قراءتها.


*


يصعب أن نجد، في العالم، سلعةً أكثرَ غرابةً من الكتب. إذ يطبعها أشخاصٌ لا يفهمون منها شيئاً، ويُجَلِّدُها وينقدها ويقرأها أشخاصٌ لا يفهمون منها شيئاً، بل ويكتُبُها أشخاصٌ لا يفهمون منها شيئاً أيضاً.


*


الحق أن هناك كثيراً من الأشخاص الذين لا يقرأون إلا لكي لا يكونوا بحاجةٍ إلى التفكير.


*


لو تَعَوَّدَ شُباننا على أن يكتبوا في مقابل كل ثلاث قصائد قصيرة لغذاء القلب قصيدة قصيرة واحدة لغذاء الدماغ، فبوسعنا أن نحلم بأن نرى، ذات يوم، إنساناً راشداً يتمتعُ بدماغٍ وقلب؛ أي يتمتع بأغرب سيماء. لكنهم، في معظمهم، أذكى من أن يدركوا أن أدمغتهم فارغة.


*


إنه لشيءٌ جيد أن يُصاب الشُّبان في مرحلةٍ معينة من العمر بمرض كتابةِ الشعر، إلاَّ أنه، إكراماً للسماء، يحسُنُ أن نحتاط لتطعيمهم ضده.


*


إنه لمصدرُ ألمٍ بالغٍ دائماً بالنسبة لي أن يموت إنسان موهوب؛ فالأرض أحوج إليه من السماء بكثير .



ترجمة بشير السباعي [عن ترجمةٍ فرنسيةٍ صاحبها مجهول]

أمنيات


1

رأيتُ أرملتي
تعبرُ الدربَ لاهثةً
تحتَ شمسٍ حارقةٍ
تمنيتُ أن تنسى أحزانها
وتكفَّ عن صب اللعنات
على هادم اللذات
أن أحثها على البحثِ عن حبٍ جديد
لكنَّ الملاكَ المتجهمَ
الواقفَ إلى جواري
ألجَمَ لساني!

2

كنتُ أسيراً
أستخدمُ ملابسي مناشف
وأقفُ عارياً داخل زنزانة
تؤالفُ بين ضمير الزمن
والسحالي
ثم جاءتني امرأةٌ يونانية
بثيابٍ ومناشف
فتمنيتُ أن تكون لها عينا ميدوزا
لتحجِّر الحراس

3
المعي يا عيني ببهجةِ السكينة
وباحتدامِ الخطر
المعي يا عيني بدمعةٍ حزينة
وقهقهاتِ المطر

4
كنتُ رملاً ناعماً
على شاطئ البحر
ترسُمُ أقدامُ الأطفالِ الراقصةُ
ملامحي
ثم يغسلُ الموجُ وجهيَ عند الغروب
فأنامُ وأحلمُ بالأقدامِ الصغيرة
لكنني هذا الصباح
استيقظتُ فوجدتُني رصيفاً
يتأوَّهُ تحت سلالم حديدية
لآلافِ البوارج

5
ليتني كنتُ زهرةً
تمسحُ فراشاتُ الفجرِ عن وجهيَ
نُدفَ الثلجِ
فأمنحُها أنفاسيَ الأخيرة...
قبل أن أذوبَ
في رمادِ العالم



فبراير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

راينر ماريّا ريلكة_2

(مثلما حملتك مرة طاقةُ البهجة المجنحةُ)


مثلما حَمَلَتْكَ مرةً طاقةُ البهجةِ المجنحةُ
فوق مهاوي الطفولة المظلمة،
فلتُشَيِّد الآن وراءَ حياتك
قوساً عظيماً من جسورٍ تفوقُ الخيال.

المعجزاتُ تحدثُ إن تَسَنَّى لنا النجاح
في اجتياز الخطر الأقسى،
لكننا لا نحقق المعجزة
إلاّ في إنجازٍ مشرق
ومسَلَّمٍ به بشكل خالص.

أن نعمل مع الأشياء في العلاقة التي لا توصف،
ليس صعباً جداً علينا ،
الأسلوب يتزايدُ تعقيداً ورهافة،
والانجرارُ ليس كافياً.

استجمع قواك المجرَّبة ومدها
حتى تُكَوِّنَ جسراً على الهوة بين تناقضين ...
لأن الرب يريد أن يعرف نفسه فيك.



موزو ، منتصف فبراير 1923


(مشوارُ عمرٍ مُتخيَّل)


في البدء طفولةٌ، لا حدود لها
وحرةٌ من أيَّةِ غايات.
آه يال اللاوعي الجميل.
ثم الرعب المباغت،
الفصولُ المدرسيةُ، العبوديةُ،
الغرقُ في الغوايةِ والضياعِ العميق.

التحدي. الطفل الذي أُحنيَ ظهره
يصبحُ مُحنياً للظهور.
يُنزل بالآخرين ما كابدهُ يوماً ما.
محبوباً، مرهوباً، منقذاً، مصارعاً،
منتصراً،
يثأر، ضربةً وراء ضربة.
والآن وحده، في فضاءٍ شاسعٍ، باردٍ، فارغ،
لكن حنيناً إلى العالم الأول،
العالم القديم،
يستترُ في أعماق فؤادِ الكهل ...

ثم، من مكمنه، يقفز الرب.


شونيك، 15 سبتمبر 1923


(ما تمرقُ الطيورُ فيه ليس الفضاءُ الحميم)


ما تمرقُ الطيورُ فيه ليس الفضاء الحميم
الذي ترى فيه كل الصور مكثفة
(في الفضاء، سوف تُحرم من نفسك،
سوف تتلاشى في ذلك الاتساع الرحيب.)

الفضاء يمتدُّ منَّا ويُؤَوِّلُ العالم:
لكي تعرف شجرة، في جوهرها الحقيقي،
طوقها بالفضاء الداخلي،
من ذلك الفيض النقي في روحك.
طوقها باحتراس،
إنها لا حدود لها.
وهي لا توجد حقاً إن لم تقع في اعتزالك.


موزو، 16 يونيو 1924



(العالمُ كان في وجهِ المحبوب)


العالمُ كان في وجهِ المحبوب - ،
لكنه فاض فجأةً وسال:
العالمُ في الخارج، العالمُ لا يمكن الإمساك به.

فلماذا،
عندما رفعتُ الوجهَ الممتلىءَ المحبوبَ،
إلى شفتيَّ،
لماذا لم أشرب منهُ العالم،
وقد كان قريباً جداً
حتى كاد يتسنى لي أن أحسَّ مذاقه؟

آه، لقد شربت. دون ارتواءٍ شربت.
لكنني كنتُ غاصاًّ أيضاً،
بالكثير جداً من العالم،
و، بينما رحتُ أشرب،
فضتُ أنا نفسي وسلت.


راجاز، منتصف يوليو 1924



(أيتها الوردة، أوه أيتها التناقض الخالص)


أيتها الوردة،
أوه، أيتها التناقض الخالص،
يا فرحة أن تكوني نوم لا أحد
تحت كل هذه الجفون.


في وصية 27 أكتوبر 1925


بناءً على وصية ريلكه، نقشت هذه السطور على شاهد قبره في فناء كنيسة رارون.

ترجمة بشير السباعي

(عن ترجمة س. ميتشل الإنجليزية)

راينَر ماريَّا ريلكه_1

(1875-1926)

حتى تكتب قصيدةً واحدة


... آه، ما أقل شأن القصائد عندما تكتبها في مستهل حياتك. لا بد لك من الانتظار وتكوين حسٍ وجمالٍ لأجل عمر كامل، ولعمرٍ طويلٍ إن أمكن، وعندئذٍ، في نهايات النهاية، ربما تَسَنَّى لك أن تكتب عشرة سطور جيدة. لأن القصائد ليست، كما يظن الناس، مجرد عواطف (العواطف تتكونُ لدى المرء منذ بدايات البداية) – إنها خبراتٌ وتجارب. وحتى تكتب قصيدةً واحدة، لابد لك من رؤية مدنٍ كثيرة، وأُناس وأشياء كثيرة، لابد لك أن تفهم الحيوانات، أن تشعرَ كيف تحلقُ الطيور، وأن تعرف الإيماءة التي ترسلها الأزهار الغضة عندما تتفتح في أول الصباح. لا بد لك من أن تكون قادراً على معاودة التفكير في الشوارع التي تخترقُ الأحياء المجهولة، وفي اللقاءاتِ غير المتوقعة، وفي الوداعاتِ التي رأيتَ منذ زمنٍ طويلٍ أنها سوف تحدث، في أيامِ الطفولة التي لا يزالُ لُغزها بلا تفسير، في الوالدين اللذين كان عليك إيذاءهما عندما جاءا بفرحةٍ ولم تهنأ بها (لقد كانت فرحةً لإسعادِ أحدٍ غيرك-) ، في أمراض الطفولة التي بدأت على نحوٍ بالغ الغرابة، تصحبها تحولاتٌ جد كثيرة، عميقة وصعبة، في الأيام التي قضيتها في غرفٍ هادئة، منزوية، وفي الصباحات التي قضيتها أمام البحر، في البحر نفسه، في البحار، في ليالي الرحلة التي صعدتْ إلى الأعالي وراحت تُحَلِّقُ مع النجوم، - ويظل غير كافٍ أن تقوى على التفكير في كل ذلك. لا بد من أن تكون لك ذكريات عن ليالي حبٍ كثيرة، كل ليلة مختلفة عن الأخريات، ذكريات عن نساء يصرخن في الكدح، وعن بناتٍ ضامرات، شاحبات، نائمات، وَلَدْنَ لتوهن ويلتئمن ثانية. لكنك لا بد لك أيضاً من أن تكون قد جلست إلى جانب الموتى في الغرفة ذات النوافذ المفتوحة والأصوات الصاخبة المبعثرة. ولا يكفي مع ذلك أن تكون لك ذكريات. لا بد لك من أن تكون قادراً على نسيانها عندما تكون كثيرة، ولابد من أن يتوافر لك الصبر الجميل لكي تنتظر حتى عودتها. لأن الذكريات نفسها ليست مهمة. وعندما تتبدل لتصبح دمنا نفسه، لتصبح لمحةً وإيماءةً ولا اسم لها، ويصبح من المستحيل بعدُ تمييزها عن أنفسنا – عندئذٍ فقط يمكن أن يحدث أن تصعد في قلبها الكلمة الأولى لقصيدة، في لحظةٍ جد نادرة، وتنبثق منها.



من "دفاتر مالته لوريدس بريجه"، 1910



(أنت يا من لم يأتِ قَط)



أنت يا من لم يأتِ قَط بين ذراعيَّ،
أنت يا محبوبي الذي ضاع منذ البداية،
إنني لا أعرفُ حتى ما هي الأغاني
التي كان يمكن أن تسرُّك،
لقد تخليتُ عن محاولة التعرف عليك
في الموجة المصطخبة للَّحظة التالية،
كل الصور الضخمة التي سكنتني –
المشهدُ الطبيعيُّ النائي، المحسوسُ بعمق،
المدن والبروج والجسور
والمنعطفات غير المتوقعة في الطريق،
وتلك العوالم الجبارة
التي كانت تنبض يوماً بحياة الآلهة –
كلها تنهضُ في روحي لتدلَّ عليك،
يا من تراوغني إلى الأبد.

أنت، يا محبوبي، يا كل الحدائق التي تشوفتها،
مشتاقاً، في أيما وقتٍ مضى.
شرفة مفتوحة في بيتٍ ريفي - ،
وكدت تخرج، هائماً، لتلقاني.
شوارع قادتني الصدفة إليها -،
اجتزتها لتوك واختفيت.
وأحياناً، في دكان،
كانت المرايا ما تزال منتشية بحضورك
و، مروَّعةً، تعكس صورتي المباغتة.
من يدري؟
لعل طائراً واحداً رنَّ عبر كلينا البارحة،
منفصلين، في المساء ...



باريس، شتاء 1913- 1914



(نحيب)



لمن سوف تصرخ، يا قلبي؟
وحيداً أكثر فأكثر،
يكابدُ دربُك عبر بشريةٍ مبهمةِ الأغوار.
بمزيدٍ من اللاجدوى ربما
لتمسكه باتجاهه،
لمواصلته الصعود إلى المستقبل،
إلى ما ضاع.

مرةً، هل صرخت حزيناً؟ على أي شيء؟
على ثمرة بهجة سقطت، قبل أن تنضج.
لكن شجرة بهجتي كلها تنكسر الآن،
في العاصفة تنكسر،
شجرةُ فرحتي البطيئةُ،
الأحب في مشهدي الطبيعي غير المرئي،
أنتِ يا من جعلتِني أكثر وضوحاً
للملائكة غير المرئية.



باريس، أوائل يوليو 1914



(سونيت)



وكانت تقريباً فتاة تلك التي، وهي تنبثق
من هذا الانسجام الفريد للأغنية والقيثارة،
تجلت لي من خلال صورتها الشفافة
وصنعت لنفسها سريراً داخل أذني.

ونامت فيَّ. كان نومها كل شيء:
الأشجارُ الرائعة، المسافاتُ التي لِعُمق إحساسي
بها يمكنني لمسها، المروج في الربيع:
كل المعجزات التي أَسَرَتْ قلبي في أيما وقتٍ مضى.

نامت العَالَمَ. أيها الرب المنشد، كم كان ذلك
النوم الأول آية في الكمال حتى أنها لم تَشْتَهِ
اليقظةَ البتَّة؟ انظر: لقد استيقظت ونامت.
أين موتها الآن؟ آه هل سوف تكتشف
هذا الموضوع قبل أن تنفد أغنيتك؟ -
أين تختفي؟ ... فتاة تقريباً ...



موزو ، 2 / 5 فبراير 1922



السونيت I,2 من "سونيتات لأورفيوس"



ترجمة بشير السباعي

(عن ترجمة س. ميتشل الإنجليزية)

رماد الأزمنة الجميلة

كنتُ أضحكُ
إذ أرى الممرضة ذاهلةً
من اللامبالاةِ المرتسمةِ على وجهي
في وجهِ الخطر
وكنتُ – ككل الأطفال – لا أخاف الموت
وكنتُ أستقبلُ الوحدةَ الجبريةَ
والأسرَ في الميناء
دون أن تفارقَ وجهيَ الابتسامة
وكنتُ أقول إن الخلدَ الأحمر
يحفر تحت السور
وكنتُ أرى على ظهر الكوكب
غاباتٍ من أعمدة النور
وفي التيهِ الأسودِ آلاف الخرائط
وعلى كل خريطةٍ ألفَ علامة
وكنتُ أُقبِّل – على أرصفة اللحظة العابرة –
فتياتٍ لا أعرفهن
حباً لكل ما أبْدَعَتْهُ الأزمنةُ الجميلة فيهن
من رقة الشعور ومن سحر الوسامة
وكنتُ أترك قهوتي
لأضُمَّ إلى صدري سوسنةً عابثة
لا تُمارسُ الحب إلاَّ على فراشِ الأرض
وكنتُ ... وكنتُ ...
لكن الأزمنة الجميلةَ استحالت رماداً
وغَشِيَني الخوف
إذ خلت الدروبُ من البشر – النوارس
وامتلأت بتبكيت الضمير
فأشفقتُ على نفسي من سوء المصير


30 / 4/ 1989

خيانات


إلى ذكرى الفيلسوف الامبراطور الروماني يوليانوس


الأشياءُ تتنكرُ
وكذلك الأسماء
ولكن
ليس دون التباساتٍ صوتية
تجهرُ بالخيانة
هكذا يموتُ الخرِّيتُ
ويولدُ الخِرْتِيُّ


*


إن كانت مرآة الأزمنةِ مشروخةً
فهي، مع ذلك، لا تكذب
ومن حقها أن تكشر لشحوبِ الكائنات


*


ليس لي أن أحدثها
عن ذرية المهزومين
الذين لم يروِ لهم الآباءُ شيئاً
من تواريخ عذاباتهم
فهي تدرك
كيف أصبح الصمت
هو الأبجدية


*


وأنتِ يا أفروديت!
أين كُنتِ
حين حطموا تماثيلك المرمرية؟
- كُنتُ مصلوبةً على مداخلِ روما
حين اعتزل البشرُ قلوبهم
واستناموا إلى فداء السماء


*


يا لهم من جبناء
منحتهم حبي
فتحتُ لهم فخذيَّ السخيتين
كي تشرب طيورُ اشتهاءاتهم
من ماء فردوسي الدنيوي
أنا الربةُ الهازئةُ بالخالدين
وحين اغتالوني
تنكَّبوا ليل الزمانِ شاحبين
غير جديرين بالرثاء


فبراير 1996

من ديوان "مبأ الأمل"

محاكمة شارل بودلير

إذا ذُكر اسم لوي بونابرت (نابليون الثالث)، المغامر الذي أقام الامبراطورية الثانية الفرنسية، تذكرنا زوجته، الامبراطورة أوجيني، التي كانت لا ترتاح إلى إصرار ميريميه على تعريفها بالأدب الفرنسي أو أي أدبٍ آخر، والتي كانت تُسئُ معاملة الكتاب والأدباء، وهو ماكان يؤدي، كثيراً، إلى إحراج الامبراطور الذي – رغم أن ميريميه قد يئس من تثقيفه – كان يعتبر نفسه مثقفاً، بل وأقدم ذات مرة على كتابة سيرة حياة يوليوس قيصر، معتمداً، بالطبع، على مساعدة العارفين المباشرة، وإن كانت الاستنتاجات التي توصل إليها بدائية وساذجة.

وإذا ذُكر اسم شارل بودلير، تذكرنا ديوانه الشهير، "أزهار الشر"، ونسينا، غالباً، أعماله الشعرية الأخرى وترجماته لأعمال إدجار بو وكتاباته عن ثيوفيل جوتييه وريتشارد فاجنر وتانهاوزر ورسائله، على الرغم مما لهذه الأعمال والترجمات والكتابات والرسائل من أهمية استثنائية.

لكننا، على أية حال، لا نكتبُ هذه السطور للحديث عن كل هذه الأمور، فهدفنا أكثر تواضعاً: إننا نريد الحديثَ عن فضيحة!

والحال أن تاريخ الامبراطورية الثانية تاريخٌ حافلٌ بالفضائح. وربما كانت أولى هذه الفضائح أن الدولة أخذت على عاتقها مهمة لعب دور كنيسة العهد الوسيط، فتولت الدفاع عن "مكارم الأخلاق" ومحاربة "الخروج على الاحتشام" و "الهرطقة" بعد أن أنجزت مهمة تعريف كل هذه الأمور من زاوية مصالحها الدنيوية، وحددت لـ "الرعية" واجباتها.

وبديهي أن الأدباء الفرنسيين كانوا جزءاً لا يتجزأ من "الرعية" (الرعاع). ويجمع الدارسون لتاريخ الامبراطورية الثانية على أن الأدباء الفرنسيين المتجمعين في باريس كانوا يشكلون "بروليتاريا أدبية حقيقية" وكانوا يُعاملون بالشكل الذي كانت الامبراطورية تعامل به كل المتضورين من الجوع: إنها لا تستطيع إبادتهم لكنها تستطيع التضييق عليهم، سعياً إلى درء الخطر الذي يمثلونه.

وهكذا وجدنا أن الصحف الفرنسية كانت تلفظ أنفاسها بعد توجيه الإنذار الثالث إليها وأن كل نسخة معروضة للبيع من أحد الكتب كان يتعين أولاً ختمها بختم رئيس قسم الشرطة وأن المؤلفات التي كانت لا تتماشى مع الروح الاتباعية السائدة كانت تمنع من التداول وأن لجنة الرقابة على الكتب كانت تحول دون صدور ما لا حصر له من الأعمال التي كانت ترى أنها "تجرح الأخلاق وتسيء إلى الدين ورجال الدين"، وأن كثيراً من الأعمال المصرح بنشرها من جانب اللجنة المذكورة كانت تتعرض للملاحقات الصحافية ثم القضائية بتهمة "الإساءة إلى الشعور العام". وهكذا اقتيد فلوبير وبودلير وبرودون وآخرون كثيرون إلى المحاكمة إثر تحريك دعاوي قضائية ضدهم من جانب حراس "مكارم الأخلاق".

كان ديوان "أزهار الشر" قد حصل على تصريحٍ بالنشر من جانب لجنة الرقابة وخُيِّلَ لبودلير، لوهلة، أن إدخاله أخلاق جزيرة ليسبوس اليونانية إلى الأدب، لن يسبب له مشاكل، لكن أوهامه سرعان ما تبددت، فما فعله كان شيئاً جديداً تماماً لا يمكن أن يرتاح له المراءون من دعاة الاحتشام!

أما السهم المسموم الأول الذي وُجِّه إليه فقد كان مقالاً نشره الصحافي جوستاف بوردان.

لم يُخلف يوردان غير كتابٍ وحيد، كان قد كتبه عن الراقصة الشهيرة بوماريه، التي كان قد أحبها في وقتٍ من الأوقات. لكن هذا الحب سرعان ما تحول إلى كراهية بعد أن نشأت بين بوماريه وبودلير علاقة غرامية.

وجاء صدور ديوان "أزهار الشر" ليشكل فرصة لبوردان للثأر من غريمه. وجرى التستر على هذا الدافع الخسيس بالحديث عن مساس بودلير بـ "مكارم الأخلاق" وخروجه على "الاحتشام" الواجب.

واتجه الآباء الكاثوليك المتشددون إلى تحريك دعوى قضائية ضد الشاعر الرجيم، بينما التزم الليبراليون الصمت تجنباً للأذى ووجد الشاعر نفسه وحيداً أمام هيئةٍ قضائية لا تقل كرهاً لـ "البروليتاريا الأدبية الباريسية" عن الامبراطور المدعي والامبراطورة المتكبرة.

وأعلنت الهيئة القضائية أن ديوان "أزهار الشر" ينتهك "مكارم الأخلاق" وأن الشاعر يستحق الحبس لمدة ثلاثة أشهر جزاءاً وفاقاً لما قدمت يداه!

وساعدت الحملة الصحافية على عزل الشاعر، إلى حين، فالرأي العام الفرنسي آنذاك كان مشبعاً بالرؤى المحافظة. لكن الأزمنة تتغير ولا يصح، في نهاية الأمر، إلاَّ الصحيح. وكان الشاعر واثقاً من ذلك.

لقد ذهب مضطهدوه إلى مزبلة التاريخ، أما "أزهار الشر" فقد كُتب لها الخلود. وفي عام 1917 وحده، وهو عيدٌ من أعياد الحرية البروليتارية، الأدبية وغير الأدبية، نُشر الديوان في باريس ست مرات، فمن يتعلم الدرس؟


استيهامات_9

3 مارس 2010

عندما يتحدثُ ت. ك. مارتن عن أحد أعمال تريفور جريفيث، يُشَدِّدُ على ما يتميزُ به هذا العمل من الإعلاء من شأن الشواغل العظيمة بقدرٍ عظيمٍ من الإنسانية.
وعن هذا العمل نفسه، "هذه هي الأزمنة"، يُشَدِّدُ تيري إيجلتون على ما يتميز به من عمق الرؤية السياسية والقوة الدرامية الآسرة...
أَمَّا في بلادنا البائسة، فلم يعد النقد البائس يحتفي إلاَّ بالبورنوجرافيا، وهي شيء مختلف، بالطبع، عن الكتابة الإيروتيكية...
وفي جميع الأحوال، يبدو أن كتابنا يحيون على كوكبٍ آخر أوأن رحلتهم إلى بلاد عجائب ما بعد الحداثة لم تنته بعدُ.

ويتمانيا

إلى تامران


إذا ساقتكَ الأقدارُ
إلى العالمِ الجديد
اخلع نعليكَ
وخفف الوطء
ليس خشوعاً لآلهة الدمار
بل لأنك حين تمشي على العشب
قد يكون والت ويتمان تحت قدميك.


فبراير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

"حين سميتُ ماركس خُلْداً أحمراً"


حين سميتُ ماركسَ خُلْداً أحمراً
كشفت الخراتيتُ عن مؤخراتها
إعلاناً لـ "نهاية التاريخ"!
لكن الزمن مفتوحٌ
ليس كجرحٍ أبديٍّ
بل كوردةٍ
تتأرجُ باشتهاءاتِ الخاسرين.


يناير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

ظل

أيتها اليمامةُ
المتشبثةُ بسهم اتجاه الريح
لماذا توبخينني كل صباح
عندما أفتح النافذة
لأستقبل هواءً نديّاً
وأختلسَ نظرةً بريئة
إلى ظل التلميذة
التي تأخذ حماماً ساخناً؟


يناير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

صُوَر

رأيتكِ أول مرةٍ
مرسومةً عاريةً
داخل كهفٍ سحيق
ولمحتُكِ مرةً ثانية
تخرجين من آخر ضوءِ شمعةٍ تموت
ثم وجدتُكِ أخيراً
نهاراً أبدياً
يسكنُ رأسيَ المزدحمةَ بالهلوسات


يناير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

أشواق

إلى هالة طلعت


هكذا تُحوِّلُ عينيكَ
عن أعين الأطفال
خوفاً من أن تشي ابتسامتك
بأحزانك
فتبدو كما لو كانت خيانة لابتساماتهم
عندئذٍ تشعر بالذنب
وحين يستولي عليكَ الشوقُ
إلى عدالة المحبة
تباغتهم بحنانٍ شفيف
معتذراً عن ندوبٍ...
بريئين منها


*


كيف لهم أن يلجوا
سراديب الروح
حيث الأطفال الميتون
يجيئون إليك في الحلم
يحدثونك عن آلام رحيلهم
شاكين من عجزك عن فعل شئ
لإخراج الديدان من محاجر عيونهم
لكنك لست إلهاً...
ابك إن شئت
ولكن بعيداً عن أعين الأطفال
الذين يبتسمون لك


*


وعندما تخلو إلى نفسك
خذ نفساً عميقاً
كأنك تحشو بندقية
لتطلق رصاصها
على شقاء العالم


فبراير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

رسالة من لطف الله سليمان

بتاريخ 7 يونيو 1974 إلى إقبال العلايلي (بولا حنين)، أرملة جورج حنين:



[ مرة ثانية، بعد فارق عشرين سنة، تحرجينني، إذ تطلبين إليَّ المشاركة في "لابار دو سابل" والتي يجري بعثها، هذه المرة، من أجل توجيه تحية إلى ذكرى جورج حنين.


من المؤكد أنكِ لا تجهلين أنه على مدار فترة بأكملها من حياتنا، كنا، جورج وأنا، متواطئين في المشروع، الجنوني، المتمثل في الرغبة في انتهاك الواقع بإدخال الحلم إليه. ومثل هذه التواطؤات لا تُنسى.


والشيء الذي لا يبدو أنكِ تريدين التصالح معه هو أنه بعد سنوات التواطؤ، كانت هناك سنوات القطيعة، العديدة هي الأخرى. فأرجو ألا تهينينني – وألا تهيني جورج – بادعاء أن هذه القطيعة لم تكن غير نتيجة سوء تفاهم، تراكم إساءات فهم، أو حتى نتيجة للتآكل الطبيعي الذي يلتهم، دون رحمة، كل ما يتواصل وكل ما يتمدد في الزمن. إنكِ تعرفين، ربما أكثر من أي أحدٍ آخر، أننا، جورج وأنا، كنا نملك من الصرامة ما يكفي لألاّ نجيز لأنفسنا السقوط في شرك "الحوادث" التي لا تتميز بأهمية كبيرة، والتي تشكل نسيج العيش والضجر اليوميين.


إن "التحية" الأكبر والوحيدة التي يمكن توجيهها إلى ذكرى جورج حنين هي القول بأننا كان "محكوماً علينا" بالقطيعة. وبما أننا كنا قد أسسنا علاقتنا على التواطؤ في "الجرم المطلق"، فلم يكن بوسعنا إعادتها إلى مستوى المحبة ولا قبول إنزالها إلى مستوى العِشرة أو، وهو الأسوأ، مستوى الاجتماعيات.


فهل كفَّ أحدنا يوماً ما، عن الرغبة في "انتهاك الحياة"؟ أم أننا، ببساطة تامة، قد حسبنا المسافة التي تفصل الشاعر عن رجل الفعل، من يريد إدخال الحلم "عن طريق الكلمة" ومن لا يرى وسائل أخرى لإدخاله إلاَّ "عن طريق الحياة" نفسها؟


لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال. وفي جميع الأحوال، فلست أنا الذي يجب عليَّ الاجابة عنه].


ترجمة بشير السباعي