جورج حنين_20


[ الفن بوصفهِ أسلوب حياة ]



الفن في نظرنا لا يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير، يمثل شيئاً آخر تماماً. فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة، جميع الأشكال المؤقتة أوالأبدية للشعور، جميع الحالات والإدراكات، يمثل أسلوب حياة، موقفاً هو في آنٍ واحد حيوي وشعوري وواع. فالشيء المهم بالدرجة الأولى عند الإنسان هو نوع من الأناقة الأخلاقية المعنوية يصبح الفن بالنسبة له انطلاقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته. والحال أن هذه الأناقة الأخلاقية المعنوية التي يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد والإذلال، هي التي تجد نفسها في اللحظة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نظم الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر الأوضاع بؤساً. وهذا البؤس الروحي الذي لا سابق له لا يتماشى إلاَّ بشكل بالغ مع البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع. فما الذي يجري الآن هو تجريد الذكاء من جميع حقوقه؛ وحرمان الإنسان من امتلاك زمام مصيره. وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا لا يمارسون ضراوتهم ضد أسلوبٍ في الرسم بل ضد أسلوبٍ في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها. لم يعد من حق أحد أن يحلم بصوتٍ مرتفع لأن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني بشكلٍ عام ) إرادة التحرر من واقعٍ يتزايدُ غربة، إرادة تغيير الوطن إلى الأبد. وفي مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم، يجري النهي عن استيراد الحلم لاعتباراتٍ كبرى تتصل بالانضباط الاجتماعي. ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي، فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث محكومٌ عليه بالموت... ونحن نعتقد أن هناك مجالاً للرد على هذا التدجين القذر للفن. نحن نعتقد أن هناك مجالاً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد الكُتاب والفنانين حول رجال وأعمال تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية. وهذه الأعمال وهؤلاء الرجال موجودون. وهم موجودون بشكلٍ واسع بحيث إنه في بلدانٍ عديدة ليس لإداراتٍ بأكملها من وظيفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم، بالتناوب، الصمت والافتراء والإرهاب. إنهم ليسوا موجودين وحسب، بل إنهم يظلون في عالمٍ مسكونٍ بالأشباح الدموية، الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة.


وإنها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية، أي بشيءٍ يوجد إجماعٌ على اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً. وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك لأنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون مصدر خطر على مجتمع محدد. لأنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النظم الاجتماعية أقل استعداداً للتسامح معه.



1939
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي


[ الصورة المقفلة والصورة المفتوحة ]



حتى يتسنى لنا، كما يشدد على ذلك رامبو، أن نكون في المقدمة، حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آنٍ واحد ما له صورة وما ليست له صورة، يجب بشكلٍ واضحٍ وفي المقام الأول أن نتخلى عن كل ما يتعارض، في الأطر القديمة للشعر وللتعبير الشعري، بل ولأسلوب عمل الذهن، مع هذا السير نحو المجهول، مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة. وإذا كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها، أفلا يرجع ذلك ببساطة إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها، بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء، قد فرضت تداعيات جديدة لصور توسَّع إحداها الأخرى على مدى البصر، لصور مفتوحة، لصورٍ نوافذ؟
هنا، من حقكم أن تتساءلوا: ما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و"الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من الأمثلة السريعة أن يسهم في إيقافنا على هذا الأمر.
كنموذج للصور المقفلة، أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من لامارتين:


المساءُ يعيد الصمت
جالساً على هذه الصخور المهجورة،
أجد نفسي في موجة الفضاء
مركبة الليل التي تتقدم


فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة: "مركبة الليل التي تتقدم"؟ لا شيء سوى ما هو مُجازٌ ومعترفٌ به بالفعل. زحف الظلمات الرهيب على الأرض، حيث المركبة، في الشفرة الشعرية، هي الأداة التي ترتبط بشكلٍ عاديٍّ تماماً مع فكرة المهابة. لكن ذلك لا ينشئ أية علاقة جديدة بيننا وبين الليل. والحق أننا لسنا بإزاء صورة بقدر ما أننا بإزاء تذكير. وهو تذكير ملون بإشارة جد عمومية لا يتوجب بعدُ أن يوجد مجال للعودة إليها. وهذه الصورة تنتقل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريره منذ زمن بعيد. وهو مقرر إلى حد بعيد بحيث إننا لا نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه، مع الشاعر، حيث لا يمكننا أن ننتظر – لا نحن ولا الليل – شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبرراتٍ عتيقة للنظر، لا شك أن مراعاتها لا طائل من ورائها.


وفي هذه الحالة المحددة، تتقدم مركبة الليل ما شاءت أن تتقدم، بلا طائل، أمَّا الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء، يتراجع بشكلٍ لا علاج له.


لننظر الآن في فلاح باريس، حيث تنتشر في باقاتٍ من الكريستال العبقرية الشعرية لأراجون الذي نحبه، والذي لم تكن قد أفسدته بعدُ تقلبات حياته وزوجته وحزبه. فما الذي نقرأه هناك؟ "على مدار عامٍ كامل، شددتُ بنواجذي على شعور من السرخس. عرفت شعوراً من الراتنج وشعوراً من الزبرجد، وشعوراً من الهستريا. شقراء كالهستريا، شقراء كالسماء، شقراء كالتعب، شقراء كالقبلة... كم هو أشقر صخب المطر، كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة، من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط، من اللدغة إلى الأغنية، ما أكثر الشقرات، ما أكثر الجنون... ."

هاكم إذاً، أليس الأمر كذلك؟ ، موجة من الصور المفتوحة، المفتوحة على ما لا نهاية له من العلاقات الجديدة – بين الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة، في الطبيعة، في الحب. إن كل صورة من هذه الصور إنما تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها. وخبرة المرء الشخصية، بقدر ما لا يكون المرء جثةً بالفعل، سرعان ما تتخذ مظهراً جديداً من جراء ذلك. ثم إنها بدورها، تحوز فرصاً لإنماء، أي لإثراء الرؤية الأولى التي تدين لها بزخمها. والحال أن أراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا، في صفحةٍ أخرى من فلاح باريس هذا نفسه، عن فضيلة الصورة المفتوحة التي، إذ تصل إلى أقصى انفتاحٍ لها، تصبح الصورة السريالية: "إن الرذيلة المسماة بالسريالية هي عبارة عن الاستخدام الخارج عن الأعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة، أو بالأحرى للاستفزاز المنفلت للصورة لأجله في حد ذاته ولأجل ما يستتبعه في مجال تمثيل الانقلابات التي يصعب التنبؤ بها والتحولات الغريبة: لأن كل صورة، في كل لحظة، إنما ترغمكم على مواجهة الكون برمته."


1945
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_19


مقتطف من مقال حول انتحار رونيه كريفيل


تحاشي التناقضات، مواجهة التناقضات دون التغلب عليها، التغلب على التناقضات دون إزالتها، تلك هي المواقف الثلاثة الكبرى التي يصطف حيالها جميع مثقفي عصرنا متمايزين فيما بينهم: أخذ أجازة من العالم، إدراك العالم، امتلاك العالم. وأية مرحلة لا تستبعد المرحلتين الأخريين، فالانتقال مسموح به، وضروري، ولكن في اتجاه واحد فقط. ذهاب دون إياب ... ما أكثر الكتاب الذين يؤثرون الرحيل على إفساد الروح وعلى تعفين الروح للروح. لقد كان كريفيل واحداً من هؤلاء الكتاب.


1935
ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

جورج حنين_18

لامبررات الوجود

عدم التدخل

المستشاريات تفيض بجثث رائعة
تنبجس من أعظم تمزقات إسبانيا
كم يتشابه كل هؤلاء الموتى الجدد
كم حوى موتهم كل ماهو جدير بالحياة

لم يتوافر قط
مثل هذاالقدر من اللحم
للخطب والملفات والتقارير
دمعة من هنا وأخرى من هناك
لم يحدث قط أن سقط مثل هذا القدر من الضحايا
والضمير معدوم إلى هذا الحد

انظروا المدن فقدت شرايينها شرياناً بعد شريان
والقرى فتكت بها قُرَحٌ شرهة
والطرق ما عادت تُسلم
إلاَّ لسواد رعب مماثل
حيث لا يستطيع أحد أن يميز سماء من أرض
لأنه لم يبق في المكان غير بعد واحد
هو بعد القتل

انظروا الضربات القاصمة
تستقر في جوف الشعب

والملاك الجدد للشاطئ الأزرق
يخلقون في اللحم – الهبة العظيمة للأحياء –
مساحات من العذاب كل يوم

الديبلوماسيون لحسن الحظ هناك
جدلهم ما عاد يزدهر إلاَّ فوق الحطام
فوق حداد مدريد وبرشلونة
العاصمتين المشدوفتين
أيتها الأحياء التي خرجت من ليل الحديد ناراً
فلتواصل صفاراتك الحادة صراخها
حتى تصاب بالصمم آذان الزمن
أيها الحطام الذي لا يغتفر
يتحدثون عنك في وزارات الخارجية
عن نقالات الجرحى والتوابيت والمقابر
أيها الناس أيتها الحجارة عزاء
يا خرائب إسبانيا لن تكوني الأخيرة
هكذا تقرر أن يكون المصير

ثم لا تيأسوا من الآخرة
فها هي ذي تتقدم نحوكم
خيانات غيبية مبجلة
ساحة لمن استولوا على باداخوث
ساحة لمن ابتدعوا عذاب الجلجثة
إنهم سوف يقدمونكم قرباناً لخلودهم

سيرتبون لكم طقوس رحيلكم
على هيئة طوربيدات
حتى تكون في النار راحتكم الأبدية!




ترجمة
أنور كامل وبشير السباعي



معنى الحياة

"لا معنى لوجه يشبه جميع الوجوه"
ج. جويس "عوليس"


في اللحظة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئاً ما – أن يقترب من الإجابات الشفافة العظيمة – أن يتمكن من إبطال الأصوات المتعادلة في نفسه – أن ينتصر على قانون ثقل الروح – أن يمعن في الاغتراب – أن يكبر من جميع الوجوه – أن يراوغ القدر – في اللحظة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله قريب الحدوث – يصطدم المرء بعتامة حائط – هذا الغريب نحييه مع ذلك – تتهيأ للشرح نحو أية ثروات مجردة تدفعك سرعة داخلية غامضة – دون جدوى – كل كلام عند خروجه من فمك تقطع رقبته مقصلة حائط جديد – يأتي من بعيد جداً – يسقط من عال جداً – بيننا وبين الاكتشافات الشاغرة التي لن يعرف أحد عنها شيئاً – امبراطورية الحوائط لا تنتهي – الويل لمن يساومها على وجبة الطوب والجبس المستحقة لها – إنها بعد نعاس طويل تنشر في وضح النهار أشباحاً لا تطاق – تنفث الاضطرابات في اضطراب الجماعات – من قال حائط فقد قال سُمك – وفي نهاية الحساب يدرك المرء أن كل شيئ يجري وفقاً لسُمك معين – في البداية يكون المرء واحداً – بلا سُمك تماماً – مهملاً تماماً – خَرْيَِة ضئيلة وحيدة – ثم يصبح خَرْيَتَيْن – أمام القانون أو من ورائه – وهكذا فوراً يصير أكبر سُمكاً – الناس الآن تريد أن تنظر إليك باهتمام واحترام – إنهم يراقبونك لكي يروا ما إذا كنت لن تنمو أكثر – ما إذا كنت لن تكون أشد إزحاماً – فما تقضي به قوانين الطبيعة – ووصايا الأخلاق – هو أن تملأ مكانك تحت الشمس – أن تسهم في السُمك الجمعي – الأسرة تمثل سُمكاً مهماً بما فيه الكفاية – يستحق التشجيع – من الصعب تخطيه – واثقاً من حقه في الوضع النظامي – تبقى بعد ذلك طوابق أعلى للتخطي – على القمة تتربع الدولة – الدولة تكتب التاريخ – مسألة خطوط بسيطة – ومن حين إلى حين تعبئ الدولة مجموع خدمها – لكي تتحقق من درجة سُمك الأمة – لكي تُذِلَّ السُمك المنافس للأمم المجاورة – وعندما يُستهلك كثير من السُمك – يبدأون من جديد في بناء الحوائط – وفي الحياة كحوائط – بالضجر نفسه – بالجمود نفسه – مع وجود الحوائط المعادية – مع مصير سميك عقيم مليء بالحوائط.


ترجمة أنور كامل وبشير السباعي

قصة غارة


الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء. أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعلانات صغيرة. لا شيء غير سيدات بين أعمار لا بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة. بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج. أستوقف حاجباً ينبئني. هناك يجلس الراعي الذي يعقد زيجات المصلحة. يشتغل على فحم الكوك. يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً. راعياً جديداً لن يعقد قراناً بعد الآن إلاَّ على المازوت.


بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات، أو بالنوارس أو بالثلوج. موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن يخرج منه.


أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة. يقول لي هذا الحيوان: "ما تظنه نساء ليس في الواقع غير خطوط زوال طولية والإنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق. الحريق يزور في هذه اللحظة كل المنطقة على متن مُطفئه الخاص. السكان الأصليون يحسبون أن شرفاً عظيماً أسدي إليهم لأن الحريق يسافر في الغالب متنكراً".


الحيوان الأليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد: "لاحظ أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير. كل قرن تحدث بينهما منازعات لا تنتهي. الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم. تلك فضيحة يا سيدي، فضيحة خالصة، ومن المستحيل، مع ذلك، فهم دوافع هذه المنازعات. إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية للأحداث... إنك في نهاية الأمر لست سوى أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً لا يتبدل: "أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط... أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط" وهكذا دواليك. إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك لأنه يحرق كل التظلمات التي تقدمها له الشفاه. أنا أعتقد أنه قد آن الأوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها، مثلاً، لمغازلة أدوات الجراحة التي يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها".


قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صلاتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق الأفق. الإشارات تمكث طويلاً بعد مولدها بلا حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور ولا تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر صفوف من الكوى المتآلفة تضيء بنورٍ ثابتٍ محطةً محفورةً في قلب الماس.


الأخطبوط يشرح لي، وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط: " هذه المحطة لا تفيد في شيء على الإطلاق. لا في القيام ولا في الوصول. ولا في أي شيء. بل إنها لا تؤكل. لهذا يحترمها الجميع " .


القضبان سواعد عذارى، من اللحم المشغول، تُهَدْهَدُ على رصة السكة، شبيهة بأطفال متعَبين مسهدين لا يجرؤ أي قطار على سحقهم.


ناظر المحطة قط سيامي يحمله على الأكتاف مقعد من الزمرد. ناظر المحطة لا يتعجل. إنه لا يبالي. ربما لأنه على موعد مع المستقبل. العلم في بلُّورة عينيه.


ترجمة أنور كامل وبشير السباعي

انتحارٌ مؤقت

إلى "المنتحر" أنجيلو دي ريز

في أعماق الأدراج الزرقاء
التي رحلت مفاتيحها صوب الأقفال المتوحشة
وتاهت خطاباتها في سوق الاعترافات
في أعماق الأدراج الملونة بلون التلميذة
بين سيجارة ذابلة وصفعتين
يرجع تاريخهما إلى الفضيحة الأخيرة
يحدث أحياناً أن تلتقط
شفاه مرة
تتلو كلمات قريبة
تهبط كالحصى
منحدر الصوت

شفاه نادرة مختصرة
تنفتح لتدع جاسوساً يمر
متخفياً في فرقة عازفة
لا أعرف بعد أية سمفونية
تتشبث بطوق من اللهيب
والآن تقف النافذة
بلا عمر ولا نور
شقيقة الشفاه المهيبة
منها تدخل الأعصاب الهائجة
متلبسة بأيدٍ بشرية
تقطع رؤوس النساء
بعد الحب

على مائدة ما
شيء يبتسم خلال كل نعاس العالم
إنه وجه
لا يُلمح أبداً
لا يُنسى أبداً
وجه يؤرجحه
ثلجُ الذكرى الذي لا ينتهي


ترجمة مجلة "التطور" (فبراير 1940)



آفاق


إلى أندريه بروتون


لم لا نصادف على قنطرة تنتصب فجأة بين كارثتين امرأة ذات عينين خفاقتين تخبرانك باسمها فيبدو أجمل من شفا هاوية مكسوة بغلالات سوداء؟
لم لا نجسم على مسرح الأفق المقفر دائماً غروبات مهيبة لشعور متعددة الألوان؟
لم لا لا نُجَسِّمُ غروباتٍ مهيبة لشعورٍ ذات فروجٍ راديوميةٍ تتحد بالمناظر الطبيعية وتشعلها عند كل عناق وتبقى وحدها في ألقٍ مُدَوِّخ؟
لم لا ننقذ بضربة واحدة حشد المرايا المرشوقة على فراش الأرض؟
لم لا نجعل الحياة أهلاً للسكنى؟
لم لا نهرب من المقاعد المألوفة والمصائر المعيشة بما يكفي؟
لم لا نُبعد الجفون عن الطرق الملعونة ونختفي في الليل الأكثر غموضاً حاملين بأقصى سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها حلمٌ يحتدمُ دون خطرٍ من يقظة؟



ترجمة بشير السباعي وأنور كامل



في مستوى الغياب


أكداس من منتصفات الليالي ذابلة في عينيك
وبرك من خمر مُرَوَّعة
يردها أشقياء منكسرون
ينكشفون متلبسين باقتراف البراءة
والذاكرة نفسها بين كابوسين

في منتصفات لياليك أرغنات حامية
تطيل دموعها الشمعية
الأصابع المحمومة لأغنية
تخنق الاستصراخات المبحوحة للحيوانات الضالة
واحدة فواحدة

على جبين حياتك
كل الغضون المهينة للشباب
والتوقيع الذي تطبعه شفتاك
أسفل صفحة من الخمر
يحوي كل ضروب الحكايات الحقيقية
الجالسة على فراش طريق يكاد يكون مقفراً
لا تزال تطوف به جلجلات ضحك صاخبة
وغربانٌ ضخمةٌ تَبَرَّأَتْ منها سماؤها

في صوتك أكداس وداع
وحين تنكسين رأسك
لكي تسعلي ما شئت
يبدو كما لو كنت تحفظين الموت عن ظهر قلب

وحين ترحلين للِّحاق بصمتك الأثير
يخلو المكان كله مما ليس أنت
ويتركنا وحدنا مع غيابك الخصب أبداً
الخصب كإعلان انتحار
أو كالوجه الآخر لمحيط.


ترجمة بشير السباعي وأنور كامل




بورتريه كامل التلمساني


ها أنت ذا أيها السحاب الأسود على استعداد أبداً لأن تنصهر على المواكب الأخلاقية المتجهة صوب الحساب الأخير أو ما لا أدري أي خبز عبثي يومي...

أسمع كلامك المنقض على صلابة المدن مع تأوه شجرة تستمتع باستئصال نفسها بنفسها.

أنت ذاتك الشهاب المجعد ينتزع كل أصحاب عائد المغامرة من بطء هضمهم ويقلب بحركة طائشة المناظر الطبيعية التي يتمدد فيها البشر الراضون بالوجود.

تعرف كإنسان كيف تهتك أسرار العاهرات غير المباحة وكيف تعيد إلى وجه النهار عيونهن الفاحشة المدفونة منذ زمن بعيد.

تعرف كيف تجعل من هذه الغنائم المنتزعة من باطن اليأس بصائر طريق عظيم مسددة ضد أرواح الجنتلمانات.

تحب الفُرُشَ الذابلة مرة وإلى الأبد – أسرة نقض الحب والشرفات الليلية التي تنطلق منها تجديفاتك النقية لتطارد السماء.

مأثرتك السامية ستكون تلك الغارة الكبرى بين أحضانها يتآخى قطاع الطرق والعسكر في العالم كله متحدين أخيراً ضد العالم كله.

أيها السحاب الأسود الجميل أرى فيك لقاءً غير مأمول بين نهاية العالم والأحداث التافهة.
فلا تنطفئن أيها السحاب الأكثر صفاء من حريق!



ترجمة بشير السباعي وأنور كامل



سان لوي بلوز


الشمس تتأهب للسقوط مثل حجر جسيم بالغ النضوج. الحجر الذي أضناه سفر طويل يسأل النهر أن يستضيفه فيجيب : " أدخل – أنت هنا بدارك " .

يتوقف الفلاحون لمشاهدة المنظر. أحدهم يتمتم: أود لو اجتزت هذا الشيء لأن من المؤكد أن على الجانب الآخر امرأة من المدينة سوف أحبها.
ويضيف الفلاح الذي لم ير حلياً قط:
امرأة من المدينة سوف أحبها بسبب الحلي التي تلبسها.

يحدق الآخرون في وجبة النهر اليومية. ينفتح النهر نهرين كما لو كان ليسمح بمرور غرق كبير.
أما الطرق فتستنشق النسيم الوفير لصديقها الليل.
فلاح جديد يحاول عد النجوم.
عبثاً يحاول لأنه لا يعرف العد فوق العشرة
يظن أنه عندما يكبر بما يكفي سوف يتوصل إلى جرد السماء.
لكنه يخشى أن تنقص النجوم في تلك الأثناء. أن ترحل واحدة فواحدة.
أن تتركه وحيداً مع الليل الحقيقي.

صوت امرأة المدينة يتسرب الآن من الأفق كله. يطوق السهل كله.
إنهم جميعاً يسمعونه، ومعهم، قرون وقرون من الترقب الصامت.
إنها تقول إن بها رغبة جامحة في لقاء جديد مع نهرها.
إنها تنوي أن تحكي له كماً من الأسرار الخرافية التي لا يعرفها لا الراعي ولا الصيدلي.
إنها تود أن تشرح له حكاية السوارات التي تحرق ساعديها.
والسهاد المحتدم الذي يفرغ عينيها ولن يبرحها إلاَّ بالرغبة في قتل بعض العشاق العاجزين عن الإحاطة بشيء غير جسدها.
والحنين المر إلى شموس طفولتها. والحاجة إلى الرحيل زمناً أطول، ومسافة أبعد – وشراب الجن في الروح – صوب العواصم المتوحشة للوحدة.

يمد الفلاحون أكفهم صوب هذا الكلام.
كل منهم يحلم بالاستيلاء على كلمة سوف يكتم سرها مرغماً مدَّة طويلة.
لكن الكلام يهرب كالخفافيش.
إنه يعود إلى المدينة حيث تغني هذه المرأة أغنية رحيل بلا نهاية.



ترجمة بشير السباعي وأنور كامل

جورج حنين_17


هيبة الرعب

أن ينتهي والأغلال في قدميه، ذلك كان غاية حياة. لكن هذا قفص ذو قضبان. دون مبالاة، بشكل متسلط، دون حياء، تسللت ضجة الناس وعاودت التسلل عبر الشبيكة؛ في الحقيقة، كان المُحتجَزُ حُراًّ؛ كان بوسعه المشاركة في كل شيء، لم يغب عنه شيء في الخارج؛ بل كان بوسعه الهرب من القفص؛ كانت القضبان متباعدة على اتساع متر؛ بل إنه لم يكن مقبوضاً عليه.
فرانتس كافكا

الثامن من أغسطس 1945

ليس هذا بحثاً. فالبحث لا يكتب عن سبق عمد وإصرار وبكافة الاحتياطات الأدبية المتعارف عليها وحسب، بل هو يستلزم بالإضافة إلى ذلك حشداً للمراجع وللمعطيات، ذات الطابع الإحصائي إلى هذا الحد أو ذاك، وهو ما لا يسعني أن أضحي في سبيله بجيشان السخط والغضب الذي أملى عليَّ هذا النص. ناهيك عن أن جمهور الأبحاث القديم، وقد خان كل تفكير مليّ، إنما يجد لذته اليوم في قراءة العديد من "المختصرات" الرائجة وفي أخبار الدسائس المثيرة للمشاعر المبتذلة، سواء كانت دسائس ديبلوماسية أم بوليسية، والتي تقدمها له كل صباح، مع وجبة الإفطار، صحافة مرتبطة بجميع الحقارات.

ليس هذا بحثاً. وهو لا يقنع بأن يكون أقل من احتجاج. إنه شيءٌ طموح. شيءٌ يهدف إلى استفزاز الناس الغارقين في الأكذوبة، إلى إضفاء معنى وغاية وأهمية متواصلة على تقزز عابر، على شعور وقتي بالغثيان. فالقيم التي تحكم مفهومنا للحياة والتي تحفظ لنا، هنا وهناك، جزراً من الأمل وفسحات من الكرامة، يجري تخريبها بشكل منهجي عن طريق أحداث يدعوننا، علاوة على ذلك، إلى أن نرى فيها انتصارنا، وإلى أن نرحب فيها بالتدمير الأبدي الذي يمارسه تنين لا يكف البتة عن النهوض من موته. إلاَّ أنه بقدر ما يتكرر المشهد، ألا يذهلنكم التحول الذي يحدث في السمات المميزة للبطل؟

غير أن من اليسير عليكم أن تلاحظوا أن مارجرجس، عند كل جولة صراع جديدة، يتحول دون توقف أكثر فأكثر إلى اكتساب خصائص التنين. وسرعان ما يكف مار جرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين. وسرعان أيضاً ما يحاول التنين المقَنَّعُ إقناعنا، بضربة حربة، بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!

إن الثامن من أغسطس سوف يظل في نظر البعض تاريخاً لا يغتفر. أحد مواعيد العار الكبرى التي ضربها التاريخ. إن الصحف تتحدث بتلذذ عن آثار القنبلة الذرية، أداة السجال في المستقبل بين شعب وشعب. وتعلن نشرات الأخبار الإذاعية المسائية دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضد أشلاء وخرائب اليابان. هذان حدثان، يتفاوت ثقلهما دون ريب، لكنهما يشتركان في الفظاعة ذاتها.

قبل عشر سنوات، وقف الرأي العام العالمي وقد انتابه الهلع كي يعبر عن احتجاجه على استخدام غاز الخردل من جانب الطيارين الفاشيين الذين أُطلِقوا على أثيوبيا. وكان قصف قرية جرنيكا، التي سوتها الأسراب الألمانية بالتراب في إسبانيا، كافياً لأن يُعبِّئ - في عالم كان لا يزال فخوراً بحريته – ملايين الضمائر الحية. وعندما مزقت القنابل الفاشية لندن، بدورها، كان واضحاً على أي جانب من الحريق تقع القيم التي يتوجب الدفاع عنها. ثم رووا لنا كيف اكتوت هامبورج بالنار نفسها التي اكتوت بها لندن، وشرحوا لنا مآثر تقنية جديدة للقصف تدعى بـ "القصف الإشباعي" والتي وُعِدَت بفضله مناطق حضرية ضخمة بأن تسوى تسوية مؤكدة بالتراب. وليس في هذه الأساليب المتقنة، هذه التحديثات الفائقة في مجال القتل، ما يمكنه الإعلاء من شأن قضية الحرية، انعتاق الإنسان. ولقد كنا أكثر ميلاً من غيرنا، هنا، وفي بريطانيا العظمى، وفي أمريكا، إلى اعتبارها بشعة بشاعة مختلف أشكال الويل التي ابتدعها النازيون. ففي يوم من الأيام، يكون "التنظيف" عن طريق غارة من غارات الرعب من نصيب مدينة بأكملها. وفي اليوم التالي، يكون شلل الموت من نصيب محطة سكك حديدية يتكدس فيها آلاف اللاجئين، وذلك بفضل جهاز تصويب علمي متفوق. وهذه الألعاب اللا إنسانية تبدو فجأة مثيرة للسخرية، مع دخول القنبلة الذرية ميدان الخدمة ومع قيام القاذفات الديموقراطية بإذاقة الشعب الياباني فضائلها جرعة واحدة! إذ ما الأهمية التي يتميز بها في الواقع اغتيال عدة عشرات من الآلاف، أو عدة مئات من الآلاف من المدنيين اليابانيين، عن سبق عمد وإصرار. إن الجميع يعرفون أن اليابانيين صُفر وبمزيد من الوقاحة، صفر أشرار – حيث يُعتبر الصينيون صُفراً "أخياراً". ألم تعلن شخصية ليست من "مجرمي الحرب"، بل هو الأميرال ويليام هالساي: "إننا بسبيلنا إلى حرق وتمشيط هذه القردة اليابانية البهيمية عبر كل منطقة المحيط الهادئ، وإننا لنشعر بفرحة لدى حرقهم تفوق تماماً لذة إغراقهم". إن هذه الكلمات الحماسية والتأكيدية فيما يتعلق بالفكرة التي يود القادة العسكريون تكوينها عن الكرامة الإنسانية، هذه الكلمات قد قيلت أمام أحد معدي أحداث الساعة...

إن مارجرجس يتطاول تطاولاً زائداً عن الحد. وهو يبدأ في الظهور أمامنا بمظهر أدعى للتقزز من مظهر التنين.

*

وعند المرحلة التي ساقتنا إليها التطورات السياسية والحربية الأخيرة، فمما لا غنى عنه التأكيد على أن مشروعية أية قضية يجب أن تتحدد بشكل أساسي، وبالدرجة الأولى، من زاوية الوسائل التي تستخدمها. مما لا غنى عنه، حرصاً على القضايا التي لا تزال تغامر بالتذرع بخير الإنسان، تحديد جدول بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة. إن اللجوء إلى النميمة في مواجهة ضرورة عابرة، إنما يترجم نفسه، في وقت قصير، إلى إدارة للنميمة. وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين، طبع نميمي، - ولدى الفريق الآخر، وسواس نميمي. ولو أردتم تحويل المناقشة صوب الغايات النهائية التي يزعم كل واحد أنه يسعى إليها فإن المرء سوف يستيقظ، وسوف يفتش البسطة ومظهر السُّلَّم. وسوف يغلق الباب بعد ذلك مرتين ولن يعبر عن نفسه إلاَّ بعبارات محسوبة ووفقاً لحالة روحية أصبحت أكاديمية بصورة مفاجئة. إن الوسيلة تنتقل إلى حالة المؤسسة. إنها تشطر حياة أمة، وحياة كل إنسان إلى شطرين. والشيء نفسه يحدث فيما يتعلق بالوسائل الأخرى المخصصة للعدو بهدف التغلب عليه وتدميره إلى أقصى حد ولكن التي يتبين - عند الانتصار – أنها قد رُفعت إلى مصاف تشوهات قومية، عاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية ضد تمردات العقل المحتملة. وهكذا فإن عبادة صوابية الزعيم، والتعزز الجنوني للمراتبيات الزائفة، والتسلط على جميع مصادر المعلومات وجميع وسائل النشر والتنظيم المسعور لأكاذيب الدولة طوال ساعات النهار والليل، والإرهاب البوليسي المنفلت ضد المواطنين المحتفظين بيقظة وعيهم النسبية – كل ذلك يصبح أشكالاً معترفاً بها اعترافاً هاماً للتقدم السياسي والاجتماعي!. وإنه لعلى وجه التحديد ضد إجماع قوي كهذا على استمرارية الضلالات يجب أن نكرر على أنفسنا، بلا هوادة، الحقيقة الواضحة التالية:

إن البروليتاريا لا يمكنها أن تحلم بالصعود باللجوء إلى الوسائل التي ينحدر أعداؤها باللجوء إليها. إن نوعاً من الاشتراكية يدين بقيامه لمعجزات الدس، والنميمة، والابتزاز السياسي والاحتيال الايديولوجي، سوف ينخر السوس في أساسه بسبب وسائل انتصاره ذاتها، وسوف يكون الإنسان والشعوب مفرطة في حسن النية لو انتظرت منه شيئاً غير تغيير للدياجير.

في الثامن من أغسطس 1945، بينما كان لا يزال ينزف الجرح المفتوح في هيروشيما، المدينة – الشهيدة التي وقع عليها الاختيار لتفجير القنبلة الذرية الأولى، وجهت روسيا ستالين إلى اليابان طعنة الخنجر الشهيرة في الظهر والتي تعود براءة اختراعها إلى موسوليني. ولا بد أن هذا الأخير قد عذبه التقلب في قبره وهو يرى في رقاده مصير حقوق المؤلف. ذلك أنهم لم يكتفوا بانتحال مفاخره المأثورة، بل أرادوا إضافة مساهمتهم التاريخية الخاصة. إن نص إعلان الحرب السوفييتي يحيطنا علماً في الواقع بأن هذا الدخول في الحرب من جانب الاتحاد السوفييتي لا يهدف إلاَّ إلى "إنهاء الحرب في أقرب وقت" و"المحافظة على الأرواح البشرية"! دعوا جانباً الوسائل الحقيرة، - هاكم إذاً غاية في حد ذاتها، غاية لا يمكن لأحد أن يجادل في أن من الصعب أن نجد لنبلها مثيلاً. وعلى مدى قرون قادمة، سوف يجد الشعراء الغنائيون الستالينيون في منغوليا الخارجية متسعاً للإسهاب في الحديث عن الطابع السلمي والإنساني لقرار المعلم.

إن الثامن من أغسطس 1945 هو أحد أحط التواريخ في المسيرة الإنسانية.

عن الحروب العادلة وخطر كسبها

قبل أن يُدفع العالم إلى النضال ضد الفاشية بعدة سنوات، استعر أوار مناقشات حادة في صفوف الحركات اليسارية بين أتباع المسالمة المبدئية والمناضلين الداعين إلى نضال حتى الموت ضد الطغيان. وكان من بين الموضوعات التي تعاود الظهور دائماً في هذا التبادل الطويل للأفكار والحجج، موضوع "الحروب العادلة". وقد اجتهد المسالمون المبدئيون، بمهارة لم تكن شريفة دائماً، في إثبات أنه لا توجد حروب عادلة. وقد ذهبوا إلى الادعاء بأن مكافحة الطغيان عن طريق الحرب إنما تعني الاستسلام بملء الإرادة لطغيان جهاز عسكري يستحيل كبح جماحه، ولقوانين استثنائية لا تعرف الرحمة، ولسياسيين حائزين لأكثر السلطات تعسفاً ومعفيين بهذه الدرجة أو تلك من تقديم حساب عنها. ويقول لنا منظرو المسالمة المبدئية، دون أن ينجحوا في إقناعنا، إن الحروب بصفتها هذه وفي حد ذاتها إنما تشكل طغياناً لا يقل عسفاً عما تعرضون تقويضه باللجوء إليها.

إنهم مخطئون، فهناك حروب عادلة. لكن ما يميز الحروب العادلة أنها لا تظل عادلة لوقت طويل.

لا ننسين أن الحروب "العادلة"، إن كانت تنتج أشخاصاً من طراز هوش ومن طراز مارسو، فإنها تنتج أيضاً أشخاصاً من طراز بونابرت، وهو ما يعد، بالنسبة لها، طريقة شيطانية بوجه خاص للكف عن أن تكون عادلة. لكن الحرب "العادلة"، من جهة أخرى – وفي غياب كل بونابرت عن الأفق – إنما تتميز بحملات قطع طريق عادية، من حيث أنها تفرض على من يتحملون مسؤوليتها إيقاعاً ومقتضيات يصعب عليهم احتمالها. وللإبقاء على يقظة مشروع قائم على الحماسة الشعبية، لا بد أن تكون لدى القيادات المسؤولة عن مسار الحرب الجرأة الواضحة على أن تترك للقوى المُحرِّكة التي تعتمد عليها طابعها المميز لجماهير متحرقة، - لجماهير في صيرورة سافرة وواعية بمعنى زخمها. لكن القاعدة الملحة عند قادة الشعوب – بل غالباً عند أولئك الذين يبدو أنهم قد جاءوا مباشرة من خط النار أو من اجتماع في مصنع – هي استخدام ثقلهم المراتبي في إعادة القوى المُحرِّكة التي تفوض أمرها إليهم إلى الأطر التقليدية لبلد في حالة حرب. وعندما أقول "الأطر التقليدية"، فإنني أعني تجزئة الحقيقة، تجزئة الحماسة، تجزئة المثل الأعلى. إنني أعني الضبط المتعسف للقوى المُحرِّكة للأمة، بناء على أمر من أولئك الذين يخافون في "حركة" اليوم من "انقلاب" الغد. وهذه الأطر التقليدية – الأقنعة البسيطة التي توضع على وجه هذه الحرب أو تلك لإخفاء مظهرها الأصيل ولجعلها مماثلة لجميع الحروب الأخرى – يمكن استعارتها من أرشيفات المتحف الحربي تارة، ومن ممارسات العدو تارة أخرى. وهذا يسمى: في الحالة الأولى "استلهام عبر الماضي"، وفي الحالة الأخيرة "الاستفادة مما يعلمك إياه خصمك".

والحال أن هذا التشويه الجاري للقيم الحية، والذي يتوافر الاستعداد دائماً لتغليفه في صيغ طقسية عتيقة كما في كفن، هذا النقل لأساليب العدو وعاداته الذهنية إلى معسكر العدالة، لا يقدم لنا سياقُ الحربِ ضد الفاشية غير المزيد من الأمثلة له. وإنني لأتذكر بوضوح أن البلاغ العسكري السوفييتي الأول قد اختتم بالإشارة إلى جندي ألماني، أشير إليه باسمه، لجأ إلى موقع روسي معلناً أنه لا يريد حمل السلاح ضد دولة بروليتارية. والحال أن هذه العبارة وحدها في البلاغ قد دوت، أمام التاريخ، دوياً أقوى من دوي مآثر العتاد الحربي التي سبقتها أو التي تلتها. فقد دلت، فوق قصف المعارك، على أن إخاء الكادحين يعلو ويجب أن يعلو على انقسام الناس إلى جماعات عرقية وقومية. وفي ذلك يكمن الخير الذي يجب صونه بين الجميع، - الفضيلة القادرة على كسر الأطر المسوسة للحرب بين الأمم. إلاَّ أنه أعيد جر وغواية الكادحين، مرة أخرى، صوب الأطر التقليدية. فبدلاً من الإشادة بالبطال الشعبيين الروس والألمان الذين تلاقوا عبر التاريخ في نضالات تحريرية واحدة، نجد أن أجهزة الدعاية السوفييتية سرعان ما تجد لذة في هوس شنيع لا تنبثق منه غير رموز من أسوأ الرموز في تاريخ روسيا. فقد عرف الأمير ألكسندر نيفسكي من جديد كل هالات المجد لأنه كان من حسن حظه أن يتمكن في عام 1242 من إلحاق الهزيمة بفرسان الأخوية التيوتونية. وفي مقابل ذلك، جرى التقليل من شأن ذكرى بوجاتشيف وستينكا رازين – المدافعين الأسطوريين عن القضية الفلاحية – لأنه قد رؤي أن هاتين الشخصيتين قد أذاقا سلطات زمانهما الكثير من الهوان. وهكذا، فعندما تحدث ستالين في السابع من نوفمبر 1941 إلى جنود الجيش الأحمر، نجد أنه قد ضرب لهم أمثلة سابقة غريبة لاستثارة حميتهم. لقد قال لهم: " فلتستلهموا مثل البواسل من أجدادكم: ألكسندر نيفسكي، ديمتري دونسكوي، كوزما مينين، ديمتري بوجارسكي، ألكسندر سوفوروف، ميخائيل كوتوزوف".(1)

والحال أن بطولة الأسلاف لم يكن لها، في أي جيش، تأثير كبير على معنويات الجنود. إلاَّ أنه فيما يتعلق بالأسلاف الذين حولهم ستالين إلى أيقونات والذين قُدِّموا إلى الجماهير لكي تحتضنهم في ورع، فإنه لم يوجد بينهم سلف واحد لم يلعب دوراً رجعياً ومقيتاً بالقياس إلى نضالات الشعب الروسي من أجل التخلص من تعاسته. أَمَّا أن يوجد حرص على حرف المخيلة البطولية للمدافعين عن الاتحاد السوفييتي صوب أسماء كهذه، فذلك هو ما يصيب بمرض الشيخوخة حرباً ينتظر البعض منها تحسين أحوال العالم.

وكان لا بد للتتمة من أن تكون على مستوى هذه البداية. فقد جر بعث ألكسندر نيفسكي إلى تعديل تاريخ ثمانية قرون من التاريخ الأوروبي. وعندما لجأ ستالين إلى الاستعارة من العدو بعد أن استعار من الماضي، فإنه قد طرح في مواجهة النظرية الهتلرية الخاصة بتعبئة أوروبا ضد الزحف الآسيوي عودة خالصة وبسيطة إلى أسخف صور الجامعة السلافية. والحال أن مناقشات مختلف مؤتمرات الجامعة السلافية التي نظمت خلال هذه الحرب، بمبادرة من موسكو، لم تثر غير نفور الذكاء شأنها في ذلك شأن إذاعات راديو برلين.

إن تطور أوروبا الطويل ما عاد يبدو غير ستار لانقسامات عنصرية، - موضوعاً لنزاع متجدد أبداً بين السلاف والجيرمان. وقد كرس مؤتمر الجامعة السلافية الأخير (صوفيا، فبراير 1945) وجود كتلة سلافية وارثة لاتحاد تأكد عبر قرون من المعارك ويرجع انتصار جرونفالد (1410) الذي أحرزته الجيوش السلافية الموحدة ضد الجيرمان. وهكذا انتهينا إلى انقضاض كتلة ضد كتلة، جنس ضد جنس، جنون ضد جنون! وهكذا فإن الحروب "العادلة" لا تصمد طويلاً أمام العدوى الشائنة للأفكار التي كان يرجى منها أن تستأصل شأفتها.(2)

إنني أقول إننا نشهد الآن تغلغلاً للسلوك السياسي الهتلري في صفوف الديموقراطية. وهذا التغلغل لا يثير استنكار أحد تقريباً. إن كثيرين من الناس يجدون فيه منفعتهم المادية وراحتهم الأدبية. وهذا التغلغل ينتشر في جميع الصحف، وفي جميع الأخبار التي تصلنا عن المصير الذي يستعدون لرسمه للعالم. وعلى سبيل المثال، فإن ضم الأراضي دون موافقة السكان المسبقة كان يُعتبر بشكل عام عدواناً على القانون، ينبع من الجنون الإمبريالي المسيطر على أمثال هتلر. والحال أننا نرى اليوم أن الموضوع يثار بشكل مختلف تماماً ومن زاوية المنفعة القومية وحدها، إذ تعلن قوة من القوى: إن هذا الميناء نافع لي تماماً وأودُّ أن يكون من نصيبي، - وإذا ما اعتُرِض عليها بأن هذا الميناء كان على الدوام جزءاً من وحدة قومية أخرى، فإنها سوف ترد بأن ذلك محتمل، لكنها تحتاج إليه احتياجاً شديداً وأن انتصارها يمنحها الحق في هذا الاختلاس الصغير. والحال أن الأمر لا يخص من الآن فصاعداً ميناء أو مدينة معزولة، بل مجموعات شاسعة من الأراضي التي أصبحت متحركة وجاهزة تماماً لتغيير المالك بين عشية وضحاها.

أما نقل السكان فقد كان هو الآخر عملية وحشية لا تسمح لنفسها باللجوء إليها سوى أنظمة العنف. والحال أنه يجري النظر اليوم في هذه التحويلات على نطاق ليس أدنى من نطاق حملات النازية السوداء، وهنا، أدع الكلام للويس كلير، أحد المراسلين الرئيسيين لمجلة "بوليتيكس" الأمريكية والذي تساعدنا قوة غضبه على الشعور بأننا لا نزال أحياء:

"يجري الآن نقل الشعوب كالماشية. إذا ما أعطيتموني 500,000 من الألمان – السوديت، فسوف أكون مستعداً لأن أعيد لكم عدداً مساوياً من سكان التيرول، ربما أمكن لنا مبادلة عدد من الألمان بآلات ومعدات. لقد أطلق هتلر، هنا أيضاً، آلية بسبيلها إلى أن تكتسب أبعاداً مقلقة... إن التهور الذي تتنازع به القوى المنتصرة على السلعة الوحيدة التي لا تزال، رغم تحسينات التقنية، السلعة المطلوبة أكثر مما في أي وقت مضى – عمل العبد – هو شيء فاجر حقاً"(3)

لقد تم كسب حرب. ولكن هل من المؤكد بالمثل أن هتلر قد خسر حربه؟

"عدم وجود الأفضل..."

عندما يتساءل المرء عن الأسباب التي تميل إلى تحويل حرب "عادلة" إلى حرب عادية، إلى مجرد حرب، وبشكل أعم، عندما يتساءل عن الأسباب التي تحرم الجماهير من الإمساك بزمام القضايا السامية التي يكرس نفسها لها، فإنه سرعان ما يجد نفسه حبيساً في حلقة جنونية. فالواقع، من ناحية، أن اتساع وتركز الحياة الاقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب، ومن كل نقابة، ومن كل إدارة، أجهزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي ولا ترجع البتة إلى الخلايا الفردية التي تتشكل منها. وهذه الأحزاب، وهذه النقابات، وهذه الإدارات الدولانية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة. فهذه الأبنية المخيبة تعمل بفضل إنسانية من نوع خاص تماماً، إنسانية مؤلفة من الملقنين. وحتى يسمح للمرء بتقديم اقتراح في ختام مؤتمر حزبي لحزب من أحزاب اليسار يسمح بدرجة ما من درجات تبادل الآراء، لابد من سنة من المناورات الحرجة للغاية عبر متاهة من الأمانات ومن اللجان التي تُذَكِّرُ على نحو يثير الالتباس بألغاز المحكمة التي يصعب الوصول إليها حيث يسمح كافكا – في "القضية" – بارتجاف صورة عذابنا المنعكسة أبداً. وإذا ما أمكن التغلب بشكل مؤات على هذه المحن التجريبية، إذا لم تتوصل أية خطوة زائفة إلى معارضة طرح الاقتراح، فمما لاشك فيه أن هدفه سوف يُطمَس طمساً كافياً بحيث يكف عن استثارة ما هو أكثر من اهتمام استرجاعي وما يشبه الرثاء لأولئك الذين غامروا بتأييده.

ومن ناحية أخرى، فإن المواطنين الأذكياء والنشطاء، وبدرجة أفضل، الأفراد الذين يتمتعون بمكانة ثقافية معينة، والذين سوف يحاولون التدخل بهدف تصحيح تَوَجُّهْ حزب، أو نقابة أوحكومة، يدركون جيداً أن هذه الأجهزة المختلفة لديها الوسائل لكي تنسج حولهم شركاً قاتلاً – شركاً من الصمت الذي لن يتأخر عن عزلهم عن الحياة العامة برمتها. وشرك الصمت هذا مضروب دوماً على عدد من أروع عقول المجتمع السوفييتي، - من الكتاب، والعلماء والصحافيين والمناضلين، وهو يحاصر بشكل متزايد، في أوروبا وأمريكا، عقولاً أخرى، مقاومة ونقية، عاشقة دونما حد للحرية...

وهناك ما هو أسوأ بالنسبة للإنسان المتحضر من أن يفقد سيطرته على الأجهزة التي تمثله وتتصرف باسمه. ذلك هو الاستسلام لهذا الفقد. وهو استسلام تبينه لنا علامات لا حصر لها وصارخة. استسلام نميزه - في الحرب كما في السلم – في الموقف السائد لأشخاص موهوبين، مثقفين ومدفوعين إلى الفعل، - ومن ثم مستغرقين في هزيمتهم الخاصة. هذا الاستسلام يعبر عن نفسه بثلاث كلمات: "عدم وجود الأفضل..."

فإذا ما انضم المرء إلى الحزب الشيوعي (أو أي حزب آخر...) دون أن يكون متأكداً تماماً من سياسته الحالية وسياسته في المستقبل، فإن ذلك بسبب "عدم وجود الأفضل"... وإذا ما انتهى المرء بالتكيف مع إعادة اقتسام المناطق، والتي يعترف بأنها لن تجلب المسرة ولا الرخاء للشعوب، فمرجع ذلك هو "عدم وجود الأفضل"... وإذا ما صوت المرء لصالح مرشح يثير جانبه الأخلاقي التقزز وتبدو صلابته السياسية مشكوكاً فيها، فمرجع ذلك هو "عدم وجود للأفضل". وإذا ما اشترك المرء في صحيفة تضحي بحرصها على الحقيقة من أجل اعتبارات إعلانية أو تجارية، فمرجع ذلك هو "عدم وجود للأفضل"...

وتلك المرأة التي يقبلها المرء منقبضاً وهو يغمغم بإيماءات أبدية: "عدم وجود للأفضل". وتلك السينما التي يغرق المرء فيها مطأطأ الرأس، لخصم ساعة من الوجود على ظهر الأرض: "عدم وجود للأفضل". وذلك الكتاب الذي يركز عليه المرء لأنه نال جائزة، بينما يدعوك كل داع إلى استفراغ محتواه: "عدم وجود للأفضل". وذلك الرئيس الجليل الذي يهرع المرء إلى عبادته متأوهاً وقد تشبع ببرنامج جلاله الفني "عدم وجود للأفضل"...

إن "عدم وجود الأفضل" يصبح استثماراً، فلسفة، حالة أهلية، سيداً، نزوة، دليل براءة مسبقاً من ارتكاب جريمة، صلاة، سلاحاً، مومساً، شهقة أو زفرة، قاعة انتظار، فريرة، فن تصدق على الذات، بوصلة للمراوحة في المكان، شاهد قبر، 8 أغسطس 1945.

إن شخصين، متجاورين فكرياً، يسعهما من ثم أن يتهادما، فبما أن لديهما مفهوماً واضحاً عن "الأفضل"، وهذا "الأفضل" ينقصهما، فإنهما يرتدان إلى طريقتين متلاقيتين في الوجود التعويضي، إلى نسقين من المعتقدات والإيماءات المتلاقية عن "الأفضل" المشترك، وإن لم تكن متلاقية من الجهة نفسها.

وهكذا، فمن مقاربات إلى مقاربات، ومن استعاضات إلى استعاضات، يجد المرء نفسه مدفوعاً، دون أن يشعر، وبأدب، نحو ما لا يدري المرء أي ركن حقير تنمو فيه البراغيث... إن المرء يفزع، ولكن من بابا السهو. ليس ذلك سجناً، إنه منزل... والدنيا أكثر من ليلة واحدة... وعلى البعد، تصفر قطارات مؤذنة بالرحيل... ويجب على المرء أن يصيح وأن يستنفر حراساً وهميين... وغداً صباحاً، أين سيكون المرء بالنسبة إلى نفسه؟ هل ستسمحون له بمجرد المرور؟ نعم، بلا شك، سوف يسمحون لكم بالهرب، بأن تبنوا لكم في الكونغو حياة ثانية... حياة مبنية على أوتاد فوق المستنقعات بينما يوجد، في الظل، السرطان الظافر نفسه حيث تتصالح قوى الملل والهلع المريع من الحرية...

حق الرعب

إن كل شيء يجري، منذ قرنين، وكأن كل تذرع بالحرية، كل انتفاضة مميزة باسمها، تؤول إلى أن تترجم نفسها – عبر الأجهزة السياسية والدولانية المنبثقة أكثر قوة من هذه الانتقاضات – إلى تزايد في القواعد الكابحة التي يدين لها الإنسان باكماش تدريجي للحياة. إن جيلاً جديداً من الموسوعيين منطلقاً من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق، سوف يُعتبر، اليوم، خارجاً على القانون أو أنه، على الأقل، سوف يجبر بسرعة على التسول.

كل شيء يجري وكأن الإنسان لم يبحث، في هذه السلسلة الطويلة من الطموحات سيئة الحظ، إلاَّ عن شكل معين للأمن في الرعب. ويبين لنا عمل إيريك فروم اللاذع والقاسي – "الخوف من الحرية" – إلى أية درجة يخشى الإنسان مواجهة الحرية، إلى أية درجة يترقب بفارغ الصبر التهرب من المسؤوليات التي تفرضها عليه، إلى أية درجة – في الظروف الحالية للفوضى – تعد الرمادية، والعتامية وعدم تسمية الأشياء بأسمائها ملاذات مشتهاة ضد إغراء الحرية.

وإلى هذا الاستعداد الفردي للكائن الذي حيره تعقيد العالم الذي يراوده، تقدم الأجهزة الجماعية الضخمة مساهمة حاسمة. لقد حددت، بالصرامة المطلوبة، هذا الحد الأدنى البائس من المواقف الإنسانية التي لا يسمح بتخطيها إلا بمخاطرات وأعباء الانتهاك.

وبوسع المواطن الصالح أن يشتري نوماً عميقاً مادامت القنبلة الذرية تحميه...

إن علامات الرعب المتصاعدة واضحة. وأولها حدة هو المحو التدريجي لحق اللجوء السياسي. إنها لفكرة سيئة أن يكون المرء لاجئاً سياسياً، من جراء هذه الأزمنة التي تقتل! ومنذ عام 1930، طورد ليون تروتسكي، كما لو كان خنزيراً برياً، عبر كل القارة الأوروبية، من تركيا إلى النرويج عبر باريس. ثم جاءت "فيشي" التي قامت دون أسف بتسليم بيترو نينني إلى إيطاليا، وبرايتشايلد إلى ألمانيا وكامبانيس إلى إسبانيا. لقد اختفت "فيشي" ولكن دون أن يختفي هذا الكره المتأصل لدى السلطات – ديموقراطية أو غير ديموقراطية – للاَّجئ السياسي، الأثر الأخير والجميل للتمرد الإنساني.

ومن علامات الرعب أيضاً، الترحيل المنظم للكادحين والذي لاشك في أنه يبلغ النهاية مع هزيمة النازية. ويتكفل الاقتصاديون بحساب المردود المتزايد للقطيع المقدم لهم كمادة تجريبية. والمؤشرات الدولية بحاجة إلى رسوم بيانية تتصاعد خطوطها! ومن علامات الرعب ابتلاع آلاف البشر في ليلة لا ينكشف فيها شيء. لقد رحلوا دون أن يتركوا عنواناً. لأن هناك غابة يتعين قطع أشجارها على ضفاف البحر الأبيض. ليحذر الهواة!

ومن دواعي الأسف الأخيرة أن المرء يشهد، في المجال الذي تَمَكَّنَ دائماً من الإفلات من ضغوط النظام المتعسفة في الماضي، في مجال الفكر الصدامي، مجال الفكر السياسي، الذي كان لا يزال حتى البارحة رسولاً للأمل، تكيفاً غريباً مع الانضباط الوحشي والباطل الذي يرتسم تحت بصرنا. ويشهد على ذلك الجبن المحرَج لمجلة مثل "لابنسيه" والتي كانت تعبر، قبل الحرب، عن حب مثير للمعرفة بكافة أشكال الصيرورة العلمية والاجتماعية، وكانت تثير بِنَفَسٍ متسائلٍ مشكلات جوهرية كانت قد طرحتها بالفعل الشيخوخةُ العامةُ لمجتمعٍ لا يتسامح بالمرة مع ممانعة الناس في الوصول إلى الشيخوخة معه. إن الأسماء الكبيرة التي ترعى "لابنسيه" لم تعد ترعى، في عام 1945، غير توافق صيغ استاتيكية ومحاكمات عقلية محبطة. إن المرء يجد نفسه في حضرة مجلة يبدو أن مهمتها هي أن تقول لنا إن الفكر الماركسي قد وصل إلى الركود، فهو يتحول اليوم إلى قوة، بدلاً من أن تتغلب على الكابوس المعاصر، وبدلاً من أن ترسم دروبها المضيئة الهادية، تدع هذا الكابوس يترسب في قارورة أمان معملية، حيث لا يجب الخوف في الوقت الحاضر من أي انفصال متفجر بين القابل للحياة وغير القابل للحياة، بين ما هو مُحَرِّكٌ وماهو مثبط، بين ما يتميز بالحالية وما فقد الأهلية.
ومن ناحية أخرى، ألا نرى أن أراجون يلح، في مقالٍ مدوٍ، على سحب كتب السيد شارل مورا من مكتبات فرنسا؟ يبدو أن صاحب دعوة كهذه لا يأخذ بعين الاعتبار أنه يرتكب بذلك عملاً من أعمال الانهزامية قياساً إلى ما يجب أن تكون عليه قوة جاذبية رسالته السياسية هو. ويجب علينا أن نؤمن أن مورا وهو نفسه يحتلان موقعين يناظر أحدهما الآخر، ولما كانا قد تخليا عن الانفصال أحدهما عن الآخر بالاحتكام إلى العقل، فإنهما قد وضعا نفسيهما، الواحد بعد الآخر، رهن تحكيم رجال الشرطة الذي لا يليق. وهكذا فإن الرعب عندما لا يعمل جهاراً، فإنه يظل على الدوام كامناً، على سطح الجدل، مستعداً لتلبية الدعاء الأول، النداء الأول لأحد رعاياه المخلصين.

أما فيما يتعلق بالأفراد الفريدين – خاصة بعض فئات المثقفين والكتاب – الذين لا يزالون غير مستعدين لقبول العيش وفق المسار السائد – فإنهم، هم أيضاً، تتخطفهم رياح الرعب. إن أملهم الوحيد هو قلب مسار هذه الرياح، أي أن يمارسوا، هم، الرعب. إن من يستولي على مخيلتهم ليس جيد أو بريتون، بل لورانس الجزيرة العربية ومالرو الفترة الصينية. وبالنسبة لمعظمهم، فإنهم قد أحبوا هذه الحرب لأنها قد سمحت لهم بالتصرف حسب الأصول مع أنفسهم عن طريق قلب قطار، أو نسف جسر قبل العودة إلى بيوتهم، إلى عشيقاتهم المنهكات وإلى روتينهم اليومي الأمين والذي يتمثل في ترديد حكايات مؤثرة. إن المثقف المعاصر لا يطلب، من حيث الجوهر، بقشيشاً آخر، من عالم لم يعد لديه شرف لرفضه، غير أن يمثل، ولو في فصل واحد، دور مغامر على هامش الكل، غير أن يستعيد بهذه الخدعة المتجاوبة مع نداء باطني جانباً من الزخم الذي حرمته منه الحياة الاجتماعية.

القيد

في هذا الانزلاق الجماعي صوب حالة أمن في الرعب، من الذي سوف يكسر القيد؟ من الذي سوف يحكم بالعدل على ذلك الذي اعتاد الناس اعتباره حقاً لهم في الرعب وشيئاً يكاد يكون تتويجاً طبيعياً لطموحاتهم القديمة في الحرية؟

من المؤكد أنه ليس حزباً سياسياً، ولا أية منظمة من المنظمات الشمولية المكلفة بحراسة الإنسان، ليس حزباً، ولكن ربما فصيلة جديدة من الأنصار المقاومين الذين سوف يهجرون طرق التحريض الكلاسيكية ويلجأون إلى اجتراح مآثر اضطراب مثالية إلى أعلى درجة. لقد تمنى الكثيرون أن تتمكن حركة المقاومة في أوروبا من أن تحدث أخيراً ثغرة في المأزق السياسي والاجتماعي لعصرنا. وكانت الأحزاب الجماهيرية الكبيرة هي أول من تحسس هذا الخطر. ماذا، هل يستعدون للاستغناء عن خدماتها؟ هل تتجرأ الإرادة الشعبية الآن على الاستغناء عن الوسيط؟ كان الإنذار قصير الأجل. ومثلما جرى على وجه السرعة دمج القوى العسكرية للمقاومة في الأطر الدائمة للجيش، - فإن قواها السياسية لن تتأخر، مع امتزاج الغزل بالدس، عن العودة إلى فخ الأحزاب الكبيرة. إن الحدث – كدت أقول الحادثة – قد اكتمل. لكن شيئاً آخر يصبح ممكناً، بل يصبح الشيء الممكن الوحيد، إن عصر حرب المقاومة السياسية يبدأ ونحوها يجب أن تتجه أرصدتنا من الثقة والحماسة.

ومما لاشك فيه أنه ليس من السهل إعلان الشكل الذي سوف تتخذه حرب المقاومة هذه والمآثر التي لا مفر من أن تميزها. على أن بوسع المرء أن يعتبر الموقف المستقل استقلالاً شجاعاً والذي يتخذه كامي – وعلى أصعدة أخرى، بريتون، كالاس، روجمون – مؤشراً بالنسبة للمستقبل. إن جهاز الرعب لا يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن الانشطارات. ولذا فعندما يكون هذا الجهاز أكثر تهديداً – وبقدر تهديداته المتجددة – يجب أن تهب كل روح الرفض لدينا، كل ما في العالم، في لحظة معينة، من بَشَرٍ في حالة رفض، وأن يحدث ذلك بشكل مدو! وأن يرتسم ذلك على شكل أمثلة مثيرة للقلق في وجدان الجماهير! وأن ينتقل ذلك وينتشر عبر السهب البشري الواسع، من خلال آثار عظمة معدية!

عند هذه النقطة، أسمع انفجار الاستهزاءات القاتلة: "ما خطبك! إنك تسعى إلى الإساءة إلى الأحزاب السياسية، إلى تقويض هيبتها، إلى التشهير بعملها، - ومن ثم فإنك تواصل العمل الخبيث لفاشيي ما قبل وما بعد الفاشية هؤلاء، الذين يثيرون الشبهات حول كل أدوات الخلاص والتقدم!". والواقع أنني لا أواصل شيئاً، ولا أرغب في مواصلة شيء غير منطق معين للحرية. إن الظاهرة الفاشية، منظوراً إليها من زاوية تطور الأحزاب، لم تساعد إلاَّ على أن تعجل بشكل حاسم تطور الجذام المعنوي والمادي الذي يصيب المؤسسات "اليسارية" القوية التي يضيع فيها صوت الجماهير بالسهولة نفسها تقريباً التي يضيع فيها صوت الأفراد. إن الهدف الأخير لحرب المقاومة الدائرة الآن ليس هو القضاء على الأحزاب لحساب نسق جديد ما لممارسة الحياة السياسية، بل هو تجريد الأحزاب من احتكار الفكر الاجتماعي الذي يهمد في لجانها الدراسية، إنه تجريدها في المجال الايديولوجي، من حق المبادرة الذي تتمسك به خاصة وأنها عازمة تماماً على ألاَّ تستفيد به إلاَّ الاستفادة الأكثر خسة، الأكثر خبثاً. إن المسألة هي، لتدارك المشكلة قدر الإمكان، اختزال الأحزاب إلى حالة متفتحة خالصة فيما يتعلق ببلورة الأفكار وبحركتها العامة، وحالة إدارية خالصة فيما يتعلق بتنفيذ هذه الأفكار. وباختصار، المسألة هي دفع الأحزاب إلى الاعتراف بالبؤر الايديولوجية التي تنشأ خارجها وإلى أن توجه نحو الفعل العملي كل شيء صالح ينبثق من الجيشان الذي يحاط بالرعاية على هذا النحو. على أنه لابد من الحذر: فالحالة الموضوعية للأحزاب قد تغيرت تغيراً ملحوظاً منذ عشرين سنة. إنها تميل كلها إلى أن تصبح أجهزة شبه دولانية، ملحقات للدولة. وعين فكرة - ووظيفة – الحزب المعارض تتأثر تأثراً قاتلاً بهذا التغير. ففي انجلترا، وفي الولايات المتحدة، وفي فرنسا، وفي بلجيكا، غالباً ما تكون المعارضة متضامنة مع السلطات، بحيث أنها لا تشكل عدواً لها. ولابد أن تتطابق مع هذه القاعدة الجديدة للأحزاب التزامات أكثر وضوحاً على الدوام بالنسبة إلى فدائيي الفكر. وأول هذه الالتزامات هو تحويل الأنشطة الايديولوجية إلى بؤر غريبة عن تقلبات الأحزاب وعن إدراجها التدريجي في أطر الدولة. لكن الشيء الأهم هو أن حرب المقاومة هذه لن يكون لها تأثير متواصل إلاَّ بقدر ما تتمكن من أن تشجع، في نضالها ضد البراجماتية والبيروقراطية للأحزاب، سباحة في تيارات اليوتوبيا الزكية، وتجديداً للتأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح.

لقد كان بوسعنا، قبل عشر سنوات من ذلك، أن نأخذ كشعار لحشد القوى كلماتٍ ككلمات نيكولاي بوخارين، المفكر قبل الأخير بين مفكري الاشتراكية الكبار:

"إن تحليلاً لمجريات الأمور الواقعية يدفعنا إلى أن نستشف، ليس موت المجتمع. بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقالاً حتمياً إلى المجتمع الاشتراكي، انتقالاً بدأ بالفعل، انتقالاً نحو هيكل اجتماعي أرقى، ولا يتعلق الأمر بمجرد انتقال إلى أسلوب أرقى للحياة، وإنما أرقى على وجه التحديد من الأسلوب الذي هو اليوم أسلوبها. فهل يمكن الكلام عن هذا الشكل الاجتماعي الأرقى بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك صوب الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا المجال؟ إننا نعتقد ذلك. ففي المجال المادي يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل الاجتماعي وفي تطور هذا المردود، لأن ذلك يحدد مقدار العمل الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية. وفي مجال العلاقات الإنسانية المباشرة، يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال انتقاء المواهب الإبداعية. وعلى وجه التحديد، فعندما يكون مردود الانتقاء واسعاً جداً، سوف يتحدد الحد الأقصى من إثراء الحياة الداخلي لدى أكثر عدد من الناس، ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً، وإنما بوصفهم كلاً حياً، جماعة اجتماعية."(4)

واليوم لا يسعنا إلاَّ أن نتساءل أين ذلك "الإثراء الداخلي للحياة لدى أكثر عدد من الناس"؟ مما يؤسف له أنه لاشك في أن الطريق الذي اجتيز منذ أبريل 1936، أي منذ أن ألهمتنا هذه الكلمات الأمل، لم يؤدِّ إلاَّ إلى إبعادنا عن هذه المنظورات البوخارينية، لم يؤدِّ إلاَّ إلى التمكين، خطوة خطوة، لانبثاق اتباعية صارمة تختزل "الحياة الداخلية" إلى تعبيرها الأكثر وضاعة والأكثر جبناً.

ولاشك أنه قد جرت الاستعاضة عن هذا المعيار الخاص بـ "الإثراء الداخلي" بالمعيار المعاكس، ولن نكون بحاجة لذلك إلاَّ إلى دليل واحد بين آلاف الأدلة، ليس أبلغها سوى "تصفية" بوخارين نفسه والتهوين من شأن هذه "التصفية" في معسكر الاشتراكية وفي معسكر الفكر.

وفي مواجهة هذه الاتباعية التي تعيث فساداً في جميع المجالات، باستثناء مجالات التفننات الإرهابية حيث يجد هؤلاء السادة لذة دائماً في التجديد، لا يمكن أن توضع، تحديداً، غير القوى الأكثر عرضة للتحقير من جانبها: أحلام إيكاروس، روح التوقع المحمومة لدى ليوناردو، استبصارات الاشتراكيين الطوباويين، رؤى بول لافارج السخية والتي تتخللها الدعابة! إن "الاشتراكية العلمية" تتردى بحيث تكف عن أن تكون بالنسبة إلى اتباعها شيئاً أكثر من أداءٍ طنان لتسميع المحفوظات. وهناك حاجة ماسة إلى إشباع البيئة والفكرة الاجتماعيتين بالهواء، إذا كان يراد توفير مستقبل للإنسان لا يكون جافاً مقدماً ولا يدمر لحساب ضوابط غير مبررة حقه في المجادلة المستمرة.

وضد اجتماع الاتباعية والرعب المقيت، ضد ديكتاتورية "الوسائل" التي لا تتذكر الغايات التي تتذرع بها، تستطيع جوكندة اليوتوبيا، لا أن تفوز، بل أن ترسل من جديد ابتسامتها وتهب الناس الشرارة البروميثيوسية التي يتعرفون فيها على حريتهم المستعادة.

إن الزمن ليس غير زمن الإعلاء مرة أخرى من شأن الأحلام المستحيلة...

القاهرة، السابع عشر من أغسطس 1945

(1) والتر كولارز: ستالين وروسيا الخالدة، ص 87 (لندساي أند دروموند، لندن).

(2) يتساءل أندريه بريتون: "عندما تجبرنا الضرورة، ضد مرادنا، على القيام كل يوم بسلسلة من الأعمال المشابهة من جميع النواحي لأعمال العدو، كيف يمكننا أن نتجنب الوصول معه إلى حد مشترك؟ إننا يجب أن نحذر من ذلك: فبحكم أننا مضطرون إلى انتهاج أساليبه، نجد أننا نغامر بأن تصيبنا عدوى ذلك الذي نعتقد أننا ننتصر بالاعتماد عليه... "

(النور الأسود، بقلم أندريه بريتون، أنظر "لارش" العدد السابع.)

(3) موجز الأخبار الأوروبية بقلم لويس كلير، أنظر "بوليتكس"، يونيو 1945.

(4) نيكولاي بوخارين: المشكلات الأساسية للثقافة المعاصرة ("وثائق روسيا الجديدة"، باريس، 1936).


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

استيهامات_20


20 يونيو 2010

أحب أن أتذكر هذه القصة:
عندما وصل جنود ديزيه إلى معبد الكرنك، خلال حملتهم في الصعيد، ألقوا أسلحتهم وأخذوا يصفقون بشكل متواصل...
يا لفتنة الجمال!
من دون أن يرِفَّ لهم رمش، قتل المخبرون، في مدينة كافافي والإسكندر، شاباًّ وسيماً...
يا للدناءة!

جورج حنين_16



من أجل وعيٍ مُنْتَهِكٍ للمُحَرَّمات
هل أنت واقعي؟ هل أنت مستعد لأن تصبح واقعياً؟ في حالة الإجابة بالإيجاب، سوف يعتنون بأمرك. وسوف يتكرم المستقبل بالابتسام لك. وأياً كان ما تفعل وفي أية روح تفعله، سوف يبقى لك دائماً وجه احتياطي، بوابة يمكن اجتيازها لا تزال، كلمات بارعة أو بطولية للنجاة في حالة التعرض للغرق، إمكانيات جدية – إن كان غشك على مستوى طموحك! – لأن تضع يدك يوماً ما على واحدة من خزائن المصير الثلاث: المجد والملكية والسلطة. أو على الخزائن الثلاث مجتمعة إن كنت من الدهاء بما يكفي لكي تبدو وكأنك لا تولي أهمية لأية من أدوات السيطرة الرهيبة هذه. وهذا هو ما يفعله في الواقع بعض كبار الزهاد في زماننا والذين لا يصمدون، عندما يكونون متأكدين من أنهم قد أقنعوا الجميع بنزاهتهم الأخلاقية السامية، لشهوة إضافة زخرفة بسيطة هنا أو زركشة ضخمة هناك. لاحظوا أن واقعيَّ الزهد، حتى عندما يُضبط متلبساً بارتكاب جريمة زخرفة صارخة، سوف يعطي لفعله ألفاً من المبررات المعقولة، المعقولة بقدر ما أنها توجَدُ تحديداً على مستوىً من أكثر المستويات خصوصية، مستوى المنفعة المباشرة، مستوى المصلحة التاكتيكية. والقوة، القوة الضخمة للواقعيين، إنما تتصل بكونهم لا يعرفون الجريمة الصارخة. وما هو التأثير الذي يمكن أن يكون للمرء على أناس جد غارقين في ما يسمونه بالواقعي، بحيث إن أي برهان لا يمكن أن يكون كافياً لإفحامهم...؟


وإذا كنت، في الحالة المقابلة، لا تنوي الاستسلام للإغراء الثلاثي، الذي يمارسه المجد والملكية والسلطة لحساب الواقعية السياسية، فلابد من إعدادك لأن ينظر إليك على أنك رجّاج لا يكل للتجريدات (كالعامل المكلف برج زجاجات الشمبانيا كل يوم. – المترجم). إنك، في رأي الجميع، منبت الصلة بالحياة، لا تعرف مسرات وعذابات البشر، منقطع لملكوت الايديولوجية العقيم. وفي عالمٍ دارجٍ من الآن فصاعداً على الاتجار بحميةٍ واحدةٍ في القيم الروحية والمنتجات المصنعة، فإن ظل احتقار متزايد يلازم مصطلح الإيديولوجية نفسه. وعلى الفور، تجد نفسك في موقف الدفاع. ويتعين عليك البدء بالبرهنة على أنك لست عديم القلب ولا عديم المشاعر، أمام أناس حرفتهم تنظيم مشاعر الآخرين. وبعد تقديم البرهان، فإنك تظل مشبوهاً كما كنت من قبل، لأنك لا تستجيب لآلات جلبتهم الموسيقية النحاسية. وما أن تكتمل حضارة الابتزاز والتزييف، فإن أية إيديولوجية جديرة بهذا الاسم، تبدو كما لو كانت تحدياً لا يُحتمل للتساهل الروحي عند البعض، وللطاقة البهلوانية عند البعض الآخر. وإنه لمن موجبات العبرة في هذا الصدد أن نجد الناجين من إحدى الأرثوذكسيات الذين كانوا، في بداياتها، يُبدون استعراضاً لصرامة بوليسية أكثر مما هي فكرية، يتآخون اليوم مع هواة الذرائع والتحايلات ومحترفي الارتجال السياسي، في كره مشتِرَكٍ لكل نشاط نقدي ذهني، ناهيك حتى عن كل إخلاص لشيء جد عبثي كالمبادئ.


ومن الأرثوذكسية الأكثر شراسة إلى التلاعبات السياسية الأقل احتراماً، يبدو الطريق السريع سهل الانفتاح. ولكن إذا كانت الأرثوذكسية قد تسنَّى لها أن تؤدي، في الصراع اليومي، إلى ممارسات جد زائفة، ألا يعني ذلك أن بعض الضمائر المتحزبة لها، في استعاضتها عن ثقافة الأفكار بعبادتها لا أكثر ولا أقل، أي في استعاضتها عنها بطقسٍ يستحيلُ إلى هذا الحد أو ذاك على مناهج العقل السوية إدراك كنهه، قد تعلمت التملص بسعر زهيد، أولاً من كل نزاع يتعلق بالتفسير، ثم من كل تساؤل ضار فيما يتعلق بخيار العمل الذي يجب الاضطلاع به، والموقف الذي يجب اتخاذه؟ إن أحد المدافعين عن هذا النوع من الأرثوذكسيات، جد السريعة في الهبوط إلى الوحل، قد لخص لي بلغة آسرة، أجد نفسي مدفوعاً إلى نقلها هنا، القاعدة الذهبية لسلوكه. لقد قال لي: "إننا، تحديداً لأن لدينا مبادئ جد راسخة، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بكل شيء!". فلنأخذ حذرنا من ذلك. هذا ليس مزحة يمكننا التخلص منها بهزة كتفٍ. إنه التعبير الأمين والرائق عن حالة ذهنية جد عامة قوامها تحويل القيم الحية والمحرِّكَة إلى قيم رمزية، إلى تكريس إخلاص طقسي لها وإلى اعتبارها غير قابلة لأن تُلوَّثَ بالملوثات "الواقعية" الآنية، فهي تحلق فوقها على مسافة جد عالية.


فيا له من مشروعٍ فريدٍ يستبسل في إنقاذ مثل أعلى بمنحه أجنحة من الوحل! إن أي إنسان مدفوع إلى التمسك بهذا المفهوم عن الحياة السياسية يجب عليه أن يرتب لنفسه ضميرين متمايزين وغير متصلين، الأول مهمته أن يحافظ على المبادئ الدائمة وصورة الهدف النهائي في نقائها المزعوم، والثاني يشمل برعايته المتسامحة الشرمطات اليومية الهينة. أما أن هذا الفصل المستمر، هذا الطلاق الأبدي بين النشاطات المباشرة وعالم المبادئ السامية، يمكن علاوة على ذلك أن يعد التعبير الأخير عن الذهنية التركيبية، فذلك هو ما يسمح بقياس احتمالات التضليل التي يعتبر الذكاء متواطئاً فيها وضحية لها في آن واحد.


الاحتقار – الذي يوحي به عن علم في البداية، ثم العفوي وشبه الإجماعي – تجاه كل ايديولوجية مهتمة بالبحث عن شيء آخر غير فرص إلغاء الذات أو فرص الاغتراب، إخضاع كل فكر لأول واقع قادم، الاختزال التعسفي إلى مضمون واحد لمفاهيم يصعب تركيبها الواحدة مع الأخرى كالدوجماتية والايديولوجية، الأرثوذكسية والديماجوجية: تلك هي علامات التشوش المريع الذي لا يتوقف عن التفاقم والتعقد مفقداً البشر رشدهم حتى يتسنى له على نحو أفضل إقناعهم بأن يُسَلِّمُوا أنفسهم بأنفسهم، عن طيب خاطر، بابتسامة، بوصفهم مواطنين حقيقيين، لواحدٍ ما من أشكال الاستبداد الرائجة.


ومن فرط الاعتداء على الكلمات، من فرط التلاعب بمرونة اللغة، أمكن الوصول إلى حالة الانحطاط الحالي حيث يصل الشخص أو الفكرة إلى أن تكون في آن واحد أو بالتتابع نفسها ونقيضها. لقد كُرِّرَتْ مراراً كلمة هذا المساعد لهتلر الذي كان يلوح بمسدسه عندما يسمع حديثاً عن الثقافة أوالذكاء. فيا للحسرة! لماذا يجب للكلمات الأخرى التي تهم معجم البشر السياسي والاجتماعي ألاَّ تتمتع البتة بدلالات لها مثل هذه الحدة؟ فما من كلمة ولا حتى كلمة "السلم"، لكونها كفت منذ زمن طويل عن أن تكون مُطَمْئِنَة، إلا وتستتبع خلفها ما لا ندري أية أهوال سرية، ما لا ندري أي عفن من عفن الكوارث. وإلى أن تتشكل، وفقاً لنصيحة دوني دو روجمون، "وزارة لمعنى الكلمات"، فمن المهم أن نعطي من جديد جوهراً واضحاً ومحدداً للمصطلحات الأكثر تعرضاً للإفساد، الأكثر تعرضاً للامتهان من جانب استخدام أعمى.


الايديولوجية ليست عقيدة. إنها نواة أفكار موجِّهَة، حافزة، تُوَجِّهُ الذهن لكنها بشكل خاص تحفزه إلى التفكير، إلى أن يعي حريتهُ – عبر التطوير المثمر لعناصر الانطلاق هذه .


الايديولوجية تبلغ الفكر برسالة معينة، لكنها بعيداً عن أن تلجم حركته الطبيعية، لا تفسد للحظة واحدة استقلاله الثمين. وكل رسالة متممة هي مؤاتية. وكل مساهمة أصيلة للفكر المكتسب، تكفل التوثب الضروري والمتواصل للرسالة الايديولوجية. إن الفكرة يجب أن تكون محل تفكير من الجميع، وليس من فرد واحد. وهنا يجب للنضال ضد الأفكار الجاهزة – ضد التبني الخانع من جانب ملايين الرعايا المدجنين لصيغٍ موضوعةٍ سلفاً – أن يرتفع إلى ذروته. هنا يجب على المشاركة الواعية لكل فرد في تطوير القيم الايديولوجية أن تقف في وجه سلب حرية الاختيار الفردية عن طريق حيل الإيحاء العديدة أو تهديدات عنف الدولة العديدة. وإذا كنا نأسف لنوع الهجر والتلف الذي سقطت فيه ايديولوجيات العصر، فذلك بالتحديد لأننا نرى في ذلك تراجعاً جسيماً للحرية في شكلها الأسمى، الأكثر إبداعاً. إن مجتمعاً لا يوجد فيه غير موردين للأفكار – بعدد محدود وبخدمة محكومة – ومستهلكين للأفكار- في حالة سلبية شبه تنويمية، - مجتمعاً تؤول فيه التبادلات الثقافية إلى تحضيرات معملية، من جانب، وإلى تبديات طقسية للولاء وللحماس الاستفتائي، من الجانب الآخر، إن مجتمعاً كهذا المجتمع لن يكون، تحت مظاهر ربما تكون أكثر رحمة، لا أكثر ولا أقل بشاعة من التنظيم الهتلري للعبودية.


وخلافاً للمذاهب، والتي يتمثل هدفها في بلورة – ومن ثم تثبيت – رأي عام حول تعاليمها، وهي نفسها جامدة وعظام فاقدة للحياة، فإن كل ايديولوجية إتما تتسع بدعوة ضمنية إلى تجاوزها هي نفسها. وليس هناك في هذا الصدد من تدريب أفضل للذهن غير ذلك الذي يتألف من الهجوم العنيف على القناعات – الحدود، من التوسع الذي لا يكل لمجالها البصري. وعلى مدار مئات ومئات السنين، جرب الذهن الحاجة المشؤومة إلى الاحتماء خلف سلاسل لا نهاية لها من الخطوط المحصَّنَة والتي شَكَّلَ كل خط منها، في زمانه، خط الجهل الأعظم. لقد عاشت البشرية حتى الآن بشكل وحيد تقريباً في ظل امبراطورية المعتقدات اللاعقلانية أي ممتثلة. وفي كل مرة كان يحدث فيها فتح من فتوح العقل الرامية إلى إكساب الإنسان حصة متزايدة من الحرية، فإن قوى التقهقر، المرتبكة للحظة، لم تكن تتأخر عن استعادة الساحة الضائعة أو عن تسريح الحماسات التحريرية، أو عن إقامة هياكل عبادة جديدة أو عن تحديث الأوثان القديمة، بكلمة واحدة، عن حبس منجزات العبقرية الإنسانية في منظومة انضباط شعائري حيث لا تفعل غير أن تكرس يهيبتها العودة المتصلة إلى القهر، وهكذا ينشأ بين الإنسان والحرية عذاب لقاء قريب تارة بعيد تارة أخرى. وهو عذاب حقيقي تتوارى فيه الحرية في اللحظة عينها التي يتبارى فيها كل شيء على تحقيق انتصارها فتُخْلي المكان لبنيان استبدادي ما يلمعُ اسمها على مدخله مع ذلك كماركة مزيفة على سلعة مهربة.


إن النضال المعادي للايديولوجية لا ينزع إلاَّ إلى نزع سلاح الذكاء، إلى تجريده من وظيفته التساؤلية، إلى تعويده على احترام حقائق مرتبة بشكل هرمي وصالحة حتى للنظام الجديد. وبدعوى التخلص من التأملات المجردة، نتحرك صوب عقائد جامدة بدائية، صوب تعاليم اجتماعية مرعبة حيث تأفل الكلمات الأكثر إثارة للحماسة تحت ضربات المطرقة.


سوف يكون المثل الأعلى للواقعيين هو تحويل الذكاء إلى نوع من "صحيفة رسمية". فهل يناقش المرء "الصحيفة الرسمية"؟ إن المرء يعرف عن طريقها مراسيم اليوم. بينما في الشوارع وفي الساحات العامة، سوف تتكفل أُلهيات مختارة بالحفاظ على شعور الاستثارة المؤاتي لدى الجماهير. ومن الذي يمكنه أن يجادل في أن الاستعراضات في الساحة الحمراء مسؤولة عن جانب كبير من رسوخ النظام الستاليني؟ هكذا يخدم الواقعيون القلب والذهن بتقديم أعلاف متكافئة لهما. ويوم يهجر البشر الاستعراضات والأضرحة، سوف يتهمهم الواقعيون دون ريب بأنهم فقدوا قلبهم، في حين أنهم لن يكونوا قد فعلوا شيئاً غير الحفاظ على نبضاته لاستخدامها استخداماً أفضل.


إن الواقعية السياسية إنما تتأسس على صيغتين لا يوجد تكامل بينهما إلاَّ من الناحية الظاهرية. يقول لنا الواقعيون: "كل الوسائل حسنة". ويضيفون فور ذلك: "يجب تعلم التكيف مع الظروف". إن التنافر الذي يجعل هاتين الحكمتين غير قابلتين للارتباط فيما بينهما، لن ينجح في شد انتباه الواقعيين طويلاً. فالواقع أنه لا توجد بالنسبة لهؤلاء تنافرات نهائية، مثلما لا توجد بالنسبة لهم تناحرات عصية على التوافق فيما بينها. والشيء الوحيد المهم بالنسبة لهم هو القيام انطلاقاً من جوامع الكلم باستحداث فلسفة تمويه مخصَّصَة لتوفير أنسب حرية مناورة لهم. وعند اللزوم سوف يتخيل المرء أنهم يقولون: "كل الوسائل حسنة لتكييف الظروف". لكن تكييف الظروف، بدلاً من مجرد التكيف معها، إنما ينطوي على رغبة في تغيير الواقع والضغط على العقبة لا الانجرار إلى التشكل وفق نموذجها.


إن الواقعيين يخافون المجهول. ودورهم ليس هو تغيير الواقع، بل مراعاة جانبه. وإلاَّ فأين سوف يكونون أكثر ارتياحاً إن لم يكن في واقع ودي ومألوف يكافئهم بنجاحات من كل نوع، عن الاستقرار الذي يدين به لهم؟ وفي النهاية قد لا يكون من الأسهل أن نميز من، الواقع أم الواقعي، هو الذي قام بتطويع الآخر. إلاَّ أنه إذا ما فرض تغيرٌ جذريٌّ ما نفسهُ، فإن كل شيءٍ يصبحُ من جديد واضحاً تماماً. فعندئذٍ تكون "كل الوسائلِ حسنةً" من أجل إرجاء هذا التغير، من أجل إثبات عدم جدواه، وفي التحليل الأخير، من أجل سحق أنصاره. إن تفويض الأمر إلى الواقعي للاهتمام بتغيير الأوضاع، هو كتكليف صبي يخدم في سيرك بشق طريق في الغابة.


كلا، ليست الوسائل حسنة جميعها! فهناك بعض الوسائل، خاصة تلك التي يلتمسها الواقعيون أكثر مما عداها، التي لا تعتبر حسنة إلاَّ لحرف مسار التداعي الطبيعي للأحداث ولإدخال انحراف على خطط العمل المرسومة بشكل يكفي معه هذا الانحراف عموماً لشل حركة قوى النهوض التي تندفع دون طائل إلى مفترق الطرق. وشأنها في ذلك شأن تلك الجراح العصية على الالتئام، فإن الزوايا التي تفتحها "الانحرافات الواقعية" تصبح، عند محيد معين، عصية على الالتقاء من جديد. وذلك بقدر ما أن الواقعية تتألف من الإقامة في الانحراف واعتباره لا حالة وسيطة بل حالة نهائية، وضعاً في ذاته، وهو وضع سوف يتعين على اللاواقعيين العزم على بتره، بالأسلوب الوحشي إلى حد ما الذي كان يعاقبة علم 93 (17) يبترون به الرؤوس.


وعندما يتحدث السياسيون، الذين لا يحيون إلاَّ بالتحايل عن السماح بالانطلاق الحر للإرادة الشعبية، فلنكن واثقين من أن هذا اللجوء إلى الشعب لا يشكل غير تحايل إضافي في لعبتهم، والقاعدة الدائمة من جهة أخرى هي أن هؤلاء السياسيين لا يلجأون إلى الشعب إلاَّ عندما يتعرضون لخطر إزاحتهم على أيدي عصابة منافسة، أكثر براعة وأكثر ثراء في التحايلات. وغالباً ما طرحت مسألة ما إذا كانت للجماهير مصلحة في التجاوب مع نداءات ظرفية ونفعية من هذا النوع. ففي صفوف الكادحين، يوجد عدد من أساتذة الواقعية يكاد يكون قريباً من عدد أقرانهم في المعسكر المناوئ. ومن الغريب أن نرى هؤلاء الماكيافيللات ذوي الكاسكيتات وهم يتولون بخفة عقد التحالفات الأكثر خطورة، والتصالحات الأكثر مدعاة للحزن والأواصر السياسية الأقل استحقاقاً. ومن عام 1935 إلى عام 1939، فإن هذه التقاربات المضادة لطبائع الأمور بين الشعب والصالونات، بين المصنع والكنيسة، قد أسهمت إسهاماً بالغاً في تفسيخ العناصر التي كانت ما تزال سليمة وصدامية في قارة أوروبية لم تكن محتلة بعد وإن كانت ناضجة بالفعل للاحتلال. وفي هذا السباق على الزنا السياسي، يبدأ المرء بخيانة مثله الأعلى مع الجار المقابل له، ثم ينتهي إلى اقتسام أي سرير مع أي شريك.


إن الشعب يملك في نفسه موارده الخاصة، بشره الخاصين، أدوات نضاله الخاصة، مفهومه الخاص عن السلطة. وهو ليس بحاجة إلى أن يستأجر من الباطن محترفين مستهلكين بالفعل في خدمة الآخر، لكي ينجزوا له مهمته الخاصة. كما أنه ليس بحاجة إلى أن يسلم طاقاته وراياته لمشاريع إنقاذ السياسيين والأحزاب الذين والتي طالهم وطالها الفساد على حد سواء، الأوائل من جراء الممارسة غير المحدودة للدسائس والأخيرة من جراء الممارسة غير المحدودة للمساومات.

وعندما تجد الجماهير نفسها مدعوة إلى الفعل من جانب شخصيات أو جماعات لا تدين ببقائها إلاَّ لانعدام فعل الجماهير، فإن من حق هذه الأخيرة تماماً أن تنزعج. فالمسألة كما هو واضح لا يمكن أن تكون غير مسألة فعل معين موجه إلى اتجاه معين. وقد نجح السياسيون حتى الآن مرات كثيرة في تأطير فعل الجماهير، ولم تنجح الجماهير قط في تأطير فعل السياسيين. وأولئك الذين يحثون الجماهير على الانقياد لذلك الرجل العظيم أو ذاك – "القائد الممكن الوحيد" – أو لهذا الحزب أو ذاك الحزب المسارع إلى الانحطاط إلى حزب وحيد، والحُرَّيْن ، الأول والآخر، في التصرف على هواهما في الرغبات الشعبية، أولئك الذين يزعمون أنه سوف يسمح للشعب، من فرط الإخلاص بالرغم من كل شيء، بالتأثير على قرارات القائد أو الحزب، أولئك هم في الحقيقة ناصحون غرباء، يمكن للمرء تماماً أن يتعلم من أفواههم فن تزوير التاريخ.


إلاَّ أنه من غير الوارد، بسبب الخوف من استمالة الحماسات الشعبية واستثمارها من جانب عملاء الرجعية، الارتداد إلى مأزق الاستنكاف. فالجماهير لها دور كبير، دور فائق، عليها لعبه. لكنه دور مستقل. وفي كل مرة يلزم فيها مغازلتها من فوق منبر، يجري الحديث عن ثقلها في ميدان القوى السياسية. وهذا الثقل حقيقي. والمسألة الجوهرية هي معرفة ما الذي يحركه.


إن فعل الجماهير المستقل مع ما يلزمه من الرومانسية من أجل استعادة الوحدة الأخلاقية بين الغاية والوسائل، تلك الوحدة التي فصم عراها السياسيون الواقعيون، - هذا الفعل المستقل يجب أن يتمكن من أن يسوي بالأرض الركامَ المريع من التحايلات والحيل الذي نجازف، على المدى الطويل، بأن نُدْفَنَ تحته دفن البلهاء.


يقال إن السلطة مفسدة. هذا صحيح إلى حد معين. لكن الخوف من السلطة مفسدة أكبر. إن هذا الخوف من السلطة، من سلطة لا يدينون بها تحديداً إلاَّ إلى فعل الجماهير المستقل، قد اجتاح على مدار سنوات أبرز ممثلي اليسار الأوروبي وألقى بهم شيئاً فشيئاً في معسكر الواقعيين والمحتالين. فما أكثر الفرص التي لا تعوض والتي أهدرت لمجرد أن هؤلاء التعساء الذين استولى عليهم الذعر قد لوحوا للجماهير بتشخيصهم المفضل: "إن الوضع لم ينضج بعد!". وهو ما يعني في كل تسع من عشر مرات أنه يجب تركه ينضج لحساب العدو!


إن المرء لا يشفى بسهولة من الخوف. لكنه قابل للشفاء ممن يروجونه. ولابد من إخراج الدياليكتيكيين البواسل من حالة الهلع. وهو ما يعني أن التكليفات الصادرة إليهم يجب، مع كل أشكال المراعاة الممكنة وقبل أن تنضج أوضاع، أن تعفيهم من مسؤولياتهم.


بين زعماء الأحزاب الشعبية وزعماء الأحزاب الرجعية لا يوجد غير فاصل طفيف مصدره أن خوف كل طرف منهما لا يستهدف هدفاً واحداً عاماً. فعلى اليمين، هناك الخوف من المبادئ لذاتها. وعلى اليسار، هناك الخوف من تطبيقها.
الخوف من السلطة، الخوف من الأوضاع جد الناضجة ومن الوسائل جد المستقيمة، الخوف من الإفصاح عن الذات، الخوف من الرفض، - إن كوارث السنوات العشرين الأخيرة هذه قد ترتبت على تراكم جميع هذه الحقارات. والآن يجب الخروج من الليل، وذلك هو الشيء الأصعب. فمثلما تعتاد العيون على الظلمة، يعتاد الذهن على الجهل، يعتاد العقل على تقدم عبادة الأوثان، يعتاد الإنسان الحر على الكوابح التي يصوغها سادته تحت الاسم اللطيف: "الانضباط المقبول دون إكراه".


يجب الخروج من الليل، والحال أنه لا بلاغة الخطباء ولا بطولة الشهداء بوسعهما مساعدتنا في ذلك. ففي الرد على ادعاء الأحزاب الكبرى امتلاك مرجعية دوجماتية مطلقة، في رد هذه الأجهزة المتضخمة، المسلَّمة بلا ضابط إلى حفنة من أمناء السر "الواقعيين" إلى حجم الإنسان، في تحويل الممارسة الفردية للقدرات النقدية لا إلى عنصر اتهام في محاكمات عبثية للتخريب والخيانة، بل إلى شرط ضروري لوضوح اجتماعي كامل لم يسبق نيله قط، في هذا الاتجاه وبهذا الثمن سوف يكون بالإمكان ارتسام خلاصٍ أول.


لا بلاغة الخطباء، ولا بطولة الشهداء، بل امتلاك زمام وعي حر ومنتهك للمحرمات من جانب بشر ليسوا بحاجة بعد إلى شفعاء أمام القدر.



القاهرة، أواخر يوليو 1944

الملحق -1

إن تشوش اللغات هو، في السياسة، واقع معلوم تماماً. ومنذ سنوات عديدة، قامت السياسة بإخضاع اللغة لنظام مجنون ومخبول. وبرج بابل هذا لايرجع تاريخه إلى اليوم. لقد تركت السياسة نفسها عرضة للإصابة بفيروسٍ معروفٍ في تاريخ الفلسفة بمسمى الاسمية. وقد تم اكتشاف الاسمية من جانب الرواقيين الذين برهنوا على أن غالبية الأفكار والتعميمات التي غذت النقاش الفلسفي في زمانهم ليست غير كلمات. والحال أن فترة الاسمية السياسية لزماننا فيما بعد الحرب (العالمية الأولى) قد نجحت في إغراق البشرية في دوامة من المشكلات الزائفة التي يجري التعبير عنها بمصطلحات ملتبسة ومنحطة. إن جميع الأحزاب المتنازعة على السلطة مسؤولة – كل فيما يخصه – عن هذا الوضع، ولكن أولاً وأساساً الحزاب الفاشية المنبثقة من الحرب. وهكذا فإن الناس قد وجدوا أنفسهم محولين عن حاجاتهم الفعلية ومجرورين إلى تيه من المرايا المشوهة. وعلى سبيل المثال، فإنه إذا ما تشكل حزب لمحاربة الاشتراكية ولحماية مصالح الملاك، فمن الواضح أنه سوف يرتدي قناع حزب "اجتماعي"، ديمقراطي"، أو حتى "اشتراكي". وإذا ما وصف حزب ما نفسه بأنه "راديكالي" (جذري)، فمما لا جدال فيه أن المراد هو حزب بالغ الاعتدال. وإذا ما نشأ حزب جديد عن انقسام وقع في حزب قائم، فإنه سوف يسمي نفسه "حزب الوحدة". وإذا ما حصل حزب على تعليمات ودعم من الخارج، فبوسعك أن تكون واثقاً من أنه سوف يتظاهر في جميع المناسبات بأنه المدافع عن الاستقلال الوطني.


إن هذه الاسمية السياسية غالباً ما تعرض سخرية كئيبة على المسرح المعاصر. فعندما يجري إرسال قوات إلى بلد صديق لمجرد المساعدة على استمرار الحرب الأهلية فيه، فإن هذه العملية الصغيرة تسمى، وأنتم لا تجهلون ذلك، "عدم تدخل". وعندما يجري إلقاء خصومٍ سياسيين، مصيرهم "الضرب بالنار عند محاولة الفرار"، في السجن، فإن ذلك دائماً هم من أجل تأمين حمايتهم. والمحاكم السياسية التي لا هدف لها إلاَّ إرهاب الرأي العام، تسمى "محاكم شعبية"، وبرامج التسلح تُبَرَّرُ في كل مكان بذريعة أن واجبها هو العمل على صون السلم. وإذا ما خنت تعهداتك، فلا تكاد توجد حاجة إلى توضيح أن ذلك إنما يحدث "لإنقاذ شرفك".



إجنازيو سيلوني
("مدرسة الديكتاتوريين"، 1939، لندن، ص 164 – 165)


الملحق – 2

ألا تعجبون لجميع هذه التماثيل التي تقام في كل مكان. لكل هذه الاحتفالات والمناسبات التي يجري الاحتفال بها في كل لحظة، لأسماء الشوارع هذه التي يجري تغييرها دون أن يتمكن المرء تماماً من معرفة السبب، لعدد المعبودين من كل نوع والذين يجري تقديمهم لتأمين عبادة الشعب لهم؟


إن في كل هذه الحاجة إلى التبجيل والتي يجري إشباعها بلا توقف، تفاهة ما، وضاعة ما...



بول لوتو
(نوفيل ريفي فرانسيز، أول ديسمبر 1928)

الملحق – 3

أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية لا يمكن أن توهب لأحد، بل يتوجب فقط على الجميع انتزاعها، ولا أنها "تتعارض مع الضعف"، كما قال فوفنارج، أي تتعارض مع الأنانية والتفاهة وذهنية التحايل، والوصولية والانتهازية والهرب من المسؤوليات، والبلاهة المزهوة وكسل الفكر، واحترام المال، والنبرة المتشدقة، والخداع وتكلف العواطف التي تصنع كل ديماجوجية، وعبادة النجاح السهل والذي تجيء به الصدف، والخوف من الضربات، والخوف من الكلمات الواضحة، - باختصار، كل ما يميز الأخلاق السياسية لديموقراطياتنا المزعومة وأمزجة "جمهورها العظيم" التي ترعاها وتستغلها السينما والكتب الرديئة التي تطبع منها آلاف وآلاف من النسخ، والدعاية، أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية تتعارض مع هذا كله، أولئك الذين لا يعرفون البرهنة على أنهم قد فهموا ذلك – أولئك لا يستحقون شيئاً أفضل من هتلر.



دوني دو روجمون
("حصة الشيطان"، مونتريال، 1942، ص 174)

ترجمة بشير السباعي

عن الأصل الفرنسي

استيهامات_19

9 يونيو 2010


قبل سنوات من انتحاره، كتب بول لافارج كُتَيِّباً جميلاً عن "الحق في الكسل" وهو كُتَيِّب لا معنى لترجمته لأمةٍ كسولةٍ بما يكفي وبما يزيد عن الحد اللائق!


... عشت عشر سنوات (1981-1990) شبه كسول، قياساً إلى ما كان بإمكاني عمله، بالطبع. والحال أن ريشار جاكمون هو الذي قرر انتشالي من شبه الكسل هذا، حين أغراني بمشروع ترجمة كتاب تودوروف "فتح أمريكا – مسألة الآخر"، ما قادني إلى الانخراط بشكل مكثف في "مشروع طه حسين للترجمة" الذي تولَّت تسييره بعد ريشار كاترين فارحي (المصرية – الفرنسية) ثم دانييل كونيار (اللبنانية – الفرنسية) ثم دنيا أبو رشيد (المغربية – الفرنسية) ثم توقف صيف عام 2007 مع إغلاق قسم الترجمة بالمركز الفرنسي للثقافة والتعاون.


كانت السنوات الممتدة من عام1991 إلى الآن أكثر سنوات عمري خصوبة، ما يدفعني إلى التعبير للأصدقاء الذين ذكرتُ أسماءهم للتوِّ عن عميق امتناني، فكلهم ساهموا في انتشالي من "الحق في الانتحار"، الممنوح برحابة صدرٍ في مصر الحرة!


لطف الله سليمان

(1918-1994)


عناصر سيرة


بشير السباعي


ولد لطف الله حنا سليمان في المنصورة في عام 1918، غداة الثورة الروسية وعام نشوب الحرب الأهلية في روسيا ونشوب الثورة الألمانية وعشية ثورة 1919 في مصر، وهي أحداث تاريخية كبرى سوف تحدد تطوره الفكري والسياسي وتترك بصماتها الواضحة عليه كما على مجمل جيله من المثقفين الراديكاليين.


اعتماداً على المكتبة الخاصة لسيدة ألمانية في مسقط رأسه، لعبت دور راعية له، أخذ يتعرف خلال الشطر الأول من الثلاثينيات على تفاصيل مجزرة 1914-1918 الإمبريالية الكبرى ومجريات ومصائر الثورة الروسية وأعمال أبرز مفكري الغرب، مما أتاح له بلورة منظور حداثة ديموقراطية أممية التوجهات. وقد قاده هذا المنظور إلى التعاطف مع الثورة الأسبانية (1931-1939) وإلى اتخاذ موقف العداء السافر من الفاشية التي كسبت توسعاً جديداً في ألمانيا مع وصول هتلر إلى الحكم في عام 1933، وإلى اتخاذ موقف مماثل من الستالينية التي كانت قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل انحطاطها اليميني مع المؤتمر السابع للكومنترن في عام 1935.


غداة توقيع الميثاق الألماني – السوفيتي في صيف عام 1939، حضر لطف الله سليمان من المنصورة إلى القاهرة لكي يشهد ندوة في مقر "الاتحاد الديموقراطي" حول الفاشية، حيث ندد بالميثاق المذكور باعتباره دليل خيانة آخر من جانب البيروقراطية الستالينية للحركة العمالية. وقد قوبل الشاب المنصوري باعتداء جسدي من جانب العناصر الستالينية المحتشدة هناك، لم يخلصه منه غير تدخل جورج حنين (1914- 1973) ورمسيس يونان (1913-1966)، مؤسسي جماعة "الفن والحرية" (1939-1946). وقد أدى هذا اللقاء الأول بينه وبين الأخيرين إلى تعاون مشترك على أساس الرومانسية الثورية والحداثة الديموقراطية.


في عام 1940 نشر لطف الله سليمان دفاعاً عن "العقلانية الحديثة" في مجلة "دون كيشوت" القاهرية الصادرة بالفرنسية والتي هيمن السورياليون المصريون على أبوابها الأدبية والفنية، وقد شكل هذا الدفاع تجلياً لخلاف مبكر مع سوريالية جورج حنين ورمسيس يونان.


خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، آزر لطف الله سليمان جماعتي "الفن والحرية" و"الخبز والحرية" وتعاون بشكل حاسم مع مجلة "المجلة الجديدة" عند انتقال رئاسة تحريرها إلى رمسيس يونان حيث تحولت إلى منبر للراديكالية الديموقراطية إلى أن جرى وقفها بأمر من الحاكم العسكري العام في عام 1944. وقد نشر لطف الله سليمان في تلك الفترة ترجمة كراس عن كارل ليبنخت (1871-1919)، الأممي الألماني وقائد انتفاضة عمال برلين في يناير 1919. وخلال حملة انتخابات عام 1945 النيابية في مصر، قام لطف الله سليمان بحملة دعائية واسعة تأييداً للمرشح الاشتراكي الوحيد، فتحي الرملي، تحت شعارات "الأرض للفلاحين والمصانع للعمال" و"الخبز والحرية للجميع" و"تحيا وحدة المثقفين والعمال". وقد تولى لطف الله سليمان تمويل منشورات الحملة الانتخابية من حصيلة استيلاء على أموال من أحد البنوك.


في منتصف الأربعينات، برز عداء لطف الله سليمان للهيمنة الإمبريالية على المنطقة وللمخططات الصهيونية في فلسطين، كما ساعد أنور كامل (1913-1991) على نشر كراس عن الصهيونية في عام 1944 وشارك الأخير في تحرير كراس صدر في عام 1947 تحت عنوان "اخرجوا من السودان"، داعياً إلى جلاء القوات البريطانية عن وادي النيل وإلى حق الشعب السوداني في تقرير مصيره بنفسه ومشدداً على فشل الأحزاب البورجوازية في تحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية التي تسعى إليها الكتل الشعبية في وادي النيل. وعند تفجر النزاع المسلح على فلسطين في عام 1948، نشر بياناً تحت عنوان "لا لحربكم ولا لسلامكم!" دعا فيه إلى شن حرب ثورية ضد الدولة الصهيونية.


في كتابه الصادر بالفرنسية في باريس في عام 1989، "نحو تاريخ دنيوي لفلسطين"، شخَّص المجموعة التي ارتبط بها خلال الأربعينيات، مجموعة جورج حنين ورمسيس يونان ورفاقهما، بأنها مجموعة تميزت باتجاهات سوريالية وتعاطفات تروتسكية. وتشير دلائل متفرقة إلى أن هذه المجموعة – ذات الميول السوريالية الواضحة وغير المنسجمة من الناحية الفكرية – السياسية - كانت لها مع ذلك مراسلات مع الأممية الرابعة أو صحافتها على الأقل.


خلال الخمسينيات، انهمك لطف الله سليمان في أعمال النشر، فأسس "دار النديم" ثم أنشأ "الدار المصرية للكتب"، ونشر أعمالاً لكتاب مصريين وأجانب ساعدت على تشكيل وعي اليسار آنذاك، وربما كان أهم هذه الأعمال هو كتاب إبراهيم عامر "الأرض والفلاح".


عبرت نشاطات لطف الله سليمان في مجال النشر وصلاته مع ممثلي الحركات القومية الاستقلالية في القاهرة (خاصة ممثلي حركات تحرر الشمال الأفريقي) في تلك الفترة عن تقاربه الملحوظ مع أطروحات ميشيل بابلو (رابتيس) حول "المعسكر الشرقي" والثورة الكولونيالية، ووجد ارتباط لطف الله سليمان بالبابلوية تعبيراً مثيراً عنه في جزائر بن بلة (1962-1965)، حيث كان واحداً من مستشاري الرئيس، جنباً إلى جنب ميشيل بابلو، بعد فصل الأخير من الأممية الرابعة. وقد راود الرجلين حلم تحويل الجزائر إلى كوبا أخرى.


بعد شهور من سقوط بن بلة، رحل لطف الله سليمان عن الجزائر إلى فرنسا حيث عمل مع مكتب الجامعة العربية في باريس، ثم تفرغ للنشاط الصحافي.


واجه لطف الله سليمان الاعتقال غير مرة خلال العهد الملكي والعهد الناصري – فقد اعتقل خلال حملة 11 يوليو 1946 التي شنها إسماعيل صدقي ضد القوى الوطنية – الديموقراطية واليسارية، وأعيد اعتقاله في أوائل عام 1948، وكان ضمن من اعتقلوا خلال حملة عبد الناصر المضادة للشيوعية في عام 1959، ولم يخرج من المعتقل إلاَّ بعد تدخل أحمد بن بلة شخصياً لدى عبد الناصر.


نأى لطف الله سليمان بنفسه عن مساعي محمد حسنين هيكل ولطفي الخولي الرامية إلى حشد المثقفين اليساريين وراء عبد الناصر في منتصف الستينيات وآثر البقاء في منفاه في باريس.


مات لطف الله سليمان في 18 ديسمبر 1994 في باريس ودفن في جبانة مونمارتر.


جريدة "الجريدة" (بتاريخ ؟)

استيهامات_18

7يونيو 2010

حسناً، عزيزتي، أنتِ على حق: إن الاستيهامات، والنصوص الأخرى، مشحونة بالذكريات، الأليمة غالباً. ولكن، لكِ أن تتصوري إلى أيِّ حدٍّ يمكن للنسيان أن يكون مصيبة، وذلك بقدر ما أنه يؤشر إلى خمود الغضب.

اسمحي لي أن أُذَكِّرَكِ بما كَتَبَتْهُ ماريكا بودروتسيتش عن لقائنا الوحيد، قبل ست سنوات:

"أرغب في البدء ببيانٍ لصالح ولشرف المنابع التي ننحدر منها ولصالح ولشرف شواطئ أفكارنا وأقول: ليس هناك في العالم سوى الخوف والحب [...]
"لكن زمن البيانات قد وَلَّى، حتى لو كانت هناك نفحة من قوتها، نفحة من السرِّية والثورة يمكن استشعارها في وسط المدينة بالقاهرة. في أحد أيَّام الثلاثاء، قام شاعر بمصافحتي، ثم جلس في مكانه ثانية، ولعلمه بأصولي السلافية، قام طوال ساعة كاملة بإلقاء أشعار لليرمونتوف وتسفيتاييفا وأخماتوفا، وكان يُعاودُ إغلاق عينيه بين الفينة والأخرى، وكأنه يقوم في ظلمته خلف الأجفان بالتناجي مع الشعراء الروس، وكأنه يجلب هذه السطور من عين البشرية، التي كان بإمكانها التذكر، لكنها نسيت القوة من فرط التسلط".

هكذا، عزيزتي، يمكنكِ إدراك ما بين التذكر والانتصار على القهر من آصرة حميمة، وأليس صحيحاً، عموماً، أن الوعي التاريخي هو المدخل إلى امتلاك زمام المصير؟

أَشُدُّ على يديكِ، امتناناً للتواصل...

جورج حنين_15

يوليانوس المرتد أو التبجح الميتافيزيقي



"يولد الناس ولهم ميول متباينة، وميلي، منذ طفولتي، هو اقتناء الكتب".
(يوليانوس: رسالة إلى إكديكيوس، والي مصر)



مع يوليانوس، يظهر في التاريخ للمرة الأولى على شكل إرادة وقوة سياسية مالم يكن حتى ذلك الحين غير ظل (ولكن ربما أيضاً بؤرة ) للروح: الحنين إلى الماضي.


لا ننسين أنه بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كانت إسرائيل هي مناط الحنين الممكن الوحيد، وكان هذا الحنين ألماً مشدوداً على نفسه حتى الضنى، يستبعد أيضاً كل توسط: سماء مرصصة لا تتحالف إلاّ مع الصاعقة. وبالنسبة لرومانيٍّ، فإن مناط الحنين هو اليونان، التي يصعب اختزالها إلى فكرة واحدة، ولكن التي يمكن مع ذلك اعتبارها مرتبطة بالصيغ الأكثر إنارة للعقل وبممارسة معينة للحياة لا يمكن استلابها إلاّ عبر العبودية وليس عبر الخطيئة. والحال أن شيئاً من هذا الحنين إلى الماضي يتسرب بالفعل إلى الصلاة الاستهلالية لقصيدة لوكريتيوس:


"يا أم الرومان
يا فينوس الجميلة
يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة
يا من تنشرين الحياة تحت السماء
حيث تسبح النجوم
وفي البحر الذي يحمل السفائن
وعلى الأرض الفياضة بالزرع،
فمنك يولد كل كائن حي
ويُدعى إلى رؤية نور الشمس،
لك أصلي
أيتها الربة!"


في هذه الصلاة نجد علامات الوفرة وعلامات الشهوة المتكاملة فيما بينها: "يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة". وفي الأسطورة المسيحية، يهبط ابن الرب على الأرض ليحمل عن البشر آلامهم. وهي، بشكل ما، تربط الرب بهذه الآلام ومن ثم تجعل عبء الإنسان محتملاً. أما العملية المقابلة فهي ما يمكننا رصده في الوثنية الهللينية حيث يتعلق الأمر بدلاً من ذلك بربط الإنسان بوسط الآلهة. إن أي طريق للصليب لا يقود إلى الأوليمب! والإنسان الهلليني لا يستحي من الحياة التي لم ينخ عليها بعد كلكل الفداء.


والحال أن المسيحيين يجسدون كلمة رامبو المملة، قبل أوانها: "يجب أن نكون حديثين بصورة مطلقة!." فهم ليسوا على حافة العصر الحديث وحسب، بل إنهم يمنحون الحداثة أعصابها المفرطة الهستيرية والتي تسبح في النزاع مثلما تسبح في الوسط الديني الأكثر إشباعاً. إنهم يدخلون نبض الزمن القاتل في قلب حياة مسطحة، كانت تعاش حتى ذلك الحين من زاوية الانسجام لا من زاوية المحنة.


ويتشكل على خطى المسيح ضمير جديد لا يعود ضمير حاضر متجانس يتتابع صعوداً بلا توقف إلى مستوى الإنسان، بل يفسح على العكس من ذلك مجالاً للمستقبل، لذلك "التجاوز" بالغ الشهرة الذي سوف يصبح إيلدورادو مغامرات الروح والذي سوف تخور قوى نيتشة إزاءه ويتشبث بتلابيبه. إن "الصخرة العالية الأزلية الخرساء، القدر" ما عادت تخيف البشر الزاحفين صوب قوة باطنية غراراة لا يملكون سوى ظن وجودها، ولا يجدون أحياناً غير غوايتها، وإن كانوا لا يملكون البتة مفتاحها. وعندئذ يطالب التاريخ بأن ينظر إليه وفقاً لمنظور اشتهائي. أما الجنس الذي يظل دائماً في العشرين من عمره فهو يتلاشى كجزيرة يطويها سديم شمسي وينبثق بشر يشددون على إركاع الزمن أمام نير مفاجئ: استمرارية درامية ذات معنى. وفي مقابل الإنسان الحديث، في مقابل التجديد المسيحي، يضع يوليانوس الإنسان غير المستسلم لحاضره، والذي يتمثل الإحساس بالحضور على الأرض بالنسبة له في وحدة عيار الحياة.


لقد آمن يوليانوس بشفافية العقل غير المحدودة. وبالنسبة له، لا ينفصل النظام الديني عن فكرة القانون والذي تحدده بدوره عمارة معينة منسجمة للعالم. وهو يجل في اليونان القانون الذي لا يحتاج إلى أن يحمل اسماً لأنه، بادئ ذي بدء، انسجام وتناغم. وهو يحترم في روما القانون الذي إذ يسمي نفسه إنما يساعد على صد فوضى الأقوام الأجنبية والخطر الأبدي المحدق بكل جمال. لكنه، في المقابل، لا يرضى بالعدوى المسيحية التي تعمل في الواقع ليس وفقاً للفهم وإنما وفقاً للتشنج. ويبدو أنه قد رصد تحولاً غامضاً ومزعجاً. والواقع أنه عندما اختفى يوليانوس، وقد هزمه سوء حظ الغرب، فإن صدمة الصليب تبدأ بالكاد في اختراق لحم البشر. وقد استشعر يوليانوس أن شيئاً عبثياً بشكل عجيب آخذ في الحدوث، إن نداء عبث باطنياً حقيقياً يعلن عن نفسه بين البشر وإنه سوف يجرهم إلى هذا الشكل الأرقى للجور والذي يتمثل في مكابدتهم في الرب مرة أخرى ما كابدوه بالفعل مرة أولى في الإنسان.


أثر آخر للانتصار المسيحي: إن الوشائج تنقطع بين الأخلاق والسعي الجمالي. ذلك أن مفهوم الحياة الخلاب، والذي كان مفهوم الإغريق ويظل مفهوم يوليانوس، إنما يجتاحه ذلك التدفق العضوي المندفع مع رياح القطيع. وكيف يمكن لأولئك الذين يهدرون أن "الأزمة قد جاءت" أن يهتموا بتجميل الحياة؟ لقد تطلب الأمر قروناً لإعادة اكتشاف الغندرة – تلك الردهة المفضية إلى السعي الجمالي، - تطلب قروناً لابتعاث رخام التماثيل التي كانت الوقاحة قد بلغت بها حد تصوير بشر صحتهم جيدة (بين زمن قسطنطين وزمن الرينيسانس، يبدو نحت تماثيل ذات خدود بشرية هزيلة أشبه ما يكون بثأر الشاكين من سوء التغذية). لكن أية عودة إلى الوراء – ولا حتى عودة غنادير القرن التاسع عشر والذين بذلوا مع ذلك كل ما في وسعهم لكي يكونوا "وكأن شيئاً لم يكن" – ماكان بوسعها أن ترد إلى السعي الجمالي الهيمنة على سلوك الفرد.


لم يُذكر بما يكفي أن الانتقال من الوثنية إلى المسيحية قد ترافق مع تطور مفاجئ في جوانب الجمال الجسماني – وثبة ضلال مفاجئة، - مثلما ترافق، من جهة أخرى، مع مفهوم مفاجئ عن تجارة البشر. إن انقباض الملامح (الذي لا يمت بصلة إلى التكشير الجامد والمدروس لأقنعة التراجيديا الإغريقية) إنما ينبثق كما لو أن المراد من ورائه هو تشويش جماليات الوجوه دون صخب. حتى يحمل الإنسان نفسه شهادته هو على العذاب. حتى يحمل وجهُهُ الشهادة. وهذا الهتك لسر المحنة المترتب على أشكال عدوى خرقاء - إنما يجعل من اليأس شأناً عاماًّ. وفي أعقاب صور السلطة والنبالة، تجيء صورة الكائن المغلوب، صريع التعاسات الدنيوية، الحريص على أن يهين في نفسه رشوة الحياة المتمثلة في الجمال.


وبالنسبة ليوليانوس، فليس هناك ما هو أكثر فظاعة من مشهد رب ملطخ بالوحل وبروث البهائم، ومصلوب بين لصين مصلوبين. (1) فهو رى أن من المستبعد أن يقبل رب حقيقي أن يظهر في مثل هذه الصحبة. لقد قدمنا، منذ عشرين قرناً، الإتاوة جد السخية إلى المألوفات الشعبية (أعني في مجال الروح) بحيث لا يسعنا – عن حق – الترفق بهذا التبجح الميتافيزيقي الحقيقي. إننا نستشعر أن الألوهية، في نظر يوليانوس، هي مسألة سلوك راق. وكيف يمكن له الارتياح إلى اغتصاب المعرفة من جانب بعض أهل الحرف العاطلين - صيادي السمك أو الإسكافيين الذين يتبجحون بنبذ تعاليم الفلاسفة؟ إن شعار يوليانوس، إن كان قد اهتم بأن يكون له شعار، إنما يتسامح مع تلخيصه في هذه الكلمات: "إن الالهة تأخذ ولا تُلزم نفسها". إن هناك شيئاً مؤثراً في إصرار يوليانوس – إذا ما نظرنا إليه نظرة فاحصة – على بعث "تنوير" في عصر وعالم مشرقيين ومرضيين، تهيمن عليه تحرقات خبيثة.

*


إن جويتز، الفارس الألماني المرتزق عند سارتر، يجرح راحتي يديه ليرى الجمهور ندوباً زائفة. وهذه الحركة، إذا ما راعينا كل الأمور، ليست غير نصف خديعة. فسواء كانت الندوب حقيقية أم زائفة، فإنها تظل منتمية إلى مجال المبالغة. إنها تشهد على عدم اندمال الكائن، بل إنها تشهد في الحقيقة على عبادة الجرح الأول، الذي لا يمكننا قبوله إلاَّ إذا أدى بالتئامه إلى تحرير الإنسان من أسطورته الشرهة. ولذا فإن يوليانوس لا يخطئ عندما يفهم المسيحية على أنها انشقاق مغروز في الحياة رأساً، على أنها تعويض عما لا يمكن تعويضه. إن المسيحية، من حيث كونها انشقاقاً وشقاقاً، مبالغة والتباساً، إنما تخترع الحشمة لكي تتحول بعد ذلك في تقلبات قديسيها الانتشائية إلى فريسة لـ "الزوج الجدير بالعبادة". إنها تخترع النعمة، لكنها تسارع إلى اطلاق اختها التوءم على العالم: المحنة. وليس محظوراً أن نتساءل عما إذا كان البوح الكبير بالإحسان والذي تبالغ المسيحية في إبراز نفسها من خلاله لا يتجاوب مع الحق في إنهاء العالم. لابد من إرهابيٍّ للروح، كيركجارد مثلاً، لتبني موقف مماثل باعتباره الشيء الأكثر إراحة في العالم.


وأخيراً، وهذا في حد ذاته موضوع كاف للذعر، فإن المسيحية تتبرأ من الجريمة لكنها تلثم جبين القاتل. والمسألة لا تعود مسألة افتداء بعيد ولا نعمة افتراضية، بل هي مسألة خلط الحابل بالنابل. وعندئذ فإننا ندخل دون صعوبة إلى ما أسميه بدوامة المهانة المُمَجَّدة. وأنا أعتقد أنه في ذلك ومن خلال هذا الجانب المحدد تظهر المسيحية ليوليانوس بوصفها عصبة من الأشرار. فمهما كانت الجريمة التي يرتكبها الكائن الإنساني، فإن الجريمة ستجد من الان فصاعداً، دائماً وأبداً، من يفتديها.


والواقع أنه يبدو أن ما يطلبه البشر هو ألاَّ يعودوا بحاجة إلى الرد وحدهم على أقدارهم. ولكن، هل فعلت المسيحية، في التحليل الأخير، شيئاً آخر غير أن تزيد على مدى البصر وحدتهم الأولى، أليست قاصرة على الإنعام على البشر بوحدة كتلك التي يصورها كيريكو حيث لا نلحظ غير ظل البراءة بينما يتردد، في المقابل، في كل مكان، صدى جريمة هي منذ ذلك الحين فصاعداً لا مرتكب لها؟


وفي مثل هذه الظروف، فإن ارتكاب الخطيئة يصبح وسيلة لأن يكوِّن المرء لنفسه علاقات. ذلكم في الواقع بُعد جديد للسلوك، سرعان ما تتلوه من جهة أخرى تمزقات يحافظ عليها المسيحيون – لعجزهم عن التغلب عليها – حفاظهم على زهور في دفيئة زجاجية. إن لكل فعل طابعاً رمزياً. وهو يعبر عن فاعله بأكثر مما يمكن للمغفرة أن تغيره. ومنذ ذلك الحين، هل يمكن للمرء أن يتخلى دون عقاب عن ملكية فعله (انظروا راسكولنيكوف)؟ هل يمكن للمرء أن يتخلى عن محنته (انظروا كافكا) أو أن يقتسم لدغتها؟


إن الشيء المؤكد هو أن المسيحية قد أضفت مذاقاً، ملتبساً ومُبَلِّراً في آن واحد، على كل ما يحدث بعد الفعل. فهناك "بَعدٌ" مسيحيٌّ بشكلٍ خاص لا يشبه أي "بَعد" آخر, وسواء أكان هذا البَعد هو بَعد الحب أو بَعد الجريمة، فإن الضمير ينسحب من الفعل بسهولة غير عادية، لكنه يساعد في الوقت نفسه على استحالة أن يكون المذنب شيئاً آخر غير المجرم - الذي – ربح الخلاص أو الزاني – التائب – الراكع – تحت – قدمي – المسيح. فهل يتوجب التأكد من أن إنساناً حلت به السكينة لأن عيوبه قد جرى حمل المسؤولية عنها هو شيء أكثر من شبح إنسان حر. أو كذلك -جنباً للحديث عن الحرية – يحتفظ بحقوقه في المزاح سليمة. وإلى أي حد يظل من ربح الخلاص سيداً لضحكته؟

*


لقد قلت إن يوليانوس، بعد ثلاث سنوات من الحكم، قد هزمه سوء حظ الغرب. ويبدو لي أن من خصائص المسيحية الاستفادة من هذه المحن المبتورة حيث يختفي الخصم في الوقت المناسب. إلاّ أنه تبقى الإشارة إلى مَعلم آخر، هو الأكثر أهمية، المعلم الذي يضع كلاً من المسيحية ويوليانوس في مواجهة أحدهما الآخر كخصمين لدودين. إن موعد المسيحية الكبير يقع بعد الشر (لابد من حدوث الفضيحة). أما موعد يوليانوس فهو يقع قبل ذلك (ليست هناك فضيحة).


إن هدف يوليانوس المثير للشجن والمتمثل في استعادة، استرداد ولاء – وفاء ضائع إنما يجعل منه عين نموذج مصحح التاريخ. إن يوليانوس هو ذلك الذي لا يقبلُ حكماً يصدره العائثون فساداً بانسجام الآفاق، - إنه ذلك الذي يرفع ولاءات – وفاءات الروح إلى مرتبة فوران نبيل. ويبدو لي أنه ينطبق عليه بشكل مباشر كلام جان جرينييه المؤثر: "ربما كان من المناسب أن يتغير الإنسان لكي يتكيف، ولكن دون إفراط مع ذلك، وأما شرفه فإنه يتمثل غالباً في ولاء، حتى وإن كان بلا أمل".



(1) ".... سوف نوضح أن إلهه الجليلي الجديد، الذي تمنحه حكاياته الخلود، يُعَدُّ في الواقع، بحكم عار موته ورمسه، مستبعداً من الألوهية التي يخترعها ديودور له".
(يوليانوس: رسالة إلى بلوتينوس)
وأيضاً:
"أيها الجليليون، إن يسوع هذا الذي تدعون إليه كان أحد رعايا قيصر".
يوليانوس المرتد – فلافيوس كلاوديوس يوليانوس، امبراطور رومانيّ، ولد في القسطنطينية في عام 331 ومات في بلاد الرافدين في عام 363، فيلسوف، ترك كتابات عديدة من بينها بحث معاد للمسيحية . – المترجم.


ترجمة بشير السباعي عن الأصل الفرنسي

استيهامات_17

30 مايو 2010

يقول جون إليس: "التفكيك يوفر لأتباعه إشباعاً سيكولوجياً كبيراً. فأحد السمات الجوهرية لمنطقه ... هو الشعور بالانتماء إلى نخبة ثقافية، بالنزوح عن سذاجة الجمهور، بالعمل على مستوى ثقافي أعمق من المستوى الذي يعمل عليه هذا الجمهور. وأنا أقول سمة جوهرية، لأن سذاجة الجمهور هي نقطة انطلاق التفكيك ذاتها، وخطوته التالية عاطفيةٌ عاطفيةَ قفزة فكرية إلى موقف يَشعر أنه مختلف من جميع النواحي. وهذه جاذبية قوية".


في هذا السياق، تتخذ وقاحةُ نوعٍ من المرضى موقعها الحقيقي: إنها مجرد آلية تعويضية لا تختلف كثيراً عن أخواتها المعروضة في شارع رشدي لذوي الحاجات الخاصة!


وهؤلاء، بحسب باسترناك، غالبون لنا!


* * *

1 يونيو 2010


قبل سنوات، طلبت إليَّ سامرة سميِّر، التي أحالها إليَّ تيموثي ميتشل، المفكر البريطاني المعروف، أن أترجم عدداً من الدراسات لمجلة عدالة، التي يصدرها مركز عدالة، داخل الخط الأخضر، والمهتم بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين في دولة اسرائيل.


عندما سَلَّمتُها الترجمة سألتني عن مكافأتها، فقلت إنني أريد التبرع بها لأسرة الشهيد الفتى البريء مصلح أبو جريد، الذي قتله الجنود الإسرائيليون في أم الفحم في أحداث أكتوبر 2000. تَرَدَّدَت قليلاً، ثم قالت إنها يجب أن تُراجع مدير المركز في هذا الصدد. ثم أخبرتني بعد ذلك أن المدير أجابها بأن المركز لا يستطيع إرسال التبرع إلى أسرة الشهيد، لأن الإسرائيليين سوف يعتبرون ذلك "مساعدة للإرهاب"، ما من شأنه أن يؤدي إلى إغلاق المركز ومحاكمة المتورطين في توصيل التبرع و، ربما، إدراج اسمي على قائمة المطلوبين من الموساد!


إن الجنون الصهيوني ليس ابن اليوم ولا البارحة: إنه مرصود منذ البدايات، منذ هرتسل، الذي كان أصدقاؤه قد نصحوه بزيارة طبيب نفسي، حين طرح عليهم أفكاره!