حروب السلامةِ العامةِ: العنف العقابي

بوصفه سيرورة تضحية وتأمين

ألن فيلدمان
ترجمة بشير السباعي


حروبُ السلامةِ العامةِ المجاوزةُ للأطر الإقليمية


انبثقت استراتيجيات جديدة لإعادة إنتاج سيادة الدولة الأميركية، وهي استراتيجيات يمكن تشخيصها على أنها حروب سلامةٍ عامةٍ مجاوزةٌ للأطر الإقليمية وغير محدَّدة. وهذه الحروب لا تتركز حصرياً على فتح أراضٍ. بل هي تتركز بالأحرى على الاختراق الإقليمي-«الإرهابي»، والاختراق الديموغرافي والبيولوجي المنسوب إلى أطراف أخرى. وهـذه الحملات لا تحدد بنيتها أهـدافٌ سياسية محدودة زمنياً بل هي مفتوحة على الأفق الزماني دون نهاية محددة. وهي ليست مجرد أدوات جيو-ستراتيجية ـ أي وسائل لتحقيق غاية سياسية. فحروب السلامة العامة المجاوزةُ للأطر الإقليمية هي أشكال ثقافية جيو-سياسية يمكنها تحقيق هيمنة داخلية نوعية داخل المجال العام الأميركي عبر تعايش الخوف المستبطن وعدوان آخر موجَّه. ومن الواضح أن المؤشر على ذلك هو حملات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق والرد على ترويعات الإرهاب البيولوجي الأخيرة. على أن هذه الحروب قد أنبأت بها من قبل حملات أسبق ضد المخدرات واللاجئيـن لأسباب اقتصادية والباحثين عن ملجأ وملاذ والمهاجرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية، وذلك بالإضافة إلى حملات الشرطة ضد الجرائم المتصلة بنوعية الحياة والتي استهدفت بشكل زائد عن الحد جماعات مدينية ملونة داخلية.


وخلافاً لحروب القرن العشرين، لا تعد هذه الحـروب المتحـررة من قيود الشكل التقليدية حروب يوتوبيا، بل تعد حروب ديستوبيا [خوف من تجاوز الوضع القائم] تفترض أن الديموقراطيات الليبرالية «المُثلى» معرضة لتهديد خطر غير مرئي، آخذ باخـتراقها. وهكذا فإن الفانتازيا السياسية لما بعد 11/9 قد روَّجت الاستقطابات اللاتاريخية عن الحضارة في مواجهة البربرية، أو المفهوم العقلاني الليبرالي اللاتاريخي بالمثل عن «حـروب الحضارات». والمؤشر على ذلك هو التبني القومي السريع لموتى مركز التجارة العالمي من جانب الدولة ووسائط الإعلام. وقد جرى امتداح مركز التجارة العالمي بوصفه مجالاً طوباوياً مـنتهكاً للعمل الذي اكتسب طابعاً عبر قومي ولرأس المال الرمزي ولإنتاج الثروات الذي اكتسب طابعاً ديموقراطياً وغير استبعادي. على أن هذه الصورة قد كّذَّبها عددُ العمال الأجانب غير المسجلين الذين كانوا في السابق ولايزالون إلى الآن غير مرئيين والذين اختفوا مرةً ثانيةً في انهيار البناية. والحاصل أن الحرب المجاوزة للأطر الإقليمية إنما تروج أيديولوجية فضاء يهيمن عليه جنون الريبة وهي رد ضمني عدواني على نهاية الاستقطاب المميزة لفترة ما بعد الحرب الباردة كما على الدوار الثقافي-الاقتصادي الذي ترتب مؤخراً على العولمة. وهكذا فإن حروبَ السلامةِ العامةِ الجديدةَ إنما تستهدف صور شخصيات تجتاز الحدود جرى إضفاء ملامح شيطانية عليها وتشمل تجار المخدرات والإرهابيين والباحثين عن ملجأ وملاذ والمهاجـرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية، بل والميكروبات. وترافق مخيالات الحرب الجديدة هذه بنى ذات مواقع استراتيجية للإزاحة وللتوقع ولاختيار الأهداف ولاستبدال الأهداف. ونحـن الآن خاضعـون لبنية عليا جديدة لفانتازيا الحرب يعد فيها المستهدفون بالحرب وأعداء السلامة العامة مرنين ومطواعين كصورة حُلمية. وسوف أعرض في هذا البحث عدة خصائص للأشكال المنبثقة للحرب وللسيادة: «المفهوم البوليسي للتاريخ»؛ «دولة العلاج» الآخـذة في الانبثاق؛ الثقافـة البصـرية الجديدة للحرب؛ بنية التضحية المميزة للإرهاب السياسي المعاصر؛ والبنية التأمينية للعنف السياسي.

المفهوم البوليسي/ العسكري للتاريخ


هذه البيئة الأيديولوجية تحفز مفهوماً بوليسياً للتاريخ، أي إعادة تأطير السيرورة التاريخية في ثنائية فضاء آمن مثالي وفضاء مزدوج، ديستوبي ومثقل بالمخاطر. وفي هذا النموذج الإرشادي، فإن فضاءات النظام إنما تقوضها فضاءات الخطر المحتكة بها. وهذا المفهوم عن التاريخ إنما يطرح السوسيولوجيا المعيارية للسيرة الشخصية: من الذي ينتمي ومن الذي خارج المكان. كما أن المفهوم البوليسي للتاريخ يتناسب مع الاقتصاد المعولم الجديد: فهو يحفز مفهوماً معيارياً عن الاقتصاد العالمـي بوصفه فضاءً منظَّماً للحركة الاقتصادية تؤدي فيه الجماعات والأفراد وظائف مناسبة وتحـتل فيه مواقع مناسبة. أَمَّا الحركة غير المناسبة والمتعدية، والتي تجد رموزاً لها في صور التلوث البيولوجي-الاجتماعي، كمرض الإيدز ومرض جنون البقر والسارز وتجارة المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين، فهي محل خوف وموضع هجوم.

وهكـذا فإن الإرهابيين المتسللين هـم في آن واحد مثلٌ ومفهومٌ جامعٌ لفكرة الحركة غير المناسبة. وممارسة التأمين البوليسي في هذا الإطـار الخاص بالحركة المنظَّمة/ غير المنظَّمة إنما تتعلق بالتوزيع المرئي للوظائف وللمواقع داخـل مجتمع من المجتمعات وفيما بين المجتمعات؛ وتتعارض هذه الممارسة مع انبثـاق ذاتيات جديدة تقاوم معايير الحركة و/ أو تمارس أشكالاً غير شرعية للحركة. وهذا الشكل من أشكال ممارسـة التأمين البوليسي إنما ينبثق مع اختفاء الحدود القومية المادية القابلة للتفعليل ويعوض عن خسارة الحدود المادية بخلق شبكات حدود جديدة تعد مضمرة وتنشط عبر وسائط غير مباشرة وتتخذ من المراقبة الإلكترونية ركيزة لها. وهكذا فإن وقف أو تعطيل الاقتصاد الأخلاقي للحركة إنما يتم تشخيصه عندئذ بوصفه «حادث-خطر» ديستوبي، أي بوصفه تعطيلاً للسير السلس المتَخَيَّل لعمل جهاز الحركة والذي من غير المتصور حدوث شيء فيه. فـ«الحالة السوية» هي حالة امتناع وقوع الحدث، والتي تعني في واقع الأمر التوزيع المناسب للوظائف والشغل المناسب للمواقع المحدَّدة وصون الصيغ الاجتماعية المناسبة. وهكذا فإن فهم أشكال التأمين البوليسي المطابقة لهذه الحالة إنما يتطلب تدقيقاً مفاهيمياً عن قرب. وكما هي الحال تماماً مع الحدود، فإن التأمين البوليسي إنما ينتقل مـن الطبيعي [المادي] إلى المضمر.


يرى جاك رانسيير أن البوليس أقل اهتماماً بالقمع من اهتمامه بوظيفة أساسية أكثر: هي وظيفة تحديد ما هو قابل للرصد أو ما ليس قابلاً له، وتحديد ما يمكن أو ما لا يمكن رؤيته. وهذه أسماء أخرى للتكوين الرمزي للاجتماعي: الاجتماعي بوصفه يتكون من جماعات ذات أساليب نوعية يمكن تمييزها والتعرف عليها تِسِمُ أشكال عملها، وهذه الأساليب في العمل إنما تُحَدَّدُ لها هي نفسها بشكل شبه طبيعي على نحو مباشر مواقع يتم فيها أداء هذه المهن(1). ويعارض رانسيير التطبيق البوليسي لمتَّصَلِ الحركة على السياسة، التي هي تجلي الذاتية من حيث هي خروج على المواقع والوظائف المحدَّدة، كما يعارض البيئات المكانية المستقرة (وذلك بقدر ما أن شَغْلَ والانحباس في بيئة مكانية مستقرة، كوظيفة اجتماعية أو فضاء ذي طابع مرضي كالـ«غيتو» أو العالم الثالث أو الهامش، يُعَدُّ شغلاً لموقع مناسب، واكتساباً لشكل صحيح). والحاصل أن الاقتصاد الأخلاقي للحركة المناسبة وتكنولوجيا الشكل السياسية إنما يؤديان إلى ظهور سياسة معيارية عن المرئي؛ ما هو مقصود به أن يكون مرئياً فـي المـجال العام للدولة-الأمة أو في الاقتصاد عبر القومي، والواقع الرُهابي المتمثل في أن هذه القابليـة المعيارية لأن يكون الشيء مرئياً إنما يخيم عليها ويتهددها غير المرئي (سواءٌ كان متمثلاً في إرهابيين أم جماعات سكانية متحركة لا تنتمي إلى أية دولة أم ميكروبات). وهكذا فإن المفهوم البوليسي للتاريخ إنما يُعَدُّ تكنولوجيا سياسية متمحورة على الرؤية، وتركيزاً بصرياً على التحكم في المسطحات الاجتماعية وفي التخريب السري المحتمل لها، إلى جانب كونه تركيزاً على التحكم في إضفاء طابع بصري عام على «الأحداث» أو التسللات الخَطِرة. ويتمثل جزء لا يتجزأ من التحكم في الحركة في التنظيم الاستراتيجي لصور الحركة والذي إمَّا أنه يفرز المعياري [السوي] أو يفرز المتعدي من زاوية الفوائد السياسية الآنية.


وداخل وخارج الدولة-الأمة المحاصَرَة خارجياً وداخلياً، تتطلـب حملات السلامة العامة كلاً من بولَسَة الجيش وعسكرة البوليس. فالتأمين البوليسي الحضري، مثلاً، يتركز بشكل متزايد على استئصال أو التحكم في الجرائم المتصلة بنوعية الحياة. وهذه الجرائم تعديات تجد منشأها في مناطق بؤس الأقليات الاقتصادي ـ وهي موقع الاختزال وعدم الاستثمار في العصر بعد الصناعي، والانخراط المتبادل للجماعات التي طالها الفقر في «الاقتصادات السوداء» غير الرسمية. وفي هذا السياق، يكف التأمين البوليسي عن التركيز على القبض على متعدين أفراد ويركز بدلاً من ذلك على المراقبة الجغرافية المتميزة بالشمول واحتلال أحياء بكاملها والانقضاض على مجمل سكانها. ويصبح التأمين البوليسي تنويعاً على الحرب المضادة للعصيان مع تزايد اعتبار الجريمة ممارسة مقاومةٍ اقتصاديةٍ وأشكالاً غير رسمية للحركة الاقتصادية السرية ـ وكلها يتطلب احتجازاً مكانياً/ مراقبةً لجيوب الأقليات. وفي الأصل، كان قد جـرى فهم «المدينة المزدوجة» على أنها نتيجة اقتصادية للعولمة انفصلت فيها بنيوياً هوامشٌ حضريةٌ داخليةٌ بأكملها عن النمو الاقتصادي والتطور. على أن المدينة المزدوجـة، في المفهوم البوليسي للتاريخ، قد تحولت إلى هدف أيديولوجي يتم فرضه عن طريق تكنولوجيات التحكم في المكان.


وتسهـم الحملات ضد الجرائم المتصلة بنوعية الحياة في تكوين «مشهد» حضري جديد «ممسوح مسحاً تلفازياً» يتميز بمناطق تحكم اجتماعي(2). وسعياً إلى ضمان الاستقرار السياسي فإن قاعدة مجال مدني مفتوح الآفاق له إحداثيات خبرة في المجال العام إنما تحول دونها حالياً ترتيباتٌ خطابية وعملية جـديدة للتأمين البوليسي وللسلامة العامة وللتنظيم الحضري. وهذا الاستقطاب ذو الطابـع العسكري للمشهد الحضري مزدوج الاتجاه بذات درجة خضوع الهوامش الاقتصادية الحضرية الإشكالية للاحتلال من جانب البوليس. وتتتميز مناطق التركز الاقتصادي ببنيات مكتبية دفاعية معسكَرَة (مجهزة بتكنولوجيات المراقبة وبتدريع هيكلي) وبوجود جماعات محروسة خلف البوابات بقوات أمنية خاصة، وهي بنيات منفصلة هيكلياً عن البيئة الحضرية المحيطة بها بينما تهيمن هيمنة بصرية على هذه الساحة.


وجانب كبير من هذه التكنولوجيا السياسية للتفريع الجغرافي المنظم جرت تجربته لأول مرة فـي جمهورية جنوب أفريقيا في عصر تميز بتطبيق سياسة الأبارتهيد حيث قامت الدولة لاعتبارات استراتيجية بإنشاء شبكة طرقها السريعة بهدف تجاوز المناطق ذات الطابع المرضي والمؤلفة من «فوائض بشرية سكانية» في مدن الأكواخ الأفريقية. ويقوم الإسرائيليون حالياً بإجراء استخدام مماثل لشبكات الطـرق السريعة والأنفاق في الضفة الغربية لضمان كل من أمن المستوطنين والهيمنة المكانية على قرى العرب من أهل البلاد الأصليين. وفي هذا الاجتماع لتنظيم الطرق متعددة الفروع، تحاط الجماعات العربية وأراضي الزراعة العربية المحيطة بها بجيوب من ممرات الطرق السريعة المرتفعة والأنفاق التي تربط المستوطنات الإسرائيلية (القائمة غالباً فوق التلال). والمستوطنات نفسها جماعات ذات طابع عسكري محروسة خلف البوابات تباهي بحيازتها لأحدث منظومات المراقبة الإلكترونية.

دولة العلاج


الأجهزة العسكرية في مناطق الطوارئ السياسية غالباً ما تعمل في آن واحد كقوات مراقبة وقوات «حفظ للسلام» ملتزمة بتنظيم استخدام المجال العام من جانب جماعات سكانية يجري اتهامها بأنها موبوءة بالإرهاب. ويمكن أن نرى أمثلة لذلك في البلقان وغربي افريقيا وفي التنظيم الاحتجازي للاجئين وللباحثيـن عن ملجأ وملاذ ومراكز احتجاز «أسرى الحرب» في العراق وفي خليج غوانتانامو. وفي هذا السياق ذي الدوافع المختلطة من الناحية الظاهرية، تجري عسكرة التدخلات الإنسانية وتقوِّضُ التدخلاتُ العسكرية وتستغلُ الخطابَ عبر القومي الخـاص بحقوق الإنسان. والحاصل أن الإرهابي واللاجئ هما في آن واحد هدفا ونتيجة التدخلات العسكرية. والشخصية القانونية للإرهابي بوصفه «محارباً غير شرعي» والشخصية القانونية للاجئ والباحث عن ملجأ بوصفه مقيماً وعاملاً غير شرعي إنما تتميزان على نحو متبادل بالحرمان من حقوقهما في المواطنة في بنية دولة-أمة قائمة. وكلاهما كيانان غير سياسيين إلى درجـة تصنيفهما على أنهما موجودان خارج جماعة سياسية معترف بها، ولأن سياقهما ومسلكهما قد جـرى نزع الطابع السياسي عنهما ومن ثم جرى تجريمهما.


ويتصل بعسكرة المساعدة الإنسانية الدمج الأيديووجي والعملي لمعسكر الاعتقال ومعسكر اللاجئين، حيث يمكن للأشخاص الذين فقدوا مواطنة دولتـهم-الأمة أن يموتوا من الجوع بسهولة أو أن يتعرضوا للإبادة العسكرية والتعسف من جانب البوليس وهيئات الأمن الأهلية. وفي الوقت نفسه، يمكن إطعامهم وتوفير الملبس والسكن لهم، كما يمكنهم الحصول على المساعدة الطبية. وعلى سبيل الإيضاح، فإن معسكر أسرى الحرب في خليج غوانتانامو، الذي لا يخضع فيه المحتجزون لا للقانون المدني الأميركي ولا لاتفاقيات جنيف، يقدم لمحتجزيه رعاية صحـية شاملة ويسمح لهم بأداء فرائضهم الدينية وفرائض غذائهم، وذلك بالاجتماع مع جدول معتاد للتحقيق الذي يتم فيه الإكـراه والذي يتاخم التعذيب والتعطيل المتقطع للحواس. وهذه الدينامية لا تقتصر على «حالات خاصة»: فالأفراد المحتجزون في السجون الأميركية يجربون هم أيضاً مثل هذه العناصر المتباينة من الناحية الظاهرية.


والدولة المعسكَرَة هي أيضاً «دولة العلاج»، جهاز متخصص في التحكـم في الرعاية الحراسية السايكو-اجتماعية للجماعات السكانية الخارجة على المجتمع. وتتحقق بسرعة نبوءة فوكوه عن انتشـار وامتداد الآليات الانضباطية إلى الأجهزة العصبية الاجتماعية في طور يعقب طور الاعتماد على السجـون. وقد يكون مريحاً للبعض أن التكنولوجيات والميديا العسكرية/ الانضباطية التي سبق ذكرها يجري تطبيقها على ما يسمى بجماعات الإرهابيين النائمة واللاجئين ومسيئي استخدام العقاقير وتجار المخدرات، إن اكتفينا بهؤلاء فقط. لكن مثل هذا الارتياح واهـم بالنظر إلى التوسع الهائل لمفهوم الجرم الموضوعي كبنية للحكم. والحاصل أن إنشاء جهاز أمن وطـني وانكبابه على الاستثمار في إنشاء شبكات «وعي إعلامي كامل» إنما يشير إلى تبدل بنيوي للمجال العام الأميركي وللوضعية الشخصية العامة الأميركية عن طريق تحويل الخطر، و، من ثم، الجرم، إلى علامات رقمية. ومن المقرر تدشين ميكرولوجيا مراقبة لن تقوم فقط بالمراقبة وبالترقب، بل سوف تقوم أيضاً بالتشخيص وبالوقاية وبالتدخل. فالمقصود من بنى أشكال السلوك في الحياة اليومية وأنماط الاستهلاك والاتصال والنشاط الاجتماعي إلى جانب الانتماء العرقي والإثني شطر الشخصية الاجتماعية وتحويل أدق أشكال السلوك إلى موضوعات لعلوم أوبئة مختصة بالتعرف على التهديد الإرهابي المحتمل. ويصبح كل واحد، في ظل إضفاء طابع عيني رقمي على المجال العام، متواطئاً دون أن يدري في حفز خطر إرهابي. وهذا الجرم الموضوعي الجديد هو المحو الرقمي للقصديـة مـن مفهوم ما هو سياسي أو ما هو جنائي.


والجرم الموضوعي، المسجل في أدق جزئيات الحياة اليومية، إنما يعد ضرورياً لأيديولوجيات الحرب الجديدة. لأنه، كما في كل أيديولوجيات التأمين البوليسي، لا تهدف حروب السلامـة العامة إلى استئصال الهدف «المستهدف من وراء التأمين البوليسي»، سواءٌ كان إرهابياً أم مهاجراً لا يحـوز وثائق هجرة رسمية أم مسيء استخدام للعقاقير المخدرة. فهذه الحروب تتطلب بالأحرى الحضور المباين المتواصل للهدف المستهدف من وراء التأمين البوليسي وذلك لأجل تبرير استمرار سيادة الدولـة والتفصيـلات الجديدة لها. والواقع أن الحروب ضد المخدرات واللاجئين لأسباب اقتصادية والمهاجـرين الذين لا يحوزون وثائق هجرة رسمية إنما تتطلب الوجود المتصل لاقتصادات كبرى غير رسمية قومية وعبـر قومية قد تتغير إلاَّ أن من غير المحتمل محوها من الوجود عن طريق التأمين البوليسـي أو المراقبة. ويمكن قول الشيء نفسه عن الشبكات الإرهابية المعتمدة على منظومات الصرافة البنكية والائتمان والضمان المالي. إلاَّ أنه وراء تواصل الاقتصادات الكبرى غير الرسمية المتعدية يكمن ببساطة عدم تحديد المصطلحات والذي يمكن فيه استخدام مصطلح الإرهابي استخداماً يشمل مجموعة متنوعة من الأهداف والأشياء والسيناريوات الرائجة. وهكذا، ففي مستهل غزو العراق، صدقت غالبية الأميركيين أن صدام حسين مسئول مسئولية مباشرة عن الهجوم على مركز التجارة العالمي، وذلك بالرغم من غياب أوهي دليل على ذلك.

الثقافة البصرية للحرب


ناقشتُ بالفعل الأنماط البصريـة الناشئة لدولة «العلاج» فيما يتعلق بالمناطق وبالجماعات السكانية الموسومة بالجرم الموضوعي. وقد أسهم مفهوم الجرم الموضوعي في إمكانية قبول مفهوم الخسائر الملازمة غير المباشرة من حيث أن الخسائر الملازمة غير المباشرة طبيعيةٌ في ظـل ظروف سياسية يجري فيها نزع الطابع الفردي عن الجرم وتوزيع الجرم بشكل يتميز بالشمول. والحاصل أن الثقافة البصرية الجديدة للحرب إنما تعزز أيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة عبر ترشيح الصور. فالإثارة البصرية المتلفَزَة لـ«الصدمة والرعب»، وللقنابل الذكية التي تذيع سقـوطها على بناية، إنما ترشح مشاعر آلام ومكابدات وأحزان الضحايا والناجين من بينهم. وهي تنشئ أيديولوجيات جمهورٍ مشاهدٍ قوامها عدم الانتباه والتسلية بالنسبة للمشاهد التلفازي. ويقف ضحايا الخسائر الملازمة غير المباشرة في تعارض بصري مع العنف المثير لـ«الصدمة والرعب»، إلى درجة أن أيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة تجتمع مع المحورية البصرية للصدمة والرعب لتغييب وعي الجمهور المشاهد عن محنة الضحايا «الهامشيين»، العرضيين والذين سقطوا بالصدفة، كأولئـك الضحايا الذين سقطوا من جراء قصف ساحة السوق العراقية والذين ماتوا بشكل غير مرئـي في الميديا الأميريكية. وقد ضمن ترشيح الصور ألاَّ يحوز مثل هؤلاء الأشخاص البتة الأهمـية البصرية الملحة أو ألاَّ يحوزوا الاهتمام البصري الذي حازته محاولة القضاء على صدام وتدمير «مراكز القيادة والتحكم» العراقية في الميديا الأمريكية. فـ«مركز القيادة والتحكم» الذي هو الفرد الغارق في الحياة اليومية، والذي هو صرح الدمقرطة، إنما يمكن محوه محواً جوهرياً في المرشحـات الإدراكية لعدم الانتباه والتي تكمن في صميم أيديولوجيات الخسائر الملازمة غير المباشرة والعذر. والصدمة والرعب هي الإنتاج المسرحي لأحداث تكنولوجية وخلق لا-أحداث من العنف اللامرئي أو الخسائر الملازمة غير المباشرة.


والحاصل أن أطلال مركز التجارة العالمي هي التـاريخ في درجة صفر أبدية. فالبنايات المحطمة والجثث قد ذابت وانصهرت لتشكل مخلوقاً فرانكنشتاينياً جـديداً، يعمل الآن كعضـو صناعي ثقافي، وهو جهاز للإدراك التاريخي، جهاز تطلَّبَ ظهوره إلى الوجود ما يصل إلـى ثلاثة آلاف من الضحايا. وكانت ثلاثة آلاف من الضحايا الذين حولهم جورج بوش إلى ضحايا للأمة هي الثمن المدفوع في سبيل الحرية، والثمن المرتفع الذي تطلَّب مضاعفةً له في أفغانستان والعراق والفلبيـن وإندونيسيا وأجزاء أخرى من العالم كيما يتسنى توسيع ملكوت الحرية القائمة على التضحيـة. والمشروع الإمبراطوري الأميركي الجديد هو نشر الأصفار القاعدية. فكما تعلَمْتُ في آيرلنده الشمالية، يعد استنساخ الأصفار القاعدية النتيجة الأكيدة للعنف العقابي والانتقامي، وهو عنف يعيد تمثيل ويعيد تجريب هجومٍ وتعدٍّ أصليين(3).


ونجد هنا تجاوباً مع القصف الإشباعي لأفغانستان. فالحاصل أن القصف الجوي الشامل، كما ذكرت في بحث حول عاصفة الصحراء، هو نمط للقابلية الإجبارية للرؤية(4).فالبانوبتيكون العسكري يخلق خصوماً ويَظْهَرُ آخرون خلال وبعد إطلاق المتفجرات. والقصف الجوي الإشباعي في أفغانستان، كما في العراق، هو استشراق جديد، فهو الجهاز الإدراكي الذي نجعل به الآخر الشرقي مرئياً. لأنه قد جرى اعتبار الأفغان والعراقيين مسئولين وأهلاً للمحاسبة عن التواريخ المحتجبة والجغرافيات المحتجبة التي شاع الظن بأنها هـي التي هاجمت أميركا في الحادي عشر من سبتمبر.وقد أصبح مركز التجارة العالمي غباراً وأنقاضاً، أي موادَّ تقاوم البصريات. على أن قنابلنا تسعى بالأحرى إلى اختراق ما سماه إرنست بلوخ بـ«الغبار التاريخي»، الغبار المجازي الذي راكمته الجيو-سياسة الأميركية والأيديولوجية الانعزالية الشعبية الداخلية. والغبار أكثر من حالة أيكولوجية مناخية. فهو رمز للتاريخ غير القابل للاختراق والذي يكمن في أساس موت كثيرين وكثيرين من الناس، وهو تاريخ تعمى عنه النزعة الاستثنائية الأميركية. وقد جرى جعل أفغانستان تجسيداً لغبارنا التاريخي، لعمانا التاريخي، للظلمة التي لا يمكنـنا أن نرى فيها موتانا، وتلك الآخرية التي تصبح مسقط رأس «الآخر الإرهابي». وبما أننا قد أَدْمَنَّا، وإن كنا لا نرتاح إلى، واقعية الميديا في تصوير موت البناية، فإننا نسعى في القصف الجوي إلى الارتياح إلى جعل الإرهابي مرئياً، وإلى إخضاع الإرهاب لإزاحة قنابلنا الذكية للغبار. وبالدرجة نفسها التي يقاوم بها مركز التجارة العالمي الاختراق البصري والفهم، فإننا نحيل حاجتنا إلى تفسيرٍ شفافٍ للهجوم على مركز التجارة العالمي إلى أبصار/ مواقع قنابلنا البانوبتيكية التي حولت أفغانستان إلى مقبرة في الهواء الطلق للخسائر البشرية الملازمة غير المباشرة. وبالدرجة نفسها التي صدم بها انهيار مركز التجارة العالمي وأصاب بالرعب الأميركـيين، فإن الجغرافيات المتصَوَّرة وذات الطابع الفانتازي لـ «الآخر الإرهابي» لابد من إخضاعها لنظام «الصدمة والرعب» الفارز. فالأخير أكثر من تاكتيك عسكري؛ فهو في آن واحد تمرين على مشهد الحرب بوصفه ثقافة بصرية لأجل الاستهلاك البصري من جانب جمهور تلفازي وأيديولوجية تحديث. وكما لاحظ هيجل مشيراً إلـى البونابرتية، فإن زحف جيش عـبر جغرافية قومية إنما يجسد فكرة التقدم التي يجري الآن إخضاع تلك الجغرافية السياسية لها بالإكراه.

أداء ثقافة الإرهاب: تكرار التضحية


تحت المنطق البصري لـ«الصدمة والرعب»، سواء طَبَّقَتْهُ أصولية بوش أم أصولية بن لادن، تكمن بعض النصوص الفرعية اللاهوتية التي يشير إليها كل من مفهوم «الرعب» وإضفاء طابع شيطاني على الخصوم. فالجماعات السكانية الخاضعة لهذا المنطق يجب تعريضها للصدمة والرعب عن طريق العنف الإرهابي. والواقع أن أعجوبة الرعب هي التفصيل الثقافي للخوف من خلال أعمـال تكنولوجية مثيرة، سواءٌ كانت هذه الأعمال أداءات بصرية للقصف الإشباعي أو لرطم طائرة ببنايـة مرتفعة جداً. والحاصل أن إخراج الإرهاب السياسي الحديث هو من حيث الجوهر مشهد تضحية.

والمعدل بين المعالجة المطهِّرة ذات الطابع البصري للصدمة والرعب من جهة والخسائر الملازمة غير المباشرة من الجهة الأخرى هو معدل يقاس على مستوى التضحية. فالملازم وغير المباشر هو ذلك الذي تجري التضحية به لإنشاء هيمنة العنف ذي المظهر البصري. وكسيرورة طقسيـة، يختار/ ينشئ العنف التضحوي موضوعات عامة كمواد خام عرضة لاتخاذ مظهر موضوعي قابل للتغير. وتتطلب سيرورة التضحية ممثلين رمزيين يمكنهم اتخاذ شكل تيارات ذاكرة جماعية متعددة، ويستوعبون ويعكسون فانتازيات جماعية متنوعة ومتناقضة غالباً. والتضحية أداة سياسية للإرهاب السياسي يتم من خلالها تعبئة المعاني الجماعية والتغير التاريخي وإضفاء طابع بصري ودرامي عليها في الاختيار المرئي والإزالة العنيفة للهدف المختار عن طريق فعل عنيف. وتنطوي التضحية على الفصل الرمزي لجزء عن الكل و، من ثم، أن يكون الجزء أو الضحية رمزاً للكلية الاجتماعية التي يراد المساس بها من خلال التدخل التضحوي. والتضحية تستحضر الإهانة والعدوى والتلوث والتعدي الذي تحاول تصحيحه عن طريق إضفاء طابع كلي على النظام الاجتماعي أو الجماعـة أو المؤسسـة المسئولة عن الإهانة وذلك على شكل الضحية الرمزية. ويتم اختيار الضحية من داخل النظام الاجتماعي المستهدف، وهي تتميز بقدرات سيميوطيقية وتذكيرية يتم إطلاقهـا مع تطبيق العنف. ويركز الفعل التضحوي الذاكرة التاريخية التي لم يتم التصالح معها والتناقض الاجتماعي في شخصية رمزية. ويتم توظيف ضحية الأفعال التضحوية في حمل رسائل ويقصد بضحيـة هذه الأفعال تغيير الواقع الاجتماعي في عين تمزيق تجسده. وغالباً ما يتم تصور انتقال الضحايا بالعنف من الحياة إلى الموت على أنه يتيح انتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تليها.

والموضوع التضحوي متردد بشكل كامن فيه وهو مُعْدٍ ومطهِّر ومثير للفوضى ومنظِّم وكامن بشكل أصيل في النظام الاجتماعي ودخيل عليه، لأن التضحية بالنسبة لفاعليها هي طرد التناقض من التاريخ في عربة الرسول الضحية(5).


عند هذه النقطة، لابد لي من أن اختلف جزئياً مع أطروحة جيورجيو أجامبن ومفهومه عن «الإنسان المقدس»، الذي يشكل «استثناءً» من السيادة محروماً بشكل جذري من الحصانة، والذي لا يسهم إذلاله القطعـي وموته العنيف بأي شيء في إعادة الإنتاج التضحوية للمؤسسات السائدة. فالإنسان المقدس موقعـه خارج المجتمع وخارج المنطق التضحوي لأن هذا اللا-شخص يمكن قتله دون عقـاب ودون طقوس. والإنسان المقدس يتطابق مع حالة الموت الاجتماعي(6). وهذه المقولة يمكـن أن تنطبق على الكثير من الأوضاع السياسية والمؤسسية كالسجين في السجن والملاجئ، والجسد الذي ينقل المرض المعدي ولكن إلى حد معين. على أنني لا أعتقد أن مفهوم «الإنسان المقدس» يصـف ضحايا البرامج المنظَّمة للإرهاب السياسي وللإرهاب السياسي المضاد (والذي يرهب هو الأخر). وقد تكون المذلة الجذرية هي النتيجة النهائية للإرهاب السياسي لكن السيرورات التي تنتج الذليل تحمل كل علامات الطقس التضحوي. وأنا أفكر هنا في ممارسات التعذيب والاختفاء والخطف السياسيين والاعتقال والاحتجاز التعسفيين والاغتيال السياسي وأعمال الإرهاب التي تستهـدف الأفراد والجماعات والسكان المحليين استناداً إلى معايير الجرم الموضوعي. وأنا أزعم أننـا يجب أن نتحرك بعيداً عن تحليل حقوقي تصنيفي، كتحليل أجامبن، وفي اتجاه تحليل أدائي للإرهاب السياسي من حيث كونه فعلاً تضحوياً.

فعندئذ يمكننا أن نرى أن تعويل الإرهاب السياسي على الطـرد التضحوي، للهدف الذي يستهدفه، من الحياة اليومية ومن الجماعة والدولة-الأمة ومقولات المواطنة يمكن أن يخلق كل أنواع القيمة الأيديولوجية والتطهيرية وهو وسيلة أولى لإعادة الإنتاج الشاملة للسيادة. فخلافاً لكون التضحية غير ضرورية، تعد التضحية ضرورية لإعادة إنتاج السيادة أو لإضفاء الشرعية على دعاوى السيادة. ثم إن مفهوم أجامبن عن الاستثناء من السيادة غالباً ما يتم توليده وترويجه عبر كل من الخطاب الأيديولوجي والتدخل الأدائي. و«المستثنى»، أو الذليل اجتماعياً، إنما يمتلك سيرة حياة تنقل هذا الكيان من وضع داخليةٍ داخل جماعة من الجماعات إلى وضع خارجية. إلاَّ أنه عبر فعل «الانتقال» التضحوي، أي عبر تطبيق العنف البنيوي أو التعاملي و/ أو الحرمان من الحياة اليومية والجماعة والدولة-الأمة والمواطنة، تحمل التضحية معها ذاكـرة تاريخية تحقق في العنف اجتماع أضداد قوياً ومكثفاً.


والإرهاب السياسي المعاصر، خاصة الإرهاب الذي يمس مدنيين وغير مقاتلين، إنما يظهر بوصفه شكلاً خاصاً للتضحية. وشكل التضحية هذا يتميز باضطراب إجباري، تكراري، حيث نجـد أن المحاولات الأولية لطرد التناقض الاجتماعي-السياسي عبر التضحية الرمزية تفشل حتماً في الوصول إلى اكتمالهـا. وهكذا فإن هذه المحاولات لابد من تكرارها إلى ما لا نهاية إلى أن يكف الهدف الاجتماعي لهذه الأفعال عن تحمل تكاليف خسائره. وفي هذه الدينامية التكرارية الإجبارية، يخضع الفعل التضحوي نفسه بشكل غير واع لمنطق تضحوي وذلك لفشله في حل التناقض ولعجزه عن تحقيـق الاكتمال التاريخي. وتتم معاقبة التضحية نفسها كمعنى يحمل شكلاً عبر تكرار إجباري يسلط الضوء على افتقاره المطلق للفاعلية وفاعليته الفارغة وإن كانت مثيرة. ويعاد امتصـاص المنطق النفعـي للفعل التضحوي في مسرحية التدمير المباشرة قصيرة الأجل. والحاصل أن الفعل التضحـوي، المحاصَرُ بين الجدوى، علاقات الوسائل والغايات، من جهة، والمنطق الرمزي، من الجهة الأخـرى، إنمـا يصبح استحضاراً رمزياً لجدوى سياسية-تاريخية فارغة. وهو يرمز إلى الذاكرة التاريخية والتحـول السياسي، إلاَّ أنه يطمس الأخير في معاناة ضحايا الفعل العشوائيين إذ يفشل في تحقيق هدفه السياسي الخاص بنقل المجتمع إلى مرحلة تاريخية جديدة. والحاصل أن عجز الفعل التضحوي عن إنتاج ارتياح بعد تضحوي وتصالح مع الوجود الاجتماعي إنما ينتقل إلـى السيرورة الطقسية نفسها. ويتم تكرار التضحية كتدخل مادي وإعلان مادي للرغبة يعجز عن توفير الارتياح وعن دعم ذاكرة قيمٍ واستقـاماتٍ اجتماعية جري الاضطلاع به لخدمتها. ويقصد بالتدخل التضحوي أن يكون محصلةً للخبرة التاريخيـة ومـع ذلك فـإن الفعـل نفسه إنما يفشل فـي مصالحة جماعة شهود مع الخبرة التاريخية. ويظل التاريخ ثابتاً فـي مكانه؛ إذ لا تعجيل هنـاك لمسيرة التاريخ، إذا ما استخدمنا مصطلح راينهارت كوزليك(7).


وفي نهاية المطاف، فإن المظالم الاجتماعية التي كان الهـدف من وراء العنف التضحوي إبرازها وعلاجها إنما تضاف إليها تبادلات خبيثة للأفعال التضحـوية بوصفها المحتوى الصادم والأولي للذاكرة الاجتماعية لكل من مرتكبي العنف وضحاياه (الذين يتحولون إلى مرتكبين انتقاميين للعنف). فالمظالم الاجتماعية الأولى كالعنصرية والاستغلال الاقتصـادي والتمييز المؤسسي إنما تضاف إليها ذكريات صادمة عن الأفعال العنيفة التي كان الهدف منها، بادئ ذي بدء، نقل رسالة احتجاجٍ وعلاج المظالم. وتضاف علاقات التناحر السياسي (الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن ظروف التناحر السياسي وتجسيدها) إلى الظروف والسياقات الأصلية للتناحر. وفي نهاية المطاف تصبح علاقات التناحر القائمة السياق السياسي الأولي في وعي المتحاربين.


وقراءة البنية التحتية الأدائية وأشكال دور الإرهاب السياسي كمكونات للتكرار الإجباري إنما توضح لنا السبب في أن معظم أفعال الإرهاب السياسي المعاصرة قـد اتخذت في آن واحد شكلاً مضاداً للحداثة وبعد حداثي بشكل حاسم. ففي كثير من أفعال الإرهاب السياسي اليوم، نجد تركيزاً بلاغياً وبصرياً متناقضاً على الإماتة وتمزيق الأشلاء والوحشية، من جهة، وقدرة غير محدودة تقريباً على تنظيف الفعل العنيف من الناحية التقانية، من الجهة الأخرى(8). وفي الحالتين سواء بسواء، تعد الضحية نتيجة للإسراف التضحوي، لأفعال عنف تنتج ضحايا وتنتج، عبرهم، ذاكرة تاريخية ملموسة تطمس من ثم في أعقابها ذلك المنتج. وهذا التغاير بين العنف المتمحور على الوحشية/ التشريحي والعنف التنظيفي/ الممحو و/ أو «عنف القنابل الذكية/ الخسائر الملازمة غير المباشـرة» إنمـا يتضمن في ذاته منطقاً ثنائياً تضحوياً في العنف السياسي الحديث. وهـذا المنطق الثنائي يستتبع الانتقال من الضحية الممزقة المفتوحة جسدياً إلى التاريخ، إلى انتقال الضحية الممحوة من التاريخ؛ وهو انتقال من أفعال عنيفة للذاكرة السياسية إلى فجوة تاريخية يجري حفـزها بشكل مصطنع. إذ يتعين إرهاب الجماعات السكانية لكي تلزم الصمت والنسيان حيال العنف الذي ربما تكون قد شهدته وجربته، ويتعين أن تختفي سراً الآثارُ والإحداثيات المادية لذلك العنف. ولعل التمثيل الأكثر فجاجة لهذا هو ممارسة رينامو في موزمبيق لقطع الأطراف الحسية لكل من شهـود وضحايا عنفها. فقد جرى قطع الآذان وفقأ العيون وقطع الألسنة والشفاه لأن مرتكبي العنف كانـوا يسعون إلى تدمير القدرة الاجتماعية للذاكرة وللشهادة في أعقاب أفعالهم الإرهابية الأصلية. وتتجسد القدرة على الإنكار في كثير من أفعال الإرهاب التضحوي، بما يشكل تقريباً اعترافاً ضمنياً بالعجـز السياسي لهذه التدخلات، ناهيك عن خزيها.

العذر وتسوية التضحية


في عالم الإرهاب السياسي، تتميز الأونطولوجيا المعاصرة للتضحية بمفارقـة أن ضحيـة خالصة نادراً ما تواجه معتدياً خالصاً على المسرح التاريخي العالمي. فزوج المعتدي/ الضحية لا يعنـي سـوى شكلين للتضحية أو ضحايا يتحولون إلى معتدين، يواجه كل منهما الآخر بتدرجات تكافلية لوضع خاضعٍ نوعي عام. وهذا هو الأصل المرضي للعنف. وفي هذا المنطق المتعلق بأصل المرض، يمكن وصف أي أحد بأنه ضحية وأية ضحية يمكن تمييزها على أنها المعتدي أو أن تتخذ وضع المعتـدي. والاتجاهات الأخلاقية التي تميز تلقي وإنزال الألم إنما تنساب في اتجاهات كثيرة. وقد نرغب في أن يكون الأمر على خلاف ذلك على الصعيد الأخلاقي. إلاَّ أنه، من زاوية الإبستمولوجيا التاريخية، هذا هو الأسلوب الذي يفهم به الفاعلون الاجتماعيون دوافعهم وأفعالهم. والعنف السياسي يتضافر مع ضحايا المعتدي، سواءٌ كان هؤلاء مدافعين عن الأبارتهيد أم طائفيين دينيين عصبويين في آيرلنده الشمالية أم قوميين ألبان أو صرباً في كوسوفو. فالضحايا والمعتدون مقولات متغيرة وكل معتـد يعتبر نفسه ضحية وكل ضحية تعتبر من جانب المعتدي معتدية. وإذا ما رفضنا هذا الاعتبار للنفس وللآخر بوصفه رطانةً وخرافةً سياسيتين، فإن الواقع هو أنه يولِّدُ آثاراً مادية ـ ضحايا جدداً. وانقلاب الأدوار بين ألبان وصرب كوسوفو حالة حديثة جداً في هذا الصـدد. وبالإضافة إلى ذلك، فخلال جلسـات الاستمـاع المخصصة لرجال الشرطة من ممارسـي التعذيب في ظل نظام الأبارتهيد أمام اللجنة الأفريقية الجنوبية لتحري الحقيقة وللنظر في العفو عنهم، زعم هؤلاء أنهم قد أصيبوا دون أن يشعـروا بتوتر تالٍ للشعور بالصدمة وبإساءة استخدام للعقاقير بسبب سوء معاملتهم هم لسجنائهم.


وهذا التحول السهل للمعتدين إلى ضحايا والعكس إنما يعني أن الضحايا يشتبه في مخامرتهم إمكانية العدوان؛ إنهم محـل شفقة ومصدر خوف في آن واحد. والضحية التي تلقت العنف تلقت الذاكرة التاريخية المفرطة لمجتمع من المجتمعات، بما يعد تناقضاً اجتماعياً لم يتم حله. وبوصف الضحية المصدومة حاملة لفائض ذاكرة غير جائز، فإنها إنما تعاد صياغتها بسهولة عبر مجموعة متنوعة من القوى والخطابات لكي تتحول إلى فاعل عنيف، كما رأينا في العدوان الأميركي على العراق وفي الانتقام الذي أعقب الغزو ضد الاحتلال الأميركي للعراق. وأحياناً ما تكون هذه الطاقة العدوانية اختيار هوية وراثية للضحايا وأحياناً ما تكون فانتازيا أيديولوجية مفروضة على الضحايا مـن جانب مضطهدين أو من جانب أولئك الذين لم يفعلوا شيئاً لمنع أو لتخفيف التضحية بهم. وفـي أي من الحالتين، فإن انكماش المسافة الأدائية والأخلاقية بين المعتدين والضحايا إنما يطرح قضايا حرجة تتعلق بأيديولوجية الحرب العادلة. فهذا الانكماش الأخلاقي يكيف حجج الحرب العادلة مع نموذج إرشادي أخلاقي آخر، وهو نموذج يرتبط على نحو مميز بمعايير أدائية تعالج أفعال عنف محددة من زاوية العدالة في الحـرب(9). فهل يؤكد إدعاء وضعية الضحية دعاوى صدق أي فعل مـن أفعال العنف يتم ارتكابه لتصحيح هذه الوضعية ؟ لقد طرحت أحكام عفو اللجنة الأفريقية الجنوبيـة لتحري الحقيقة هذا السؤال المحـدد من زاوية معايير الدوافع السياسية والتناسب فيما يتعلـق بأفعال انتهاك حقوق الإنسان التي ارتكبها كل من موظفي جهاز الدولة وقوى المقاومة.

المنطق التأميني للعقاب


تهتم أيديولوجيات السلامة العامة بالتحكم في الخطر وببناء استشعار للخطر، ومن ثم فإنها خطابات تأمينية. وقوانين حقـوق الإنسان تتعامل مع فعل العنف باعتباره إزالة أو سرقة للكرامة المدنية لمن يتعرض لهذا الفعل. والهدف من معالجة حقوق الإنسان هو أن تكون شكلاً للعدالة الاستعادية التي تستعيد هذه الكرامة المسروقة. وفي هذا النموذج، يلحق العنفُ السياسي خسائر وأضراراً بملكية الشخصية القانونية. ويعتبر التجسد الآمن والمكرَّم ملكية شخصية قانونية. وهناك منطق اقتصادي لهذا الفهم الثقافي للفعل السياسي الإرهابي. فهناك اقتصاد عنف يعبر عن ويقيس ويقارن أفعال العنف والضرر بمصطلحات تأمينية كالخسائر والتناسب وتعادل القيمة والتعويض. وتنظم الذاكرةُ التأمينية التمثيل الحديث للعنف خاصة منذ الهولوكوست. فقد رفع النازيون إلى أعلى سوسيولوجيا الرعب بإدخال أشكال جديدة للكفاءة الزمنية/ الحركية في فرض الموت والمعاناة. والحاصل أن النتائج المترتبة على ذلك قد ميزت اتجاهنا الخاص إلى تمثيل مثل هذا العنف بلغة إنتاج تأمينية، وتحديد المعاناة والألم تحديـداً كمياً، وهو ما يتماشى مع منطق التناسب الكامن في أساس جداول الخسائر والخطر التأمينية.


وإضفاء طابع رقمي على المعاناة إنما يتضمن لاهوتاً محتجباً. ففي المنطق الثقافي للتحديد الكمي، يقاس الشر بحجمه(10). وقد ذهبت الباحثة الأنثروبولوجية براكيت ويليامز فيما يتصل بعقوبة الإعدام إلى أن فعل العنف لابد له، في ثقافتنا العامة، من أن يكون له حجمه، كيما يتسنى اعتباره شريراً بالفعل. وهذا صحيح بشكل خاص في عصر ما بعد الهولوكوست حيث رفع العنفُ الإبادي للبشر والعنف الإبادي للأعراق وخطرُ الحرب النووية مستوى ما يشكل العنف الأخروي حيث تعد الملايين مهمة ويتم تذكرها بشكل أهـم من الموتى المجهولين نسبياً بالآلاف أو بالمئات. وأحياناً ما يكمن الحجم ـ بوصفه ـ شراً ليس فـي الأعداد الفعلية وإنما في موقع وهدف العنف. وهكذا فإن مأساة الهجوم على مركز التجارة العالمـي لـم تقل فداحتها مع تناقص عدد الموتى المفقودين، لأن حجم دمار البنايتين العاليتين والهجوم المباغت على الأرض الأميركية من جانب عناصر خارجية هو الذي يكسب الحدث بعداً أخلاقياً واسعاً ومن ثم شـراً مطلقاً. فقليلون جداً يتذكرون عدد الموتى في بيرل هاربور، لكنهم يتذكرون فوراً تدمير أسطول المحيط الهادئ، كما يتذكرون بشكل أسرع انتهاك الحياة اليومية الأميركية المسالمة من جانب «الآسيويين الأشرار».


ثم إن أخلاق الحجم إنما تؤدي وظيفة مزدوجة. فهي، في آن واحد، تخصص للشر مستوى وجود مجرداً ـ الموت الذي لا يوصف والمعاناة الشاملة التي يصعب وصفها ـ وفي الوقت نفسه تسحب هذا التجريد عن طريق الوصف الكمي. وتصبـح الطبيعة الملموسة المزعومة للأرقام بديلاً عن تجريد المعاناة المضاعَفَة. وهكذا فإن ثقافتنا العامة حافلة بمناقشات الوصف الكمي فيما يتعلق بالعنف الجماعي وتتأكد هيراركيات الرعب برطانة الوصف الكمي والتي تسيطـر فيها على الخطـاب السياسي مصطلحاتٌ كالخطر والخسائر والتعويض بمختلـف أشكاله والخسائر الملازمة غير المباشرة. والواقع أن هذه المجادلات العددية هي مجادلات حـول الشـر النسبـي قياساً إلى الشـر المطلـق.


ويمكن لمثل هذا المجادلات أن تتخذ مساراً مثيراً، ففي إحصاء الموتى هناك أعداد أولية من الناحية الأخلاقية وأعداد ثانوية من الناحية الأخلاقية على حد سواء. وأيديولوجية الخسائر الملازمة غير المباشرة تُبقي الشر على مبعدة بإخضاع العنف لمنطق التقدير المعقول للخطر؛ فهي تخصص لحالات موت وإصابة معينة وضعيةً ثانويةً من الناحية العددية. وهنا، فإن طمس الخسائر المحسوبة عددياً، عن طريق المفهوم التأميني الخاص بالعنف العرضي، إنما يتضمن الطابـع الشرير الكامن بشكل أصيل في العنف أو يحيده عن طريق منطق الخطر المقبول ويطمره ضمن علاقة وسائل ـ غايات. وهذا أسلوب للحساب المزدوج: حالات الموت الجانبية في مقابل التبرير الأخلاقي للأهداف الأساسية، قصر ميلوسوفيتش في مقابل السفارة الصينية في بلجراد، مثلاً.


وهكذا فإن مناقشات الحساب الكمي إنما يبدو أنها تقدم منطقاً مطمئِناً غالباً للمعالجة الثقافية لذاكرة العنف. فالحديث عن 20 مليون عبد أفريقي أو ستة ملايين من اليهود، بالمقارنة مع الخسائر الملازمة للقصف وغير المباشرة على مشارف بلجراد أو بغداد إنما يسمح بتأسيـس أخلاقيات عامة و/ أو سياسات للعلاج. وهذا يمكن اعتباره جزءًا من التحكم في العنف والتحكم في الشر.


وكان من الحقائق البديهية لبحثي الإثنوغرافي حول العنف السياسي أنه نـادراً ما تناقش الجماعاتُ السياسية المنقسمة والمندرجة في المهاترات العنف السياسي ضمن إطار العنف/ اللاعنف. ففي النزاعات التي يعد العنف فيها واسطة أساسية للاتصال السياسي، تتعلق المناقشات بأساليب وبأنواع العنف، بالأشكال التي تعطل الشر ومن ثم يمكن استخدامها وبأشكال العنف التي تطلق الشر من عقاله ويتوجب من ثم اجتنابها والتشهير بها سعياً إلى تجريد الطرف الآخر من المشروعية. والواقع أن الكثير من الأفعال العنيفة إنما يرتكب كاعتراضات جانبية على مثل هـذه المناقشات، بقدر ما أنها تسعى إلى معاقبة استخدام «أشكال العنف غير المشروعة» بتدخلات تزعـم الصدق من خـلال ما يُسمى بأشكال العنف المشروعة. ولتنظروا إلى اختراق الجيش الإسرائيلي الأخير للضفة الغربـية رداً على الهجوم الانتحاري الفلسطيني. وأحياناً ما يكتسب الفعل الواحدالمشروعية أو يفقدها في تحول الوقت والمكان والهدف.


والحاصـل أن ظهور المعالجة الثقافية المنطقية التي وعدت بها العقلية التأمينية سرعان ما يتبخر عندما نراعي أيضاً أن العنف الانتقامي، الذي غالباً ما يقوم به جهاز الدولة أو أجهزة مضادة للدولة، هو أيضاً جزء من آلية التحكم في العنف. كما أن كل منطق انتقام يتخلله منطق تأميني يسعى إلى التعويض عن الخسائر وإلى تقليل المخاطر وإلى التمكن في نهاية المطاف من استعادة التناظر الاجتماعي عبر العنف التعويضي. وفي ثقافتنا التأمينية، تستخدم ممارسات الحساب مجموعة متنوعة من الأدوات ـ من الحاسب إلى القذيفة الموجهة بأشعة الليزر إلى الطائرة المخطوفة. ولعبة الأعداد هي أيضاً لعبة الصراخ.


ـــــــــ
1- Ranciere - NEED REFERENCE
2- "Scanscape” - NEED REFERENCE
3- Allen Feldman, Formations of Violence: The Narrative of the Body and Political Terror in Northern Ireland (Chicago: University of Chicago Press, 1991).
4- Allen Feldman, “From Rodney King to Desert Storm via ex- Yugoslavia: On Cultural Anesthesia, “in Senses Still: Perception and Memory as Material Culture in Modernity, ed. C.Nadia Seremetakis (Chicago: The University of Chicago Press, 1996) at 87-108.
5- See my discussion of sacrifice and my critique of the work of Rene Girard on the hegemony of sacrificial logic in A.Feldman, supra note 1 at 218-269.
6- Giorgio Agamben, Homo Sacer: On Sovereign Power and Bare Life, trans. Daniel Heller-Roazen (Stanford: Stanford University Press, 1998).
7- Reinhart Koselleck, Futures Past: The Semantics of Historical Time, Trans. Keith Tribe (Cambridge: MIT Press, 1985).
8- See Allen Feldman, “Violence and Vision: the Prosthetics, Aesthetics of Terror in Northern Ireland,” 10 (1) Public Culture [page numbers] (Fall, 1977).
9- See my discussion of amnesty criteria and amnesty hearings in South Africa in Allen Feldman, “Strange Fruit: The South African Truth Commission and the Demonic Economies of Violence, “46 (3) Social Analysis [page numbers??] (Fall, 2002).
10- I am grateful for a personal communication with anthropologist and MacArthur Fellow Brackette F.Williams on her groundbreaking theorization of the ideology of magnitude and evil, in her forthcoming magisterial study of capital punishment in America.


ـــــ
ألن فريدمان أستاذ مساعد لإيكولوجيا الميديا بقسم الثقافة والاتصال، جامعة نيويورك.



مجلة "عدالة" ’ داخل الخط الأخضر.

الفن وعصر الآلة

قراءة في كتاب روبرت هيوز
"صدمة الجديد"
كيث فيشر
ترجمة بشير السباعي

"إن التغيير الذي شهده العالم منذ يسوع المسيح هو أقل من التغيير الذي شهده في السنوات الثلاثين الأخيرة". هذه الملاحظة أدلى بها الكاتب الفرنسي شارل بيجي في عام 1913. وقد لخصت موقفاً ورؤية تقاسمهما كثيرون آنذاك. وكانت رؤية تكمن في أساس سلسلة من الأساليب الفنية التي أصبحت توصف بـ "الحداثة".

وفي طبعة منقحة وموسعة لكتاب "صدمة الجديد – الفن وقرن التغيير"، حاول روبرت هيوز تحديد العلاقة بين الفن – خاصة الرسم، ولكن أيضاً جانباً من النحت والعمارة – والمسائل الثقافية الكبرى للسنوات المائة الماضية. كيف خلق الفن صور الاحتجاج والانشقاق، وصور المتعة؟ كيف حاول خلق يوتوبيا، وكيف تناول الاغتراب واللاوعي واللامعقول؟ وأخيراً كيف واجه ضغوط وسائل الإعلام الجماهيري ورأسمالية أيامنا؟

إن كتاب هيوز مبني على غرار برنامجه التليفزيوني الذي قدمه في أوائل الثمانينيات. فكل فصل مكتوب بوصفه بحثاً قصيراً (وإن كان يشير إلى أنها أطول خمس مرات من نصوص البرنامج التليفزيوني) يتناول موضوعاً من الموضوعات المشار إليها. وعلى الرغم من شكوكه الشخصية، فإن الكتاب لا يزال قادراً على نقل حس الدينامية والمثالية والثقة الكاملة الذي استشعره الفنانون في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. وهو أحد أكثر التقارير المتاحة عن تلك الفترة تميزاً بالسلاسة والوضوح.

فما الذي حدث في أواخر القرن التاسع عشر وقاد إلى هذا الانفجار الثقافي؟ ماهي مكونات العصر الحديث؟ إنها هذه العناصر الرئيسية الأربع: الآلة والمدينة والحرب والثورة.

وفي أيامنا هذه، فإن أي إنسان يهذي بالحديث عن مآثر التكنولوجيا سوف تكون مكانته الاجتماعية هي مكانة محولجي مخبول! فمن الصعب الكتابة عن الآلة بشكل إيجابي الآن، خاصة بعد الجلوس أمام الآلة لبضع ساعات، لكن هيوز ينجح في نقل الأثر الذي أحدثته في العقود الأخيرة للقرن الماضي.

آنذاك لم تكن هناك إحصاءاتٌ عن التلوث، ولا احتمالات لانصهارات المفاعلات أو لانفجار قلوبها.. وبالنسبة للطبقة الحاكمة كان وعد التكنولوجيا قريباً لحلم فاوست: وعد سلطة غير محدودة على العالم وثرواته. لقد كانت أشبه بعبدٍ طيب، غبي، طيع، يهيمن عليه العقل في عالم من الموارد اللانهائية. فانحطاط أحوال الجماهير وعذاباتها التي كان ويليام بليك قد أدانها وكان إنجلز قد وصفها قد دُفعت إلى الظل.

وبالنسبة للفنانين المعاصرين أيضاً، كانت للتكنولوجيا إيحاءاتها الرومانسية. فقد كانت هناك حالات كثيرة صور فيها الفن الآلات على أنها الشيطان متجسداً، وقد تسلح بأفران تنفث البخار والدخان. وعلى أية حال، فإن معظم ذلك الفن قد تبنى موقف معاداة رومانسية للرأسمالية، موقف حنين إلى ماضٍ انسجمت فيه البشرية انسجاماً تاماً مع الطبيعة.

لكن أوائل الحداثيين في الفن قد نبذوا عن حق هذا الموقف باعتباره طوباوياً. وكانوا متحرقين لإبراز الإمكانية الإيجابية التحريرية التي كانت تلك التكنولوجيا تعد بها، وإلى العثور على مجازات جديدة وتقنيات جديدة لتصوير أثرها.

وقد نشأ إحساسهم بإلحاح المهمة عن الشعور بالإحباط تجاه عدم قدرة التقنيات والأساليب القديمة على تناول مجمل مدى الخبرات الجديدة لجمهور الأوروبيين، والتي كانت تتشكل في بيئة خلقتها الآلة: المدينة.

ففي عام 1850 كان معظم الأوروبيين لا يزالون يعيشون في الريف. وفي أقل من 40 سنة سوف يميل ذلك الميزان لحساب المدن. وسوف يكتب الشاعر الفرنسي بودلير عن جمهور من النفوس المغتربة:

"مدينة تعج بالنمل،
"مدينة مليئة بالأحلام،
"حيث تزاحمك الأشباح في رائعة النهار".

وسوف يسعى آخرون إلى استحضار قصف الحواس الذي أنتجته المدينة، والعلاقات الجديدة، والرؤى والأصوات والمذاقات الجديدة. وسوف يحاول الفن الأوروبي الأكثر تقدماً نقل هذا الإحساس بالتغيير وبالتدفق وبالدينامية. وكان بابلو بيكاسو، الفنان الحداثي بامتياز، مبتكراً رئيسياً في هذا الصدد.

ويجب النظر إلى السرعة التي تطور بها بيكاسو كفنان من حيث الموتيفات والتقنيات والموضوعات الجديدة على ضوء تسارع عام في التطور الحضاري. فقد شهدت السنوات الخمس والعشرون الأولى من حياته (ولد في عام 1881) إيجاد تكنولوجيا القرن العشرين للسلام والحرب على حد سواء: الرشاش الأوتوماتيكي (1882)، الألياف الاصطناعية (1883)، الورق الفوتوغرافي (1885)، محرك تسيلا الكهربائي، وكاميرا كوداك، وإطارات دنلوب (1888)، والمتفجرات التي لا تخلف دخاناً (1889)، واكتشاف أشعة إكس وتيليجرافيا راديو ماركوني، وأول رحلة جوية تستخدم المحركات (1903). وقد طور أينشتاين نظرية النسبية وعرض الروسي كونستانتين تسيولكوفسكي مبدأ المحركات الصاروخية ونشر فرويد دراساته عن الهستريا. وقد أدت كل هذه التطورات معاً إلى أكبر تغير في النظر إلى العالم منذ نيوتن.

ولا يمكن رسم توازيات مباشرة بين التغيرات في العلوم والفنون. لكن التغيرات كان لها أثر عام عميق بدرجة هائلة – الإحساس بأن نوعاً من التاريخ ينتهي وبأن نوعاً جديداً يبدأ.

وكان بيكاسو وفنانون آخرون مثل جورج براك في طليعة هذه التغيرات. فقد عملوا على مشكلة العلاقة بين المشاهد والموضوع، والتي كانت ملحة بالفعل في مجال العلوم. وكان آخرون مثل بول سيزان قد بدأوا بالفعل في تصوير تلك العلاقة المتبدلة والمتغيرة، ومن الواضح أن بيكاسو كان متأثراً بالتقنيات الجديدة.

وكان يريد العثور على سبل لتكثيف علاقة المشاهد والموضوع – السبيل الذي يمكن به مثلاً لموضوع أن يُرى من زوايا مختلفة، حيث تتحرك العين حركة سريعة بين الأشكال وتقارن بينها – في نظرة مركبة واحدة تحافظ على الإحساس بتفاعل دينامي.

ومن الواضح أن تكنولوجيا المشاهدات الجديدة المتاحة للمشاهد – كالسفر السريع – قد لعبت دوراً مهماً في التقنيات الجديدة. وكانت تصويرات الواقع قد قد اعتمدت حتى ذلك الحين على فكرة المنظور، وهي فكرة رغم رسوخها وشيوع قبولها لم يكن بوسعها تلبية المطالب الجديدة التي كان فنانون مثل بيكاسو وبراك يلحون عليها. وكانت هناك حاجة إلى أجرومية جديدة للرسم، وهي أجرومية أدت إلى المزيد والمزيد من التجريد.

وبالنسبة لفنانين كثيرين، كان عصر الآلة أكثر بكثير من مجرد سياق للعمل. لقد كان يتعين أن يكون موضوعاً محورياً للفن، أسلوب حياة، فلسفة. وكان الفنان الرئيسي بين هؤلاء الفنانين هو فيليبو توماسو مارينيتي، مؤسس حركة المستقبليين. وكان، بتعبيره هو، أحدث إنسان في بلاده. وقد ترك أثراً واسعاً بشكل هائل.

كان الماضي هو عدو مارينيتي. وكانت فكرته المحورية هي أن التكنولوجيا قد خلقت إنساناً من نوع جديد، طبقة من الملهمين بالآلة، تتألف من مارينيتي وأي إنسان آخر يريد الانضمام إليها.

وبالنسبة لمارينيتي، كان على الآلة أن تعيد رسم الخريطة الثقافية لأوروبا (وهو ما فعلته بالفعل، وإن لم يكن بالطريقة التي تمناها المستقبليون). لقد كانت الآلة قوة. كانت تحرراً من الكوابح التاريخية. ومن بين جميع الآلات، كانت السيارة هي المحملة أكثر من سواها بالشحنة الشعرية. وقد شكلت الصورة المحورية للبيان المستقبلي الأول، المنشور في عام 1909:

"إننا نعتزم الاحتفاء بحب الخطر، بعادة القوة وعدم الخوف,
"وسوف تكون الشجاعة والجسارة والتمرد هي المكونات الأساسية لشعرنا.
"إننا نؤكد أن روعة العالم قد أثريت بجمال جديد، جمال السرعة. إن سيارة سباق يتزين غطاء محركها بصفارات عظيمة – كحيات متفجرة الأنفاس – سيارة هادرة يبدو وكأنها تجري على قذيفة متفجرة هي أجمل من انتصار ساموثريس.
"إننا سوف نمجد الحرب – العلاج الوحيد للعالم ...
" وسوف نحتفي بالحشود الضخمة التي يثير حماسها العمل والاستمتاع والتمرد، وسوف نحتفي بموجات الثورة متعددة الألوان، ومتعددة الأصوات في العوالم الحديثة.. "

وقد استحدث المستقبليون سلسلة كاملة من التقنيات الجديدة للتصدي للمهام التي كانوا قد طرحوها في البيان: استخدام الفوتوغرافيا، قصائد الأصوات المتزامنة، شعر الهراء، المواجهة بل وإمطار المصانع بالمنشورات. وقد أثروا على أولئك الذين كانوا مهتمين بإبراز صور عنيفة أو ساخرة أو سينمائية للمدينة.

لكن "علاج العالم الوحيد"، الحرب العالمية الأولى، شهد انقساماً إيديولوجياً عميقاً في حركة الحداثة. وبعد الحرب سوف يكون هناك انقسام حاد جداً إلى يسار ويمين بين الفنانين، حتى أولئك الذين تقاسموا الخلفية التقنية والأساليب الواحدة وواصلوا تطوير هذه التقنيات. والفترة التالية للحرب مباشرة هي فترة اتحاد الحداثة مع اليسار. ففي روسيا وألمانيا بوجه خاص، استخدمت التقنيات الجديدة لتقديم جانب من أكثر الصور المتاحة لمعاداة الرأسمالية قوة.

وكان الفنانون منخرطين بشكل مباشر في النشاط السياسي وقد عانوا من القمع الفعلي من جراء ذلك. وفي زيوريخ تكونت الحركة التي سمت نفسها دادا في قهوة صغيرة وسرعان ما استرعت العروض انتباه الدولة التي اعتبرتها مركزاً رئيسياً للتمرد. ولم تكن شقة لينين تبعد عن القهوة إلا عدة أمتار.

والقول بأن الحداثة لم تترسخ في روسيا إلا بعد الثورة قول خاطيء بشكل واضح. ومن المرجح أن حائزي المقتنيات الفنية البورجوازيين الأثرياء كانت لديهم أفضل المجموعات في العالم من أعمال فنانين مثل ماتيس وجوجان، ولا شك في أن الفنانين ذوي الصلات المناسبة قد تفرجوا عليها.

كما كان من الممكن للفنانين الروس قبل الثورة أن يسافروا إلى الخارج. وبوسع نظرة إلى جماعة الفنانين في باريس في عام 1910 أن ترى كل الأسماء الكبيرة لزمن ما بعد الثورة: ناتان آلتمان، فلاديمير تاتلين، إليزير ليسيتسكي، ألكسندر شيفتشينكو وليديا بوبوفا.

والشيء الذي أعاد هؤلاء الفنانين إلى موقف ثقافي نشيط بشكل خيالي هو واقع قيام ثورة عمالية حقيقية، كانت قد أنهت المجزرة الميكانيكية. وكان بوسع الفنانين الروس، المجتمعين تحت اسم "البنائية"، أن يتمسكوا بإيمانهم بالتكنولوجيا كحل للمساوئ الاجتماعية وأن يتمتعوا بإحساس حقيقي بأن الفن يساهم في إحداث تغييرات أعمق في المجتمع. وقد ساندوا الثورة عن طيب خاطر بما لديهم من مهارات وتقنيات، سواء كان ذلك في مجال الاتصال الجماهيري (الملصق أو الفيلم) أم في مجال العمارة.

وكانت القصة في مهد المستقبلية مختلفة للغاية. ففي إيطاليا، مع هزيمة الحركة العمالية في نهاية الأمر، أصبح مستقبليون كثيرون، بمن فيهم مارينيتي، ديماجوجيين فاشيين، يرون في نظام موسوليني الجديد فرصتهم الوحيدة لتحقيق يوتوبيا حديثة.

كما انعكس أفول الثورة الألمانية في تطور الحداثة في ألمانيا. فالباوهاوس، وهي جماعة كانت قد تكونت في الأصل حول بيان جماعي عن الفنون والحرف اليدوية، قد شهدت اتجاه أعضائها الأوائل مثل يوهان ايتين وفالتر جروبيوس إلى مزج الفن والسياسة على نحو مباشر في البرامج الدراسية التي وضعوها للطلاب.

وكان تصميم جماعة الباوهاوس يهدف إلى خلق يوتوبيا حديثة، تصميماً جيداً للإنتاج والاستهلاك الواسعين. إلا أنه بمرور الوقت تمت تنحية القيادة الأولى لحساب توجه اشتراكي ديموقراطي يميني. وقد تزعم ميس فان دير روهه المطاردة، فقام بمنع المناقشات السياسية وأدخل معايير سلوك للطلاب وأعاد توجيه فلسفة الجماعة في اتجاه تلبية حاجات الصناعة.
والآن نجد أن فخاريات الباوهاوس، التي كانت قد صممت للملايين، تباع لجامعي المقتنيات، وأن كراسي برشلونة الشهيرة التي صممها ميس فان دير روهه، والتي كان يقصد بها أن تحتل الغرف الأمامية للعمال الألمان، تباع لقاء آلاف الجنيهات الإسترلينية.

فمع هزيمة الموجة الثورية في المجتمع، كان ممكناً للمؤسسة أن تستوعب الكثير من السمات الرئيسية للحداثة، خاصة في مجال فن العمارة، حيث بررت جعجعةٌ حداثيةٌ ما لا نهاية له من الفظائع.

واليوم ترعى شركة فورد للسيارات معارض دييجو ريبيرا، وتساند شركة آلكان حالياً معرضاً حداثياً في ليفربول، وتمول شركة ميركوري للاتصالات معرضاً للفن الشعبي في الأكاديمية الملكية البريطانية.

ومن المستحيل على الماركسيين أن يقدموا وصفات للأشكال والتقنيات الجديدة الضرورية لإحداث نوع الأثر الذي أحدثه الفنانون في بداية القرن. كما أن روبرت هيوز لا يحاول ذلك هو الآخر. وهو من حيث الجوهر متشائم فيما يتعلق بآفاق الفن. وسطوره الأخيرة تستحضر ظاهرة غريبة رصدها في مسارات الزمن: أن التطورات الثقافية الكبرى قد حدثت عادة بين السنوات التي تنتهي برقم 90 وتلك التي تنتهي برقم 30. وأرجو أن يكون على حق.

"امرأةٌ تشرئبُّ على منحدرِ الليل"


امرأةٌ تشرئبُّ
على منحدرِ الليل
يصعدُ وجهها الموشومُ بالشهوةِ
وسطَ سحابةٍ من الدخان
تتحسسُ دفئاً يخترقها
فيتكسرُ صمتُها مواءاتٍ ساخنةٍ ...
أُلملمها في قلبي

أواخر نوفمبر 1996
من ديوان "حصة البراءة"

"عندما أجلس إلى جواركِ"

عندما أجلس إلى جواركِ
أتذكر طفولتي.
بعد الكأسِ الأولى
أتخيل نفسي زورقاً
لم يهجر اليابسةَ من قبلُ قط
فتجتاحني رغبة في النزول إلى النهر
وملامسةِ الماء
ربما أَتَعَرَّفُ على ملامحي
عندئذٍ تمتدُّ يدي بين فخذيكِ
حتى تخومِ العُشب الأولى
فأعرفُ طريقي إلى بحيرةٍ من النار
ثم أرسو
على خط الاستواء


10/8/1997
من ديوان "حصة البراءة"

صندوق باندورا

بشير السباعي

تتواصل في مصر الآن حملة شرسة على حرية التعبير الأدبي، ليست جديدة على أية حال، وإن كانت قد أصبحت تمثل، بشكلٍ متزايد، ملمحاً لا ينكر من ملامح النزاع الإيديولوجي المحتدم في أوساط الانتلجنتسيا (بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح الأخير) حول آفاق تطور المجتمع. ولعل مما له دلالته في هذا السياق أن محركي الحملة هم إيديولوجيون ليس لهم صلة مباشرة بالإنتاج الأدبي، فهم ليسوا أدباء ولا نقاد للأدب، بل صحافيون ومهيجون ديماجوجيون محترفون.

وتعرف جميع أطراف النزاع أن الهدف النهائي لهذه الحملة هو إخراس كل خروج أدبي تجديدي على الاتباعية، وذلك كجزء من استراتيجية عامة لا تخفي عداءها للمبادئ التكوينية لخطاب الحداثة، وبهذا المعنى، لا تمثل الحملة الدائرة الآن غير حلقة جديدة في صراع يهدأ تارة ويحتدم تارة أخرى في مسيرة الثقافة الروحية المصرية على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، إلا أن ما يزيد من احتدامه الآن بشكل خاص هو المعارك التي تخاض الآن على مستوى عالمي بين مختلف خطابات الهوية، الإثنية والقومية وعبر القومية، والإجتماعية كذلك.

ومن الواضح أن الهدف المباشر لهذه الحملة هو محاولة عزل الأدباء الحداثيين أمام الرأي العام، السديمي بحكم شروط تاريخية معروفة، وإشاعة جو من الابتزاز المعنوي يجري فيه حديث ممل عن خروجهم على تراث الأمة، في زمن لعل أهم ما يميزه هو التحول المتواصل، بما في ذلك تحول الأمم نفسها واحتدام أزمة هياكلها الموروثة، وهو واقع لا ينكره الأعمى نفسه. ويجري ذلك الحديث من باب التمهيد لتجريم عبثي لهؤلاء الأدباء لإنزال العقاب بهم، سواء كان ذلك على يد أجهزة الدولة الحالية أم على يد أجهزة خارجة عن الدولة تخطط، كما هو معروف للجميع، لأن تخلف الأخيرة عندما تسنح الظروف لذلك، وهو خيار يدل على مدى التخبط الذي تحدثه تحولات عالمنا المعاصر السريعة في صفوف عدد من الأوساط العاجزة عن الارتفاع إلى مستوى التحدي الذي تمثله هذه التحولات.

والحال أن التيمات الأساسية لهذه الحملة إنما تظل من حيث الجوهر تيمات فاشية، بما يتماشى مع عدد من الديناميات التي تترتب على البربرية التي تنتجها أزمة أسلوب الحياة المعاصر على المستوى العالمي: فحرية التعبير ليست مطلقة، بل هي مشروطة بعدم الخروج على مجموعة من الموروثات التي يجب أن تكون حاكمة للفعل الأدبي، وذلك على الرغم من أن هذه الموروثات تشهد بشكل متواصل إعادة تعريف لها على أسس براجماتية غالباً وتبعاً لمسار الأزمة المذكورة ومستويات تأثيرها على الهياكل – الملاذات الموروثة، وعلى الرغم من أن هذه الموروثات خارجة بالضرورة عن طبيعة الفعل الأدبي الذي لا يعرف غير قانون واحد هو قانون الصدق الأدبي والذي من البديهي أنه لا يملك إلاَّ أن يكون مصدر قلق في ظروف أزمة محتدمة تعجز أوساط اجتماعية عن التعامل معها فتؤثر الرياء والكذب والاحتيال بدلاً من الاعتراف بأن لحظة الحقيقة قد حانت؛ والدولة، الحالية أوالمنشودة، يجب أن تتدخل عبر مستوياتها المؤسسية المختلفة لإحكام الضبط والربط داخل الحياة الثقافية والروحية، مع ما يستوجبه ذلك من تشديد هيمنة أجهزة رقابية بيروقراطية على الإنتاج الأدبي وتحريك أجهزة إعمال القانون ضد الإدباء الخارجين على الرياء والكذب والاحتيال، وبهذا يتم الحفاظ على روح الأمة التي لم يعد بوسع شيء أن يحافظ عليها سوى جسد الدولة! فيالها من فيتيشية تليق بوثنيين حقيقيين على أبواب عصر جديد!

والنتيجة أن محركي الحملة بدلاً من أن تكون لديهم فكرة سامية عن أنفسهم، فيحتكمون في التعامل مع الإنتاج الأدبي إلى قانون الصدق الأدبي، إنما يحتكمون إلى ... الشرطة، الحالية أو المنشودة، والتي يتنازلون لها عن طيب خاطر، عن دور التعامل مع ... الأدب!، غافلين عن حكم الإعدام على الذات الذي يصدرونه بذلك على أنفسهم. وإن كان من الواضح أن ذلك الحكم يليق بهم تماماً وتجيزه مبادئ الحرية، إلا أن من الواضح كذلك أن هذا الموقف هو إساءة تربية للجمهور الذي يتوجهون إليه من حيث أنه يصور رذيلتهم الشخصية في صورة فضيلة عامة يجب أن يسعى إليها هذا الجمهور!

فما هي النتائج التي يمكن أن تترتب على خيارات هؤلاء الديماجوجيين؟.

من الواضح أنها لا يمكن أن تخرج عن مجموعة النتائج والتداعيات التي تترتب عادة على إطلاق مثل هذه الدينامية الشريرة: فعندما يسود مناخ ابتزاز منتجي الأعمال الأدبية الحداثية، يتراجع تطور الأدب وتطور الحياة الروحية للمجتمع بشكل عام، بحيث يصبح من السهل إفقار هذه الحياة من دينامية الازدهار والتجدد، وهي الدينامية الوحيدة الكفيلة بتأمين بقاء الأمة التي يجري التباكي على الخروج على تراثها. ولابد أن يجيء وقت يجري فيه تحريم كل الفنون الجديدة على الثقافة الروحية لهذه الأمة من موسيقى كلاسيكية وأوبرا وباليه ومسرح وسينما وأدب روائي، إلخ، مادامت كل هذه الفنون ليست نتاج الأصالة بل نتاج الحداثة.

ومن جهة أخرى، يؤدي استخدام الكبت والملاحقات المؤسسية وغير المؤسسية للأدباء إلى توسيع نفوذ المكونات السلطوية في الثقافة السياسية للمجتمع والتهديد بتهميش ومحو المكونات الديموقراطية، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام شمولية استثنائية يحلم بها محركو الحملة الذين يفتحون صندوق باندورا ويطلقون شروره على الأمة الجريحة التي يزعمون كاذبين الخوف على مستقبلها بعد أن كسروا وجه يانوس الذي ينظر إلى المستقبل وأبقوا على وجهه الذي ينظر إلى الماضي!

لكن أعداء هذه الأمة لا يحلمون بشيء أكثر من اختزالها إلى هذا المصير، والذي لا يرمز إلا إلى انحطاط تاريخي ينذر بإخراجها من مسرح التاريخ لحساب هؤلاء الأعداء المسلحين حتى الأسنان. وهكذا تتكشف الحملة الدائرة الآن عن مسخرة تراجيدية: فهي إذ تبدأ من دعاوي تأمين هوية الأمة، ويندرج في سياقها ديماجوجيون لهم تاريخ استفزازي معروف، إنما تنتهي إلى خلق شروط أنسب لتأكيد الهيمنة الإمبريالية والصهيونية على الأمة الجريحة التي قدمت تضحيات عظيمة من أجل مصير أفضل.

ولا يقل عن هذه المسخرة عاراً تجنب مثيري الحملة مناقشة الأعمال الأدبية وفقاً لمعايير نقد الأدب ونزوعهم المتكرر إلى استدعاء الشرطة لحمايتهم مما يسميه أستاذ بالجامعة الأميركية بالقاهرة بالإيذاء المعنوي الذي تسببه لهم هذه الأعمال التي لا يفهمونها، وهو استدعاء يدل على خوائهم الروحي، ناهيك عن أنه فعل مشين حين يصدر من جانب حملة أقلام يوجهون الرأي العام فيبدون في صورة حملة أغلال ومفاتيح زنازين. فالشرطة لا يمكن أن تفصل في مسائل الأدب بأساليب الأدب، بل بأساليب الشرطة، وهذا من البديهيات التي يعرفها حتى الحرافيش في جميع الأمم، فما بالك بالأساتذة الجامعيين.

وعندما يحاول عدد من مثيري الحملة تجميل أنفسهم، كما يخيل لهم، فإنهم يكتفون، مرحلياً، بالدعوة إلى تدخل أجهزة رقابية، لكن الرقابة، وهذا معروف منذ زمن بعيد، ليست نقداً أدبياً، بل هي نقد رسمي والنقد الرسمي هو تعسف بيروقراطي على حساب العقل الإبداعي. فهل يرجو أعداء هذه الأمة لها دركاً أسفل من هذا الدرك؟

إن الكابوس الأورويلي الذي يلوح في الأفق ونلمس الآن ارتسام معالمه هو كابوس يجب أن ينزاح، إلا أنه لن ينزاح من تلقاء نفسه، بل يجب تبديده من خلال كشف الرياء الإجرامي الذي يذرف دموع التماسيح على تراث الأمة، بينما يحفر لهذه الأمة نفسها قبرها في تواطؤ مشين مع أعدائها!

أوائل عام 1997

جورج حنين ومأساة هيروشيما

بشير السباعي

كان نشوب الحرب العالمية الثانية (3 سبتمبر 1939 - 2 سبتمبر 1945) صدمة كبرى بالنسبة للشاعر السوريالي المصري الكبير جورج حنين. ذلك أن انخراط دول أوروبية متعارضة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) كان قد جعله يتصور أن زمن الحروب العالمية قد ولَّى وأن "الصيغة الحالية وصيغة المستقبل المباشر هي الحرب الأهلية المتشابكة مع تدخلات متعددة الأطراف".

لقد كان جورج حنين يتحدث - في أواخر عام 1936 – تحت تأثير الدراما التي كانت تدور على الأرض الإسبانية، حيث كان إغراء القفز إلى التعميم يتميز بحضور قوي وآسر، خاصة وأن الثورة الإسبانية لم تكن قد سُحقت بعد ولم تكن الإمكانية الواقعية لمنع نشوب حرب عالمية ثانية قد تبددت بعد.

وعندما نشبت هذه الحرب، تحسس الشاعر "سرعة الموت المكتسبة وقد أحدقت من كل حدب وصوب" وحاول أن يجد عزاء في واقع أن "الكلمات الحقيقية العظيمة لا تزال في الداخل، في حصون الذاكرة المنيعة".

وإزاء انفلات "سرعة الموت" راح يتساءل متى وكيف سوف تنتهي تلك المجزرة، ثم وجد أن "جميع الإجابات تهرب بشكل مأساوي من إرادة الإفراد كما تهرب من إرادة الجماهير الغفيرة".

ثم تذكر "ذلك الصحفي الأمريكي الذي كان يشاهد احتراق مدريد من سطح محطة للاتصالات التليفونية وأبرق إلى مواطينه: فلتسقط أوروبا!".

إلاَّ أن الشاعر الكبير لم يكن قد رأى بعد قعر الهاوية!

ففي ربيع عام 1945، ألقت طائرات الولايات المتحدة الأمريكية مائة ألف طن من المتفجرات على ست وستين مدينة يابانية، مستهدفة الأحياء السكنية للمدنيين الفقراء الأبرياء. وكان حصاد الكارثة البشرية 260 ألف قتيل و412 ألف جريح.

وقد حدث هذا في الوقت الذي لم تسقط فيه طائرات الولايات المتحدة قنبلة واحدة على الأهداف العسكرية اليابانية في منشوريا!

وفي 16 يوليو 1945، فجرت الولايات المتحدة القنبلة الذرية التجريبية الأولى في الآموجوردو. وعندما اجترأت الولايات المتحدة على إلقاء القتبلة الذرية على هيروشيما في السادس من أغسطس 1945، دون مبرر عسكري، وضد مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، تدشيناً للحرب الباردة، استولى الغضب على الشاعر الكبير، وسارع إلى شجب الجريمة في كراس "هيبة الرعب" الذي كتبه في شهر الفجيعة والعار.

كان هدف جورج حنين هو "استفزاز الناس الغارقين في الأكذوبة"، ذلك أن "القيم التي تحكم مفهومنا للحياة والتي تحفظ لنا، هنا وهناك، جزراً من الأمل وفسحات من الكرامة، يجري تخريبها بشكل منهجي عن طريق أحداث يدعوننا، علاوة على ذلك، إلى أن نرى فيها انتصارنا، وإلى أن نرحب فيها بالتدمير الأبدي الذي يمارسه تنين لا يكف البتة عن النهوض من موته".

وهو نفسه قد استفزته المفارقة وهو يتابع التحولات التي تطرأ على لاعبي الأدوار: "إن مارجرجس، عند كل جولة صراع جديدة، يتحول أكثر فأكثر إلى اكتساب خصائص التنين. وسرعان ما يكف مارجرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين، وسرعان أيضاً ما يحاول التنين المقنع إقناعنا، بضربة حربة، بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!".

ولم يكن جورج حنين مستعداً للاقتناع بأن جريمة إلقاء القنبلة الذرية قد سوت إمبراطورية الشر بالتراب، فهذه الجريمة قد أكدت سطوة وجبروت إمبراطورية الشر.

لقد تحولت هيروشيما إلى خرائب.

وإذا كان جورج حنين قد تنبأ في قصيدته "عدم التدخل" بأن خرائب إسبانيا "لن تكون الأخيرة"، إلاَّ أن ما حدث لهيروشيما قد تجاوز كل توقعات الشاعر.

لقد – مات على الفور – أكثر من 78 ألف إنسان وأصيب نحو 70 ألف إنسان بجراح – في غمضة عين – وافترس الإشعاع الذري أجسام جميع الأحياء – الأموات، الناجين – الهالكين!

وبعد ثلاثة أيام، كان الدور على نجازاكي التي أصبحت أثراً بعد عين، وتحولت إلى مقبرة جماعية لأربعين ألف قتيل وغرفة غاز سام لخمسة وعشرين ألف جريح.

وكان لابد للشاعر النبيل الجميل أن يشعر بالتقزز إزاء حديث كتاب أعمدة الصحف اليومية المتلذذ عن آثار القنبلة الذرية "الساحرة".

وسوف يتذكر، ولا شك، في عام 1958، ذلك الزمن، وسوف يقول: "منذ وقت طويل وأنا أطمح إلى القطيعة طموحي إلى نفحة من الهواء النقي. أطمح إلى صحبة مومسات في حانة ولكن ليس إلى تجارة الروح الدنيئة"!

لم يكن الشاعر مستعداً لممارسة تلك التجارة. وقد راح يتذكر الأيام الخوالي عندما كان الرأي العام العالمي يندد بلجوء جنود موسوليني إلى استخدام غاز الخردل ضد الإثيوبيين، وعندما ثارت "ملايين الضمائر الحية" ضد جريمة تحويل جرنيكا الإسبانية إلى أشلاء: ما الذي جرى لهذه الضمائر الآن؟

إن الأميرال الأمريكي، ويليام هالساي (1882 -1959)، أمير بحار ومحيطات الجنوب، يعلن بنبرة عنصرية بربرية:
"إننا بسبيلنا إلى إغراق وحرق هذه القردة اليابانية البهيمية ... وإننا لنشعر لدى حرقهم بلذة تفوق لذة إغراقهم".

إن السيد الأبيض الذي تلذذ بحرق الهنود الحمر على أشجار الغابات الاستوائية في أميركا الجنوبية، سوف يستعيد اللذة المفقودة بحرق اليابانيين الصفر في أتون النار الذرية المقدسة!

وإزاء إهدار الكرامة الإنسانية، لا يملك جورج حنين سوى أن يعلن: "إن مارجرجس .. يبدأ في الظهور أمامنا بمظهر أدعى إلى التقزز من مظهر التنين"!.

لقد كان جورج حنين عدواً لدوداً للفاشية والعسكرية. إلاَّ أن الفاشية لم تكن بالنسبة له مجرد آلة حربية عدوانية يمكن أن تتلاشى من الوجود بمجرد إنزال الهزيمة العسكرية بها. لقد كان ينظر إلى الفاشية بوصفها "سلوكاً سياسياً" معيناً يمكن أن يستمر، متخذاً صوراً عديدة، حتى خلال وبعد القضاء على الآلة الحربية الفاشية العدوانية.

وقد رأى الشاعر الكبير أن "السلوك السياسي الهتلري" لم يهزم، بل إنه "تغلغل في صفوف الديموقراطية" المزعومة، وإلاَّ فماذا يعني الحط من الكرامة الإنسانية لليابانيين ووصفهم بـ "القردة البهيمية" ومعاملتهم على هذا الأساس؟

والحال أن جورج حنين لم يكن الوحيد الذي رصد هذه المفارقة، فقبل شهرين من إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، كان الصحفي الأميركي لويس كلير قد رصد الآليات التي أطلقها هتلر (1889-1945) والتي أخذت "تكتسب أبعاداً مخيفة" على يد "الديموقراطية" المنتصرة.

وكان لابد لهذه المفارقة من أن تدفع الشاعر الكبير إلى إثارة مشكلة الوسائل والغايات في السياسة والحرب. خاصة وقد رأى كيف يمكن استخدام وسائل إجرامية مثل إلقاء قنبلة ذرية على مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء وتبرير هذه الجريمة بالحديث عن "نبل المقصد".

وهو لم يكن مستعداً للمساومة.

لقد رأى أنه، حرصاً على القضايا العادلة، "يجب .. تحديد قائمة بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة. فاللجوء إلى النميمة، في مواجهة ضرورة عابرة، إنما يترجم نفسه، في وقت قصير، إلى إدارة للنميمة. وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين، طبع نميمي - ولدى الفريق الآخر، وسواس نميمي".

والحال أن الوسائل التي من شأنها طمس الغاية المنشودة سرعان " ما يتكشف – عند الانتصار – أنها قد رفعت إلى مستوى تشوهات قومية وعاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية ضد تمردات العقل المحتملة".

ويستنكر جورج حنين خضوع الرأي العام لهذا المصير المحزن، ويتساءل عن الأسباب التي "تحرم الملايين من الإمساك بناصية القضايا السامية التي تكرس نفسها لها"، بحيث باتت نهباً للانحطاط المعنوي المتمثل في "تغلغل السلوك الهتلري في صفوف الديموقراطية" المزعومة.

ويمسك جورج حنين بالسبب الرئيسي: "إن اتساع وتركز الحياة الاقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب، ومن كل نقابة، ومن كل إدارة، أجهزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي ولا ترجع إلى الخلايا الفردية التي تتشكل منها. وهذه الأحزاب وهذه النقابات، وهذه الإدارات الدولانية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة".

لقد تدهورت أسلحة التمرد وتحولت عبر آلية الاحتواء الجهنمية إلى تروس في عجلة "الديموقراطية" الزائفة.
إلا أن جورج حنين يرى أن هناك ما هو أسوأ من انحطاط هذه الأسلحة: الاستسلام المخزي لهذا الانحطاط، ذلك الاستسلام الذي يتكشف ما أن يتمتم المهزومون: وما العمل؟ إننا لا نملك بديلاً أحسن!

إن هذا التبرير العاجز يذكر جورج حنين بـ "سينما يغرق فيها المرء، مطأطئ الرأس، لخصم ساعة من الوجود على ظهر الأرض"!.

وسرعان ما يتحول هذا التبرير إلى قوة مدمرة واسعة الانتشار: إنه يتحول إلى "استثمار، فلسفة، حالة أهلية، سيد، نزوة، دليل براءة مسبق زائف من اقتراف جريمة، دعاء، سلاح، مومس، شهقة أو زفرة، قاعة انتظار، فريرة، فن تصدق على النفس، بوصلة للمراوحة في المكان، شاهد قبر"، أو إلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما وأخرى على نجازاكي!

ويدين جوج حنين هرب الإنسان المعاصر من الحرية ومن تحمل المسئولية ويسخر من ذلك "المواطن الصالح" الذي يعتقد أن بوسعه أن ينام نوماً عميقاً في ظل الملاك الحارس: القنبلة الذرية!

وإذ يرصد الشاعر الكبير واقع أن "جهاز الرعب لا يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن التمزقات"، يستشعر الأمل ويتساءل: "من الذي سوف يكسر القيد؟".

وسرعان ما ترتسم في مخيلة الشاعر صورة "جيل جديد من الموسوعيين ينطلق من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق".

كان هذا الجيل السابق يتألف من رجل مثل جان جاك روسو (1712-1778)، ابن الساعاتي والصعلوك المولود في جنيف والذي قال: "لقد ولد الإنسان حراًّ، إلاَّ أنه مكبل بالأغلال في كل مكان" ومثل فولتير (1694-1778)، الأديب الساخر الذي كان "يضرب ويحرق مثل صاعقة".

إن إشارة الشاعر واضحة بما يكفي، إلاَّ أنه لا يتردد في توضيحها أكثر فأكثر: "إن الروح الرافضة لإهدار الكرامة الإنسانية يجب أن تمتد ناراً عبر مجمل السهب البشري" وعندئذ لن يكون الإنسان بحاجة لخصم ولو لحظة واحدة من الوجود على ظهر الأرض!.

تعليق على حكاية بونابارت العربية

بشير السباعي


تدور أحداث الحكاية في زمن الخليفة العباسي، المهدي بن المنصور [158-169 هجرية/ 775-785 مسيحية]، وتستند إلى – وتعيد تشكيل – حدث من أحداث التاريخ الإسلامي هو حركة هشام ابن حكيم في وسط آسيا بين عامي 158-161 هجرية/ 775-778 مسيحية. وكان ابن حكيم قد زعم حلول الله فيه وسارت في أثره جماهير غفيرة، تمكنت جيوشها من إنزال هزائم جسيمة بجيوش الخلافة على مدار أربع سنوات في بخارى ونواحيها، ثم دارت عليه الدوائر، وأخذ أنصاره ينفضون عنه واضطر إلى اتخاذ إحدى القلاع ملاذاً له ولألفين من المؤمنين به. وعندما حوصر، دعا نساءه وأشياعه إلى إلقاء أنفسهم في اللهب والموت معه حتى يكتب لهم الصعود إلى السماء، فاستجاب الجميع لدعوته، وساعد هذا الفعل غير العادي على إحياء فرقته لوقت معين [بحسب سرد ويليام موير في كتابه: الخلافة، قيامها وانحدارها وسقوطها، الصادر في لندن في عام 1891، ص467].


ويستفاد من كتاب الفرق بين الفرق لابن طاهر البغدادي، الذي مات في عام 429 هجرية – 1038 مسيحية، أن فرقة هشام بن حكيم المعروفة باسم المقنعية أو البرقعية [نسبة إلى برقع أو قناع الأخير] كانت لا تزال موجودة في زمانه "ولهم في كل قرية من قراهم مسجد لا يصلون فيه ولكن يكترون مؤذناً يؤذن فيه. وهم يستحلون الميتة والخنزير، وكل واحد منهم يستمتع بامرأة غيره، وإن ظفروا بمسلم لم يره المؤذن الذي في مسجدهم قتلوه وأخفوه، غير أنهم مقهورون بعامة المسلمين في ناحيتهم، والحمد لله على ذلك" (ابن طاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، القاهرة، مؤسسة الحلبي، دون تاريخ، ص 156).


وبالرغم من مبالغات البغدادي في الحديث عن الفرقة المعاصرة له، إلاَّ أن روايته الخاصة بالانتحار الجماعي، والتي أشار إليها موير، لا تختلف كثيراً عن رواية الأخير، وإن كانت روايات أخرى تذهب إلى تكذيب حكاية الانتحار الجماعي وتؤكد أن ابن حكيم، حين استشعر دنو الهزيمة "سقى نساءه سماً ودخل المسلمون الحصن وقطعوا رأسه سنة 163هـ". ولا تفسر هذه الروايات سبب انتشار رواية الانتحار الجماعي التي تؤيدها الروايات المبكرة.


والطريف أن الفرنسيين قد شهدوا نسخة واقعية جديدة من حكاية ابن حكيم في مصر في صيف عام 1799، أي بعد نحو عشر سنوات من كتابة حكاية قناع النبي، حيث ووجه الفرنسيون في دمنهور بانتفاضة يحركها شخص مراكشي زعم أنه المهدي المنتظر. وقد زعم نابويلون في سانت هيلانة أن هذا الرجل قد قتل في معركة 4 يونيو 1799 مع الفرنسيين إلاَّ أن أشياعه زعموا لوقت طويل أنه حي وأنه سوف يظهر عندما يحين الوقت لذلك. – المترجم.

قناع النبي – حكايةٌ عربية

نابوليون بونابارت
ترجمة بشير السباعي


في عام 160 للهجرة، كان المهدي يمسك بزمام الأمور في بغداد، وقد شهد هذا الأمير العظيم، الكريم، المستنير، الشهم، ازدهار الامبراطورية في ظلال السلم والأمن. وبما أن جيرانه كانوا يخشونه ويراعون جانبه، فقد انكب على العمل على ازدهار العلوم والإسراع بنجاحاتها، لكن السكينة ارتبكت بسبب ابن حكيم الذي شرع، من أعماق خراسان، بتكوين أشياع له في جميع أرجاء الامبراطورية. وكان ابن حكيم، الفارع القامة، والذي كان بليغاً بلاغة جازمة ونزقة، كان يزعم أنه رسول الله، وقد دعا إلى أخلاق طاهرة عزيزة على أفئدة الجماهير: فقد كانت المساواة في المكانات وفي الثروات هي الشعار الأساسي لخطبه. وقد انتظم الشعب تحت بيارقه. وكان لابن حكيم جيش.
وقد تحسس الخليفة والخبراء ضرورة أن يخنقوا في المهد هذه الانتفاضة الجسيمة الخطر، لكن قواتهم منيت بالهزيمة عدة مرات، وعلى مدار جميع الأيام كان ابن حكيم يحرز غلبة في أثر غلبة.

على أن مرضاً فظيعاً، ترتب على مكابدات الحرب، أدى إلى تشويه وجه النبي. ولم يعد هذا النبي أجمل العرب؛ إن هذه الملامح النبيلة والفخورة، وهاتين العينين الواسعتين والمتقدتين، قد تشوهت، وأصبح ابن حكيم أعمى. وكان بإمكان هذا التحول أن يؤدي إلى كبح حماسة أنصاره؛ فخطر بباله أن يرتدي قناعاً فضياً.

وظهر وسط أشياعه. لم يفقد ابن حكيم شيئاً من بلاغته. وكان لكلامه القوة نفسها. وقد تحدث إليهم وأقنعهم بأنه لا يرتدي هذا القناع إلا لكي يحول دون أن يعمي النور الذي يفيض من وجهه أبصار البشر.

وقد اعتمد أكثر من ذي قبل على هذيان الشعوب التي أثار حماستها، عندما أدت خسارة معركة إلى تخريب أعماله واختزال أنصاره وإضعاف إيمانهم. وقد حوصر، وكانت الحامية قليلة العدد. يا ابن حكيم، يجب أن تهلك وإلا فإن أعداءك سوف يأسرونك! عندئذ يجمع أشياعه ويقول لهم: "أيها المؤمنون، يا من اختارهم الله ومحمد لإحياء الإمبراطورية ولرد الاعتبار إلى أمتنا، لماذا يثبط عدد أعدائنا عزيمتكم؟ اسمعوا: في الليلة الماضية، بينما كنتم كلكم غارقين في النوم، سجدت وناديت الله: "يا ولي أمري، لقد حميتني على مدار سنين عديدة، وأنا أو الذين معي لابد أننا نذنب في حقك فها أنت ذا تتخلى عنا!". وبعد ذلك بهنيهة سمعت صوتاً يقول لي: "يا ابن حكيم، إن الذين لم يهجروك هم أصدقاؤك الصادقون وهم وحدهم المختارون، وسوف يتقاسمون معك ثروات أعدائك المتكبرين. انتظر القمر الجديد، واعمل على حفر خنادق عميقة وسوف يسقط فيها أعداؤك كذبابات دوخها الدخان".

وسرعان ما حفرت الخنادق، وجرى ملء أحدها بالجير. وجرى وضع براميل مليئة بالنبيذ على الحافة.

وبعد أن فرغوا من هذا كله، تناولوا وجبة جماعية، وشرب الجميع من النبيذ نفسه وماتوا بأعراض واحدة.

ثم جر ابن حكيم جثثهم إلى الجير حيث تحللت فيه، وأشعل النار في المشروبات الروحية وألقى بنفسه فيها. وفي الغداة، كانت قوات الخليفة تزمع الزحف، لكنها توقفت عندما رأت البوابات مفتوحة. وأخذت تدخل بحذر ولم تجد غير امرأة، هي عشيقة ابن حكيم، التي كتبت لها النجاة من بعده.

تلك كانت نهاية ابن حكيم، الملقب بالبرقعي، والذي يعتقد أشياعه أنه قد رفع إلى السماء مع جماعته.

هذا المثال غريب لا يكاد يصدق. فإلى أي حد يمكن لجنون الشهرة أن يمضي!


----------
كتب بونابرت هذه الحكاية العربية إما في عام 1788 أو في عام 1789.

فالتر بنيامين وليون تروتسكي


إنزو ترافيرسو
ترجمة : بشير السباعي



منذ خمسين سنة، مات رجلان محوريان من رجال الثقافة والفكر الماركسيين في هذا القرن، تفصل مصرع أولهما عن مصرع الآخر بضعة أسابيع : ليون تروتسكي، وفالتر بنيامين. فالأول، المنفي في المكسيك، قتل تحت ضربات معول عميل ستاليني، أما الثاني فقد انتحر في بورت – بو، على الحدود الأسبانية، خوفاً من تسليمه للنازيين الذين احتلو فرنسا، منفاه بعد 1933. وليست هناك أية مصادفة في هذه الذكرى. فتروتسكي، ضحية الستالينية، وبنيامين، ضحية الفاشية، قد جسدا – على مستويين مختلفين – النضال من أجل اليوتوبيا المشاعية وسط عالم بسبيله إلى الانحدار صوب الكارثة، وهذا هو السبب في أن موتهما يبدو بالنسبة لنا مشحوناً بمثل هذه القيمة الرمزية القوية.


وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا التشابه غريباً. فما الذي يجمع بين قائد ثورة أكتوبر وناقد أدبي ألماني غير شهير، عازف بشكل حاسم عن كل شكل من أشكال الحياة الكفاحية السياسية؟ إنهما لم يلتقيا قط خلال حياتهما ولم يربط أحد، في عام 1940، بين موتهما. وبينما تردد خبر اغتيال القائد الأول للجيش الأحمر على أسماع الدنيا، مر موت بنيامين دون أن يلحظه أحد، بل ودون أن يلحظه أصدقاؤه الأكثر قرباً إليه والذين لم يعلموا به إلا بعد وقت كثير من حدوثه. لكن بوسعنا القول أن الرجلين كانا ماركسيين. وإن كان من المؤكد أن بنيامين لم يكتب قط عملاً من أعمال التحليل الاجتماعي والسياسي كـ "الثورة المغدورة"، كما أن تروتسكي لم يكتب نصاً مفعماً بالخلاصية وبالدين كـ "موضوعات حول فلسفة التاريخ". على أن المرء قد يضيف أن الرجلين كانا يهوديين، ولكن ما الذي يجمع بين الفلاحين اليهود في قرية أوكرانية وأسرة إسرائيلية ربها تاجر تحف برليني؟ إن هذا العنصر لم يكن مميزاً إلاَّ بالنسبة للسلطات النازية، التي أعربت عن مقتها لـ "اليهودي – البولشفي" تروتسكي واضطهدت بنيامين، المتهم بكونه يهودياً وماركسياً في آن واحد.


إن أصولهما، تكوينهما الثقافي، خبراتهما السياسية، باختصار، حياتيهما، كانتا مختلفتين اختلافاً عميقاً. على أن بالإمكان رصد بعض التوافقات المهمة في مسيرتهما الثقافية و، بشكلٍ أعم، في فكرهما السياسي. إن اسم بنيامين لا يظهر ولو مرة واحدة في كتابات تروتسكي، ونحن لا نعرف ما إذا كان الثوري الروسي المنفي قد أتيحت له الفرصة من حينٍ لآخر للاطلاع على الصفحات الأدبية لمجلة "فرانكفورتر تسايتونج"، وفي المقابل، فإننا نعرف أن بنيامين قد قرأ بانتباه عدة مؤلفات لتروتسكي وتأثر بها تأثراً قوياً. ففي عام 1926، قرأ " إلى أين تمضي بريطانيا العظمى؟"، وفي العام التالي، في مقال مكرس لـ "الأدب الروسي الجديد"، استشهد بإعجاب كبير بنقد "البروليت كولت" (دعوة الثقافة البروليتارية)، الذي طوره تروتسكي في كتاب "الأدب والثورة"، وهو نقد يتوافق من نواحٍ عديدة مع نقده. وقد تقاسما الرأي الذي يذهب إلى أن مهمة الثورة لا تتمثل في خلق "ثقافة بروليتارية" جديدة، بل تتمثل بالأحرى في السماح للمستغلين باستيعاب الثقافة المراكمة عبر التاريخ، على مدار ماضٍ يتميز بعلامة السيطرة الطبقية (ومن ثم، بهذا المعنى، ثقافة بورجوازية). وقد أشادا، في شبابهما، بالتراث الأدبي الكلاسيكي، حيث كرس بنيامين دراسات نقدية ممتازة لجوته بينما كرس تروتسكي دراسات نقدية ممتازة لتولستوي. وفيما بعد، تقاسما اهتماماً مشتركاً بالفرويدية وبالطليعة الفنية والأدبية، خاصة السوريالية. وفي بيانه الشهير من أجل فن ثوري حر، والذي كتبه في المكسيك بالاشتراك مع أندريه بريتون، أدخل تروتسكي فقرة تؤكد بقوة على مبدأ الحرية الكاملة في الإبداع الفني: "إباحة كل شيء في الفن". ويذكر ذلك إلى حد ما بالملاحظات التي قدمها بنيامين في عام 1929 بشأن السوريالية، فهي حركة وجد فيها "مفهوماً جذرياً للحرية" يبدو أن أوروبا قد فقدته بعد باكونين.


وفي رسالة كتبها في ربيع 1932 إلى جريتيل أدورنو، كتب، بشأن سيرة تروتسكي الذاتية وكتابه "تاريخ الثورة الروسية"، أنه لم يتمثل شيئاً "منذ سنوات بمثل هذا التوتر وبمثل هذا الانبهار للأنفاس". وخلال رحلته إلى موسكو، بين ديسمبر 1926 وفبراير 1927، في لحظة اهتز فيها الحزب الشيوعي السوفييتي بنضال المعارضة اليسارية ضد ستالين، لم يبد اهتماماً كبيراً بالشئون الداخلية لروسيا. ولم يترك راديك ولوناتشارسكي انطباعاً عميقاً في نفسه، ولم يك بوسعه متابعة مناقشات أصدقائه الحادة بشأن النزاعات الفصائلية التي تمزق الحزب الحاكم، لأنها كانت تدور بالروسية.على أنه لا بد وأنه قد احتفظ بشيء من أصدائها، فقد أشار، في عمله، "يوميات موسكو"، إلى أن النظام في الاتحاد السوفييتي يسعى إلى "وقف دينامية السيرورة الثورية" واستنتج أن البلد الآن "شئنا أم أبينا، قد دخل إلى الردة". وفي عام 1937، قرأ كتاب "الثورة المغدورة"، الذي كان بيير ميساك قد قدم له عرضاً مقرظاً في مجلة "كاييه دو سود"، وأثير التفكير في تروتسكي في عدة مناسبات خلال مناقشاته مع بروتولت بريشت في الدانمرك. وكان بريشت قد أبدى، تحت تأثير كارل كورش، قدراً من التعاطف تجاه النقد التروتسكي للستالينية ولنظرية "الاشتراكية في بلد واحد". وخلال محادثة، وصف الاتحاد السوفييتي بأنه "ملكية عمالية"، وقارنه بنيامين بـ "غرائب الطبيعة المضحكة المنتزعة من أعماق البحار على شكل سمكة ذات قرنين أو شيء آخر بشع ما". وقد اشتد ارتيابه في الستالينية مع الخديعة التي ولدتها الجبهة الشعبية الفرنسية وهزيمة الثورة الإسبانية، لكي يتحول إلى رفض جذري بعد ميثاق 1939 الألماني – السوفييتي، الذي دمغه في "الموضوعات" عبر التنديد بالسياسيين الذين "يفاقمون هزيمتهم عبر خيانة قضيتهم". كما يشير إلى تعاطف بنيامين مع تروتسكي شهود مختلفون التقوا به خلال الثلاثينيات. ويرى فيرنر كرافت أن بريشت كان "ضد ستالين وكان بنيامين مع تروتسكي"، أما جان سيلز، الذي عرف بنيامين في عام 1932 في جزر الباليير، فقد أكد أنه كان نصيراً لـ "ماركسية معادية للستالينية بشكل سافر، وقد أبدى إعجاباً كبيراً بتروتسكي".


لكن هذا التشابه الغريب بين رجلين جد مختلفين كمؤسس الأممية الرابعة ومؤلف "باريس، عاصمة القرن التاسع عشر" لم يقتصر على التعاطف مع السوريالية وعلى نقد الاتحاد السوفييتي المتبقرط في ظل ستالين. فكتاباتهما تتضمن تحليلاً متماثلاً من نواح عديدة للاشتراكية – الديموقراطية ولماركسية الأممية الثانية ذات الطابع الوضعي. ولم يوفرا الكلمات في رفض وتفنيد مفهوم تطوري وموضوعي ينظر إلى الاشتراكية بوصفها النتيجة الحتمية لـ "قوانين التاريخ" الطبيعية ولا ينسب إلى الحركة العمالية غير مهمة تعزيز مكاسبها انتظاراً للمجيء التلقائي لنظام جديد. فهذه السلبية تتحول بسرعة إلى نزعة محافظة بيروقراطية لدى الأجهزة وإلى خوف مريع من كل قطيعة ثورية. وقبل الحرب العالمية الأولى، انتقد الاشتراكيون – الديموقراطيون الروس والألمان والنمساويون نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة بسبب طابعها "الطوباوي"، وذلك باتهامه على نحو خاص بعدم مراعاة "القوانين الموضوعية" للتطور الاجتماعي وبالرغبة في تحويل الثورة الروسية – الديموقراطية، المعادية للحكم المطلق و"المعادية للإقطاع" – إلى ثورة اشتراكية. وفي مواجهة الترهات التطورية الصادرة عن غالبية الماركسيين الروس، وعلى رأسهم بليخانوف، رأى تروتسكي أن أي قانون جامد للتاريخ لا يحكم على المجتمع الروسي بمكابدة عصر طويل من النمو الاقتصادي الرأسمالي قبل الاستيلاء البروليتاري على السلطة. فالتكوين الاجتماعي الروسي، بالرغم من ثباته الظاهري، إنما يخضع لتطور متفاوت ومركب يجمع بين عالم الموجيك العتيق والحداثة الصناعية – وقد رأى المثقفون الأكثر "تأورباً" بين مثقفي موسكو وسان بطرسبرج أن فكرة إيجاد أساس للاشتراكية في روسيا القياصرة والعزب هي فكرة مهرطقة وعلقوا كل آمالهم على بورجوازية ليبرالية غير موجودة. والحال أن ثورة أكتوبر، التي أثبتت مشروعية نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة قد نظر إليها كثيرون من الاشتراكيين الذين تربوا في مدرسة الأممية الثانية على أنها زيغ تاريخي. وفي عام 1921، خلال المؤتمر الثالث للكومنترن، كتب تروتسكي أن "الإيمان بالتطور التلقائي هو السمة الأكثر أهمية والأكثر تميزاً للانتهازية". وسوف يؤكد فيما بعد، مشيراً إلى عمل كاوتسكي، أن ماركسية الأممية الثانية قد تشكلت في عصر تطور "عضوي" وسلمي للرأسمالية، وبوجه إجمالي بين هزيمة كومونة باريس والحرب العالمية الأولى، وقد حملت سماته. على أن الحرب وأزمة الرأسمالية وصعود الرجعية قد أدت كلها فجأة إلى إنهاء الأوهام العمياء في نمو متواصل للقوى المنتجة وفي تقدم لا يقاوم للاشتراكية – الديموقراطية.


أما بنيامين، الذي لم يتعلم الماركسية من كتب كاوتسكي، وإنما بالأحرى بفضل عمل غير أرثوذكسي ككتاب "التاريخ والوعي الطبقي" للوكاش، فقد صاغ لأول مرة نقده للاشتراكية – الديموقراطية في دراسة كتبها في عام 1937 عن إدوارد فوش، المؤرخ وهاوي المجموعات الألماني. فقد كتب أنه في أواخر القرن الماضي استولى شكل من الحتمية التطورية وإيمان أعمى بالتقدم على الاشتراكية – الديموقراطية التي نظرت، منذ ذلك الحين، إلى التاريخ بوصفه تطوراً عضوياً، متواصلاً، لا يمكن وقفه. وقد سخر من النزعة الوضعية الساذجة لدى الاشتراكي فيري، الذي استخلص تاكتيك الحركة العمالية من "قوانين طبيعية"، وميز العمليات الاجتماعية بين عمليات "فسيولوجية" وعمليات "مرضية" ورد "الانحرافات الفوضوية" لليسار إلى سوء إدراك للجغرافيا وللبيولوجيا. وقد أضاف بنيامين "أن المفهوم الحتمي قد سار من ثم يداً بيد مع تفاؤل لا يقهر". والنتيجة "أن الحزب لم يك مستعداً للمجازفة بما نجح في كسبه. إن التاريخ يأخذ سمات "حتمية " ولا يمكن للانتصار أن يغيب". والواقع أن هذا الانتقاد لفكرة التقدم وللجبرية الإصلاحية سوف يتمم في عام 1940 في "الموضوعات" بالكلمات التالية: "إن التقدم كما يتخيله دماغ الاشتراكيين – الديموقراطيين هو، أولاً، تقدم للإنسانية نفسها (لا استعداداتها ومعارفها وحدها). وهو، ثانياً، تقدم غير محدود (يتماشى مع طابع الإنسانية القابل للكمال إلى ما نهاية). وهو، ثالثاً، يعتبر من حيث الجوهر متواصلاً (تلقائياً ويتخذ شكل خط صاعد أو شكل حلزون).". وفي مواجهة فيتيشية التقنية والجبرية التاريخية، والنزعة الطبيعية وعلموية الأممية الثانية يعيد بنيامين اكتشاف ملامح أوجوست بلانكي، الذي "لم يفرض" نشاطه الثوري "الإيمان بالتقدم"، بل تأسس بالأحرى على رغبته "في إزالة الظلم الماثل".


وكما يذكر تروتسكي نفسه في سيرته الذاتية، فإنه قد ربى في مدرية أنطونيو لابريولا المعادية للوضعية وتعرض لعداوة سافرة من جانب بليخانوف منذ وصوله إلى سويسرا، في فجر القرن. وفيما بعد، أبدى ارتياباً شديداً تجاه النزعة الكانطية الجديدة لدى الماركسيين النمساويين الذين جاورهم خلال بضع سنوات، أثناء وجوده في المنفى في فيينا (1907-1914). لكنه بالرغم من انتقاده للنزعة الوضعية للأممية الثانية، كان تكوينه الثقافي تكوين ماركسي روسي، تنويري وعقلاني بشكل صارم، يعتبر تراث التنوير بالنسبة له أكثر أهمية بكثير من المصادر الرومانسية التي استمد منها بنيامين عناصر انتقاده للحداثة الصناعية والرأسمالية. ويبدو لي أن ذلك يزيد من إبراز وتوضيح تماثل معارضتهما للاشتراكية – الديموقراطية. ففي نص كتبه في عام 1926، بمناسبة المؤتمر الأول لجمعية أصدقاء الراديو، وهو لا يخلو من تقديرات ساذجة إلى حد ما لإمكانيات التقنية – وهي التقديرات نفسها التي نجدها من جهة أخرى في دراسة كـ "العمل الفني في عصر الإمكانية التقنية لاستنساخه"، التي كتبها فالتر بنيامين في عام 1935 - ، يتباعد تروتسكي عن تصور حتمي للتاريخ محكوم بفكرة التقدم. فقد كتب: "إن العلماء الليبراليين قد صوروا بشكل عام مجمل تاريخ الإنسانية بوصفه مسيرة خطية ومستمرة للتقدم. وهذا غير صحيح. فمسيرة التقدم ليست مستقيمة، إنها منحنى منكسر، متعرج. فأحياناً تتقدم الثقافة، وأحياناً تنحط".


وفي تفسير مجازي شهير للوحة بول كلي، "الملاك الجديد"، يقارن بنيامين التقدم بمراكمة مستمرة للأطلال والخرائب، بكارثة لا تنتهي يشهد ملاك التاريخ، الذي تحمله العاصفة، وينشر جناحيه، تزايدها أمامه، فينتابه الشعور بالعجز والفزع. فما جرى اعتباره، زيفاً، مسيرة ظافرة للإنسانية نحو التقدم ليس في الواقع غير مسيرة ظافرة للغزاة، تنفتح على الفاشية والحرب. ونحو أواخر الثلاثينات، وخاصة في عام 1940، تتضمن كتابات تروتسكي إيماءات متكررة بشكل متزايد إلى مخاطر إجهاز كامل على جميع المنجزات الأساسية للإنسانية في حالة انتصار حاسم للنازية في أوروبا. إن النتيجة لا يمكن أن تكون غير "نظام انحطاط يرمز إلى انهيار الحضارة". وهناك تشابه كبير أيضاً بين تفكيرهما في الاستخدام اللاإنساني للتقنية في إطار الرأسمالية وضرره الاجتماعي العميق. وفي عام 1930 بالفعل، في انتقاد لكتاب إرنست يونجر "الحرب والمحارب"، يشير بنيامين إلى أن النزعة القومية تتصور التقنية على إنها "فيتيش للانحطاط" بدلاً من أن تجعل منها "مفتاحاً للسعادة". ومن جهته، يشير تروتسكي إلى أن الرأسمالية المتأخرة تميل بشكل متزايد إلى تحويل القوى المنتجة إلى قوى مدمرة. وفي عام 1940، في بدايات الحرب، كتب أنه "بين عجائب التكنولوجيا التي فتحت الأرض والسماء أمام الإنسان، نجحت البورجوازية في تحويل كوكبنا إلى سجن كريه".


وقد اعتبر بنيامين وتروتسكي الثورة قطيعة عميقة للاستمرارية التاريخية. وهي تظهر في نظر الناقد الألماني بوصفها "قفزة نمر إلى الماضي" قادرة على تخليص مقهوري ومغلوبي التاريخ، بتمكينهم من الفعل في الحاضر. ويجب التغلغل في الماضي بشكل جدلي ويجب رده إلى ضحاياه، فمهمة الثورة هي تنشيط الماضي وانتزاعه من متصل التاريخ. وبالشكل نفسه، بالنسبة لتروتسكي، فإن الثورة ليس هناك ما يجمع بينها وبين زمن التاريخية "المتجانس والفارغ". وقد شبهها، في مقدمة "تاريخ الثورة الروسية" بـ "انفجار عنيف للجماهير في ساحة تسوية مصائرها". وتتحدد تماثلات هذا المفهوم ومفهوم بنيامين بشكل أوضح في الكلمات التي كرسها إسحق دويتشر لتروتسكي المؤرخ: "إن الثورة، بالنسبة له، هي تلك اللحظة، القصيرة ولكن المشحونة بالمعنى، التي يقول فيها المستذلون والمقهورون كلمتهم أخيراً، والذين تمثل هذه اللحظة بالنسبة لهم نجاة من قرون الاضطهاد. وهي ترجع ساعتها بحنين يهب إعادة تكوينها شعوراً مريحاً ومتوهجاً بالخلاص".


بوسعنا من ثم أن نجد عند هذين الكاتبين مفهوماً نوعياًّ للزمانية، متعارضاً مع زمانية الوضعيين المتجانسة. على أن انتقاد التاريخية وفكرة التقدم كان عند بنيامين أكثر جذرية بكثير. فبالنسبة لتروتسكي، كما بالنسبة لماركس ولمجمل تراث الماركسية الكلاسيكية، يتعين على الثورة دفع التاريخ للأمام. وقد قارنها بمحرك، تمثل فيه الجماهير بخاره ويمثل البلاشفة قيادتهم، الاسطوانة. وبالمقابل، يتصور بنيامين الثورة على أنها مجيء عصر جديد من شأنه قطع مسيرة التاريخ. فالثورة، بدلاً من دفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، يتعين عليها "وقفه". وخلافاً لماركس، الذي عرف الثورات بأنها "قاطرات التاريخ"، يرى فيها بنيامين "الفرملة" التي يمكنها وقف مسيرة القطار نحو الكارثة.


ويجرنا هذا إلى فارق أساسي مستمر بين فلسفتي بنيامين وتروتسكي: تدين وخلاصية الفيلسوف الألماني، والإلحاد الجذري لدى الثوري الروسي. فهذا الأخير، الذي أعلن في وصيته أنه يريد أن يموت "ماركسياً، مادياً جدلياً ومن ثم ملحداً لا يتزحزح"، لم يتصور قط الثورة على أنها هزيمة "المسيح الدجال" أو على أنها مجيء عصر خلاصي. وموقف بنيامين يتألف من كسر كل حاجز بين الدين والسياسة، سعياً إلى إعادة تفسير المادية التاريخية في ضوء الخلاصية اليهودية. وهو يرى أن ماركس قد علمن، في يوتوبيا المجتمع اللاطبقي المشاعية، صورة بشرية متحررة في "عصر خلاصي". إن المشاعية ليست خاتمة التاريخ بل تجاوز جدلي له.


وأعتقد أن فارقاً مهماًّ آخر يتصل يتصل بمفاهيمهما عن العلاقة بين المجتمع والطبيعة. ففي هذا المجال، كان فكر تروتسكي مشبعاً بشكل من النزعة الإنتاجية كانت ماثلة بالفعل في كتابات ماركس وميزت بدرجة عميقة مجمل تراث "الاشتراكية العلمية" للأممية الثانية. وفي صفحات "الأدب والثورة"، دافع دفاعاً قوياً عن ميل الإنسان إلى الهيمنة على الطبيعة: "إن المكان الحالي للجبال والأنهار والحقول والمراعي، والبراري والغابات والسواحل لا يمكن اعتباره نهائياً. لقد أدخل الإنسان بالفعل بعض التغيرات التي لا تفتقر إلى الأهمية على خريطة الطبيعة، وهي مجرد تمرينات مدرسية بالمقارنة مع ما سوف يجيء (...) إن الإنسان الاشتراكي سوف يهيمن على الطبيعة برمتها، بما في ذلك طيورها وأسماكها، عن طريق الآلة. وسوف يحدد الأماكن التي يجب رمي الجبال فيها ويغير مجرى الأنهار ويسجن المحيطات". إننا بصدد مجرد ملاحظات جنينية غير مبلورة، وإن كانت تكشف عن تفكير يعتبر البعد الإيكولوجي غائباً عنه بشكل جذري.


ويبدو لنا أن تأمل بنيامين في هذه الإشكالية أكثر حالية وخصوبة بكثير. ففي مواجهة المفهوم الاشتراكي – الديموقراطي عن العمل بوصفه أداة تهدف إلى "استغلال الطبيعة"، لا يتردد في الإعلاء من شأن إمكانيات يوتوبيات فورييه التي، بالرغم من سذاجتها، تكشف في نظره عن "حس سليم مدهش". وقد اكتشف بحماس كتابات يوهان ياكوب باشوفن، منظِّر المطريركية، الذي سمح له بأن يرى في مجتمعات الماضي اللاطبقية – المشاعية البدائية – آثار تجربةٍ كونية – طبيعية ضاعت في الحداثة. والحال أن تراث باشوفن الفكري، عند تفسيره تفسيراً صوفياً، قد استحوذت عليه النزعة الطبيعية الألمانية (ستيفان جورج ولودفيج كلاجيس)، لكنه قد ألهم أيضاً رؤى كتاب ماركسيين عديدين، من فريدريك إنجلز إلى بول لافارج، ومن أوجست بيبل إلى إيريك فروم. ومندرجاً بطريقته في هذه السلالة، رأى بنيامين أن مجتمع المستقبل المشاعي لا يجب لا أن يستغل الطبيعة ولا أن يهيمن عليها. بل يجب بالأحرى أن يستعيد توازناً منسجماً بين الانسان وبيئته.


ومن ثم فإن المسألة لا تتمثل في ضم بنيامين إلى التروتسكية أو في محو الخلافات النظرية والفكرية التي تفصله عن الثوري الروسي. على أن فكرهما، بالرغم من هذه الخلافات، يكشف أيضاً عن تماثلات مدهشة تظل حاملة لثراء يجب الاستفادة منه. ويرى تيري إيجلتون أن "(الموضوعات) تعتبر وثيقة ثورية رائعة، لكنها تشير إلى صراع الطبقات أساساً من زاوية الوعي والصور والذاكرة والخبرة، مع السكوت شبه التام عن مشكلة أشكاله السياسية". وينهي كلامه مؤكداً على "أن ما يظل صورة عند بنيامين يصبح استراتيجية سياسية عند تروتسكي". ولا مراء في أن هناك عنصراً من الحقيقة في هذه الملاحظة، لكن النظر إلى المفاهيم السياسية للثوري الروسي كما لو كانت امتداداً لفلسفة الناقد الألماني إنما يعني حل مشكلة علاقتهما بشكل جد ساذج. ويبدو لي أن من الأجدى والأصوب اعتبار بنيامين وتروتسكي شخصيتين متميزتين في كوكبة مفكري الماركسية. والتماثلات التي حاولنا الكشف عنها في كتاباتهما إنما تثبت أن بوسع الماركسية أن تثرى في آنٍ واحد من نقد رومانسي للتقدم ومن تحليل عملي وعقلاني للرأسمالية، خاصة عندما يتحدان في المنظور المشاعي لتجاوز الواقع الحالي. ويظل بنيامين وتروتسكي مصدرين أساسيين للإلهام بالنسبة لفكر انتقادي وثوري يرمي إلى التدخل في عالم اليوم، في نهاية القرن العشرين.



(1990)

بشير السباعي: العولمة أكثر مراحل الإمبريالية بربرية

الثقافة > كتبت مى ابو زيد

روزا أونلاين
العدد 1633 - الاثنين - 1 نوفمبر 2010



لم يكن صدور كتاب "الامبراطورية وأعداؤها..المسألة الامبراطورية في التاريخ" حديثا عن المركز القومي للترجمة، هو السبب الوحيد للقاء بشير السباعي مترجم الكتاب، فالسباعي الذي ترجم أكثر من ستين كتابا عن اللغات الفرنسية والروسية والإنجليزية، من هؤلاء المترجمين الذين يحملون مشروعا، ينصب علي ترجمة الأعمال التي تتناول التاريخ الحديث والمعاصر للمنطقة العربية، مدفوعا بالإيمان بأنه يترجم ما يريد هو نفسه أن يقوله، إلى هذا الحد أوذاك. وربما لهذا اعتبر ترجمته لمجلدات "مسألة فلسطين" للمؤرخ الفرنسي هنري لورنس، هي مشروعه، الذي حصل بموجبه علي جائزة "رفاعة الطهطاوي" في الترجمة عن المركز القومي للترجمة هذا العام.


وفي حوارنا معه، أثار السباعي قضايا عديدة تتعلق بقصور الأعمال التاريخية العربية علي الاطلاع علي الأرشيفات الأجنبية، ووضع كتابات المستشرقين، كما تناول هجوم علاء الأسواني علي المستشرق الفرنسي ريشار جاكمون، ولم ينس أن يوضح رأيه في الإمبريالية الجديدة،وإلي نص الحوار:


متي بدأت العمل بالترجمة وما سبب تركيزك علي ترجمة الكتب الفكرية والتاريخية بالأخص؟

- بدأ اهتمامي بتوسيع درايتي باللغتين الإنجليزية والفرنسية قبل تخرجي بعامين من قسم الدراسات الفلسفية والنفسية بكلية الآداب جامعة القاهرة، والسبب وراء هذا الاهتمام، كان رغبتي في توسيع معرفتي، وبعد تخرجي عملت مترجما بوزارة الإعلام حتي تقاعدت عام 2004، أما تعلمي الروسية فقد بدأ عام 1968 إلي عام 1972 وكان في إطار مدرسة اللغة الروسية بالمركز الثقافي السوفيتي بالقاهرة.

وترجمت أعمالا أدبية متنوعة، لكن شاغلي الأساسي كان التركيز علي الأعمال التي تتناول التاريخ الحديث والمعاصر للمنطقة العربية.


ألا تري أن ترجمة كتاب لمستشرق قد لا يكون علي دراية كافية بمصر والوطن العربي أمر مقلق؟

- لا.. أغلب المستشرقين الذين ترجمت لهم أعمالا، سبق لهم أن أقاموا فترات مهمة، إلي هذا الحد أو ذاك، في المنطقة العربية، وعلي سبيل المثال فقد أقام الفرنسي هنري لورنس فترات مهمة في بيروت والقاهرة والكويت قبل أن يشرع في تأليف مجلداته الضخمة تحت عنوان "مسألة فلسطين"، أما الفرنسي ريشار جاكمون فقد أقام في القاهرة، بشكل شبه متواصل، فترة لا تقل عن 15 عاما، ، وكتابه "بين كتبة وكتاب" الذي يدور حول الحقل الأدبي في مصر المعاصرة، هو في الأصل أطروحة دكتوراه، نوقشت وأجيزت بجامعة "إكس آن بروفانس" وهو حاليا أستاذ الأدب العربي بهذه الجامعة، ومن ثم فإن من يزعم أن ريشار جاكمون رجل لا علاقة له إطلاقا بالأدب، شخص جاهل.


بمناسبة الحديث عن ريشار جاكمون، ما رأيك في اتهامات علاء الأسواني له بأنه حمل أجندة سياسية؟

- كل مثقف يحمل أجندة سياسية بالطبع، ولكي نتعرف علي أجندة جاكمون السياسية يجب أن تتم دراسة ما أنجزه في حقل الترجمة من الفرنسية إلي العربية، ضمن برنامج طه حسين للنشر، الذي أشرف بأنني كنت من المتعاونين المصريين مع ريشار في إنجازه، ومحصلة هذا البرنامج النهائية تتألف مما لا يقل عن مائتين وخمسين عملا من الأعمال الفرنسية المهمة، وقد أسهم هذا البرنامج أيضا في إعادة نشر ترجمات سابقة كترجمة الراحل محمد مندور لرواية فلوبير "مدام بوفاري"، وأنا أعرف أن ريشار بذل مجهودات شخصية كبيرة للحصول علي دعم لهذا البرنامج من مؤسسات ثقافية فرنسية، لأن الميزانية الرسمية لهذا البرنامج كانت غير كافية.


لماذا اعتبرت أن ترجمة مجموعة مجلدات كتاب "مسألة فلسطين" لهنري لورنس، هي مشروعك الكبير؟

- لقد ساهمت المسألة الفلسطينية في صياغة التاريخ المصري المعاصر، والشاهد علي ذلك هو تلك الحروب التي دارت بين مصر والدولة الصهيونية منذ عام 1948 حتي عام 1973، ونظرا إلي أن الأعمال الصادرة بالعربية عن هذه المسألة لا تعتمد إلا علي جانب من الأرشيفات، دون الوصول إلي جوانب أخري، فالمؤرخون المصريون غالبا لا يجيدون سوي لغة أو اثنتين أجنبيتين علي الأكثر، الأمر الذي يحد من تواصلهم وتعرفهم علي مختلف أرشيفات المسألة الفلسطينية الموجودة بالعديد من اللغات، هذا كان وما يزال يشكل قيدا علي الكتابة التاريخية عن مسألة فلسطين، ومن جانب آخر نجد قيدا إضافيا يتمثل في الطابع الأيديولوجي لأغلب الكتابات العربية، مما يحول دون تكوين صورة موضوعية عما حدث ولا يزال يحدث بالفعل، التحيز السياسي وارد لكن خارج نطاق الكتابة التاريخية الموضوعية، وبالنسبة لكتاب "مسألة فلسطين" متعدد المجلدات سوف نجد أن هذا أضخم عمل تاريخي من جانب مؤرخ فرنسي واحد حول موضوع بذاته في القرن العشرين، بعد كتاب سوبول عن تاريخ الثورة الفرنسية.


وهل تنطبق هذه السلبيات علي جميع الكتابات العربية؟

- أظن أنها سلبيات عامة، فأزمة 1881- 1882، المصرية تتألف مصادرها الأرشيفية، إلي جانب المصادر الأرشيفية الفرنسية، والإنجليزية والتركية، من مصادر ألمانية وروسية، ودون الاطلاع علي هذه المصادر الأخيرة، يصبح من الصعب الإلمام بكل جوانب هذه الأزمة، والحال أن مؤرخا روسيا قد استعرض قبل ثلاثين عاما الأرشيف الروسي حول هذه الأزمة في دراسة من 3 أجزاء، وهذا الاستعراض لا يزال حبيس اللغة الروسية، فماذا عن الأرشيفات المتاحة التي لا بد من الوصول إليها من جانب المؤرخين المصريين، هذا يتطلب إجادتهم اللغة الروسية.


ماذا عن المؤرخ اللبناني جلبير الأشقر الذي قمت مؤخرا بترجمة كتابه حول "العرب والمحرقة النازية"، هل يمكن القول إنه بعيد عن هذه السلبيات؟

- جلبير مفكر لبناني يجيد العربية، ويجيد الفرنسية التي كتب بها الكتاب، كما أنه يجيد الإنجليزية، وهو علي إلمام جيد بالألمانية والإيطالية والإسبانية، نحن هنا بإزاء مؤرخ يجيد عدة لغات، وهو من ناحية أخري يسترشد ببوصلة منهجية موضوعية صارمة تنزع إلي التدقيق في الحقائق التاريخية، وإذا ما خامره شك تجاه نقطة أو أخرى، فإنه يتصل بزملائه الباحثين المتخصصين والعارفين لهذه النقطة ليقف علي آرائهم.


لماذا لم يستقبل المصريون كتاب "العرب والمحرقة النازية" الاستقبال اللائق كما حدث بالخارج؟

- داخل مصر، هناك بالطبع تقصير ملحوظ من جانب المعنيين بالمسألة الفلسطينية، في عرض هذا الكتاب ومناقشة أطروحاته، وهذا التقصير مجرد ملمح من ملامح التقهقر الثقافي العام في بلادنا، ومن جهة أخرى فالكتاب ضخم الحجم ويباع بمبلغ ثمانين جنيها، مع العلم بأنه صادر عن هيئة غير ربحية، مما يعني أن الأمر يتطلب تخفيض أسعار الكتب الصادرة عن تلك المؤسسات غير الربحية.


صدر لك حديثا كتاب "الامبراطورية وأعداؤها" في رأيك ما أهمية هذا الكتاب، في وقت يري فيه البعض أن الامبريالية بشكلها المباشر تشهد تراجعا؟

- الامبريالية لم تنته، وإنما تتنكر، واسمها الحالي هو العولمة، والعولمة الحالية هي أكثر مراحل الامبريالية بربرية، وتشهد علي ذلك الحروب الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ويشهد علي ذلك أيضا اتجاه الرأسمالية خلال الأزمة الاقتصادية التي لا تزال جارية إلي تحميل الملايين من الفقراء نتائج الأزمة، بتحويل أموال الضرائب إلي دعم البنوك والشركات المفلسة بدلا من إنفاقها علي الخدمات، الأمر الذي أدي إلي انفجارات طبقية مهمة في بلاد كاليونان وإيطاليا والولايات المتحدة وإسبانيا ومؤخرا جدا فرنسا، ومن الذي يقول لنا إن القوات الأمريكية التي تشارك في هذه الحروب الإجرامية في الشرق الأوسط لن يأتي عليها هي نفسها اليوم الذي تطلق فيه النيران علي العمال في شوارع نيويورك وديترويت؟


ومن الذي يقول لنا إن الشركات الأمنية الخاصة التي تمارس جرائم الحرب في الشرق الأوسط لن يتم استخدامها قريبا في سحق الانتفاضات العمالية في كل أرجاء الولايات المتحدة؟!، مثل هؤلاء القتلة مستعدون لإراقة دماء بني وطنهم مقابل المبلغ الضخم الذي يحصلون عليه يوميا.


وبماذا يمكن توصيف مثل هذا الصراع؟

- هو صراع طبقات لم يغادر مسرح التاريخ، والذين قالوا وداعا للطبقة العاملة لابد لهم أن ينتبهوا إلي أن الوداع سوف يكون للرأسمالية، فالطبقة العاملة تهز شوارع المدن الفرنسية، وتشل الاقتصاد الرأسمالي، وملامح الصراع الطبقي لن تختفي إلا باختفاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.