ما بعد الحداثة_2


أليكس كالينيكوس
ترجمة بشير السباعي

رورتي

لقد برزت الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر خاصة في تلك البلدان التي تحسست الأثر السريع والمتفاوت لتطور الرأسمالية الصناعية – روسيا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا – المجر. ويمكن اعتبارها رداً على تغلغل العلاقات السلعية في جميع جوانب الحياة الاجتماعية. وقد أدى التجزيء العام الذي انطوى عليه ذلك إلى عزل الفن بوصفه ممارسة اجتماعية متميزة، مستقلة من الناحية الظاهرية.

وتمثلت نتيجة ذلك في ظهور ميل لدى الفنانين، المغتربين عن بقية الحياة الاجتماعية، الى التركيز على الفن نفسه، إلى أن تصبح عملية الإبداع الفني هي موضوع الفن. وعادة ما انطوى ذلك على موقف هازئ ومنفصل عن الواقع. وصار الفن ملاذاً من عالم اجتماعي تسيطر عليه الفيتيشية السلعية.

وكان هذا الموقف يتمشى مع كافة ضروب الالتزامات السياسية، من ماركسية برتولت بريشت إلى فاشية عزرا باوند. على أن المزاج السائد كان مزاج تشاؤم لخصه ت. س. إليوت عندما كتب في عام 1923 عن "البانوراما الواسعة للعبث والفوضى والتي يمثلها التاريخ المعاصر".

لكن الحداثة كانت تتضمن إمكانية جذرية. فابتكارها التقني الرئيسي هو المونتاج، الجمع بين عناصر متمايزة ومتنافرة من الناحية الظاهرية في العمل الواحد.

وقد وصلت التركيبات التكعيبية بذلك إلى حد إدماج الفنانين التكعيبيين لأجزاء من العالم الواقعي – قطع من الخشب أو الجرائد – في رسومهم. وتوقف الفن عن أن يكون نافذة على العالم ليصبح، من ناحية الإمكان على الأقل، جزءاً من العالم. وكان معنى ذلك هو تحطيم الانفصال بين الفن والحياة الاجتماعية والذي كان ينبوع الحداثة في بادئ الأمر.
والحال أن هذه الإمكانية قد أصبحت إمكانية واعية في الحركات الطليعية التي انبثقت في أواخر الحرب العالمية الأولى – الدادا، السوريالية، البنائية. فقد كان هدف هذه الحركات هو هدم الفن من حيث هو مؤسسة منفصلة وذلك كجزء من نضال أعم يهدف إلى تثوير المجتمع.

وقد قال ريتشارد هويلزينبك "أن الدادا هي بلشفية ألمانية". أو، كما قال أندريه بريتون الشاعر والفيلسوف السوريالي، في عام 1935: "لقد قال ماركس‘فلنحول العالم’ وقال رامبو (الشاعر الفرنسي) ‘فلنغير الحياة’، وهذان الشعاران هما بالنسبة لنا شعار واحد".

والحال أن ما سمح بهذا الربط بين الثورة الاجتماعية والثورة الفنية إنما يتمثل في ظروف تاريخية محددة. فقد ازدهرت الحركات الطليعية الفنية في فترة ثورة 1917 الروسية وثورة 1918 – 1923 الألمانية. وبوجه خاص فإن البنائيين الروس – ماياكوفسكي، آيزنشتين، رودتشينكو، تاتلين وآخرين كثيرين – قد وضعوا فنهم ليس في خدمة الدعاية الثورية وحدها، بل وفي خدمة تحويل الحياة اليومية.

على أن هزيمة الثورة الألمانية أولاً ثم هزيمة الثورة الروسية قد ضعضعتا قاعدة الحركات الطليعية الفنية. وتمكنت الفاشية والستالينية من القضاء عليها، ليس فقط من خلال القمع، بل ومن خلال تبديد آمال الثورة الاجتماعية التي كان تحقيق المشروع الطليعي متوقفاً عليها.

وهكذا تواجدت ظروف احتواء الحداثة من جانب الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية.

والحال أن الأسلوب الدولي الذي أخذ يملأ الأفق الحضري بعد عام 1945 قد طوره فنانون معماريون مثل ميس فان دير روهه، الموجه الأخير لحركة البَاوْهاوس، التي كانت قد تكونت بعد ثورة 1918 الألمانية لبناء "كاتدرائيات الاشتراكية".
والتطورات التي جرت في مختلف الفنون على مدار السنوات العشرين الماضية والتي صارت تعرف بما بعد الحداثة لا يجمع بينها أكثر من ردة على "الحداثة المتأخرة" المستوعَبَة والتي أصبحت الأسلوب الثقافي السائد بعد الحرب العالمية الثانية.

ومن الأنسب النظر إلى هذه التطورات بوصفها أشكالاً مختلف من الحداثة لا بوصفها قطيعة معها. فعلى سبيل المثال، ليس في فيلم ديفيد لينش "المخمل الأزرق" الرائع، بإحساسه القوي بعالم لا عقلاني من العنف والرغبة يكمن تحت السطح العادي للحياة اليومية، ما يمكن أن يشكل مفاجأة للسورياليين.

وكما أنه لا وجود هناك لفن بعد حداثي بشكل مميز، فإننا أيضاً لا نحيا في عصر تاريخي جديد. وتميل المحاولات الأكثر جدية لإثبات الادعاء الأخير إلى التركيز على تدويل رأس المال.

إلا أنه في حين أن رأس المال قد أصبح دون شك مندمجاً بشكل عالمي أكثر بكثير على مدار السنوات العشرين الماضية، فإن الدولة القومية لا تزال تواصل لعب دور اقتصادي حيوي. ولتنظروا مثلاً إلى عمليات الإنقاذ التي قامت بها الحكومة الأمريكية أولاً للنظام المصرفي والتي تقوم بها الآن لصناعة المدخرات والقروض. وعلاوة على ذلك، فإن تدويل رأس المال لا يرمز إلى مرحلة جديدة، مستقرة، للتوسع الرأسمالي، فهو بالأحرى عامل رئيسي في جعل الافتصاد العالمي غير مستقر منذ أواخر الستينيات.

وإذا سلمنا بأن ادعاءات ما بعد الحداثة زائفة فما هو مصدرها؟ ماالسبب في ظهور اعتقاد واسع الانتشار بأننا نحيا في عصر اقتصادي وثقافي جديد بشكل أساسي؟

إن تعافي الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة من الكساد العالمي لأعوام 1979 – 1982 قد تضمن توسعاً للطلب، استناداً إلى قروض ائتمانية ميسرة وإنفاق حكومي أعلى، بدأ في الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات وامتد إلى أوروبا.
وكان من بين المستفيدين الرئيسيين من هذا التعافي "الطبقة المتوسطة الجديدة" المؤلفة من المديرين ذوي الرواتب العالية ومن المهنيين. وكانت الثمانينيات هي العقد الذي ازدهر فيه اليوبَّاي.

لكن كثيرين أيضاً من أفراد الطبقة المتوسطة الجديدة الذين استفادوا استفادة جمة من التعافي كانوا جزءاً من جيل 1968.
وكان هؤلاء قد شاركوا في التجذر الواسع للمثقفين الشباب في مختلف أرجاء العالم الغربي خلال الصعود العظيم للنضال الطبقي في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. كما أنهم كانوا قد تقاسموا انهيار الآمال الثورية الذي حدث في أواسط وأواخر السبعينيات مع إجبار العمال على التراجع إلى مواقف دفاعية ومع تفكك أقصى اليسار.

وقد تمثلت نتيجة ذلك في ظهور شريحة اجتماعية هامة مزدهرة من الناحية الاقتصادية ومحبطة من الناحية السياسية في آن واحد. فهي لم تعد تؤمن بالثورة (إن كانت قد آمنت بها في أي وقت من الأوقات)، لكنها أيضاً لا تؤمن بالرأسمالية إيماناً غير مشروط.

وهذا التوقف يلخصه إعلان ليوتار عن إفلاس جميع "المروايات الكبرى": فنحن لم نعد بوسعنا الإيمان بأية نظرية شاملة تسمح لنا بتفسير العالم وتغييره في آن واحد.

والأكثر من ذلك أن ما بعد الحداثة تنطوي على "تحويل الموقف الهازئ إلى موقف روتيني". فالموقف الهازئ، المنفصل، تجاه الواقع والذي كان موقف عدد صغير من المثقفين المخضرمين عندما ظهرت الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر، يصبح الآن متاحاً بشكل عام، وينتج على نطاق واسع كطريقة لمواجهة عالم يعتقد ما بعد الحداثيين أنه لا يمكن تغييره كما لا يمكن الموافقة عليه موافقة غير انتقادية.

ويرتبط ذلك بالتبني الواعي لموقف جمالي تجاه الحياة. فقد رأى نيتشه أن الرد المناسب الوحيد على عالم تحكمه الفوضى هو أن يحول المرء حياته الخاصة إلى عمل فني، أن يسعى إلى دمج جميع خبراته في كلٍ له معنى.

وهذه فكرة تبناها فوكوه في كتاباته الأخيرة، حيث يتحدث كثيراً عن "جماليات وجود". وقد أصبح ذلك أيضاً جزءاً روتينياً من حياة الطبقة المتوسطة في الثمانينيات، خاصة في الجهد المبذول عبر تناول الوجبات وارتداء الملابس وإجراء التمرينات الرياضية لتحويل الجسم إلى علامة من علامات الشباب والعافية والحركية.

أما سياسة ما بعد الحداثة فقد عبر عنها ريتشارد رورتي، الفيلسوف الأمريكي الرائج، أبلغ تعبير، فرورتي يرحب بانبثاق "ثقافة هازئة بشكل متزايد" يهيمن عليها "البحث عن الكمال الخاص".

وما يتوجب علينا عمله هو الكف عن الانشغال بمعرفة العالم وتغييره والتركيز بدلاً من ذلك على تنمية علاقات شخصية.
فمن الوجوه المحورية لما بعد الحداثة إنكار أن من المرغوب فيه أو حتى من الممكن بعد الانخراط بشكل جماعي في تغيير العالم.

أما كيف يكون لرورتي ولليوتار تفسير تجمع شعوب أوروبا الشرقية لإسقاط حكامها فهو أمر متروك لتخمينات أي إنسان.


1990s

ما بعد الحداثة_1



أليكس كالينيكوس

ترجمة بشير السباعي

جان ليوتار

أشارت النيويورك تايمز مؤخراً إلى أن ما بعد الحداثة هي "الموضة الثقافية للثمانينيات و، حتى الآن، للتسعينيات". فمن الصعب العثور على أي مظهر من مظاهر الحياة الثقافية المعاصرة لا يجري وصفه بأنه "بعد حداثي".


ويجري تطبيق المصطلح على الكثير جداً من الأمور المتناقضة بحيث أنه يبدو بلا معنى محدد. على أن ما بعد الحداثة يمكن النظر إليها على أنها تداخل لثلاثة عناصر متميزة.


أما العنصر الأول فهو الردة التي تطورت خلال السنوات العشرين الماضية على الحداثة، الثورة الكبرى في الفنون والتي حدثت في بداية هذا القرن.


والردة "ما بعد الحداثية" أوضح ما تكون في رفض لـ "الأسلوب الدولي" – الكتل الصماء المستطيلة التي أخذت تهيمن على مراكز المدن بعد الحرب العالمية الثانية. فالعمارة "مابعد الحداثية" تمثل هرباً من التقشف إلى التزيين، من التجديد إلى التقليد، من العقلانية إلى الهزل – كما في حالة بلوكات المكاتب المزينة بأعمدة كلاسيكية.


وتنطوي ما بعد الحداثة، ثانياً، على تيار فلسفي محدد – ما أصبخ يعرف بما بعد البنيوية، عبرت عنه مجموعة الفلاسفة الفرنسيين الذين برزوا على المسرح في الستينيات، خاصة دولوز وجاك دريدا وميشيل فوكوه.


وقد طوروا أفكاراً معينة، تتمثل أولاها وأكثرها أساسية في رفض التنوير. وكان (التنوير) هو المشروع الذي صاغه عدد من المفكرين الاسكتلانديين والفرنسيين في القرن الثامن عشر استناداً إلى فكرة أن العقل البشري قادر على فهم العالم الطبيعي والاجتماعي والسيطرة عليه في آن واحد، وهو مشروع حاول ماركس تطويره، بشكل انتقادي.


ويرى دعاة ما بعد الحداثة أن العقل والحقيقة ليسا غير وهْمَين. فالنظريات العلمية هي منظورات تعبر عن مصالح اجتماعية خاصة. وكما قال فوكوه فإن إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة.


والواقع نفسه لا يعدو أن يكون مجموعة غير منتظمة من الجزيئات التي يهيمن عليها صراع لا ينتهي من أجل السلطة يصوغ الطبيعة والمجتمع على حد سواء. والبشر، بوصفهم جزءاً من هذا الواقع، إنما يفتقرون إلى أي تماسك أو سيطرة على أنفسهم. وهكذا اعتبر فوكوه الذات الإنسانية الفردية كتلة من الدوافع والرغبات التي تصوغها علاقات السلطة السائدة داخل المجتمع.


أما العنصر الثالث من عناصر ما بعد الحداثة فهو نظرية المجتمع بعد الصناعي التي طورها علماء اجتماع مثل دانييل بل في أوائل السبعينيات. فقد ذهب بل إلى أن العالم يدخل عصراً تاريخياً جديداً سوف يصبح الإنتاج المادي فيه أقل أهمية بينما تصبح المعرفة فيه هي القوة الدافعة الرئيسية للتطور الاقتصادي.


وقد تبنى الفيلسوف الفرنسي جان ليوتار هذه الفكرة وذهب إلى أن المعرفة، في "الوضع بعد الحداثي"، تتخذ شكلاً مُجَزَّأً بشكل متزايد، متخلية عن كل دعاوي الحقيقة أو المعقولية.


وهذا التحول يترجم ما يصفه ليوتار بـ "انهيار المرويات الكبرى". فمشروع التنوير – كما واصله هيجل وماركس، سعياً إلى تقديم تفسيرات لمجمل مسار التطور التاريخي كمدخل لتوضيح الشروط التي يمكن في ظلها تحقيق التحرر الإنساني – لم تعد له مصداقية بعد كارثتي النازية والستالينية.


وهكذا فإن الفكرة التي تتحدث عن تغيير منهجي شامل وجديد للغاية هي فكرة محورية بالنسبة لما بعد الحداثة. فقد دخل العالم عصراً اجتماعياً واقتصادياً جديداً، مصحوباً بتحول ثقافي – الفن ما بعد الحداثي، وبثورة فلسفية – ما بعد البنيوية. ومن هنا زعم مجلة ماركسيزم توداي بأننا نحيا في "أزمنة جديدة".


لكن شيئاً من ذلك لا يصمد للفحص الجدي.


والحال أن فكرة أننا نحيا في عصر جديد إنما تجد أفضل فضح لها في من خلال النظر في الادعاء القائل بأن هناك فناً بعد حداثي بشكل مميز.


ولعل أشهر تعريف للفن بعد الحداثي هو التعريف الذي قدمه كريستوفر جينكس، مؤرخ فن العمارة. فهو يقول أن ما بعد الحداثة تتألف من "التشفير المزدوج"، أي الجمع بين أساليب مختلفة في العمل الفني الواحد، كالجمع، مثلاً، بين الكلاسيكية والأسلوب الدولي في المبنى الواحد.


وهذا ادعاء غريب، لأن ما يصفه جينكس بـ "التشفير المزدوج" هو سمة جد واضحة من سمات الحداثة. وهكذا فإن جيمس جويس يخلط في عوليس بين أصوات وأساليب ولغات مختلفة – وهو وقع أدرجه في الشعر ت. س. إليوت في الأرض الخراب. إن الفكرة التي تتحدث عن فن بعد حداثي مميز إنما تستند إلى كاريكاتور للحداثة.


وأفضل تعريف للحداثة يقدمه يوجين لان في "الماركسية والحداثة". فهو يميز أربع سمات. أولاً "الوعي الذاتي الجمالي" :فالفن الحديث يميل إلى أن يكون خاصاً بالإبداع الفني نفسه – وهكذا فإن رواية "ذكرى الأشياء الماضية" لمارسيل بروست إنما تعيد بناء التجارب التي قادت إلى اتخاذ القرار الخاص بكتابة الرواية. ثانياً، "التزامنية، التجاور، أو المونتاج": فالفن الحديث يهشم عالم التجربة اليومية ثم يعيد تجميعه في توليفات جديدة وغير متوقعة. ثالثاً، "المفارقة، الغموض وانعدام اليقين": فالفن الحديث يعرض عالماً ليست له بعد معالم واضحة أو بنية مرئية. وأخيراً، "نزع الطابع الإنساني": فالفرد في الفن الحديث لا يسيطر بعد على دوافعه ناهيك عن العالم نفسه.


والحال أن الأمر الغريب هو أن كل هذه السمات المميزة للحداثة كثيراً ما يجري الادعاء بأنها مميزة للفن بعد الحداثي. فروايات سلمان رشدي، على سبيل المثال، توصف بأنها بعد حداثية في حين أنها في واقع الأمر حداثية بشكل نموذجي وفقاً لتعريف لان للحداثة.


وكثيراً ما يقال أن الفارق يكمن في واقع أن الحداثة كانت نخبوية ومتفائلة بشكل فج في حين أن ما بعد الحداثة شعبوية ومتشائمة في نهجها. لكن ذلك ينطوي على سوء فهم كامل للحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية.

يتبع

حلم بونابارت_2


هنري لورنس
ترجمة بشير السباعي


وفي هذه الثلاثية النابوليونية، يظهر الخيال بوصفه الطرف المحوري الذي يؤطر ويوازن الحساب والقدر. ولا يمكن فهم الحملة دون هذا الرهان على الخيال، والمشترك بين بونابارت ومعاصريه. وفي الشطر الثاني من القرن الثامن عشر، وبدرجة أكبر في الأعوام الأولى للنظام الثوري، تصبح مصر في جدول الأعمال. ففي مجتمع يحرِّم الرمزية المسيحية، يبدو الهوس بمصر بوصفه الشيء الوحيد القادر على توفير السبل الضرورية للتعبير عن تساؤله عن الموت بلغة تبدو بالنسبة له حميمة مع تجنب اللجوء إلى المسيحية. وهو ما توضحه الماسونية ومعزوفة الناي المسحور التي وضعها موتسارت.

وفي خطاب لاعبي الأدوار الصريح، تبدو مصر في صورة أرض البدايات والأصول بينما تبدو الثورة الفرنسية نهاية التاريخ. وهكذا فإن الحملة إنما تختتم دورة تاريخ الإنسانية برد العلوم والفنون إلى وطنها الأصلي. وبشكل ملموس، يجد ذلك ترجمة له في البرنامج العلمي المثير للجنة العلوم والفنون، وهو برنامج بحث عن الأصول وجرد قبل الاستعمار. ونحن نعرف أن هذا سوف يؤدي إلى ذلك الأثر المثير والذي يتمثل في كتاب وصف مصر.

لم يحدث قط أن نابوليون قد اختزل، في كتاباته الرسمية، وحتى في سانت هيلانة، الحملة الفرنسية على مصر، إلى مستوى ضرورة سياسية عابرة. فخطابه عبارة عن دفاع متواصل عن مشروع استعماري من نوعٍ جديد. ومن المؤكد أنه كان مطلوباً من مصر أيضاً أن تكون تعويضاً عن ضياع جزر الأنتيل التي تُنتج السكر وذلك بوصفها منتجةً لمنتجاتٍ كولونيالية، لكن الطموح لا يتوقف عند هذا الحد. ففي سانت هيلانة، يؤكد بونابارت بشكلٍ محدد أن مصر قدرها، بفضل برنامج أشغال عمومية جبار، أن تصبح مركز عالمٍ جديد، يهيمن عبر الإسكندرية على أوروبا كما على أفريقيا وآسيا. إن سكان كل العالم سوف يتدفقون عليها و، في غضون قرن، سوف يكون بوسع مصر الجديدة هذه أن تأخذ في نهاية المطاف استقلالها، كما فعلت ذلك الولايات المتحدة مؤخراً.

وأحلام سانت هيلانة هذه إنما تعبر تعبيراً واضحاً عن أبعاد المشروع في الأمد الطويل، ومن هنا ضرورة البدء منذ الأيام الأولى بالجرد العلمي للبلد، فهو جردٌ ضروري قبل إحداث أي تغيير. لكن بونابارت يصور نفسه دائماً في صورة إسكندر جديد، وهو في عمره. إلاّ إنه لا يمكن الركون إلى تكوين إمبراطورية على هذه الدرجة من الاتساع في أمد طويل. لقد كان يريد كل شيء وفي التو والحال.

وهنا، يُعَدُّ الخيال جزءًا من الحساب نفسه. وبونابارت لديه منذ ما قبل ذلك تصورٌ رومانتيكيٌّ عن الشرق والإسلام. وهو يرى نفسه في صورة الرجل العظيم، الفاتح والمُشَرِّع، وهي شخصية تكررت في تاريخ الشرق بحسب رؤية عصر التنوير لهذا التاريخ. وإذ ينطلق من حدس أو من زعم أن كل شيءٍ في الإسلام سياسي، فإنه يرى أن الدين سوف يكون العقبة الرئيسية في وجه مشروعه. واتساع خياله يجعله يتصور، بما يتجاوز سياسة مراعاةٍ لابد منها تجاه السلطات الدينية الإسلامية، أنه سوف يكون بإمكانه أن يوظف لحسابه طاقة الإسلام السياسية، ومن هنا استبساله في تصوير نفسه في صورة المهدي المُرسَل من الله والذي ينتظره المسلمون. وهذه "الاحتيالات"، كما سوف يصفها بذلك هو نفسه في سانت هيلانة، ستنتهي إلى الفشل، لكن ذكراها سوف تلازمه أبداً، منذ عام 1800 وحتى موته، على شكل أسفٍ دائمٍ لهذا الفشل. هذا هو ما يعبر عنه جماع إفضاءات نابوليون للمقربين إليه. وربما وجب علينا أن نجد في ذلك عقدة يوسف التي يتحدث عنها فرويد والذي يرى أن فتح أوروبا لم يكن غير بديل عن فتح مصر والشرق.

ويتلاقى الحساب والخيال عند بونابارت في فكرة أن الثورة الفرنسية، عندما تأخذ الشكل الإسلامي، سوف تسمح له بتكوين إمبراطورية شرقية، من البحر المتوسط إلى الإندوس. لكنه ليس بالرجل الذي يحرق مراكبه. وصحيح أن الإنجليز قد أحرقوها له في أبي قير، لكنه قد حافظ دائماً بشكلٍ وافر على سبل العودة إلى فرنسا إذا ما فرض الموقف عليه ذلك، أي إذا ما حرمته الظروف من فتح الشرق والإسلام، وهو ما يحدث في عكا في ربيع عام 1799.

وشخصية بونابارت جد استثنائية إلى حد أنه يجيز لنفسه وضع نفسه أمام ثلاثة عوالم – التنوير والكاثوليكية والإسلام - ، والسعي إلى توظيفها لحسابه دون أن يضطر إلى معارضتها (حتى وإن كان يصور نفسه، في مصر، في صورة عدو للكاثوليكية) . وخياله يسمح له بذلك لأن عقلية الحساب عنده تحيل هذه العوالم دائماً إلى مستويات الفعل السياسي. والحلم الشرقي ليس نقيض المناورة السياسية، بل هو إسقاط لها على مستويات ما هو كوني وشامل مع كل البرودة التي تتطلبها البراجماتية الدائمة لأفعاله السياسية. ووحدها مصر، أرض الأصول، الساحة الأخيرة للتنافس مع يوسف وإن كانت أيضاً التعبير عن ألغاز الموت، هي التي يمكنها مساعدته على أن يضع التنوير والإسلام على مستوى واحد وعلى أن يُعَبِّر، بما يتجاوز أبعاد شخصيته هو، عن التوترات المميزة للثقافة الغربية في عزمها على الفتح وكوننة – تغريب مجمل العالم القديم. والحال أن السعي إلى فهم السبب في رغبة بونابارت في فتح مصر، إنما ينطوي على ملامسة العلاقة المثيرة ولكن الصعبة دائماً بين الخيال والفعل السياسي، وهي العلاقة غير الممكنة إلا هنا، لأن الأمر يتعلق بنابوليون وبمصر.

* *

(عن لو نوفيل أبورفاتور، عدد خاص تحت عنوان حكمة وأسرار مصر، 1997 ، ص ص 9 -11 ).

حلم بونابارت_1



هنري لورنس
ترجمة بشير السباعي



بما يتماشى مع تراث التنوير الفرنسي، يتصور بونابارت أن مهمته إنما تكمن في أن يوقظ في مصر حضارةً وشعباً طال رقادهما. إلا أنه لا المشروع السياسي ولا الحملة العسكرية هي ما سوف يحتفظ التاريخ به، بل الأثر الموسوعي الذي يتمثل في كتاب وصف مصر.


* *


لا مراء في أن الطابع الغريب بل وغير العادي للحملة الفرنسية على مصر كان سبباً لكثير من الحيرة عند المؤرخين. وفي وقتٍ مبكرٍ جداً، وبما يشكل استئنافاً لتأكيدات قادحي الحملة عندما ظهر فشلها مؤَكَّداً في عام 1799، رأى البعض فيها مناورة سياسية من جانب إدارة تواقة إلى التخلص من جنرال لا حدود لطموحه. كما يضيف كثيرون من المتخصصين في التاريخ النابوليوني أن مصلحة الجنرال الطموح نفسها كانت تتمثل في تواصل الحديث عنه في الوقت الذي كانت السلطة القائمة لا تزال جد قوية فيه بحيث تتعذر الإطاحة بها. وقد قدم فرويد نفسه رؤية مثيرة فهو يرى أن بونابارت كان مريضاً بـ عقدة يوسف (جوزيف)، أي بشهوة الإنتقام من أخيه الأكبر، المنافس الذي يُكِنُّ له مقتاً وحُبًّا في آنٍ واحد: والحال أن فتح مصر، أرض يوسف، له عين قيمة الزواج من جوزفين، (مؤنث يوسف). وهو تعبير مماثل عن هذه العقدة التي يستمد منها قوته. وباختصار "فإلى أين يذهب المرء، إن لم يكن إلى مصر، عندما يكون يوسف الذي يريد أن يبدو عظيماً في نظر إخوته؟ وإذا ما درسنا عن قربٍ أكثر الدوافع السياسية لهذه المغامرة التي قام بها الجنرال الشاب، فسوف نجد بلا ريب أنها لم تكن غير تبريرات عنيفة لفكرة استيهامية" (رسالة من فرويد إلى توماس مان بتاريخ 20 نوفمبر / تشرين الثاني 1936).


لكن هذه التفسيرات، التي تحتوي نصيبها من الحقيقة، ليست مع ذلك كافية تماماً. فهي، أولاً، لا تأخذ في اعتبارها تصريحات المعنيين الرئيسيين وشهادات المعاصرين. والحال أن مشروع فتح مصر كان مشروعاً قديماً عند فريق من الإدارة الفرنسية، منذ مستهل سبعينيات القرن الثامن عشر على الأقل. وكان مصير الدولة العثمانية وممتلكاتها في شرق البحر المتوسط هو الموضوع الرئيسي للشواغل السياسية الأوروبية، على الأقل حتى اللحظة التي أصبحت الأولوية فيها للحرب ضد الثورة الفرنسية (1792 – 1793). وانتهاء الائتلاف الأول المعادي لفرنسا في عام 1797، إذ تبقى انجلترا وحيدة في الوقوف ضد فرنسا، إنما يسمح بالعودة إلى الشواغل السابقة. ومنذ زمن لجنة الخلاص العام، ارتأى المسئولون الفرنسيون الاضطلاع بعمل عسكري ضد البريطانيين في الهند. وفي عام 1798 كان التزاوج سهلاً بين المشروعين.


وغداة فتح إيطاليا، أقرت حكومة الإدارة الخيار القاتل الذي يتمثل في توسيع فرنسا الثورية والذي سوف تترتب عليه الحروب النابوليونية. ومادامت هذه الحكومة عاجزة عن ضرب انجلترا على أرضها، فلم يعد أمامها غير استراتيجيتين ممكنتين: الحصار القاري أو الهجوم على الهند، القاعدة المفترضة للجبروت الإنجليزي.


والحال أن المشروع الثاني هو الذي ينتصر، لأنه يبدو أكثر معقولية. وفي الوقت نفسه، فإنه يتماشى مع المنطق الجمهوري الجديد الذي ينتصر في خريف عام 1797: فالثورة، برغم إخفاقاتها الداخلية وعجزها عن التوصل إلى استقرار داخلي حقيقي، لم تَعُد تخص الأوروبيين وحدهم، بل هي تنزع إلى الانسحاب على مجمل الجنس البشري. وبعد القضاء على النظام القديم الأوروبي، يجيء الدور للقضاء على النظم القديمة الشرقية. والحال أن كتابات فلاسفة مستشرقين مثل الكونت دو فولني أو إبراهام آنكيتيل – دوبيرون إنما تزعم أن شعوب الشرق تتحين تحريراً منقذاً من جانب "أمة عظمى" قادمة من الغرب، ويتحدث عدد من الشهادات عن اتساع الحماسة التي اجتاحت الأوساط القائدة للجمهورية، من سياسيين وعسكريين وعلماء، عند إقرار المشروع. ومن الناحية العملية، لم ير أحد في ذلك ملمحاً لا عقلانياً، حتى وإن كان من المحتمل أن بونابارت وحكومة الإدارة قد خامرتهما الكثير من الشكوك.


في رسالة إلى تاليران في عام 1797، كان بونابارت قد حدد بشكل حاذق تعامله مع السياسة: "إذا ما اتخذنا كأساس لجميع العمليات السياسةَ الصحيحة، وهي ليست غير نتيجة الحساب والتوليفات والفرص، فسوف نكون لزمن طويل سادة أوروبا؛ وأنا أقول علاوة على ذلك أننا يجب أن نحافظ على التوازن، وأننا سوف نجعله يميل كما نشتهي، بل إنني – إذا كان ذلك هو حكم القدر – لا أرى استحالة في أن يصل المرء في غضون سنواتٍ قليلة إلى هذه النتائج العظيمة التي يحلم بها الخيال الجامح والمتقد، وأن الإنسان البارد في تقديره للأمور والدءوب والحكيم إلى أقصى حد هو وحده القادر على بلوغها". ومن الواضح أن الحساب والخيال والقدر هي المصطلحات الثلاثة اللازمة لفهم عمل بونابارت في مصر.


فالفرصة والقدر، المسميان أيضاً بالحظ في نصوص نابوليونية أخرى، إنما يسمحان بفهم سلسلة المجازفات الجسورة بل واللاعقلانية والتي سوف يجري الإقدام عليها، كاجتياز البحر المتوسط مع خطر التعرض لهجوم من جانب الأسطول البريطاني أو الاتجاه إلى الشام دون التمتع بالتجهيزات الضرورية لتأمين زحف جيد للجيش.


أما الحساب الرزين والبارد فهو المفتاح لعمل ينفتح دائماً على إمكانيات متناقضة، كهجر المسرح الباريسي ترقباً للاستنزاف المحتوم لحكم حكومة الإدراة أو كالمشروع التالي الذي يتمثل في إنشاء بونابارت إمبراطورية شرقية لحسابه.

وفي هذه الثلاثية النابوليونية، يظهر الخيال بوصفه الطرف المحوري الذي يؤطر ويوازن الحساب والقدر. ولا يمكن فهم الحملة دون هذا الرهان على الخيال، والمشترك بين بونابارت ومعاصريه. وفي الشطر الثاني من القرن الثامن عشر، وبدرجة أكبر في الأعوام الأولى للنظام الثوري، تصبح مصر في جدول الأعمال. ففي مجتمع يحرِّم الرمزية المسيحية، يبدو الهوس بمصر بوصفه الشيء الوحيد القادر على توفير السبل الضرورية للتعبير عن تساؤله عن الموت بلغة تبدو بالنسبة له حميمة مع تجنب اللجوء إلى المسيحية. وهو ما توضحه الماسونية ومعزوفة الناي المسحور التي وضعها موتسارت.
وفي خطاب لاعبي الأدوار الصريح، تبدو مصر في صورة أرض البدايات والأصول بينما تبدو الثورة الفرنسية نهاية التاريخ. وهكذا فإن الحملة إنما تختتم دورة تاريخ الإنسانية برد العلوم والفنون إلى وطنها الأصلي. وبشكل ملموس، يجد ذلك ترجمة له في البرنامج العلمي المثير للجنة العلوم والفنون، وهو برنامج بحث عن الأصول وجرد قبل الاستعمار. ونحن نعرف أن هذا سوف يؤدي إلى ذلك الأثر المثير والذي يتمثل في كتاب وصف مصر.

يتبع

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_6


مايك جونثالث



"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"

ترجمة
بشير السباعي


جداريَّة من رسم دييجو ريبيرا
(6)

هناك سخرية أقدار مناسبة في احتفال النظام العالمي الجديد الذي ينبثق الآن إلى الوجود برحلات كولومبوس. فقد كان الملاح الإيطالي بذرة في إعصار عام 1492 التاريخي. لكنه كان الأداة التي بدأ عبرها تشييد النظام العالمي الأول.

كما أن هذا العام (1992) سوف يشهد احتفالات مضادة. فبالنسبة للشعوب الأصلية لكل من أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، يمثل عام 1992 ذكرى مرور خمسمائة عام على بدء استغلالها المنهجي على أيدي رأس المال الغربي. إنه ذكرى اختزالها إلى عدم الظهور في سجلات التاريخ أو، في أفضل الأحوال، إلى وضعية البرئ و/ أو البربري الدائم في الحكايات الملحمية للزحف الغربي – سواء أكانت حكايات الفتح نفسه أو أفلام الغرب الأمريكي التي وصفت فيها الطبقة الحاكمة الأمريكية "فتحها" الخاص وإخضاعها لأراضي القارة الشمالية.

إن كل جيل من المستغِلين قد اكتشف جماعات تحيا على الأرض التي كان يشعر بأنه ملزم باستغلال تربتها وما تحت تربتها. وفي كل حالة حوَّل المستغِلون هذا العمل من أعمال الفتح إلى اكتشاف اختفى فيه البشر الذين وجدوهم هناك اختفاء سحرياً وتحولوا إلى طبيعة عاجزة. لكن هذه الطبيعة، بدورها، قد جرى نهبها وتقويضها بشكل متواصل سعياً إلى الربح المباشر.

وطبيعي أننا نتوحد الآن مع ضحايا ذلك المسلسل للأحداث. والتطلع إلى جماعات الزُّراع – جامعي الثمار إنما يعني إحياء تاريخ منسي ومجهول. لكن ذلك ليس هو السبيل إلى التحرر. وليس التقدم نفسه، التغير والتطور، هو الذي دمَّر ومزَّق الكثير جداً من العالم – وخاصةً ورثة أولئك القلائل الذين نجوا من فتح أمريكا. فظروف ذلك التقدم، طابع النظام العالمي للإنتاج والاستغلال، هي ما يجب أن نواجهه. وعلى نطاق عالمي، فإن البشرية قد طورت إمكانات التحرر الإنساني، لكن أولئك الذين يملكون هذه الإمكانات قد كرَّسوها لأغراضٍ أخرى تماماً.

وقد قال إدواردو جاليانو، وهو مؤرخ رائع ومتوقد المشاعر، سجَّل جرائم الإمبريالية والنضال ضدها:
"إن الوحشية الإسبانية التي كثيراً ما يدور الحديث عنها لم توجد قط، لكن ما وُجد ولا يزال موجوداً هو نظام مقيت حتَّم ويُحَتِّمُ أساليب وحشية لفرض نفسه".

إن ورثة ضحايا كولومبوس هم جميع أولئك الذين يتعرضون للاستغلال في النظام العالمي الذي كان موظفاً فيه. والخطر الحقيقي لعام 1992 هو أننا قد نسمح له بأن يكون عاماً تُدَشِّنُ فيه الاحتفالات طبعةً جديدة من نظام يستند إلى الوحشية نفسها وإلى التدمير نفسه.

"هذه الآلهة الجديدة لا يبدو حتى أنها تأكل
فهي لا تستمتع إلاَّ بما تسرقه
إلا أننا عندما أدركنا ذلك
كان الأوان قد فات
وقبل أن نرى خطأنا
كنا قد سلمنا عظمة الماضي
وقد أبقانا هذا الخطأ
في العبودية على مدار 500 عام"



(جابينو بالوماريس : لعنة مالينتشي)

والفارق هذه المرة هو أننا نعرف ما الذي يترتب على إنشاء نظام عالمي رأسمالي. وعلينا أن نتطلع إلى الاحتفال بالقضاء النهائي عليه وبدء عصر حرية حقيقية.

------------
لمزيد من الاطلاع على الموضوع، ارجع ‘لى كتاب تزفيتان تودوروف: "فتح أمريكا : مسألة الآخر"، ترجمة بشير السباعي، دار العالم الثالث، القاهرة، 2003 (ط 2).

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_5



مايك جونثالث

"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"
ترجمة
بشير السباعي




فرانشيسكو بيثارُّو

(5)

في عام 1532، وصل فرانشيسكو بيثارُّو إلى مدينة كاخاماركا في البيرو. وكان قد أنصت إلى شائعات متواصلة عن مدنٍ ذهبية ورجالٍ ذهبيين، وقضى معظم عشرينيات القرن السادس عشر في البحث عن طرق تؤدي إلى أراضي الجنوب الخرافية. وفي عام 1529 حصل على التصريح الملكي باستكشاف وفتح المنطقة. وهبط هو وشريكه آلمارجو في عام 1530 في الإكوادور الحالية. وكانت قوتهما تتألف من نحو 170 أسبانياً – وصحيح أنهم كانوا جنوداً مجربين وأنهم كانوا مزوَّدين بمدفع و62 جواداً. إلا أن أياً من ذلك لا يمكنه أن يكون كافياً لتفسير السقوط السريع لإمبراطورية الإنكا غير العادية في أيدي الإسبان.

لقد كان الحظ حليفاً للإسبان. فقد وصلوا في عين اللحظة التي كانت فيها الإمبراطورية ممزقة بنزاعاتها الداخلية الخاصة. وكان الإنكا مجرد أمة واحدة من أمم كثيرة متحاربة فيما بينها منذ مستهل القرن الخامس عشر. ومنذ عام 1438 فصاعداً، أخذوا يتوسعون بسرعة مدهشة، وكانت الحصون الجبلية الرائعة تحمي مدينة كوثكو المقدسة من الغزو وكان طريق رئيسي يخترق الذرى العالية للجبال الراسية على طول حدود الإمبراطورية التي تمتد مسافة 5000 من الكيلومترات. وكانت شبكة ري مركبة لا تزال تعمل إلى اليوم تكفل غلات عالية من الذرة والبطاطس في مزارع على ارتفاعات شاهقة.

وكان الإنكا فاتحين. وكانت ديانتهم، القائمة على عبادة الأسلاف، تدعو إلى التوسع المتواصل والسريع. وقد بدا لبعض المراقبين المتأخرين أن النظام الاجتماعي كان نموذجاً للجماعية. لكن الديموفراطية القاعدية ما كان بوسعها حجب الطبيعة الهيراركية والجامدة للمجتمع ككل. إلا أن التوسع كانت له حدوده وقد خلف جوانب ضعف قاتلة.

وما حدث عندما ألقى الفاتح بيثارُّو آتاهوالبا إنكا في كاخاماركا معروف للجميع. لقد وصل آتاهوالبا إلى ساحة المدينة برفقة نحو 10000 جندي، مفترضاً أن القوة الإسبانية الصغيرة سوف تهتز أمام هذا المشهد وتنضم إليه. لكنه لم يحسب حساب الطمع والغدر الإسبانيين. ولدى إشارة محددة سلفاً وقع زعيم الإنكا في الأسر وحُددت فدية لإطلاق سراحه.
لقد كان دمار إمبراطوريتي الآزتيك والإنكا محصلة مواجهة بين مجتمعات سلطوية مندفعة إلى توسع شامل.

وهناك خلافات فيما يتعلق بعدد سكان أمريكا اللاتينية عند وصول الإسبان إليها لأول مرة – ومن الواضح أن رقم العشرين مليوناً هو تقدير محافظ. والأمر المؤكد هو أن 80 في المائة منهم قد ماتوا في غضون جيل واحد – ماتوا من الأمراض الإسبانية، ماتوا من العمل أو من التعذيب بقصد دفعهم إلى العمل، ماتوا لأن عالمهم وهياكل دعمه واستمراره قد دُمرت بشكل منهجي. وقد دُفع رعايا الأباطرة الإنكا والآزتيك إلى العمل في المناجم المرعبة أو إلى العمل الذي لا يكل في الأرض، لإطعام وإعاشة إمبريالية غير منتجة وجشعة بلا حدود.وذهبت المعادن الثمينة إلى تمويل الخطط التوسعية المتهورة بشكل متزايد لشارل الخامس ولابنه الطائش فيليب الثاني، ومُولت اقتصادات أوروبا الشمالية بالذهب والفضة الإسبانيين اللذين عادا بالأسلحة والسلع والأغذية اللازمة للإبقاء على جيوش الاحتلال. ومما يدعو إلى السخرية أنه بحلول أوائل القرن السابع عشر كان الجوع قد عاد إلى إسبانيا على نطاق واسع حيث أدى التضخم غير المسبوق إلى رفع أسعار السلع الأكثر أساسية نفسها إلى عنان السماء.

يتبع

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_4


مايك جونثالث
"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"

ترجمة
بشير السباعي

Hernando Cortez


(4)


هل كان ذلك محتماً؟ إن الحضارة الأوروبية لم تكن أرقى بشكلٍ متأصل. ومن المُرجح أن الصين كانت أكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في ذلك الوقت، وكان الآزتيك والإنكا على حد سواء قد نجحوا في إطعام شعوب بلادهم – بالذرة – على نحوٍ أفضل نوعاً ما من أوروبا بجموعها الجائعة ومجاعاتها المتكررة. والمسألة هي أن أوروبا اضطلعت بالفتح، وأنها، من أجل تأمين وجودها على قيد الحياة، لن ترحم أية عقبة تعترض سبيلها.


وكان واقع شعوب أمريكا الأصلية، جزئياً على الأقل، قصة وحشية من قصص البقاء والسيطرة كقصة أوروبا. فالجماعات التي تعيش على صيد الأسماك وجمع الثمار في جزر البحر الكاريبي أو السهول الأمريكية الشمالية العظيمة كانت جماعات مساواتية لا تملك فكرة عن المال والكسب المُمَيِّزَيْنِ للوجود المحوري للصراع الطبقي. لكنها كانت، في بعض الحالات على الأقل، منقسمة داخلياً. ولم يعرف كولومبوس قط الإمبراطوريات الشاسعة الموجودة في قارة "جزر الهند الغربية". وقد مات بعد أن كون لمحة عن الثروة دون أن يخطر بباله حجم الثروة التي سوف تتكشف.


وكان إيرناندو كورتيس وفرانشيسكو بيثارّو ابنان لعصرهما أيضاً – إلا أنهما كانا يتميزان بغطرسة ويقين أمة فاتحة. وقد هبط كورتيس في بيرا كروث على خليج ميكسيكو في أبريل 1519. وكانت رحلات وتحريات سابقة قد أطلعته على الإمكانيات الموجودة هناك، وكانت الشائعات التي تتحدث عن مدن ذهبية وإمبراطوريات عظيمة شائعات واسعة الانتشار على أية حال. وقد حدثته الحكايات المتواصلة ذات رنة الصدق عن قوة إمبراطورية عظمى تهيمن على مجمل وسط المكسيك. وحمل إليه رسلٌ من تلك الإمبراطورية – الآزتيك – شمساً ذهبية وقمراً فضياً لكسب وده ولإعادته إلى بلاده قانعاً. لكن ذلك لم يؤدِّ إلاَّ إلى ضمان أنه ورجاله سوف يبقون إلى الأبد.


وكان الآزتيك فاتحين. فقبل قرن بالكاد كانوا قبيلة معزولة في الوادي الأوسط محاطة بالبرابرة أو بالتشيتشيميك. إلا أنهم سرعان ما فرضوا على وسط المكسيك هيمنة وإمبراطورية امتدتا بعيداً في كل اتجاه. وقد تنازعت في قلبها ديانتان على الهيمنة. وكان في بؤرة ديانة الحرب إله متعطش للدماء يشتهي تقديم القرابين البشرية إليه والتوسع. وكان خدم إله الحرب يتمثلون في المحاربين، فرسان النمر المرقط والثعبان المجنح الذين لم تكن قواعدهم تختلف كثيراً عن قواعد أخويات الفرسان الأوروبية. إلا أنه كان هناك أيضاً تيار آخر، دين جبرية وإذعان للقدر مستمد من ثقافات التولتيك الكلاسيكية الغنية التي كانت قد شيدت أهرامات الشمس والقمر العظيمة. وكان كهنة هذه العبادة يجدون عند موكتيزوما آذاناً صاغية.


والحال أن انتصار إسبانيا المثير على هذه الإمبراطورية في غضون سنتين أو ثلاث سنوات قصيرة لا يمكن رده إلى مجرد ترددات حاكم. فأسباب شك موكتيزوما لها جذور أعمق. ذلك أنه كان يقود إمبراطورية تمر بأزمة. فالتوسع كان قد وصل إلى حدوده المادية وكان قد قوبل بمقاومة لم يكن بوسعها التغلب عليها. فهذه الإمبراطورية الجبارة تعجز عن إلحاق الهزيمة بالتاراسك أو بالتلاكسكالتيك أو بالمايا في الجنوب. والواقع أن تلاكسكالا، بعد أن واجهت الإسبان وخسرت المعركة معهم، قد أصبحت حليفاً لا غنى عنه في انتصارٍ إسباني.


وكان إمبراطور الآزتيك يواجه شقاقاً داخلياً. فقبل وصول كورتيس بوقت قصير كان قد أخمد تمرداً للطبقة التجارية التي كانت قد توسعت في النشاط التجاري إلى خارج حدود الإمبراطورية. وكانت قد نظمت قواتها المسلحة الخاصة ومركزها السياسي والاقتصادي الخاص. وكان الضغط من أجل التغيير يتصاعد ضد الإمبراطور نفسه من الداخل ومن الخارج. وقد قاوم هذه المطالب وسحق في المهد تمرداً من جانب التجار، لكن الانقسامات استمرت. وكان من حسن حظ الإسبان الذي لا يصدق أنهم تمكنوا من استغلالها والاستفادة منها، حيث قاموا بتعبئة أعداء الآزتيك كحلفاء لهم وكأدوات مساومة في المفاوضات مع الإمبراطور.


وفي نهاية الأمر، فإن موكتيزوما المتردد قد رجمه شعبه هو بالحجارة حتى الموت وأمكن طرد إسبانيا لفترة قصيرة. وفي أواخر عام 1520، عاد الإسبان وحولوا البلد إلى أنقاض بعد ثمانية أشهر من الحصار. ثم شيدوا مدينة إسبانية جديدة بأحجار العالم القديم – وهو عمل يتميز بأهمية رمزية، تحدثت عنه المرثية الأخيرة لشعراء الآزتيك:


عندما احتشد الجميع
سد المسلحون المخارج والمداخل
ثم احتدم الضجيج
وتعالت الصرخات إلى كبد السماء
وتشبع الهواء برائحة الدم
المناحات تودع الموتى
والخوف يملأ صدور المكسيكيين...
الجدران ملوثةٌ بالدماء
والدود يزحف في الدروب والساحات



(أغنية مذبحة تلاتيلولكو 1521)

يتبع

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_3



مايك جونثالث
"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"

ترجمة
بشير السباعي



(3)



من أكثر سمات الفتح إثارة للسخرية أنه متى وصل كولومبوس أو أولئك الذين جاءوا في أثره إلى فتح أنهم كانوا يلتزمون بادئ ذي بدء بسلسلة من الشكليات الدستورية، كان من بينها تلاوة بيان "فريضة أساسية"، باللاتينية غالباً، يدعو السكان المحليين (الحائرين على ما يبدو) إلى إعلان الولاء الفوري لملك غريب ولرب غريب يخدمه الأول. وسوف تنزل، وقد نزلت بالفعل، عقوبات رهيبة بأولئك الذين لا ينتهزون هذه الفرصة الفريدة!

على أن كولومبوس كان آخذاً في فقدان شعبيته بشكل متزايد، وبعد العجائب التي عاد بها من رحلتيه الأولى والثانية، بدأ يصطدم بجميع أنواع المصالح.

وقد قادته رحلته الثالثة، في عام 1498، إلى رصد مجمل ساحل كوبا وإلى خليج الكاريبي، أما رحلته الرابعة، في عام 1502، فقد قادته إلى الوصول إلى البر الرئيسي الحقيقي للقارة – إلا أنه لم يهبط إليه أو يتوقف عنده. وبحلول ذلك الوقت، كان كولومبوس قد نُحِّيَ جانباً بالفعل. إلا أنه تشبث بدوره بأظافر أصابعه، لكن البحار كانت غاصة فعلاً بالحملات وبالسفن. وآنذاك كانت الشعوب الأصلية – الآراواك وألتينو – شبه مبادة، إذ قتلها بحث الإسبان الذي لا يرحم عن الذهب أو ماتت بأيديها هي في أعمال مؤثرة من أعمال المقاومة الصامتة. وتم استعمار كوبا، فنمت مزارع السكر فيها وأبيد سكانها الأصليون. وكانت تجارة العبيد الأطلسية قد امتدت إلى الساحل الغربي لأفريقيا. ولقي الكاريبي الأسود الجديد سكانه الأوائل متدحرجين من الإعياء من السفن الخشبية الثقيلة البطيئة التي يقودها سادتهم (الإنجليز غالباً) من تجار العبيد.

إلا أن قواعد السلوك التي سوف تحكم هذا العالم الجديد كانت قد حُدِّدَتْ قبل أن يفقد كولومبوس الحظوة. ولم تكن معاملته البربرية للشعوب الأصلية غير تجربة أولية للوحشية التالية. وتقاريره عن أعماله، كما وصلت إلينا، هي أول دفاع عن أعمال إسبانيا.

في عام 1506، صار التاج الإسباني في أيدي آل هابسبورج الطامحين. وكانت لدى الإمبراطور الجديد، شارل الخامس، طموحات في استعادة إمبراطورية رومانية مقدسة كانت يوتوبيا عالم محافظ وكاثوليكي، وكانت أطماعه الإقليمية تتخذ شكل الفتح والاحتلال لا التجارة. وكان القائمون على المشروع هم الجنود الذين كانوا قد اكتسبوا مهارتهم المهنية في حرب استرداد إسبانيا، حثالة النبلاء الذين أحيوا كل طموحاتهم الأرستقراطية في بلاد الأمريكيين. أما الطبقات التجارية في إسبانيا الشمالية، في الباسك وكاتالونيا، فقد استُبعِدت إلى حد بعيد من غنائم الفتح.

ومع تزايد ثقة واطمئنان التاج الإقطاعي الإسباني، "أُغلقت مصاريع العقل" وأُخرِست الأصوات الناقدة. وكان جذر هذا الاطمئنان هو ذهب وفضة بلاد الأمريكيين. فالذهب يستطيع إشباع رجال البلاط وتحويل التجار إلى التجارة الأطلسية. والذهب يستطيع خوض الحروب في أوروبا من أجل التوسع الإقليمي والنفوذ الإيديولوجي. والذهب يستطيع شراء السلع الذي سوف يزود الرأسمالية الأوروبية الشمالية بالوقود اللازم للحركة بينما سوف يؤدي إلى تقويض الطبقة المانيفاكتورية الإسبانية المثيرة للمتاعب.

لقد كان حكام إسبانيا يتمتعون بحكم إلهي، ونجاح الفتح سوف يكفل لهم البقاء في عالم متغير. وتتمثل المفارقة في أن وسيلة تأمين البقاء لهم كانت وسيلة حديثة للغاية – الفتح والاستغلال المنهجي للعمل، إنتاج فائض للتبادل الدولي في سوق عالمية آخذة في الانبثاق. وكانت إسبانيا قوة فاعلة في النظام الرأسمالي العالمي الآخذ في التكون – لكنها كانت ممثلاً إيديولوجياً للعصور الوسطى التي كانت آخذة في التراجع. وكانت دعوى المرجعية الأخلاقية مكوناً لا غنى عنه من مكونات الفتح – لكن عالماً تنافسياً كان يتطلب اتباع أكثر الأساليب وحشية في انتزاع الفائض الذي يرقد تحت تربة أمريكا المكتشفة حديثاً.
ولما كانت التجربة قد تناقضت باستمرار مع الإيديولوجية، فإن مهمة تحجيم الفكر قد أصبحت أكثر أهمية. وهكذا انبثقت محاكم التفتيش إلى الوجود.

وقد جرى السعي إلى احتلال واستعمار المنطقة باسم الحضارة وجرى تبريرهما من زاوية توسيع ملكوت المسيحية عبر العالم. وطالما كان كل ما وجدوه هو جماعات صغيرة مكتفية ذاتياً تعيش على الزراعة وصيد الأسماك، فقد كان تفوق الحضارة الأوروبية في مأمن. لكن الأمر كان مختلفاً عندما واجهت إسبانيا، بعد ذلك بعشرين سنة، حضارات عظيمة كانت قد صاغت أساطيرها الخاصة عن عدالة الفتح وتصوراتها المتغطرسة الخاصة التي تذهب إلى أنها تمثل مشيئة إلهية للعالم. وكانت عقيدة القوى الأوروبية تتمثل في أنها قد وُهبت حق فتح العالم والسيطرة عليه.

وقد زعمت أن ما يحركها هو "الرب والذهب والمجد". لكن الذهب هو الذي احتل الصدارة، ومع تطور الفتح وامتداده إلى المكسيك والبيرو، والتزايد المطرد للمكاسب، اتخذ عنصر المجد مكانه الثانوي بالمقارنة مع البحث الذي لا يكل عن الكنز الأصفر.
يتبع

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_2



مايك جونثالث
"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"

ترجمة
بشير السباعي


(2)


في 3 أغسطس 1492 خرج كولومبوس إلى عرض البحر في سفنه الثلاث: سانتا ماريا، ونينا وبينتا. ولابد أنه قد شعر بالفرحة الغامرة عند خروجه. فقد كان واثقاً من قدراته كملاح. والواقع أن فكرته عن الرحلة التي تنتظره كانت خاطئة – إذ كان يعتقد أن الوصول لليابسة سوف يتحقق بأسرع مما حدث في الواقع. لكنه كان يعرف أن العالم في متناول الإنسان. ومع أن رأسه كان محشواً دون ريب ببعض الخرافات القروسطية الغريبة، إلا أنه كان يحتوي أيضاً أحدث المعارف العلمية.

وكانت لديه مبررات أخرى للفرحة. فهو قد عقد اتفاقاً غير مسبوق مع الملكين الكاثوليكيين يكفل له عُشر كل ما يجد، ويمنحه لقب أميرال البحرالمحيط. وكانت الرحلة طويلة ومثيرة للأعصاب. وفي أوائل أكتوبر، تزايد قلق البحارة، لكن كولومبوس نجح في احتواء مخاوفهم. ثم، في 11 أكتوبر، لمحوا اليابسة. وكانت تلك هي البداية.

لم يكن كولومبوس مهتماً كثيراً بفهم العالم الذي وجده. فهو لم يبذل جهداً يستحق الذكر في تسجيل مظاهر الحياة النباتية والحيوانية في هذا المكان الجديد. وعندما قابل سكان "العالم الجديد" الأوائل الذين اتخذوا نحوه موقفاً يتميز بالتساؤل والود، كانت فكرته الأولى تتمثل في أنهم يصلحون لأن يكونوا خدماً طيعين وأنهم فريسة سهلة للتنصير. وعند إبحاره حول الكاريبي من جزيرة إلى أخرى، حيث التقى سكان الآراواك والكاريب، كانت عيناه على الحلي الذهبية الصغيرة المشبوكة في أنوفهم وآذانهم.

وفي التقرير الذي كتبه لسادته، أكد لهم على استجابة هؤلاء السكان التي تتميز بالهدوء والود كما أكد لهم على أن بوسعه "جعلهم يجمعون الأشياء التي يحوزونها بوفرة والتي نحتاج إليها وتقديمها لنا...". وفي حين أنه لم يهتم كثيراً برصد أو تسجيل ما رآه، فإنه قد استسلم لمزاعم خيالية عن القيمة التسويقية لأية نباتات أو بذور غير معروفة صادفها.

وبالنسبة للآراواك والكاريب، فإن السيف كان قد سبق العذل. لقد أخذ كولومبوس بعضهم معه إلى إسبانيا وعرضهم في برد شتاء 1493 عرايا في الشوارع قبل تقديم هذه الكائنات الغريبة المثيرة للفضول في البلاط. وسرعان ما سوف يختفي الناس الذين تركوهم خلفهم في الكاريبي، فهم سوف يموتون تحت التعذيب ومن جراء سوء المعاملة أو الإنهاك في العمل في مزارع السكر في هسبانيولا (هايتي وجمهورية الدومينيكان الآن) أو كوبا. ويبهت فعل الإبادة هذا من حيث جسامته بجانب الحطام البشري الذي تسبب فيه فتح البر الرئيسي لأمريكا الجنوبية – إلا أنه كان رهيباً بما يكفي لدفع بعض الإنسانيين الجدد إلى الاحتجاج.

وكان كولومبوس محقاً في اعتقاده بأن الشاغل الرئيسي لأسبانيا ليس هو التنصير ولا الفضول العلمي بل البحث عن الثروة. فبقاء المملكة الإسبانية الجديدة يتوقف على إحراز انتصار في ذلك السباق – الذي كانت رهاناته أعلى الرهانات. ومنذ تلك اللحظة بدأت الهوة بين الأقوال والأفعال في الاتساع. وكانت النزعة الإنسانية لفترة الإصلاح الديني لا تزال مسموعة في إسبانيا. فقد تربى جيل في روح هذه النزعة وسوف يشن فيما بعد هجوم مؤخرة على الفتح الإسباني – لكن هذه الأصوات كانت لا تزال ضعيفة، وإن كان أشدها عناداً، لاس كاساس، سوف يواصل الاحتجاج على مدار عمره على فظاعة الجبروت الإسباني.

وعندما عاد كولومبوس إلى إسبانيا في عام 1493، فإن ما حمله معه كان وعوداً بأكثر مما كان برهاناً. لكنه حمل ما يكفي لتشكيل النزعة الإستعمارية الأوروبية التي كان رسولها الأول. وفي إسبانيا كان التأثير فورياً. فحتى مع انفتاحها على تجارة عالمية وشروعها في المشاركة في السوق، فإنها تبدأ في بناء إمبراطورية إقطاعية قوية تستعيض بالتوسع الجغرافي عن التحول التقني، وتملأ بنوك رأس المال الأوروبي الشمالي بينما تزيل من قلبها هي كل أثر للتغير أو التحول. وكان اضطهاد اليهود والعرب من جانب محاكم التفتيش مجرد مظهر واحد لذلك، أما البحث المستميت بشكل متزايد عن الذهب والتوابل، مع ثبوت زيف تأكيدات كولومبوس حول وجود مناجم غنية في كوبا، فقد كان مظهراً آخر له.
يتبع

مغامرة كريستوفر كولومبوس الدموية_1



مايك جونثالث

"في سبيل الرب
والذهب
والمجد"


ترجمة
بشير السباعي


(1)


كان عام 1492 مفترق طرق في التاريخ الأوروبي والعالمي. فقد رمز إلى فترة انعدام لليقين على عتبة عالم جديد قائم على التجارة والمانيفاكتورة. وكان على معادن أمريكا اللاتينية الثمينة، المستخرجة بتكلفة بشرية رهيبة إلى حد بعيد، أن تحرك آلات أوروبا الشمالية وأن تسدد تكاليف التحول الاقتصادي. إن الذهب والفضة اللذين كانا يزينان في وقت من الأوقات هامات الأباطرة الإنكا والآزتيك قد أصبحا القاعدة الأساسية للرأسمالية الأوروبية. ومن المفارقات أن أثر الفتح على أسبانيا نفسها قد تمثل في تقويض صناعتها الناشئة ودفع البلاد إلى الوراء، من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، على موجة رواج اقتصادي غير مسبوق. أما بالنسبة لشعوب أمريكا اللاتينية الأصلية، فقد كان الفتح يعني خضوعها لسادة جدد لا يرحمون واستعباد أجيال تالية.


وقد حدد أسلوب الفتح قواعد العلاقات الاجتماعية في ظل الرأسمالية، ووسع الساحة التي يمكن للاستغلال أن يتم فيها. وهو لم يكن مجرد أول مشروع إمبريالي. فقد بين أيضاً كيف يمكن للدين وللأفكار أن تسير خلف ممثلي رأس المال المجازف مباشرةً لتمحو آثار أقدامهم وتعيد كتابة التاريخ بحيث يصبح مشروع الإخضاع الإجباري مشروعاً مختلفاً تماماً، مشروعاً تمدينياً – ليس فتحاً بل اكتشافاً لعوالم كانت حتى ذلك الحين تذبل وتتلاشى خارج التاريخ (وذلك على الرغم من الحضارات عالية التطور التي وجدت في ذلك المكان والملايين التي عاشت حياتها هناك).


وبحلول أواخر القرن الخامس عشر، كان العالم زاخراً بالرحالة وبالحملات، وكانت هناك سفن في كل بحر. وقد تغلب الملاحون البرتغاليون على البحار الغادرة قبالة الساحل الغربي لأفريقيا ليتمكنوا من الوصول إلى جزر الهند الشرقية. أما رجال جيوفاني كابوتو، الذين خرجوا إلى عرض البحر من برستول، فقد وصلوا إلى أمريكا الشمالية. بينما نجحت السفن الشراعية الضخمة التي خرجت إلى عرض البحر من الصين في الوصول إلى الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، وذلك في الوقت الذي كان فيه التجار العرب الأفارقة الشماليون يرتحلون براً للتجارة مع إمبراطورية زمبابوي وينشرون شباكهم التجارية في وسط آسيا وجنوبي أفريقيا وشبه القارة الهندية.


ولم يكن ذلك كله حباً للاستكشاف، لقد كانوا منخرطين في منافسة تجارية، في سباق على السلع التي شكلت أساس التجارة الدولية – التوابل والمعادن الثمينة. وكانت الوعود ضخمة.


وقد زاد من دفع السباق على موارد الثروة إلى الأمام إحساس بالثمن الفادح للفشل. فقد كانت الإمبراطوريات القديمة على حافة الكارثة. وكانت الحضارات تشكو من أزماتٍ حاسمة. وكانت أوروبا أسيرةً للكوارث – كوارث الموت الأسود والمجاعة والطاعون. كما أن امبراطوريتي الأزتيك والإنكا اللتين سوف تجري مواجهتهما كانتا في بؤرة شائعات ونبوءات تتحدث عن كارثة قادمة . وكل هذا الهلع والإحساس بالخوف كان ينبئ بزمن تغير عظيم.


وفي عام 1492، كانت إسبانيا دولة إقطاعية توحدت للتو فقط تحت التاجين المشتركين لفيرديناند وإيسابيللا – الملكين الكاثوليكيين. وقد تمثل الفعل الأخير للتوحيد ذلك العام في طرد العرب المسلمين، الذين كانوا قد احتلوا إسبانيا لما يقرب من ثمانمائة عام. وقد سمح الملكان للعرب المسلمين بممارسة ديانتهم إذا ما اختاروا عدم التحول إلى اعتناق الكاثوليكية. أما اليهود الذين لا يتنصرون، من جهة أخرى، فقد كان يتوجب طردهم على الفور. وفي غضون عشر سنوات، سوف يجري سحب المراسيم الليبرالية الخاصة بالإسلام أيضاً.


وفي مواجهة تغيرات ضخمة، فإن العالم القروسطي ومؤسسته المركزية، الكنيسة الكاثولكية، كانا مضطرين إلى إبداء مقاومة شرسة. لقد دعا مارتن لوثر إلى إصلاح للكنيسة. وكان الرد على ذلك هو إنشاء محاكم التفتيش في عام 1480. لكن هشاشة الاقتصادات الإقطاعية كانت تجعل من التغيير ضرورة لا مفر منها. وكانت الطبقة التجارية التي نمت مع توسع التجارة تضرب بشدة أبواب القلعة. ففي إسبانيا، كان التاج، الذي توحد حديثاً والذي كان لا يزال هشاً، عرضة للتحدي من جانب الطبقة المانيفاكتورية والتجارية، الكومونيروس، الذين قالوا أن عبء الضرائب الملكية يحرمهم من ميزتهم التنافسية. لكن تاج إسبانيا كان من الصعب عليه البقاء دون تلك الضرائب. وكان اقتصاد إسبانيا غير كفء وغير دينامي. وقد زاد الضغط من أجل التغيير من جراء الحاجة إلى إطعام السكان وكذلك إطعام طبقة وفيرة العدد من ملاك الأرض المتغيبين الطفيليين وحشد من الخدم المتفرغين في بلاط فيرديناند وإيسابيللا الكثير الرحلات.


وفي الوقت نفسه، فإن المصادر المعروفة للمعادن الثمينة كانت قد أصبحت بعيدة المنال حيث سيطر البرتغاليون على مصادر الذهب الأفريقي، مثلاً. وأصبح من المُلِح بالنسبة للآخرين العثور إما على طرق بديلة إلى مناجم الذهب أو على مصادر بديلة للوصول إلى المعدن. وكان الموقف مماثلاً فيما يتعلق بالطرق المؤدية إلى التوابل. وما كان محل رهان هو البقاء نفسه. وشكل الأمور يتغير من جراء الفعل الإنساني، فتوزيع الخيرات والموارد لا يتوقف على مخطط رباني بل على صراع بالغ الشراسة. وكانت الخريطة الجيدة تساوي ألف دعاء. وذلك هو ما قدمه كولومبوس لإسبانيا.

يتبع