الماركسية ولاهوت الدولة

بشير السباعي


أما وأن الدكتور غالي شكري قد صدق الحكمة الرائجة التي تتحدث عن "نهاية الماركسية" فسوف يكون من العبث أن ندعوه إلى تذكر أن جان جاك روسو (1712-1778) وماكسميليان روبسبيير (1758-1794) لا يتحملان المسئولية عن الهذيان المهدوي الذي دفع بونابرت (1769-1821) إلى الادعاء أمام مشايخ الأزهر أنه الرسول الذي جاء ليتمم رسالة نبي الإسلام، ولا إلى تذكر أن "البيان الشيوعي" قد كتب في عشية ثورة 1848 وليس في عشية التاسع من ثيرميدور من العام السادس لثورة أكتوبر!


لكن من الواضح، على أية حال، أن فيلسوف العقد الاجتماعي ليس هو الأب الشرعي لانقلاب برومير (نوفمبر 1799) ولا لإعلان الامبراطورية من جانب الكورسيكي الذي كان، يوماً ما، تلميذاً لروسو وجندياً من جنود الثورة والجمهورية. كما أن من الواضح، بالمثل، أن ماركس (1818-1883)، الذي كتب "مساهمة في نقد فلسفة الحق الهيجيلية"، ليس هو الأب الشرعي للبيروقراطية الستالينية التي أنجبها، بين عوامل أخرى، تخلف روسيا وتراجع الثورة الأوروبية.


والحال أن الفيلسوف الألماني للثورة العالمية كان قد كتب في عام 1843 ما يلي: "إن شكلانية الدولة، وهي ما تمثله البيروقراطية، هي الدولة بوصفها شكلانية. وقد وصفها هيجل بأنها شكلانية كهذه بالتحديد. ولأن شكلانية الدولة هذه تصوغ نفسها بوصفها سلطة واقعية وتصبح هي نفسها محتوى نفسها المادي، فمن الواضح أن البيروقراطية غشاء لوهم عملي، أو أنها وهم الدولة. إن العقل البيروقراطي هو عقل يسوعي و لاهوتي حتى النخاع. والبيروقراطيون هم يسوعيو ولاهوتيو الدولة. والبيروقراطية هي الجمهورية الكاهن".


ومن الصعب على المرء ألاَّ يتذكر هذه الفقرة عند قراءة مقال الدكتور غالي شكري المنشور في عدد يونيو 1993 من مجلة "القاهرة"، حيث يتحدث الكاتب، دون تردد، عن "كهنة الماركسية وأحبارها من جدانوف إلى سوسلوف"، بدلاً من أن يعترف بالواقع التاريخي والذي يتمثل في أن هؤلاء كانوا مجرد ديماجوجيين كرسوا لاهوتهم الستاليني البائس للدفاع عن الامتيازات الواقعية للبيروقراطية التي ينتمون إليها وليس للدفاع عن "طهارة" الماركسية، التي يعرف كل مثقف نزيه أنها قد تعرضت لأسوأ كبت عرفه التاريخ المعاصر على أيدي مثل هؤلاء الديماجوجيين بالتحديد.


وتستوقف القارئ أحكام وإشارات مثيرة أخرى:


* مثلاً، ليس صحيحاً بالمرة أن جوركي (1868-1936) كان من "كبار المؤمنين" بالماركسية أو باللينينية. فبعد هزيمة الثورة الروسية الأولى (1905-1907)، تحالف مع الكاتب المعروف أناتولي لوناتشارسكي (1875-1933) الذي راح يدعو إلى تحويل الاشتراكية إلى دين للفقراء وفكر جدياً في ابتداع شعائر لهذا الدين، وهو تحالف قاد إلى خلاف عميق بين الأديب الروسي ولينين (1870-1924) الذي لم يتسامح مع استسلام الرجل لتيار التصوف الذي استولى على شرائح من الإنتلجنتسيا الروسية في سنوات الرجعية (1908-1912) والذي أنتج رواية جوركي، "الاعتراف". ثم إن رحيل جوركي عن روسيا في عام 1921 لم يكن بسبب استياء الأديب الروسي من تحويل مزعوم للماركسية إلى عقيدة للدولة وللمجتمع (في ذلك الوقت، لم يُشر إلى الماركسية في دستور الحزب نفسه!) بل كان بسبب رغبته المستحيلة في أن يرى ثورة دون "اضطراب" ودون حرب أهلية ودون مساس بعدد من المثقفين حتى لو كانوا من جنود الثورة المضادة الفاعلين، وهو ما أزعج لينين كثيراً ودفعه إلى تسهيل رحيل جوركي إلى الخارج حيث راح يصب اللعنات على الثورة بلا حساب. وعندما عاد الأخير إلى روسيا بصفة دائمة في عام 1931، ارتاح إلى صيغ الستالينية القومية، واستسلم لوهم أن ازدهار "الثقافة" يمكن أن يسير يداً بيد مع "الاستبداد المستنير" وهو استسلام عرفت الانتلجنتسيا المصرية مثيلاً له خلال العهد الناصري! (1).


* ومثلاً، ليس صحيحاً أن تروتسكي (1879-1940) قد "اختار المنفى البعيد ولكنهم طاردوه حتى طالوه برصاصة واحده"، فقد نفى الرجل مجبراً إلى تركيا في عام 1929، ثم جُرد من جنسيته السوفييتية، وفي نهاية الأمر، لم يجد ملاذاً إلا في المكسيك في زمن تأميم مصالح النفط الأمريكية حيث طالوه – بالمناسبة – بضربة بلطة وليس برصاصة! (من المثير أن الناقد الأدبي المعروف لا يعرف سيرة – ناهيك عن أفكار – الرجل الذي لم يفت ت. س. إليوت ولا إيدموند ويلسون الإشادة بإسهاماته في مجال النقد الأدبي، والذي ترك لنا كتابات جد مهمة عن الأدب الروسي وعن الأدب الفرنسي..).


* ومثلاً، ليس صحيحاً بالمرة أن "خروشوف كان أول من فضح المكبوت فزعزع أركان الستالينية" إذ لا يمكن المماراة في أن تروتسكي، صاحب "مدرسة التزييف الستالينية" (1932) وصاحب "الثورة المغدورة" (1937)، كان هو ورفاقه أول من فضح المكبوت، وقد فعلوا ذلك من منظور ماركسي وبشكل منهجي، وليس بشكل غوغائي ومن منظور الدفاع عن المصالح الإجمالية للبيروقراطية، كما فعل خروشوف، شريك ستالين (1879-1953) في جرائمه منذ الثلاثينيات!


والحال أن الدكتور غالي شكري يدين اللاهوت الذي يحكم من غير قراءة أوراق المحكوم عليه، إلا أنه لا يبدو أنه قد نجا هو نفسه من مثل هذه الممارسة، فقد غابت عنه أوراق الماركسية وأوراق الثورة الروسية، وأصدر حكماً هو أكثر بلاغة في تصوير تحيزات "القاضي".


1993


---------------


(1) حول جوركي ولوناتشارسكي، ارجع إلى :ليون تروتسكي: بورتريهات سياسية وشخصية، نيويورك، 1977 (بالإنجليزية).

الإخوان المسلمون



باجرات سيرانيان
ترجمه عن الروسية بشير السباعي



عشية الحرب العالمية الثانية، بدأت الجمعيات والجماعات القومية الإسلامية من النوع الشمولي – الاستبدادي تلعب دوراً هاماً ومتزايداً باطراد في الساحة السياسية المصرية. وفي فترة فرض ديكتاتورية أوساط السراي وبفضل دعم قادتها على وجه التحديد نالت هذه القوى حق المواطنة في الحياة الاجتماعية للبلاد.


وكانت جماعة علي ماهر، التي يدعمها الملك، ذات دائرة ضيقة جداً من الأنصار. وقد رأى ماهر في المنظمات القومية الإسلامية تلك القوة التي يمكن أن تكفل له دعماً جماهيرياً أكبر، وكان أول رئيس وزراء مصري يقدر عن جدارة دورها ومكانها في الحياة الاجتماعية للبلاد، وروحها الإسلامية الكفاحية، وقدرتها على التأثير على الجماهير الشعبية.


إلا أنه من الخطأ تفسير سبب ظهور الجماعات الإسلامية – القومية بمجرد الدوافع الذاتية الخالصة. فتحول المنظمات الاستبدادية – الإسلامية إلى قوة يحسب حسابها قد نشأ عن مجموعة كاملة من العوامل الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية.


إن ثمار تطور مصر الاقتصادي في العشرينيات والثلاثينيات قد جناها بشكل رئيسي الأوروبيون والمشارقة، الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد. أما المعدلات العالية نسبياً للتحضر فلم يواكبها تحسن ملحوظ في الوضع الاقتصادي لشغيلة المدن، مما ولد السخط العميق على الطبقات السائدة. كما أن عدم فعالية الديموقراطية البرلمانية من النمط الغربي، والتي فرضت على مصر، كان له أهمية غير قليلة. فالنظام الحزبي – البرلماني الغربي في شكله الكاريكاتوري، الذي وجد به في مصر، كان من البداية جسماً غريباً فيها.


كما نشأت عن الأزمة العميقة للنظام الحزبي – البرلماني خيبة أمل قوية لدى الجماهير الشعبية تجاه الأحزاب السياسية، خاصة حزب الوفد.


لقد انغمس الوفد وأحزاب "الأقلية" في صراع أناني وحقير على المقاعد البرلمانية والمناصب الوزارية، وعلى الامتيازات والفوائد الاقتصادية، وعجزت بصورة مطلقة عن حل المهمات القومية الرئيسية. فنشأت وما انفكت تتسع هوة تفصل الأحزاب السياسية عن الطبقات الكادحة وأخذت تشغل الفراغ السياسي الناشيء جماعات إسلامية – قومية، وبعد بضع سنوات - جنباً إلى جنب معها – جماعات ماركسية وشيوعية ومنظمات ديموقراطية يسارية أخرى.


ولم يكن هناك مفر من سقوط البرلمانية الغربية. وجنباً إلى جنب مع إفلاس قوميي "الحرس القديم"، الذين كانوا يجسدون الاتجاه الغربي في القومية المصرية، فقدت مذاهبهم أيضاً أهميتها.


وفي أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات انتعش في مصر الاهتمام بالإسلام، خاصة فيما يتعلق بتطبيق مبادئه في حل المسائل السياسية الملحة. ومن المعروف أن التيار الإسلامي في القومية المصرية لم ينقطع قط (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا)، على أن أنصار الغرب قد سيطروا في الحياة السياسية حتى 1936 – 1937. إن السعي إلى إعادة النظر في القومية المصرية الخالصة وإلى توسيعها (ذاتياً) في نزعة قومية عربية قد دفع أيديولوجيي التوحيد العربي إلى التوجه إلى عقيدة الإسلام، وإلى تقاليده الثقافية (مع إعطاء أهمية خاصة للغة العربية)، أي إلى كل ما من شأنه تأكيد وتعزيز أفكارهم. لكن ذلك وحده لم يكن كافياً. إن تبدد الآمال المعلقة على معاهدة 1936 قد أدى إلى نمو سريع للميول المعادية للغرب في مصر، وعزز النضال ضد النفوذ الأوروبي في كل مجالات الحياة الاجتماعية. ويشير هيوارث - ديون إلى أن "الجماعات الإسلامية قد تميزت بميل إلى التغلغل والنجاح في تلك البلدان التي توجد فيها ميول قوية معادية للغرب".


والحال أن أزمة الديموقراطية البورجوازية والاتجاه الغربي المواكب لها في القومية المصرية قد ساعدت على النمو السريع للجماعات الإسلامية، التي مثلت التيار المعادي للغرب والتوحيدي الإسلامي والتوحيدي العربي في القومية المصرية.


* * *


ومن بين كل المنظمات القومية الإسلامية كان النفوذ الأوسع من نصيب جمعية الإخوان المسلمين، التي تأسست في أبريل 1929 على يد الشيخ المدرس حسن البنا في الإسماعيلية.


وقد اهتمت الجمعية في المرحلة الأولى (1929 – 1936) بالنشاط الديني والخيري أساساً. وفي عام 1934 انتقل مركز الجمعية إلى القاهرة. وبحلول عام 1936، كانت قد تحولت إلى منظمة سياسية – دينية قوية.


وقد أجاد البنا استغلال التوترات التي حدثت في فلسطين، والتي تحولت فيما بعد إلى انتفاضة من جانب العرب الفلسطينيين في 1937 – 1939، من أجل تدعيم المنظمة. فقد نظمت الجمعية حملة تضامن إسلامي واسعة معادية للبريطانيين ودفاعاً عن العرب الفلسطينيين. ومن خلال فروعها في مختلف أجزاء البلاد قامت بجمع التبرعات من أجل العرب الفلسطينيين ولقي نشاط الجمعية وقائدها تقديراً حماسياً من جانب مفتي القدس القوي الحاج أمين الحسيني، الذي أقام معه البنا صلات وثيقة ومتميزة بالثقة.


ومنذ ذلك الحين (وحتى عام 1940) توافرت ظروف مناسبة جداً للنمو التالي للمنظمة. واجتذب البنا انتباه على ماهر وعبد الرحمن عزام. وقد عملا بكل الوسائل على اجتذاب الإخوان المسلمين إدراكاً منهما للإمكانيات الضخمة التي تحتويها منظمة إسلامية كفاحية جيدة التنظيم في ظروف مصر. وتشهد المعطيات التالية على النمو الملحوظ للجمعية: فإذا كانت فروعها في عام 1934 قد وصلت إلى 50 فرعاً في مختلف أجزاء البلاد، فإن عددها وصل في عام 1939 إلى 500 فرع.


وفي عام 1937، كانت الجمعية قد تميزت بصورة ملحوظة من بين الجماعات الإسلامية – القومية الأخرى المنافسة لها وكسبت الصدارة بينها: لقد تحولت إلى منظمة جماهيرية ذات هيكل راسخ ومستقر، وعلى رأسها زعيم بارز. وبفضل الصلات الوثيقة بين علي ماهر والبلاط، حصل البنا منهما على مساعدة مالية وتمتع بحماية البوليس. وكانت له صلات مع صالح حرب وعبد الرحمن عزام وعزيز المصري الذين كانوا يريدون استخدام كل التجمعات الإسلامية – القومية، خاصة "الإخوان المسلمين" في تحقيق مآربهم.


وفي سنوات الحرب العالمية الثانية تسنى للمنظمة، بفضل سياسة مرنة بصورة غير عادية، ليس فقط صون صفوفها، بل وتوسيعها وتعزيزها بصورة ملحوظة. إن "الإخوان المسلمين"، شأنهم في ذلك شأن المنظمات والجماعات الإسلامية الأخرى، قد عبَّروا بشكل سافر عن تعاطفاتهم المؤيدة للنازيين وتنبأوا بهزيمة سريعة لبريطانيا العظمى.


وكان البنا يدرس دائماً بعناية طابع كل وزارة جديدة. فلو كانت تقف على رأسها شخصية قوية، كانت الموضوعات الدينية تهيمن في بياناته، أما إذا كان رئيس الوزراء شخصاً ضعيفاً ومهزوزاً، تميزت خُطبه بطابع سياسي أساساً. وقد قامت الجمعية بحملة سياسية حادة بوجه خاص في فترة حكم وزارة سري (نوفمبر 1940 – فبراير 1942). وقد طالب "الإخوان المسلمون" بعودة علي ماهر وزملائه إلى السلطة.


وفي منتصف مايو 1941، بناء على الأحكام العرفية، تم احتجاز زعيمي الجمعية – البنا وأحمد السكري، جنباً إلى جنب مع مجموعة من الشخصيات "الخطرة" من الناحية السياسية. إلا أن السلطات اضطرت إلى الإفراج عنهما في غضون بضعة أيام تحت ضغط قوي من جانب الإخوان المسلمين والمنظمات المتعاونة معهم. ونقل البنا إلى العمل في صعيد مصر. على أنه سرعان ما أدت موجة احتجاجات جديدة إلى إرغام الحكومة على التخلي عن هذا القرار أيضاً. وقد تحولت عودة "المرشد العام" إلى القاهرة إلى استقبال مهيب، مما شهد على الشعبية المتزايدة للجمعية ولزعيمها.


وبعد انتهاء الأزمة السياسية الحادة في فبراير 1942 ووصول الوفديين إلى الحكم جرى شن حملة كبيرة للقضاء على ما سمي بـ "الطابور الخامس" المصري. على أن الجمعية و"المرشد العام" لها لم يمسهما شيء هذه المرة أيضاً. وقد ارتاح النحاس إلى تعهد البنا بأنه سوف يؤيد سياسة الوفد. وقد ارتأى زعيم الوفديين إحباط "دسائس السراي ضده" بمساعدة الإخوان المسلمين، إلى جانب استخدامهم كثقل مضاد للحركة الديموقراطية العامة والعمالية المتنامية. وحسب تعبير هاريس، فإن الجمعية قد طبقت سياسة "تأييد سلبي للوفد". وقد تمسك البنا بتاكتيك انتظاري، آملاً في أوقات أفضل. وكان تعاونه مع النحاس بحكم طابعه "هدنة، أكثر من كونه إنهاء للحرب".


وبعد خروج وزارة النحاس من الحكم (8 أكتوبر 1944)، سارع قادة الجمعية إلى تحويل توجههم. فقد بدلوا موقفهم من الوفد ودخلوا في تحالف مع كتلة السعديين والأحرار الدستوريين وانضموا إلى جوقة الإدانة العامة لسياسة النحاس وحزبه. ولم يتمزق هذا التحالف حتى بعد الحادث الذي خيم بشكل ثقيل على علاقاتهم، عندما اغتيل أحمد ماهر، رئيس الوزراء، في فبراير 1945. لقد قبض على "المرشد العام" والأمين العام لـ "الإخوان المسلمين" بتهمة التواطؤ، إلا أنه سرعان ما تم الإفراج عنهما.


ولم يستغل حزب "الكتاب الأسود" الذي أصدره مكرم عبيد، بالدرجة التي استغلته بها الجمعية، من أجل التشهير بالوفد، وقد اندرجت الحملة المناوئة للوفد، والتي شنها الإخوان المسلمون، في مخطط تقويض النظام الحزبي بوجه عام.


* * *


من حيث هيكلها التنظيمي، كانت الجمعية تشبه، من ناحية، الأحزاب الاستبدادية – الشمولية المعاصرة ذات المركزية الصارمة والدور الخاص للزعيم، مع شبكة كبيرة من الشُّعَب المحلية تحت قيادة قادة معينين من المركز، ومع تنظيم كتائب شبه عسكرية، وفصائل جوالة، وأندية رياضية وما إلى ذلك، ومن ناحية أخرى، كانت تشبه الفرق الإسلامية السرية والشيع الإصلاحية مع وجوب انصياع كل أعضاء المنظمة لعقيدة دينية محددة والتمييز الصارم بين الأعضاء "السريين" و"غير السريين"، والتصوف، وعناصر من النزعة المهدية، وما إلى ذلك.


وكان المرشد العام يقود المنظمة بمعاونة مكتب إرشاد عام مؤلف من 11 شخصاً، وكان المكتب يحل المسائل الأكثر أهمية باسم المرشد العام. أما المستوى التالي فقد مثلته الهيئة التأسيسية، المؤلفة من 150 شخصاً. وكان مكتب الإرشاد العام يُنتخب كل سنة من جانب الهيئة التأسيسية، أما المرشد العام فكان يُنتخب بدوره لمدة سنتين من جانب مكتب الإرشاد العام وكان المرشد العام هو العضو الثاني عشر والقيادي فيه، وكان يتعين الحصول على إقرار الهيئة التأسيسية لاختياره. إلا أنه يجب ملاحظة أن الهيكل الموصوف لم يتحدد بصورة نهائية إلا بعد موت البنا. ففي حياة مؤسس الجمعية لم يكن مكتب الإرشاد العام يُنتخب من الناحية العملية، بل كان يُعيَّن من جانب المرشد العام، الأمر الذي جعل سلطة الزعيم حاسمة.

وكانت تلي ذلك عشرة مكاتب إدارية: مكتب للقاهرة، ومكتب للإسكندرية، وأربعة مكاتب للوجه البحري، وأربعة مكاتب للصعيد. وكانت تخضع للمكاتب الإدارية فروع الجمعية في المناطق، التي كانت تخضع لها بدورها الشُّعَب الأساسية.

وكان مكتب الإرشاد العام هو الذي يعين قادة المكاتب الإدارية وفروع المناطق والشُّعب. وكان يتعين على كل شعبة أن تلتزم التزاماً صارماً بالتعليمات الصادرة من أعلى.


وقد لعبت الأمانة دوراً هاماً في الهيكل التنظيمي للجمعية، وكان مكتب الإرشاد العام يتبعها مباشرة. وكانت الأمانة تقدم التقارير عن نشاط فروع المناطق والشُّعب المحلية وتسيطر على عملها.


* * *


لقد ظهرت إيديولوجية "الإخوان المسلمين" كاحتجاج على تسلط الأجانب ونفوذ الغرب المتزايد في شتى مجالات الحياة المصرية، وعلى تحديث الإسلام، وكانت المهمة الرئيسية بالنسبة إليها تتمثل في صون، وحماية، وتنقية الإسلام والمجتمع الإسلامي من التأثير الأجنبي.


وفي رسالته إلى رؤساء الدول الإسلامية (بمن فيهم ملك مصر)، والموجهة إليهم في خريف 1936، صاغ البنا لأول مرة عقيدة الجمعية بهذه الدرجة أو تلك من الاكتمال. لقد وجه في هذه الوثيقة نقداً بالغ الحدة لكل الحضارة الغربية وسعى إلى إظهار تفوق الإسلام عليها. وأعلن المرشد العام أن سبب الوضع التعس للبلدان الإسلامية وجميع عللها الاجتماعية هو السيطرة الأجنبية ورغبة أوروبا المسيحية في أن تفرض عليها حضارتها وثقافتها. وفي رأي البنا، ليست الحضارة الغربية، بل و"طريقة التفكير الغربية" نفسها، غير جسم غريب بالنسبة للعالم الإسلامي، ولذا فإن طريق الإسلام يجب إيثاره على "طريق" الحضارة الغربية "المنحط"، وكذلك "القومية الإقليمية" العلمانية (التي تعتبر هي أيضاً نتيجة لتأثير الغرب). فالإسلام "قادر" تماماً "على تلبية حاجات الأمة، المبادرة باتخاذ خطوة واسعة إلى الأمام"؛ والقرآن وحده هو الذي يمكن أن يصبح تلك الوسيلة القادرة على "إنقاذ العالم المضطهد والعليل".


وقد أكد البنا أن الفكر الاجتماعي – السياسي والفلسفي المعاصر لا يستطيع إشباع حاجات المسلمين، لأنه قد صيغ في الإسلام قبل قرونٍ عديدة (وبشكل أيسر وأسهل) كل ما تدعو إليه أكثر تيارات الحاضر الاجتماعية تبايناً (الشيوعية، الاشتراكية، الرأسمالية، الفاشية، إلخ)، بحيث أن المسلم "يملك كل هذا بل وأكثر".


وكان المرشد العام يحب الإشارة إلى شمولية الإسلام، الذي يستوعب بصورة مطلقة كل جوانب النشاط الإنساني. و"هو لهذا يعتبر عقيدة وعبادة، ووطناً وواجب مواطنة، وديناً ودولة، وتديناً وأخلاقاً، وقرآناً وسيفاً".


وقد أشار البنا دائماً إلى أن "جمعية الإخوان المسلمين ليست حركة سياسية، ولا طريقة صوفية، ولا جمعية خيرية، ولا نادياً رياضياً، ولا مؤسسة تجارية، بل جمعية إسلامية، مهمتها – تربية الجيل الجديد بالصورة التي تجعله قادراً على فهم الإسلام الحقيقي .. إن الإخوان المسلمين عقيدة وأمة".


وقد تمثلت إحدى السمات المميزة الرئيسية للجمعية في استخدامها للإسلام في أغراض سياسية. ومن الناحية النظرية، كان الإخوان المسلمون يفسرون ذلك على النحو التالي: بما أن الإسلام يستوعب كل أشكال النشاط الإنساني، فالسياسة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من نظرية وبرنامج الجمعية.


لقد كانت عقيدة الجماعة وهيكلها التنظيمي موجهان بالكامل نحو فرض الهيمنة الكاملة للدين على الدولة وذوبانها في الإسلام. وقد رأى البنا أن إحياء مجد الإسلام وعظمته الغابرة لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العودة إلى أصوله وبعث نقاء تعاليمه وأخلاقه وصرامتها التطهرية. ولكونه حنبلياً متشدداً (شأنه في ذلك شأن مؤسس الوهابية)، فقد أعلن أن المصادر الوحيدة لعقيدته هي القرآن والسنة والسيرة، ودعا إلى التمسك بحروف القرآن والسنة. ومن أجل هذا يلزم قبل كل شيء القضاء على "طريقة التفكير الغربية" وتنقية الإيمان الديني والممارسة الدينية بشكل شديد الحزم من البدع الغربية الفاسدة. وقد دعا إلى إضفاء الروح الإسلامية على جهاز الدولة، أي نشر روح الإسلام بين الموظفين الحكوميين. كما أنه يجب تكييف القانون والقضاء مع الشريعة.


وكان المرشد العام ناقداً شديد الحدة للنظام الحزبي، حيث يعتبره أحد أسباب الوضع التعس للبلاد. (بل إنه قد ابتدع مصطلحاً خاصاً هو "وطنية الأحزاب"، التي اعتبرها من المحرمات). وقد أشار إلى أن وجود الأحزاب السياسية يتعارض مع الطابع التوحيدي للإسلام وينتهك مبادئ القرآن، الذي يوصي المؤمنين بالتعاون وبأن يكونوا إخوة.
وبهذا الشكل، فإن مجمل روح مذهب الجمعية كان موجهاً نحو القضاء على شكل الحكم الدستوري الذي كان قائماً آنذاك.
وقد رأى البنا أن من اللازم تماماً إنشاء جيش قوي، لأن "يقظة الأمة" تتوقف على مثل هذا الجيش، ويجب لهذا الجيش أن يتألف من أناس فتيان وأصحاء (جسماً وروحاً) مفعمين بفكرة الجهاد الإسلامية. وقد دعا المرشد العام إلى تطهير الأخلاق الاجتماعية من التأثير الغربي "الوبيل" وتحريم المشروبات الكحولية، والعقاقير المخدرة، والدعارة، والقضاء على الخيانة الزوجية، وإغلاق الأندية الليلية، وصالات القمار والرقص، وفرض الرقابة على العروض المسرحية، والأفلام والبرامج الإذاعية، والأغاني والمحاضرات، والصحف، وطالب بتطبيق العقاب على كل أولئك الذين لا يراعون المُحَرَّمات، وكذلك الصوم والصلاة.


وكان برنامج "الإخوان المسلمين" الاجتماعي – الاقتصادي منسجماً مع نفسه بما يكفي ومفهوماً من الجماهير، مما كان أحد أسباب نجاحات الجمعية. وقد شغلت مكاناً واسعاً فيه بيانات عن تنمية الصناعة القومية، وإحلال السلع المصرية محل السلع الأجنبية، وتحسين شبكة الخدمات الصحية، ورفع مستوى معيشة الفلاحين والعمال، وتقديم العون للعمال في رفع ثقافتهم وتأهيلهم وما إلى ذلك. أما فيما يتعلق بمصائر البنوك والشركات والمشروعات الأجنبية، فإن برنامج الجمعية في هذه المسألة لا يصمد للنقد حتى من زاوية عقيدتها الخاصة. ولم يعلن إلا في صيغة عامة للغاية سوى أن الشعب يجب حمايته من الشركات الاحتكارية أو أن المشروعات الأجنبية يجب أن تخدم بصورة رئيسية المصالح القومية للبلاد. ويترتب على ذلك أن البنا كان مؤيداً للإبقاء على المشروعات الأجنبية في مصر، مما لا يتماشى مع الروح العامة لعقيدته ومما يشهد على صلاته مع الطبقة الحاكمة. وفي مقابل ذلك، فإنه قد وجه انتباهاً كثيراً إلى شجب "الأرباح، المأخوذة على شكل فائدة على رأس المال"، ووصف ذلك بأنه ربا.


وسعياً إلى اجتذاب تعاطف الجماهير الشعبية، كان المرشد العام يطرح أحياناً مطالب "ثوروية". وهكذا، ففي أوائل عام 1948، نشر وثيقة، قال فيها أن الثروة يجب أن لا تكون حكراً لطبقة واحدة، حيث أن ذلك يتعارض مع مبادئ الإسلام، وقد أشار إلى أن الإسلام يقف ضد نظام "الإقطاع الرأسمالي" الحالي، الذي يسمح بحق غير محدود في الملكية، كما يقف ضد "الشيوعية الملحدة "التي" تملك الدولة كل الأرض" في ظلها. وقد أشار إلى أن الحل الصحيح للمسألة يوجد في منتصف الطريق بين الرأسمالية والشيوعية: إذ يجب أن يملك كل فلاح تلك المساحة من الأرض التي يمكنه فلاحتها بنفسه، أما الفائض من الأرض فيجب توزيعه بصورة مجانية على الفلاحين المعدمين. وقد وجد كلام البنا هذا صدىً واسعاً في البلاد بحيث أن المفتي رأى أن يصدر فتوى خاصة دافع فيها، بوصفه ممثلاً للطبقات السائدة، عن النظام الرأسمالي وخاصةً شرعية النظام القائم لملكية الأرض. وفي هذه المسألة ظهرت بشكل واضح وجهتا نظر متعارضتان في المسألة الزراعية في مصر.


أما إلى أي مدى سعت الجمعية بإخلاص إلى حل المسألة الزراعية لمصلحة الفلاحين، فذلك ما تبينه حقيقة أنه بعد أربع سنوات ونصف طالب زعيم آخر للإخوان المسلمين، هو حسن الهضيبي، بجعل الحد الأقصى لملكية الأرض.. خمسمائة فدان. وقد دل هذا الموقف الذي لم يكن عرضياً بالمرة على أن قيادة الجمعية قد تطورت في اتجاه اليمين ومالت بشكلٍ مُطَّرِد مع الرجعية المصرية.


ومثل هذا الانعدام للانسجام لم يكن يزعج قيادة الجمعية: ذلك أن كل المسلمين، حسب رأي البنا، إخوة، بصرف النظر عن الانتماء الطبقي والقومي. وبناء على ذلك أيضاً فإن الموقف من ملاك المشروعات المسلمين، من ناحية، ومن ملاك المشروعات المسيحيين واليهود، من ناحية أخرى، كان متعارضاً بصورة جذرية. فقد أيدت الجمعية كبار ملاك الأرض والرأسماليين، متى كانوا مسلمين. وهكذا، فإن الإخوان المسلمين قد اتخذوا موقفاً يتميز بالتعاطف تجاه واحد من أغنى الناس في مصر، هو أحمد عبود، صاحب مصانع السكر الكبرى، وتجاه الحاج محمد سالم، الصناعي الكبير، لمجرد أنهما مسلمين.


وقد اجتمعت القومية المصرية لدى الإخوان المسلمين مع نزعة الجامعة العربية. فقد رأوا أن العالم العربي قد جزأته الدول الإمبريالية بصورة مصطنعة. وفي نهاية الأمر، أكد البنا، بوصفه تلميذاً حقيقياً لجمال الدين الأفغاني، الإيديولوجي الأول لنزعة الجامعة الإسلامية، أن كل المسلمين يجب أن يتحدوا، وذلك لتعزيز العالم الإسلامي ولإعادته إلى عظمته السابقة، بتحصينه من "تغلغل المادية".


وقد تحولت نزعة الجامعة العربية ونزعة الجامعة الإسلامية لدى البنا إلى مذهب شديد الرجعية والعنصرية والضرر عن طابع سياسي وديني استثنائي للعرب وللمسلمين، الذين منحهم القدر حق قيادة العالم، والذين "اختارهم الله للنهوض بالبشرية وللسيادة على العالم".


وقد رأى الإخوان المسلمون هدفهم النهائي والرئيسي في بعث خلافة العصر الوسيط، التي سوف تنظم كل جوانب حياتها وفق عقيدة الجمعية وبرامجها.


وكان شعار الإخوان المسلمين هو: "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا". وتؤكد الجملتان الأخيرتان جنباً إلى جنب مع رمز الجمعية (وهو يصور القرآن بين سيفين) الروح الكفاحية لـ "الإخوان المسلمين". وقد كتب البنا يقول: "إن القوة هي خير ضمانة للحق، وهي فريضة، شأنها في ذلك شأن الصلاة والصوم". وقد اعترفت الجمعية باستخدام أساليب النضال العنيفة (بما في ذلك الأعمال الإرهابية أيضاً) كأحد السبل الرئيسية لتحقيق برنامجها.


* * *


وقد جزأت الدعاية الإسلامية للجمعية صفوف الطبقة العاملة إلى مسلمين ومسيحيين، موسعة بذلك الانقسام القائم بين فئة غير كبيرة من العمال الماهرين (المسيحيين في غالبيتهم)، أي الفصيل القيادي داخل الطبقة العاملة، وجمهور العمال غير الماهرين أو الذين يتميزون بدرجة تأهيل غير عالية (المسلمين بصورة رئيسية). وهكذا، فكلما كان يثار موضوع بدء إضراب، كان الإخوان المسلمون يؤيدون الإضرابات في المشروعات التي يملكها غير المسلمين فقط، أما إذا كان مالك المشروع مسلماً، فقد كانت الجمعية تسارع إلى إقناع العمال (بمساعدة كاسري الإضراب) بأن الدين يحرم الإضرابات.


ولا غرو في أن هيوارث – ديون، وهو يدافع عن آراء إمبريالية، قد رأى أن القوة الوحيدة، القادرة على أن تمثل حاجزاً ضد الأفكار الشيوعية، إنما تتمثل في عقيدة الجمعية، وقد برر ذلك بأن الإخوان المسلمين قد تحركوا بشكل أكثر نجاحاً بين صفوف القوى الاجتماعية، التي تعتبر مهيأة بصورة قصوى لتقبل الأفكار الشيوعية.


والواقع أن نشاط الجمعيات والجماعات الإسلامية قد أعاق عملية توحيد الطبقة العاملة وفق المبدأ النقابي والطبقي.


* * *


وقد تمثلت نقطة قوة "الإخوان المسلمين" في أن شعاراتهم، المصاغة في صيغ دينية مفهومة، قد داعبت مشاعر الجماهير الشعبية، وكان المحرضون المنتمون إلى الجمعية يجيدون إلى حد بعيد فن الدعاية في المساجد، وكانوا يجدون بسهولة خاصة أنصاراً بين صفوف العناصر المتدينة والمحافظة. وفي الفترة الأولى، فترة الإسماعيلية، كان أعضاء الجمعية من العمال غير الماهرين، والفلاحين الفقراء، وجزء صغير من الموظفين والمدرسين ذوي الرواتب المنخفضة، وكذلك من الأشخاص العاملين في مجال الخدمات الخاصة. وكان المستوى المعيشي لهم جميعاً منخفضاً للغاية، وكانوا ورعين وذوي مستوى تعليمي محدود. وبعد انتقال مركز الجمعية إلى القاهرة، أخذ عدد أعضائها يتزايد بسرعة، وانضم إلى الجمعية كثيرون من طلاب الأزهر، ثم بعض طلاب المعاهد الدراسية المتوسطة والعالية الأخرى، كما تزايد عدد الموظفين، والمدرسين، والعمال (غير الماهرين أساساً)، والتجار الصغار والمتوسطين، والحرفيين.


وقد اجتذبت الجمعية إلى صفوفها عدداً صغيراً من الضباط وكثيرين من الجنود، كما اجتذبت عدداً كبيراً نسبياً من الفلاحين. أما ممثلو الطبقات السائدة فلم ينضموا إلى الجمعية واتخذوا منها موقف الحذر لكنهم لم يكونوا معارضين لاستخدامها في صالحهم. وقد تمكن الإخوان المسلمون من أن يجتذبوا إلى صفوفهم بعض الوفديين، وكذلك عدداً هاماً من أكثر أعضاء جمعية الشبان المسلمين و"مصر الفتاة" و"السبكية" والجماعات الإسلامية الأخرى نشاطاً وقدرة.


وقد عبرت الجمعية عن ميول الجماعات الأكثر تخلفاً ورجعية بين صفوف الفئات البورجوازية الصغيرة. وقد تعاونت قيادتها في مراحل مختلفة مع ممثلي الطبقات السائدة، ولم يتعارض نشاطها في أغلب الأحوال مع مصالح الرجعية المصرية، وإن كان قد وجد بين صفوف الإخوان المسلمين عدد غير صغير من الوطنيين الصادقين.


ومنذ عشية الحرب العالمية الثانية ظهر اتجاه واضح إلى دخول قيادة "الإخوان المسلمين" معسكر الرجعية. أما ثورية الجمعية المظهرية ونداءاتها الديماجوجية فقد جعلت منها واحدة من أخطر القوى وأكثرها ضرراً، ذلك أنها قد حرفت الجماهير الشعبية عن الحركة الثورية والديموقراطية الحقيقية.

فردريك جيمسون وما بعد الحداثة

أليكس كالينيكوس

ترجمة بشير السباعي


الماركسية، كما يعلم الجميع، ماتت! ولذا فمن دواعي الاستغراب كل ذلك الذي تبديه على المستوى الثقافي من أمارات الحياة. لقد قوبل ترفيع تيري إيجلتون مؤخراً إلى الأستاذية في جامعة أكسفورد بسخطٍ عارم، خاصةً بسبب الاعتراف الأكاديمي الذي خلعه هذا الترفيع على ماركسيٍ غزير الإنتاج وغير ميال إلى التبريرية. على أن المحاولات التي بذلت لتوجيه نقد جاد إلى عمل إيجلتون، خلافاً للشتائم الرخيصة، كانت نادرة(1). وإيجلتون ليس غير واحد من عدد من الماركسيين البارزين في حقل الدراسات الثقافية. ونظيره الأشهر عبر الأطلسي هو فريدريك جيمسون، الناقد والمنظر الأكبر سناً إلى حد ما، والذي كان يدرس من قبل في جامعة ييل ويدرس الآن في جامعة دوك.

وجيمسون مؤلف لعدد من الدراسات البارزة، خاصةً "الماركسية والشكل" (1971) و"اللاوعي السياسي" (1981)، المعنيين بصوغ نظرية ماركسية عن الأدب. على أنه مشهور، على الأرجح، بمقال نشر في مجلة "نيوليفت ريفيو" في عام 1984 تحت عنوان "مابعد الحداثة، أو المنطق الثقافي لرأسمالية أيامنا". وباستثناء كتاب جان – فرانسوا ليوتار "الحالة بعد الحداثية"، ربما كان ذلك المقال المحاولة الأوسع نفوذاً لصوغ الفكرة التي تذهب إلى أننا نحيا في عصر "بعد حداثي" جديد بشكل مميز – وهي فكرة أصبحت حقيقة مقدسة عند قسم واسع من الإنتلجنتسيا الغربية في الثمانينيات. وكان مقال جيمسون نقطة مرجعية رئيسية بالنسبة للأدبيات الأكاديمية الواسعة التي انتشرت بشكل رئيسي في الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، والتي تشمل أيضاً مجلداً يتضمن أبحاثاً مكرسة لمناقشة وجهات نظره(2). وقد أعيد الآن نشر المقال إلى جانب كتابات أخرى لجيمسون حول ما بعد الحداثة في الكتاب الذي نعرض له، الأمر الذي يتيح فرصة مفيدة للنظر في عمله(3).

ولكن لنقل أولاً كلمة عن ما بعد الحداثة. إن المصطلح يستوعب ثلاثة تطورات مرتبطة:

1) رد الفعل الجمالي على الحداثة الرفيعة والذي برز على مدار السنوات الخمس والعشرين الماضية والذي يمكن رصده في عدد من الوسائط – خاصة العمارة، حيث حلت الزخرفة والإحالة التاريخية محل الكتل الصلبة التي تناطح السحاب المميزة لزمن ما بعد الحرب (العالمية الثانية)، إلا أن بالإمكان رصده أيضاً في الرسم والأدب،

2) الأفكار الفلسفية المرتبطة بجماعة المفكرين الفرنسيين في الستينيات المجموعين معاً تحت اسم ما بعد البنيوية – خاصة جيل دولوز وجاك دريدا والراحل ميشيل فوكوه – والذي يجمع بينهم نفي وجود أي واقع مستقل عن الفكر واللغة الإنسانيين ونفي أي تماسك واستقلال للشخص الفرد،

3) النظريات الاجتماعية التي تؤكد أن الرأسمالية الصناعية قد حل محلها "مجتمع بعد صناعي" لا تنطبق عليه التناحرات الطبقية بين البورجوازية والبروليتاريا(4). وتتمثل مساهمة ليوتار المميزة في القول بأن هذه الظواهر الثلاث كلها ترتبط فيما بينها، وأنها كلها تعبر عن سقوط "المرويات الكبرى"، أي فلسفات التاريخ التي بلغت الذروة عند هيجل وماركس والتي حاولت دمج مجمل الوجود الإنساني في نمط ذي معنى تتحد فيه المعرفة والتحرير، العقل والحرية. وقد أفرزت "المرويات الكبرى" (معتقل) أوشفيتز (النازي) و(معسكرات الاعتقال والسخرة الستالينية) في أرخبيل جولاج؛ وتعبر ما بعد الحداثة عن المفهوم الذي يذهب إلى أن من الضروري "خوض حرب ضد الكلية"، والإعلاء بدلاً من ذلك من شأن فنون وعلوم المجتمع بعد الصناعي، والتي تتمثل فكرتها الرئيسية في التجزؤِ بدلاً من التماسك(5).

ولابد أن يكون واضحاً أن حجج ليوتار لا يمكن للماركسيين ببساطة تبنيها بشكل غير انتقادي – فهي بصرف النظر عن أي شيء آخر تتضمن إعادة صياغة للنظرية اللبرالية القديمة المعروفة عن الشمولية، ذات الأهمية المحورية لدعاية الحرب الباردة الغربية، والتي تذهب إلى أن الماركسية والفاشية قد انبثقتا من جذور واحدة، وأن الكارثة سوف تعقب أية محاولة للتخلص من السوق الحرة. إلا أنه، كما تكشف، كانت هناك طريقتان رئيسيتان لرد فعل المثقفين اليساريين على ما بعد الحداثة. فقد تمثل رد الفعل الأول في الرفض الصريح: ولعل النموذج الأكثر تميزاً لهذه الاستراتيجية هو كتاب "خطاب الحداثة الفلسفي" (1985) للفيلسوف والمُنَظِّر الاجتماعي الألماني يورجين هابرماس، والذي يقدم نقداً ساحقاً لما بعد البنيوية ومقدماتها في كتابات نيتشه وهايدجر، وقد اتبعت المسار نفسه وإن كان من منظور ماركسي أكثر أرثوذكسية بكثير، كما فعل كريستوفر نوريس(6).

أما النهج الثاني فقد سلكه جيمسون – نهج "إنْ لم يكن بوسعك ضربه فلتنضم إليه، نهج إدماج أفكار رئيسية بعد حداثية في النظرية الماركسية، معاملتها بوصفها رصداً دقيقاً بصورة جزئية لظواهر واقعية"(7). ويلخص جيمسون نفسه هذه الاستراتيجية في نهاية كتابه:

"بين الحين والآخر كنت أشعر بالضجر من شعار "مابعد الحداثة" شأني في ذلك شأن أي إنسان آخر، إلا أنني عندما كنت أميل إلى الأسف لتواطئي معه، والأسف لإساءات استخدامه وسمعته الفاضحة، وعندما كنت أميل إلى أن أستنتج على مضض أنه يثير مشكلات أكثر من تلك التي يحلها، كنت أتوقف لأتساءل عما إذا كان بإمكان أي مفهوم آخر إبراز القضايا بمثل هذه الطريقة الفعالة والمقتصدة.

"والاستراتيجية البلاغية للصفحات السابقة تتضمن تجربة، أي محاولة لمعرفة ما إذا كان ليس بوسع المرء، من خلال منهجة ما هو غير منهجي بشكل حازم وإضفاء طابع تاريخي على ما هو غير تاريخي بشكل حازم، تطويقه وشق طريق تاريخي للتفكير في ذلك على الأقل.

"يجب أن نسمي النظام" : إن ذروة الستينيات هذه تجد بعثاً غير متوقع في المناقشة الدائرة حول ما بعد الحداثة".(8)

وبشكل ملموس أكثر، فإن جيمسون يرى أنه يجب النظر إلى ما بعد الحداثة على أنها الفن المميز لمرحلة خاصة من مراحل التطور الرأسمالي. فالرأسمالية الآن، بالفعل، في مرحلتها الثالثة. والمرحلة الأولى، مرحلة الرأسمالية الكلاسيكية أو التنافسية، كان لها نظير ثقافي في واقعية روائيي القرن التاسع عشر الكبار – بلزاك، ديكنز، تولستوي. وأدت الرأسمالية الاحتكارية إلى ظهور حداثة أوائل القرن العشرين – حداثة بيكاسو وجويس ولو كوربوزييه. أما الآن فإننا نحيا في العصر الذي يسميه جيمسون بعصر "رأسمالية أيامنا أو الرأسمالية المتعددة الجنسيات أو الاستهلاكية". وهو يستقي هذا التقسيم للعهود من عمل التروتسكي البلجيكي إرنست مندل، الذي "نظر" كتابه "رأسمالية أيامنا" "لأول مرة لمرحلة ثالثة للرأسمالية من منظور ماركسي بشكل صالح للاستعمال. وهذا هو ما جعل أفكاري الخاصة عن "مابعد الحداثة" ممكنة، ولذا فيجب فهمها على أنها محاولة لتنظير المنطق المحدد للإنتاج الثقافي لتلك المرحلة الثالثة".

وفي الأقسام الاستهلالية الرائعة لمقاله المنشور في عام 1984، يستخدم جيمسون عمل آندي وورهول بشكل خاص لتمييز ما يعتبره السمات المميزة للفن بعد الحداثي – "انعدام جديد للعمق"، "ذبول تحريك العواطف"، تجزيء الذات، اختزال الماضي إلى مصدر لخلائط لا نهاية لها من القطع الفنية المتنوعة، كما في الميل للأساليب الارتجاعية الرائجة وما يسميه بـ "فيلم الحنين إلى الماضي"، معايشة انفصامية للعالم يحل فيها "التصور المتوقد للاختلاف الجذري" محل أي إحساس بعلاقات تلعب دوراً توحيدياً، "انتشاء مهلوس جديد غريب" تجاه "قفزة لا مثيل لها إلى اغتراب الحياة اليومية في المدينة". ويرى جيمسون أن هذه الخصائص للفن المعاصر لا يمكن فهمها إلا في سياق رأسمالية أيامنا: "أنقى شكل لرأس المال يظهر الآن، توسع ضخم لرأس المال في مناطق كانت حتى الآن لاتعرف الاقتصاد السلعي. وهكذا فإن رأسمالية أيامنا هذه الأكثر نقاء تزيل جيوب التنظيم قبل الرأسمالي التي كانت تتسامح معها حتى الآن وتستغلها بشكل خراجي. ويميل المرء إلى الحديث في هذا الصدد عن اختراق واستعمار جديدين وأصيلين من الناحية التاريخية للطبيعة وللاوعي: أي تدمير زراعة العالم الثالث قبل الرأسمالية عن طريق الثورة الخضراء، وصعود صناعة وسائل الإعلام والإعلان".(9)

ويتمثل أحد السبل لتلخيص الصلة التي يراها جيمسون بين رأسمالية أيامنا وما بعد الحداثة في فكرة "المسافة النقدية". فالمراحل الأسبق للفن البورجوازي قد حافظت دائماً على مسافة معينة بين الإنتاج الثقافي والمجتمع البورجوازي: فقد سعى الواقعيون إلى اختراق مظاهر الحياة اليومية والتوصل إلى مفهوم معين عن الكل الاجتماعي؛ والحداثيون خلقوا عبادة للعمل الفني نفسه، مشيدين بانفصاله عن المألوف البورجوازي. على أن الفن بعد الحداثي إنما يتميز على وجه التحديد بواقع أن "المسافة بوجه عام (بما في ذلك "المسافة النقدية " بوجه خاص) قد ألغيت بشكل محدد للغاية"، وهو تطور يتطابق مع الطريقة التي، من خلالها، "ينتهي التوسع الضخم الجديد لرأس المال المتعدد الجنسيات إلى اختراق واستعمار تلك الجيوب قبل الرأسمالية عينها (الطبيعة واللاوعي) التي منحت مرتكزات خارج – أرضية وأرشميدية للفعالية النقدية". وهكذا يعتبر جيمسون مفهوم ما بعد الحداثة مفهوماً مفيداً لأنه يستملك "لحظة حقيقة"، أي "كل هذا المجال الجديد الأصيل المؤدي إلى التفسخ والإحباط بشكل غير عادي"، مجال رأسمالية أيامنا.(10)

ويطور جيمسون نقاشه ببلاغة ورهافة لا يمكنني نقلهما هنا ولا يمكن استيعابهما إلا بقراءة بحثه الأصلي عن ما بعد الحداثة. والمشكلة هي أن هناك الكثير مما يمكن منازعته في كل من حدي العلاقة التي يراها، أي رأسمالية أيامنا والفن بعد الحداثي, ففي المقام الأول، وأياً كان رأي المرء في كتاب ماندل "رأسمالية أيامنا"، فإنه معني بتقديم تفسير لرواج ما بعد الحرب (العالمية الثانية) الذي جربته الرأسمالية الغربية ولمرحلة الأزمات التي دخلتها فيما بعد في أواخر الستينيات. لكن الستينيات، كما أشار إلى ذلك مايك ديفيز، هي بالتحديد اللحظة التي يرى فيها جيمسون انبثاق الفن بعد الحديث، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يشخص رأسمالية اليوم على أنها تشهد توسعاً لا أزمة (11) ولا يرد جيمسون على انتقادات ديفيز إلا بشكل جد متسرع ومستخف. وبشكل أعم، فإنه عبر كل هذا المجلد لا يكاد يبذل أي جهد لتطوير فكرة "الرأسمالية المتعددة الجنسيات" أو البرهنة عليها. وقد بذل آخرون جهداً أكثر جدية لعمل ذلك. ولا شك أن أهم مثال لمثل هذا العمل هو عمل المُنَظِّر الحضري الماركسي ديفيد هارفي، الذي يستخدم المفهوم الرائج عن "التراكم المرن" سعياً إلى تمييز الأساس الاقتصادي لـ "حالة ما بعد الحداثة"، مع أنه يجب الإشارة إلى أن هارفي يتردد في وصف "التراكم المرن" بأنه مرحلة جديدة متميزة للتوسع الرأسمالي ويشدد على عدم استقرار وهشاشة الاقتصاد العالمي المعاصر(12). وهذا الحذر مشروع: فالتدويل الأعظم لرأس المال على مدار الجيل الماضي لا يمثل بحال من الأحوال تحقيق الاستقرار للرأسمالية، بل إنه لا يؤدي إلاَّ إلى احتداد تناقضاتها الداخلية. وهذا زعم لا يقدم جيمسون حجة ولا برهاناً لتفنيده(13).

وكما يمكن للمرء أن يتوقع فإن لديه كلاماً أكثر بكثير عن طبيعة الفن بعد الحداثي، كما يبين يوجين لان، يتميز بأربع سمات هيكلية – "الوعي الذاتي الجمالي أو الانعكاس الذاتي"، "التزامن، التجاور أو"المونتاج" ، "المفارقة، الالتباس وانعدام اليقين" و"نزع الطابع الإنساني" وزوال الذات الفردية المتكاملة أو زوال الشخصية" (14). وعادة ما ينسب دعاة فن بعد حداثي بشكل متميز سمة أو أكثر من سمات الحداثة هذه إلى أعمال يريدون الزعم بأنها بعد حداثية (15). ومما يؤسف له أن جيمسون ليس فوق مثل هذه المناورات (16). إلا أنه، بشكل نموذجي أكثر، يسعى إلى تمييز الأعمال الفنية بعد الحداثية عن الأعمال الحداثية ليس من زاوية بنيتها الشكلية أساساً وإنما من زاوية علاقتها بالمجتمع ومفهومها عنه.

وهكذا يرى جيمسون (متبعاً هنا فكرة لبيري أندرسون):

"أن الحداثة يجب النظر إليها إذاً على أنها تتطابق بشكل فريد مع لحظة متفاوتة في التطور الاجتماعي، أو مع ما وصفه إرنست بلوخ بـ "تزامن غير المتزامن" ...: تعايش حقائق من لحظات تاريخية مختلفة جذرياً – الحرف اليدوية إلى جانب الكارتيلات الكبرى، حقول الفلاحين التي لا تبعد عنها كثيراً مصانع كروب أو أحد مصانع فورد"(17).

وبالمقابل، على أية حال، فإن "مابعد الحداثة حداثية أكثر من الحداثة نفسها" لأنه في رأسمالية أيامنا:

"ينتصر التحديث ويمحو القديم تماماً: إذ يجري إلغاء الطبيعة جنباً إلى جنب الريف التقليدي والزراعة التقليدية، بل إن الآثار التاريخية الباقية، التي أصبحت الآن كلها مغسولة من التراب، تصبح مظاهر لامعة للماضي، لا بقاءً له. فالآن كل شيء جديد، إلا أنه للسبب نفسه، فإن مقولة الجديد نفسها تفقد معناها وتصبح نوعاً من موروث حداثي"(18).

يبدو لي هنا أن جيمسون يتطلع إلى شيء ما (وإن كان من المبالغة، كما هو واضح، القول بأن الرأسمالية قد ألغت الطبيعة، مثلما هو من الصعب، على أقل تقدير، فهم السبب في أن الطبيعة واللاوعي يشكلان، كما زعم من قبل، "جيبين قبل رأسماليين"). لقد توجهت الحداثة بشكل رائع في أواخر القرن التاسع عشر في مجتمعاتٍ – ألمانيا، روسيا، إيطاليا، فرنسا، - تتميز بتطور متفاوت ومركب، بتعايش الرأسمالية الصناعية الآخذة في التوسع بسرعة وأشكال أقدم للسيطرة الاجتماعية. إن تقنياتها الشكلية، كالمونتاج، قد ساعدت على تسليط الضوء على التجاور الغريب لأساليب الحياة والتفكير المتقدمة والمتخلفة. كما سمحت لحركات طليعية كالتركيبية في روسيا والسوريالية في فرنسا بتخيل فن لا يكون، كما تصور بروست وجويس، ملاذاً من العالم، بل وسيلة لإلغاء التمايز بين الفن والحياة اليومية وذلك كجزء من النضال من أجل تغيير الحياة اليومية نفسها. لكن هزيمة الثورة الاشتراكية في فترة ما بين الحربين (العالميتين) قد جعلت من الممكن، ليس فقط توسع الرأسمالية الغربية بعد عام 1945 وإنما أيضاً استيعابها للحداثة في الثقافة الرفيعة البورجوازية (19).

ومن هذا المنظور ربما كان جيمسون محقاً في "الحديث عن انفراجة ما بعد الحداثي، التي هي، بوجه عام، إزالة عاصفة للعقبات وإطلاق لإنتاجية جديدة كانت إلى حد ما محتدمة ومجمدة وحبيسة كالعضلات المتقلصة في نهاية الفترة الحداثية". ولا شك أن رد الفعل المضاد لعقم وشكلية ما يسمى أحياناً بحداثة أيامنا كان تطوراً ضرورياً بل وربما كان يستحق الترحيب. على أن من الأنسب النظر إليه على أنه استمرار للحداثة، يستخدم الصيغ الشكلية نفسها في سياق اجتماعي وسياسي مختلف للغاية عن سياق انبثاقه. ومن المهم بشكل خاص التشديد على هذه النقطة لأن إحدى الظواهر الثقافية المعاصرة الأكثر وضوحاً هي نوع من ابتذال الأفكار والموضوعات الرئيسية الحداثية. وأنا لا أفكر هنا في مجرد ظهور صور حداثية في وسائل الإعلام الجماهيري – وإن كانت الكلمات تخونني أحياناً، مثلما حدث حينما واجهت استخدام صورة فوتوغرافية تركيبية شهيرة لِمُنَظِّر البروليت كولت (الثقافة البروليتارية) أوسيب بريك في بيع الرانجلر جينز. وتتمثل إحدى السمات المميزة للموجة الكبرى للأعمال الحداثية في أواخر القرن الماضي في تنمية انفصال ساخر معين عن الواقع: لقد جرى تجريد العالم من أية أهمية أصيلة، وجرت معاملته بوصفه وسيلة لسعي الفنان إلى التعبير عن نفسه (20). وهذا الانفصال عن العالم يساعد على فهم التباس الحداثة السياسي، انفتاحها لفاشيين مثل سيلين وماركسيين مثل بريشت. لكن السخرية، في الثقافة المعاصرة، قد كفت عن أن تكون ملكية لنخبة فنية صغيرة وصارت ظاهرة جماهيرية، يتقاسمها لفيف واسع من المديرين والمهنيين الذين يبدو الموقف المنفصل، الهازئ، أنسب رد لهم على عالم لم يعد بوسعهم لا الإيمان بعدالته ولا الإيمان بإمكانية تغييره.

وربما بسبب السياسة المضمرة في موقفه، أكثر مما بسبب أي شيء آخر، أرى أن من الأفضل الوقوف ضد ما بعد الحداثة بدلاً من "تطويقها" أو حتى دمجها جزئياً، كما يفعل جيمسون، فما يكمن في أساس استراتيجيته هو طبعة خاصة من الهيجيلية، لا يكون فيها أي موقف نظري خاطئاً ببساطة أبداً بل يتضمن دائماً فكرة عميقة ما يجب دمجها في آراء الناقد الخاصة. وهذا يقود جيمسون إلى أن يكون متسامحاً بشكل مسرف مع ما بعد البنيوية بشكل عام ومع كتابات جان بودريار عديمة القيمة إلى حد بعيد بشكل خاص (21). وأنا أعتقد أن المبرر الفلسفي الكامن في أساس هذا التسامح لا يصمد للنقد. فحتى عندما يدمج المرء فكرة عميقة ما مستمدة من وجهة نظر محل نقد في نظريته الخاصة فإن النتيجة تكون شيئاً جديداً: إن ماركس لم يضف ببساطة مذهب ريكاردو إلى أفكاره هو بل قام بتحويلها. وأياً كان الأمر، فمن الضروري أحياناً عدم الانخراط في حوارٍ والسعيِ إلى تخليص الصحيح من الزائف في موقف الآخر، بل رسم خط فاصل وخوض نضال.

أما معرفة متى يجب النضال، حتى في أكثر مجالات النظرية تعقيداً، فهي في نهاية المطاف مسألة سياسية. إلا أنه في مجال السياسة بالتحديد يتميز جيمسون بأكثر تردد. فهو أحياناً يكون رائعاً بصورة مطلقة، كما هي الحال، مثلاً، حين يدين "استسلام اليسار، دون أن أذكر الآخرين، لمختلف أشكال إيديولوجية السوق"، وحين يشير بشكل تهكمي مر إلى عربة موسيقى اشتراكية السوق: "اليوم نجد أنفسنا مضطرين إلى الموافقة على الافتراض الذي يرى أن الاشتراكية لم تعد لها في الواقع علاقة بالاشتراكية نفسها". وعلى الرغم من ذلك، فإن جيمسون يسمح لنفسه، بعد ذلك بصفحات، بالتفوه بزعم يدل على سذاجة سياسية مدهشة: "إن إحساسي، في الواقع، هو إن فشل تجربة خروشوف لم يكن كارثياً بالنسبة للاتحاد السوفيتي وحده وإنما كان حاسماً بشكل أساسي إلى حد ما بالنسبة لبقية التاريخ العالمي، ناهيك عن مستقبل الاشتراكية نفسها" (22). والحال أنني أشعر وكأنني أود أن أقول لجيمسون، في كلمات جون مكنرو الخالدة: من الصعب أن أتصور أنك جاد فيما تقول. أو، مرة أخرى، حين ينبذ جيمسون بشكل حاسم التنديدات بعد الحداثية بـ "حنين" الماركسيين "إلى السياسات الطبقية"، معلقاً بأن هذا "ملائم ملائمة وصف جوع الجسم، قبل تناول الوجبة الرئيسية، بأنه حنين إلى الطعام"، لكنه سرعان ما يفسد كل شيء بقوله أن جيسي جاكسون "قد ابتكر من جديد تقريباً" لغة " السياسة الطبقية ... بالنسبة لزماننا" (23). والكتاب حافل بمثل هذه الانفلاتات والمزاعم، غير المؤيدة بأي تحليل أو نقاش جاد، الأمر الذي يوحي بنهجِ هاوٍ تجاه الماركسية.

ومع ذلك فإن جيمسون في أفضل حالاته هو أكثر بكثير من مجرد هاوٍ. ففي كتاب جديد آخر، وهو دراسة لثيودور آدورنو، منظر مدرسة فرانكفورت، يرصد "انبثاق رأسمالية جديدة وعالمية بشكل حقيقى أكثر" بعد الثورات الأوروبية الشرقية:

"إن أياً منها لا "يدحض" الماركسية، التي لا تزال على العكس من ذلك التيار الفكري الوحيد المصر على توجيه انتباهنا إلى الآثار الاقتصادية لـ "التحول الكبير" الجديد، الذي تجازف بصب ماء بارد على أوهامه بشأن الهيكل العلوي. فرأس المال والعمل ( وتعارضهما) لن يتلاشيا في ظل الشرع الجديد، كما أنه لا يمكن أن توجد إمكانية في المستقبل، مثلما لم توجد البته في الماضي، لأي "طريق ثالث" ذي أهلية بين الرأسمالية والاشتراكية، بصرف النظر عما أصاب هذه الأخيرة بالنسبة للناس الذين جرى إتخامهم بها عن طريق التلقين من الأوشاب البلاغية والتصورية... إن عَالماً أولاً بعد حداثي كامل لن يعدم هو نفسه شباناً لهم ميول وقيم يسارية صادقة وعلى استعداد لتبني رؤى التغيير الاجتماعي الجذري التي تكبتها معايير المجتمع البورجوازي. وديناميات مثل هذا الالتزام مستمدة ليس من قراءة "الكلاسيكيات الماركسية" بل من المعايشة الواقعية لواقع اجتماعي والطريقة التي لا يمكن بها إنجاز قضية أو مسألة معزولة، كقضية أو مسألة إنهاء شكل خاص من أشكال الظلم، دون نظم مجمل شبكة المستويات الاجتماعية المتداخلة في كلية، الأمر الذي يتطلب عندئذ ابتكار سياسة للتغيير الاجتماعي ... وسواء اختفت كلمة "الماركسية" أم لا، إذاً، في ممحاة شرائط عصور مظلمة جديدةٍ ما، فإن الشيء نفسه سوف يعاود الظهور لا محالة" (24).

هذا إذاً تأكيد لحالية الماركسية رائع روعة أي تأكيد رائع أعرفه. والمشكلة هي أنه تأكيد للنظرية الماركسية، خاصة ممارسة البحث عن الكلية "نظم مجمل شبكة المستويات الاجتماعية المتداخلة في كلية". ويرى جيمسون أن هناك صلة بين مفهوم الكلية والسياسة الثورية: وهكذا فإن "العداوة" بعد "البنيوية" لمفهوم "النظرة الكلية" سوف يبدو من المعقول تماماً تفسيرها على أنها رفض منهجي لمفاهيم وأفكار الممارسة بصفتها هذه، أو للمشروع الجماعي". ولكن أين هي القوة الاجتماعية التي ستقوم بهذا "المشروع"؟ إن جيمسون لا يذهب إلى المدى الذي ذهب إليه آدورنو، الذي رأى أن الطبقة العاملة الغربية قد جرى دمجها في "رأسمالية أيامنا". لكنه يبدو، أحياناً، قريباً بما يكفي من تشاؤم آدورنو، كما حين يقول:

"لقد كان آدورنو حليفاً مشكوكاً فيه في الوقت الذي كانت لا تزال فيه هناك تيارات سياسية معارضة قوية كان يمكن لانسحابيته المزاجية والمشاغبة أن تصرف القارئ غير الملتزم عنها. أَمَا وأن تلك التيارات قد أصبحت الآن هي نفسها مذعنة، فإن عصارته المرة ترياق سار ومذيب ماسح يجب صبه على وجه "ماهو قائم" "(25).

من الواضح أن جيمسون ليس مستعداً للاستسلام. فإذا كنا نعيش في زمن هزيمة، فإن الهزيمة ليست أكثر من مؤقتة:

" إن الفترة ما بعد الحداثية قد تكون تماماً... أكثر قليلاً من فترة انتقالية بين مرحلتين من مراحل الرأسمالية، تجري فيها إعادة هيكلة الأشكال الأسبق لما هو اقتصادي على نطاق عالمي، بما في ذلك الأشكال الأقدم للعمل ومؤسساته ومفاهيمه التقليدية. أما أن بروليتاريا أممية جديدة (تتخذ أشكالاً لا يمكننا بعد تخيلها) سوف تعاود الانبثاق من هذا الانقلاب الهادر فذلك أمر لا يحتاج إلى نبي لتوقعه: لكننا نحن أنفسنا لا نزال في نطاق الغور بين الأمواج ولا يمكن لأحد القول إلى متى سوف نبقى فيه" (26).

وحتى لو افترضنا أن هذا التحليل صحيح (وهو مالا أوافق عليه)، فما هو المفترض منا عمله في "الغور"، ترقباً لموجة جديدة ما تحملنا إلى الأمام؟ إن المجاز يوحي بنزعة جبرية، بانتظار للأحداث يتنافى مع التراث الثوري. ومن الصعب ألا يشعر المرء بأن وضع جيمسون في العالم الأكاديمي، انعزاله عن النشاط السياسي، يحكم عليه بهذا الموقف السلبي في نهاية المطاف. وهذا يذكرنا، مرة أخرى، بحدود الماركسية الغربية المشوبة بفصلها بين النظرية والممارسة (27).


الحواشي:

(1) لقد صدر الحنق الموجه إلى إيجلتون عن جميع جهات الصحف الكبرى، من الجارديان إلى الإندبندنت، ومن اللندن ريفيو أوف بوكس إلى الاسبكتيتور.
(2) ف. جيمسون، "مابعد الحداثة، أو المنطق الثقافي لرأسمالية أيامنا"، نيو ليفت ريفيو، 146 (1984) و د. كلينر، "مابعد الحداثة / جيمسون / نقد" (واشنطن دي سي، 1989).
(3) ف. جيمسون، "مابعد الحداثة، أو المنطق الثقافي لرأسمالية أيامنا" (لندن، 1991). انطباعي هو أن معظم، إن لم يكن كل، الكتاب يتألف من مقالات نشرت بالفعل في أماكن أخرى، مع أنه لا الناشر ولا المؤلف قد اعتبرا أن من المناسب تحديد مصدر كل مقال. ويمكن للنتائج أن تكون مربكة نوعاً ما، إن لم نقل مزعجة – كما يحدث، مثلاً، عندما يعرف القارئ أن الفصل السادس إما أنه مراجعة، أو، مقدمة، لكاتالوج معرض (انظر، على سبيل المثال، ص 180) إلا أنه لا يقال له ماذا كان المعرض أومتى أقيم. وقد أدخل جيمسون بعض التغييرات على نصوص سبق نشرها، مثال ذلك المقال الذي نشر في عام 1984 في النيو ليفت ريفيو، الذي يظهر الآن بوصفه الفصل الأول.
(4) انظر أ. كالينيكوس، "ضد ما بعد الحداثة"، (كيمبريدج، 1989) و "مابعد الحداثة الرجعية"، في الكتاب الذي أشرف على إعداده ر. بوين و أ. راتانسي، والصادر تحت عنوان "مابعد الحداثة والمجتمع" (بيزنجسوك، 1990).
(5) ج. ف. ليوتار، "الحالة بعد الحداثية" (مانشيستر، 1984)، ص 84.
(6) انظر بوجه خاص ك. نوريس، "ما المشكلة مع ما بعد الحداثة" (لندن، 1990) و"زيارة جديدة إلى الثامن عشر من برومير"، الذي سوف ينشر في "ثيوري، كلتشر آند سوسيتي".
(7) انظر أ. كالينيكوس، "الماركسية في مواجهة ما بعد الحداثة"، الذي سوف ينشر في "ثيوري، كلتشر آند سوسيتي".
(8) ف. جيمسون، مصدر سبق ذكره، ص 418.
(9) المصدر السابق، ص 36.
(10) المصدر السابق، ص ص 48-49.
(11) م. ديفيز "النهضة الحضرية وروح ما بعد الحداثة"، نيو ليفت ريفيو، 151 (1985).
(12) د. هارفي، "حالة ما بعد الحداثة" (أكسفورد، 1989)، خاصة الباب الثاني.
(13) انظر أ. كالينيكوس، "ضد ما بعد الحداثة"، الفصل الخامس، و، الآن، ك. هارمان، "الدولة والرأسمالية اليوم"، انترناشيونال سوشياليزم، 2 : 51 (1991).
(14) أ. لان، "الماركسية والحداثة" (لندن، 1985) ص ص 34 – 37.
(15) انظر أ. كالينيكوس، "ضد ما بعد الحداثة"، الفصل الأول.
(16) انظر، على سبيل المثال، ص ص 167 – 168، حيث يزعم أن "إعادة اختراع المجاز" هي إحدى علامات "حلول ما بعد الحداثة محل الحداثة". وهذا تصريح مثير بالنظر إلى إثبات بيتر بيرجر لأهمية معالجة فالتر بنيامين للمجاز بوصفه علاقة بين جزيئات في توضيح رفض الفن الطليعي الحداثي في أوائل القرن العشرين لمفهوم العمل الفني بوصفه كلاً عضوياً: "نظرية الفن الطليعي" (مانشيستر، 1984)، ص 78.أما تخلف جيمسون الكامل عن مناقشة عمل بيرجر الهام فهو إهمال يدعو إلى الاستغراب.
(17) انظر ف. جيمسون، مصدر سبق ذكره، ص 307. وقارن هذا الكلام مع كلام ب. أندرسون، "الحداثة والثورة"، نيو ليفت ريفيو، 144 ، (1984).
(18) ف. جيمسون، مصدر سبق ذكره، ص 311.
(19) فيما يتعلق بهذا كله، انظر المصدر السابق و أ. كالينيكوس، "ضد ما بعد الحداثة"، الفصلين الثاني والخامس.
(20) لنظر ف. موريتي، "نوبة التردد"، نيو ليفت ريفيو، 164، (1987).
(21) انظر في هذا الصدد ف. جيمسون، مصدر سبق ذكره، ص 399.
(22) المصدر السابق، ص 274.
(23) المصدر السابق، ص 331.
(24) ف. جيمسون، "ماركسية أيامنا"، (لندن، 1990) ص ص 250 – 251.
(25) المصدر السابق، ص 249، وانظر أيضاً المصدر السابق، ص 5.
(26) ف. جيمسون، "مابعد الحداثة"، مصدر سبق ذكره، ص 417.
(27) انظر التشخيص الرائع الذي قدمه صريع آخر للمرض نفسه: ب. أندرسون، "تأملات حول الماركسية الغربية" ، (لندن، 1976).

1990s