الماركسية ولاهوت الدولة

بشير السباعي


أما وأن الدكتور غالي شكري قد صدق الحكمة الرائجة التي تتحدث عن "نهاية الماركسية" فسوف يكون من العبث أن ندعوه إلى تذكر أن جان جاك روسو (1712-1778) وماكسميليان روبسبيير (1758-1794) لا يتحملان المسئولية عن الهذيان المهدوي الذي دفع بونابرت (1769-1821) إلى الادعاء أمام مشايخ الأزهر أنه الرسول الذي جاء ليتمم رسالة نبي الإسلام، ولا إلى تذكر أن "البيان الشيوعي" قد كتب في عشية ثورة 1848 وليس في عشية التاسع من ثيرميدور من العام السادس لثورة أكتوبر!


لكن من الواضح، على أية حال، أن فيلسوف العقد الاجتماعي ليس هو الأب الشرعي لانقلاب برومير (نوفمبر 1799) ولا لإعلان الامبراطورية من جانب الكورسيكي الذي كان، يوماً ما، تلميذاً لروسو وجندياً من جنود الثورة والجمهورية. كما أن من الواضح، بالمثل، أن ماركس (1818-1883)، الذي كتب "مساهمة في نقد فلسفة الحق الهيجيلية"، ليس هو الأب الشرعي للبيروقراطية الستالينية التي أنجبها، بين عوامل أخرى، تخلف روسيا وتراجع الثورة الأوروبية.


والحال أن الفيلسوف الألماني للثورة العالمية كان قد كتب في عام 1843 ما يلي: "إن شكلانية الدولة، وهي ما تمثله البيروقراطية، هي الدولة بوصفها شكلانية. وقد وصفها هيجل بأنها شكلانية كهذه بالتحديد. ولأن شكلانية الدولة هذه تصوغ نفسها بوصفها سلطة واقعية وتصبح هي نفسها محتوى نفسها المادي، فمن الواضح أن البيروقراطية غشاء لوهم عملي، أو أنها وهم الدولة. إن العقل البيروقراطي هو عقل يسوعي و لاهوتي حتى النخاع. والبيروقراطيون هم يسوعيو ولاهوتيو الدولة. والبيروقراطية هي الجمهورية الكاهن".


ومن الصعب على المرء ألاَّ يتذكر هذه الفقرة عند قراءة مقال الدكتور غالي شكري المنشور في عدد يونيو 1993 من مجلة "القاهرة"، حيث يتحدث الكاتب، دون تردد، عن "كهنة الماركسية وأحبارها من جدانوف إلى سوسلوف"، بدلاً من أن يعترف بالواقع التاريخي والذي يتمثل في أن هؤلاء كانوا مجرد ديماجوجيين كرسوا لاهوتهم الستاليني البائس للدفاع عن الامتيازات الواقعية للبيروقراطية التي ينتمون إليها وليس للدفاع عن "طهارة" الماركسية، التي يعرف كل مثقف نزيه أنها قد تعرضت لأسوأ كبت عرفه التاريخ المعاصر على أيدي مثل هؤلاء الديماجوجيين بالتحديد.


وتستوقف القارئ أحكام وإشارات مثيرة أخرى:


* مثلاً، ليس صحيحاً بالمرة أن جوركي (1868-1936) كان من "كبار المؤمنين" بالماركسية أو باللينينية. فبعد هزيمة الثورة الروسية الأولى (1905-1907)، تحالف مع الكاتب المعروف أناتولي لوناتشارسكي (1875-1933) الذي راح يدعو إلى تحويل الاشتراكية إلى دين للفقراء وفكر جدياً في ابتداع شعائر لهذا الدين، وهو تحالف قاد إلى خلاف عميق بين الأديب الروسي ولينين (1870-1924) الذي لم يتسامح مع استسلام الرجل لتيار التصوف الذي استولى على شرائح من الإنتلجنتسيا الروسية في سنوات الرجعية (1908-1912) والذي أنتج رواية جوركي، "الاعتراف". ثم إن رحيل جوركي عن روسيا في عام 1921 لم يكن بسبب استياء الأديب الروسي من تحويل مزعوم للماركسية إلى عقيدة للدولة وللمجتمع (في ذلك الوقت، لم يُشر إلى الماركسية في دستور الحزب نفسه!) بل كان بسبب رغبته المستحيلة في أن يرى ثورة دون "اضطراب" ودون حرب أهلية ودون مساس بعدد من المثقفين حتى لو كانوا من جنود الثورة المضادة الفاعلين، وهو ما أزعج لينين كثيراً ودفعه إلى تسهيل رحيل جوركي إلى الخارج حيث راح يصب اللعنات على الثورة بلا حساب. وعندما عاد الأخير إلى روسيا بصفة دائمة في عام 1931، ارتاح إلى صيغ الستالينية القومية، واستسلم لوهم أن ازدهار "الثقافة" يمكن أن يسير يداً بيد مع "الاستبداد المستنير" وهو استسلام عرفت الانتلجنتسيا المصرية مثيلاً له خلال العهد الناصري! (1).


* ومثلاً، ليس صحيحاً أن تروتسكي (1879-1940) قد "اختار المنفى البعيد ولكنهم طاردوه حتى طالوه برصاصة واحده"، فقد نفى الرجل مجبراً إلى تركيا في عام 1929، ثم جُرد من جنسيته السوفييتية، وفي نهاية الأمر، لم يجد ملاذاً إلا في المكسيك في زمن تأميم مصالح النفط الأمريكية حيث طالوه – بالمناسبة – بضربة بلطة وليس برصاصة! (من المثير أن الناقد الأدبي المعروف لا يعرف سيرة – ناهيك عن أفكار – الرجل الذي لم يفت ت. س. إليوت ولا إيدموند ويلسون الإشادة بإسهاماته في مجال النقد الأدبي، والذي ترك لنا كتابات جد مهمة عن الأدب الروسي وعن الأدب الفرنسي..).


* ومثلاً، ليس صحيحاً بالمرة أن "خروشوف كان أول من فضح المكبوت فزعزع أركان الستالينية" إذ لا يمكن المماراة في أن تروتسكي، صاحب "مدرسة التزييف الستالينية" (1932) وصاحب "الثورة المغدورة" (1937)، كان هو ورفاقه أول من فضح المكبوت، وقد فعلوا ذلك من منظور ماركسي وبشكل منهجي، وليس بشكل غوغائي ومن منظور الدفاع عن المصالح الإجمالية للبيروقراطية، كما فعل خروشوف، شريك ستالين (1879-1953) في جرائمه منذ الثلاثينيات!


والحال أن الدكتور غالي شكري يدين اللاهوت الذي يحكم من غير قراءة أوراق المحكوم عليه، إلا أنه لا يبدو أنه قد نجا هو نفسه من مثل هذه الممارسة، فقد غابت عنه أوراق الماركسية وأوراق الثورة الروسية، وأصدر حكماً هو أكثر بلاغة في تصوير تحيزات "القاضي".


1993


---------------


(1) حول جوركي ولوناتشارسكي، ارجع إلى :ليون تروتسكي: بورتريهات سياسية وشخصية، نيويورك، 1977 (بالإنجليزية).

0 التعليقات: