البيروقراطية السوفييتية والستالينية المصرية

بشير السباعي


ستالين (الأستاذ)



هنري كورييل (التلميذ)




انبثقت الحركة الشيوعية المصرية إلى الوجود تحت تأثير الغليان الثوري الذي اجتاح العالم شرقاً وغرباً بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. وعلى مدار تاريخ الحركة، عبرت مصائرها عن مصائر تلك الثورة. ويتجلى ذلك عبر ثلاث مراحل رئيسية متمايزة.


المرحلة الأولى من علم 1918 إلى عام 1924


شهدت تلك المرحلة ظهور الحلقات الشيوعية الأولى في عدد من مدن مصر الكوزموبوليتية بشكل رئيسي (الإسكندرية، القاهرة، بورسعيد، ...إلخ)، حيث تدافع مثقفون وعمال متقدمون، بينهم نسبة مهمة من الأجانب، إلى تشكيل الحلقات الشيوعية التي تحولت فيما بعد إلى الحزب الشيوعي المصري الأول عبر مسيرة معقدة – وإن كانت قصيرة نسبياً – من الاتحاد مع الإصلاحيين السافرين.


وفي تلك المرحلة، أظهر الحزب الشيوعي المصري الأول تعاطفاً كبيراً مع الثورة البلشفية، وهو تعاطف لم يتحول إلى تمثل عميق لمبادئ الماركسية الثورية أو لخبرة الحزب البلشفي، إذ ظل جانب كبير من كوادر الحزب تحت الهيمنة الفكرية لسنديكالية سوريل ولاجارديل أو لتضامنية نوردو أو لإنسانوية جماعة كلارتيه الفرنسية البورجوازية الصغيرة أو للكوزموبوليتية الماسونية. ولا تدل كتابات الكوادر القيادية للحزب على أنها قد تعلمت شيئاً يذكر من انتقادات قادة الثورة البلشفية لمثل هذه التيارات التي كانت متفشية في صفوف اليسار الفرنسي. وهناك شك أصلاً في أن تكون هذه الكوادر قد اطلعت على هذه الانتقادات.


وعندما نزل القمع البوليسي بهذه الكوادر في عام 1924، تبعثر شمل الحزب الفتي قبل أن تتسنى له فرصة تمثل مبادئ الماركسية الثورية وتحويل تعاطفاته مع مثل الثورة البلشفية إلى اتجاه فكري – سياسي محدد الملامح، وذلك على الرغم من موافقة الحزب – الصورية إلى حد بعيد – على الشروط الـ 21 للالتحاق بالأممية الشيوعية.


وقد ترافق تشتيت شمل الحزب في عام 1924 مع تراجع الحركة العمالية الثورية في الغرب ومع تحييد نفوذ المعارضة اليسارية اللينينية في صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية وتزايد هيمنة الستالينية واستراتيجيتها اليمينية داخل صفوف الحركة الشيوعية العالمية على حساب الماركسية الثورية.


ولم تخلف لنا أدبيات ووثائق الحزب الشيوعي المصري خلال تلك الفترة شيئاً يدل على أن كوادر الحزب كانت على دراية حقيقية بالنزاع الذي نشب منذ عام 1923 داخل صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية بين الستالينية والمعارضة اليسارية حول مسائل تطور الاتحاد السوفييتي والثورة العالمية أو أنها كانت على دراية بالمستوى الذي وصل إليه الانحطاط البيروقراطي للدولة وللحزب في الاتحاد السوفييتي أو بالمغزى الرجعي المضاد للثورة لاستراتيجية ستالين – بوخارين القومية المستترة منذ أكتوبر 1924 تحت ستار بناء الاشتراكية في بلد واحد.


ويمكن تصور أن هذه التطورات الكبرى قد حدثت دون أن تجد صدى يذكر في صفوف الشيوعيين المصريين الذين يبدو أنهم كانوا غارقين بالكامل في المشاكل القومية لحركتهم ومفتقرين لأية منظورات أممية.


المرحلة الثانية من عام 1925 إلى عام 1989


شهدت تلك المرحلة إعادة بناء الحزب الشيوعي المصري في عام 1925 بمبادرة مباشرة من جانب الكومنترن الستاليني وإخضاع الحزب لتسلط الستالينية الفكري والسياسي والتنظيمي. وإذا كان القمع البوليسي الذي نزل بالحزب في عام 1924 قد أجهز على الكوادر القيادية التي ظهرت بين عامي 1918 و1924، فإن ذلك القمع قد ساعد على تسهيل الهيمنة الستالينية على عملية إعادة بناء الحزب، حيث أن الكوادر التي كان يمكن لها أن تدخل، ولو على المدى البعيد، في صدام مع الستالينية حول هذه القضية أو تلك، كانت قد اختفت من مسرح النشاط السياسي.


ومنذ أواسط العشرينيات، جرى إرغام الحزب الشيوعي المصري على تبني السياسيات التي حاولت الستالينية تطبيقها في البلدان المستعمرة وشيه المستعمرة، خاصة الصين، والتي أدت، في عام 1927، إلى هزيمة الثورة الصينية الثانية.


وهكذا، ففي 6 إبريل 1925، أجاز الاجتماع الموسع الخامس للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية قراراً عن الموقف السياسي في الهند وإندونيسيا ومصر، دعا الشيوعيين الهنود إلى مواصلة العمل داخل حزب المؤتمر الهندي البورجوازي ودعا الشيوعيين الإندونيسيين إلى حشد الجماهير العريضة خلف حزب ساريكات راكجات وحدد للشيوعيين المصريين هدف العمل من أجل تأسيس حلف موحد مع حزب الوفد الذي أشار إليه القرار بوصفه حزباً قومياً – ثورياً!


يجب أن نتذكر أن هذا الحزب (القومي – الثوري) لم يبد أية مقاومة تجاه حل البرلمان – ذي الأغلبية الوفدية – المنتخب في أوائل عام 1925، والذي تآمر الملك فؤاد الأول مع الإنجليز على تسريحه بعد عشر ساعات فقط من انعقاده!


والحال أن هذا القرار الذي يتعارض على طول الخط مع توجهات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية (1920) تجاه المسألة القومية والكولونيالية، كان تعبيراً عن سيادة الاستراتيجية المنشفية – الستالينية عن ثورة على مرحلتين: ثورة ديموقراطية بورجوازية من خلال تحالف استراتيجي مع الأحزاب القومية البورجوازية الإصلاحية، ثم ثورة اشتراكية تحدث في مستقبل بعيد.


وغداة وفاة سعد زغلول في عام 1927، أشار الكومنترن الستاليني، في مرثية للزعيم الراحل، إلى أن الموقف والتناقضات في مصر تجعل ديكتاتورية البروليتاريا مدخلاً غير واقعي للتعامل مع مهام الثورة القومية – الديموقراطية، وكأن هذه المهام يمكن أن تنجز من خلال ديكتاتورية ديموقراطية بورجوازية، وهو أمر كان لينين قد استبعده في أبريل 1917 بالنسبة لروسيا ثم أكد على استحالته بوجه عام، في 12 يناير 1918، حيث قال إنه لا يمكن تصور أية ثورة ديموقراطية بشكل منسجم دون ديكتاتورية البروليتاريا.


وخلال فترة الأزمة الاقتصادية – العالمية (1929-1933)، تحولت توجهات الكومنترن الستاليني إلى المغامرة اليسارية، إلى استراتيجية رعناء بشأن ما سمي بالفترة الثالثة التي تجعل شعار دكتاتورية البروليتاريا مدرجًا بشكل فوري – عملي في جدول أعمال جميع الأحزاب الشيوعية، مع نبذ شعار الجبهة العمالية المتحدة واعتبار الاشتراكية – الديموقراطية اشتراكية – فاشية. وقد أدت هذه الاستراتيجية المغامرة إلى تسهيل وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا، أما في مصر فقد أدت إلى ابتعاد الشيوعيين المصريين – المهمشين بما يكفي بالفعل – عن المشاركة في أحداث مايو 1931 الثورية، ثم تخلفوا عن قيادة أي إضراب عمالي خلال الثلاثينيات.


ومع تحول الكومنترن الستاليني إلى اليمين بعد عام 1933- في اتجاه الجبهات الشعبية والجبهات الوطنية – جرى إبلاغ الشيوعيين المصريين مرة أخرى بجوب التحالف مع حزب الوفد. وفي 26 فبراير 1936، دعت أمانة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية الشيوعيين المصريين المبعثرين إلى تأييد حزب الوفد، وذلك قبل ستة أشهر فقط من توقيع زعيم الحزب المذكور على المعاهدة الأنجلو – مصرية!


وإذا كانت صفحة العلاقات التنظيمية بين الشيوعيين المصريين والكومنترن الستاليني قد انطوت بعد فبراير 1936 أو بعد ذلك التاريخ بوقت قصير، وإذا كان الشيوعيون المصريون قد أبدوا في عدد من المناسبات أشكالاً جزئية من عدم التجاوب مع توجهات الكومنترن، إلا أن هيمنة الستالينية على أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية في ميلادها الثاني قد بقيت – بل وتعززت – على المستويين الفكري والسياسي.


وسرعان ما تبدت هذه الهيمنة منذ بدايات الميلاد الثاني. ففي فترة معاهدة عام 1939 بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، سكتت العناصر الستالينية عن توجيه النقد إلى الفاشية وقوبل معارضو المعاهدة المذكورة من السورياليين والماركسيين المؤسسين لجماعة (الفن والحرية) بالتنديد من جانب هذه العناصر. وتعرض أحد نقاد المعاهدة الماركسيين ( لطف الله سليمان ) لردود فعل غوغائية من جانب العناصر الستالينية المحتشدة في النادي الديموقراطي.


وفي فترة الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد يونيو 1941، تبنى الستالينيون المصريون أكذوبة الحرب من أجل الديموقراطية ولم يميزوا بين حرب الاتحاد السوفييتي المشروعة ضد الغزو النازي والطابع الرجعي العام للحرب بين مختلف القوى الإمبريالية. وفي هذا السياق، قوبلت دعايتهم المضللة بالتحبيذ من جانب البريطانيين والقوى السياسية البورجوازية المصرية المتحالفة معهم، وتخلى الستالينيون المصريون عن مساعدة الحركة الجماهيرية القومية العفوية المناوئة للاستعمار البريطاني على اتخاذ التوجهات المناسبة. ومن الناحية العملية، فإن أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية قد أجلت الكفاح المعادي للإنجليز إلى أواخر الحرب، استرشادًا بالاستراتيجية الستالينية خلال فترة الحرب العالمية الثانية والتي مالت إلى اعتبار الحركات القومية – التحررية في المستعمرات وأشباه المستعمرات الإنجليزية حركات مخربة للمجهود الحربي للحلفاء!


وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية واشتد ساعد الحركة القومية – التحررية المصرية حرصت الفصائل الستالينية على التمسك باستراتيجية ستالين المنشفية عن ثورة على مرحلتين، تورطت في مختلف التحالفات مع القوى السياسية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة القومية على أساس منظورات بورجوازية قومية.


وعندما تفجرت المسألة الفلسطينية في 1947 – 1948، بررت أغلب هذه الفصائل مواقف البيروقراطية السوفييتية تجاه النزاع في فلسطين، كما بررت اعتراف الأخيرة بالدولة الصهيونية، الأمر الذي وجه ضربة قاسية إلى مجمل اليسار.


واعتباراً من مؤتمر باندونج وعقد صفقة الأسلحة المصرية – التشيكية في عام 1955، انخرطت فصائل الحركة الستالينية المصرية في مسيرة سياسية معقدة جرتها إلى السير في ذيل الناصرية ثم، في نهاية الأمر، إلى حل هياكلها التنظيمية والاندراج في مهمة تحقيق هيمنة الناصرية الإيديولوجية والسياسية باسم الدفاع عن التطور اللارأسمالي الذي روج له الإيديولوجيون السوفييت.


وعلى مدار الفترة الممتدة من عام 1925 إلى 1965، دافعت أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية عن التسلط البيروقراطي داخل الاتحاد السوفييتي وصورت تجربة روسيا الستالينية في صورة الاشتراكية وطابقت بين دكتاتورية البيروقراطية ودكتاتورية البروليتاريا وشجبت المعارضة اليسارية في الاتحاد السوفييتي واندرجت في كورس الافتراءات الستالينية ضد البلاشفة الذين أعدموا خلال الثلاثينيات وشجبت الانتفاضات العمالية المضادة للبيروقراطية في ألمانيا الشرقية في عام 1953 وفي بولندا والمجر في عام 1956 بوصفها حركات مضادة للثورة، وبررت التدابير القمعية التي اتخذتها البيروقراطية الستالينية ضد تلك الانتفاضات، ومن هذه الزاوية، ساعدت على تزييف وعي الجماهير.


ومع الميلاد الثالث للحركة الشيوعية المصرية، وعلى الرغم من درجات الاستقلال الذي أبدته فصائل داخل هذه الحركة تجاه البيروقراطية السوفييتية، فإن الفصائل الرئيسية داخل هذه الحركة لم تعلن قط القطيعة مع الستالينية ولم تتحول إلى مواقع الماركسية الثورية ودافعت في أكثر من مناسبة عن سياسيات غادرة عديدة للبيروقراطية السوفييتية ولم تثر الشك ولو مرة واحدة في "اشتراكية" النموذج البيروقراطي.


المرحلة الثالثة من عام 1989


بدأت هذه المرحلة مع تفجر أزمة النموذج البيروقراطي في الاتحاد السوفييتي ومع السقوط المتسارع للدكتاتوريات الستالينية في عدد من دول أوروبا الشرقية.


وحيث أن الستالينيين المصريين لم يكونوا مسلحين بأية أفكار ماركسية عن أزمة الدول المتدهورة بيروقراطياً، فإن هذه المرحلة تعتبر مرحلة صدمة مريرة ذات مقاييس جسيمة.


إن مانشهده الآن بين صفوفهم هو تعبيرات مختلفة عن وصول أزمة الستالينية المصرية إلى ذروتها.


وأول ما نشهده، هو تلك القراءة الزائقة لمجمل تاريخ الماركسية ومصائر ثورة أكتوبر والحركة العمالية العالمية والرأسمالية المعاصرة.


فهناك من يتحدث الآن بشكل سافر عن فوات أوان الماركسية وعن يوتوبية التوقعات الماركسية عن مجتمع المستقبل. وهناك من يتحدث عن قدرات الرأسمالية غير المحدودة على البقاء وعلى توفير الحريات السياسية والحقوق الإنسانية ومستويات معيشية عالية بالنسبة لغالبية السكان.


وهناك من يردد مع جورباتشوف أن البيروسترويكا ليست غير تجديد للاشتراكية، وهناك من يعلن أن ثورة أكتوبر كانت تمرداً إرادياً مغامراً على قوانين التطور الاجتماعي، وهناك من يحاول اختلاق تحليل "ماركسي" لأزمة الدول المتدهورة بيروقراطياً منفصل عن مجمل التراث الماركسي الناقد للديكتاتورية البيروقراطية ومعارض لاستنتاجاته الاستراتيجية والبرنامجية، إلخ.


والحال أن كل هذه المواقف والرؤى ليست أقل من عجز كامل عن استيعاب مغزى الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكبرى المعاصرة، وهو عجز ناشيء عن افتقار الستالينيين المصريين المزمن إلى بوصلة الماركسية الثورية التي حرمتهم من الاهتداء بها تصالحاتهم الجوهرية مع الأمر الواقع والتي جرتهم إلى التكيف مع إيديولوجية وسياسات البيروقراطية السوفييتية.


ومن المؤكد أن الجورباتشوفية لن تكون مخرجاً من الأزمة.


يناير 1991

0 التعليقات: