حول ملابسات تكوين جماعة "الفن والحرية"

بشير السباعي


جورج حنين

يشير الأستاذ أنور كامل إلى أن جماعة "الفن والحرية" كانت تعبيراً عن التقاء ثلاثة روافد كانت موجودة في الساحة الثقافية المصرية في الثلاثينيات. وقد اكتفى الأستاذ أنور كامل بهذه الإشارة – الصحيحة – رداً على سؤال لم يكن يسمح بمزيد من التوضيح. على أن السؤال يظل مائلاً: كيف أمكن لهذه الروافد أن تلتقي بهذه السهولة النادرة التي التقت بها لكي يشكل ممثلوها الجماعة، وما هو الظرف المباشر الذي قاد إلى تأسيسها؟


فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال، أعتقد أن سهولة الالتقاء الذي حدث تكمن في توافر درجة عالية من تقارب تلك الروافد في فهم دور الانتلجنتسيا الإبداعية الثورية في تلك الحقبة الرجعية: حقبة الفاشية والنازية وسحق الثورة الإسبانية ومحاكمات موسكو الصورية وتسلط الستالينية على المجتمع السوفييتي وعلى الحركة العمالية العالمية وتزايد نفوذ القوى الشمولية السلفية في الحياة السياسية – الثقافية المصرية، خاصة بعد توقيع معاهدة 1936 وسقوط القومية – الليبرالية في مصر. وقد أدرك ممثلو تلك الروافد أن معطيات حقبة الرجعية هذه تدمر شروط الإبداع الثقافي، ولذا فإن دور الإنتلجنتسيا الإبداعية الثورية يتمثل في نبذ موقف اللامبالاة تجاه معطيات الحقبة المذكورة والتوحد الإيجابي مع الحركة الثورية التي تهدف إلى إعادة تأسيس المجتمع على أسس جديدة. وقد تكشف هذا الإدراك في أعمال جورج حنين ورمسيس يونان وأنور كامل وكامل التلمساني السابقة على تأسيس جماعة "الفن والحرية".


وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، أعتقد أن الظرف المباشر الذي قاد إلى تكوين الجماعة في أوائل يناير 1939 يتمثل في صدور بيان بريتون – تروتسكي الذي صدر في يوليو 1938 في المكسيك تحت توقيع بريتون والرسام المكسيكي ديييجو ريبيرا، وهو البيان الذي دعا إلى "فن ثوري حر" وإلى إنشاء "اتحاد أممي للفن الثوري الحر".


ومن المعروف أن جورج حنين هو الذي طرح فكرة إنشاء جماعة "الفن والحرية"، وهو الذي كتب بيان "يحيا الفن المنحط!". الذي صدر قبل وقت قصير من إعلان الجماعة والذي يستعيد أفكاراً رئيسية وردت في بيان بريتون – تروتسكي. ويذكر ساران أليكسندريان أن جورج حنين هو الذي اختار اسم الجماعة، تجاوباً مع بيان مكسيكو الذي صدر تحت عنوان: "نحو فن ثوري حر".


وقد حدثت ثلاثة تجاوبات مع البيان الأخير:


1- في فرنسا، حيث تشكلت في خريف 1938 شعبة فرنسية للاتحاد الأممي للفن الثوري الحر، أصدرت نشرة شهرية اسمها Clé توقفت بعد العدد الثاني (عدد فبراير 1939)، كما أصدرت – حتى نشوب الحرب العالمية الثانية – العديد من البيانات ضد النازية. وقد أصدر الأعضاء السورياليون في الشعبة بياناً تحت عنوان: "لا لحربكم ولا لسلامكم!" (سبتمبر 1938). وتحت هذا العنوان نفسه صدر البيان الذي أشار الأستاذ أنور كامل إلى أن لطف الله سليمان قد حرره بمناسبة تفجر النزاع العربي – الصهيوني في 1947 – 1948.


2- في المكسيك، حيث تشكلت شعبة مكسيكية للاتحاد المذكور، أصدرت نشرة شهرية اسمها Clave (المفتاح)، كما أصدرت عدداً من البيانات.


3- في مصر، حيث تشكلت جماعة "الفن والحرية" التي لم تكن شعبة للاتحاد المذكور، وإن كانت قد توحدت – من الناحية العملية – مع الدعوة إلى تحرير الابداع الثقافي من التسلط الرسمي. وكانت هذه الجماعة هي أطول الجماعات الثلاث عمراً وأوسعها نشاطاً، حيث أن الجماعة الفرنسية قد عصف بها نشوب الحرب العالمية الثانية واحتلال فرنسا من جانب ألمانيا النازية، بينما عصفت الخلافات الداخلية بالجماعة المكسيكية، خاصة بعد تفجر الخلافات بين دييجو ريبيرا وخوسيه فيريل.


وقد اطلع جورج حنين على بيان "نحو فن ثوري حر" في باريس في أوائل خريف 1938. ولابد أن يكون اتجاه بريتون إلى تأسيس الشعبة الفرنسية للاتحاد الأممي للفن الثوري الحر قد شجع جورج حنين على التفكير في تأسيس جماعة "الفن والحرية".


ومن المعروف أن الاتحاد المذكور لم يكن اتحاداً تروتسكياً كما لم تكن عضويته قاصرة على المبدعين السورياليين، إلا أن الاتحاد – مع ذلك – كان محاولة لتوحيد المبدعين الثوريين المعادين للستالينية من منطلقات مختلفة، وقد وحد في صفوفه مبدعين ماركسيين وفوضويين.


وقد بادر جورج حنين بالعمل على إنشاء جماعة "الفن والحرية" فور عودته من باريس في أواخرعام 1938، بعد أن أشرف على صدور ديوانه الأول: "لا مبررات الوجود".


ويتضح من رسالة بعث بها جورج حنين من القاهرة في ديسمبر 1938 إلى الروائي الواقعي الفرنسي هنري كاليه أن اسم الجماعة وخطط عملها على المدى المباشر قد تحددت في ديسمبر 1938، وهو ما يدل على أن مشاورات جورج حنين مع أنور كامل ورمسيس يونان وكامل التلمساني من أجل تأسيس الجماعة لم تأخذ غير أسبوعين أو ثلاثة أسابيع على الأكثر لكي تصل إلى نتيجة موفقة.


والخلاصة أن ملابسات تكوين جماعة "الفن والحرية" كانت ملابسات مصرية وعالمية في آن واحد. وقد التقت هذه الملابسات في لحظة محددة لكي تؤدي إلى انبثاق ما اعتبره أول تجمع واسع للإنتلجنتسيا الإبداعية اليسارية المصرية المعاصرة.


مارس 1988

0 التعليقات: