اليهود والحركة الشيوعية المصرية

ردٌ على طارق البشري

بشير السباعي




شكلت الخلفية اليهودية لعدد من قادة الحركة الشيوعية المصرية بين عامي 1918 و 1958 – ومن بين هؤلاء القادة أحمد صادق سعد (1919-1988) – مبرراً من مبررات الهجوم الإيديولوجي على هذه الحركة من جانب ممثلي التيارات القومية الشوفينية على اختلافها. وقد ساعد على اتساع نفوذ هذا الهجوم واقع أنه قد تستر بادعاء الدفاع عن المصالح القومية العربية وواقع أن قيادات الحركة الشيوعية المصرية قد أظهرت تقصيراً ملحوظاً في مجال الدفاع عن هذه المصالح في فلسطين خلال عامي 1947 و 1948.

ومن ناحية أخرى فقد شارك في هذا الهجوم الإيديولوجي في السنوات الأخيرة عدد من الكتاب البارزين، على رأسهم المستشار طارق البشري، الذي كان أحمد صادق سعد يكن له تقديراً خاصاً فيما يتعلق بجانب من تناوله لتاريخ الحركات التلقائية الشعبية في مصر، من ناحية، ولا يخفي الإعراب عن عدم ارتياحه لكثير من استنتاجاته، من ناحية أخرى.

ويمكننا الادعاء بأن أحمد صادق سعد ما كان ليقبل، بشكل خاص، استنتاجات المستشار طارق البشري بشأن مسألة "اليهود والحركة الشيوعية المصرية" والتي عاد الأخير إلى عرضها في عدد أبريل 1988 من مجلة "الهلال" القاهرية بعد أن كان قد سبق له أن فعل ذلك بشكل تفصيلي في كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" (القاهرة، 1981).

* * *

يمكن تلخيص الاستنتاجات التي توصل إليها طارق البشري فيما يلي:

1- أن الحركة الشيوعية المصرية قد عرفت اليهود مؤسسين لها أو مندوبين للأممية الشيوعية أو مسؤولين في هيئات الأممية المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. 2- أن الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني. 3- أن التوجه اليهودي الأجنبي إلى الحركة الشيوعية المصرية، بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية، كان جزءاً من سعي الجاليات الأجنبية في مصر إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية. 4- أن جانباً من الصراع السياسي داخل الحركة الشيوعية المصرية يجد تفسيره في سعي العناصر اليهودية الأجنبية داخل الحركة إلى استبقاء هيمنتها على الحركة في مواجهة الكوادر المصرية.

وقد استند طارق البشري، في التوصل إلى هذه الاستنتاجات، إلى كتب رفعت السعيد عن "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية"، وإلى كتاب الأستاذ محمد سيد أحمد: "مستقبل النظام الحزبي في مصر" (القاهرة، 1985).

ومن بين هؤلاء الكتاب الثلاثة، فإن رفعت السعيد كان الوحيد الذي اعترض على تفسير طارق البشري لما كتبه حول دور اليهود في الحركة الشيوعية المصرية (رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1940 إلى 1950، شركة الأمل، القاهرة، 1988، ص6)، إلا أنه لم يناقش الاستنتاجات التي توصل إليها طارق البشري، وكأنها لا تستحق المناقشة، رغم أن رفعت السعيد يقرر أن الأخير اتخذ من كتاباته – كتابات رفعت السعيد – "مادة للدعاية المضادة لليسار" (المصدر السابق، ص5). ويبدو أن رفعت السعيد لا يقدر هذه الدعاية على نحو ما يجب، خاصة عندما يبادر بها مؤرخ واسع النفوذ مثل طارق البشري.

وسوف نحاول في السطور التالية مناقشة استنتاجات طارق البشري والتي أوحت بها إليه كتابات المذكورين.

* * *

1- عرفت الحركة الشيوعية المصرية اليهود الأجانب مؤسسين لها أو مندوبين للأممية الشيوعية أو مسؤولين في هيئات الأممية المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. هذا صحيح. فعلى سبيل المثال، كان جوزيف روزنتال واحداً من مؤسسي الخلايا الشيوعية في مصر بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، وكان روبرت جولدنبرج سكرتيراً للجنة القاهرة للحزب الشيوعي المصري الأول، وكان أ. أفيجدور و أ. ن. تيبير (الشهير تحت الاسم الحركي أ. شامي) (1893-1942)، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني من عام 1922 وعضو الحزب الشيوعي السوري في عامي 1925 و 1926 ومندوب اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في عامي 1927 و 1928 والأستاذ بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق حتى عام 1929، مندوبين للجنة التفيذية للأممية الشيوعية لدى الحزب الشيوعي المصري الأول، وكان فولف ب. آفيربوخ (الشهير تحت الاسمين الحركيين أبو زيام وحيدر) (1893-1941)، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني اعتباراً من عام 1922 والسكرتير العام للحزب المذكور بين عامي 1923 و 1930 وأحد مسؤولي الأممية الشيوعية بين عامي 1931 و 1935، مسؤولاً عن القسم العربي بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق خلال أوائل الثلاثينيات، وكان ف. أ. روتشتاين (1871-1953)، مؤلف كتاب "خراب مصر" (1910)، وكتاب "الإنجليز في مصر" (1925)، من كبار الكتاب الروس الذين وجهت تحليلاتهم جانباً من مواقف الكومنترن تجاه مصر.

هؤلاء جميعاً كانوا يهوداً، وكان هناك يهود آخرون لعبوا أدوراً أقل شأناً.

على أن الحركة الشيوعية المصرية قد عرفت كذلك – وهو ما لا يمكن أن يجهله طارق البشري – الشوام المسيحيين واليونانيين والقبارصة والأرمن والإيطاليين والسويسريين، بل واليابانيين والبلغاريين مؤسسين لها أو مندوبين للجنة التنفيذية للأممية الشيةعية أو مسؤولين في هيئات الأممية - المؤقتة و الدائمة- المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. ومن المؤكد أن طارق البشري يعرف أن اللبناني المسيحي أنطون مارون (1885-1925)، المحامي والصحفي اللامع، كان أحد منظمي النقابات العمالية المصرية وأحد مؤسسي وقادة الحزب الشيوعي المصري الأول، وأن الياباني "سين كاتاياما"، كان رئيس لجنة المسألة المصرية التي أعدت مشروع قرار المؤتمر العالمي الرابع للأممية الشيوعية (نوفمبر – ديسمبر 1922) بشأن الحزب الاشتراكي المصري، وأن البلغاري جيورجي ديمتروف (1882-1949) كان أحد راسمي توجيهات الكومنترن إلى الشيوعيين المصريين في عام 1935، إلخ، إلخ.

المسألة إذاً ليست مسألة يهود بشكل محدد. بل مسألة طبيعة الحركة الشيوعية بوصفها حركة غير قومية توحد في صفوفها مناضلين من مختلف الجنسيات، دون تمييز بين يهودي أجنبي أو مصري أصيل أو لبناني مهاجر أو يوناني وافد، إلخ.

والحال أن وجود عناصر تنتمي إلى أقليات مختلفة، أجنبية أو محلية، في حركة سياسية كالحركة الشيوعية، ليس ظاهرة استثنائية في التاريخ العربي أو غير العربي.ذلك أن الحركة القومية – التنويرية العربية في الإمبراطورية العثمانية في الشطر الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثلاً، قد عرفت المسيحيين الشوام قادة ومفكرين ومؤسسين لجماعات تنويرية ومناضلين ضد الاستبداد التركي وداعين إلى أفكار القومية العربية، كما عرفت الحركة القومية – التنويرية المصرية في الفترة ذاتها اليهود والشوام المسيحيين قوميين ومنوِّرين.

وقد وجد هذا الواقع التاريخي تفسيراً له في كتابات عدد من المستشرقين، نذكر من بينهم زلمان إيساكوفيتش ليفين وأ. جورافسكي.

وعندما نتحدث عن وجود عناصر من الجاليات الأجنبية في الحركة الشيوعية المصرية خلال الفترة من عام 1918 إلى عام 1958 فإننا نتحدث عن عناصر طليعية من المثقفين وأشباه المثقفين والعمال المنتمين إلى مثل هذه الجاليات لا عن الجماهير الغفيرة للأخيرة. فالواقع أن هذه الجماهير، لأسباب اجتماعية – سياسية تاريخية محددة، قد ظلت خارج الحركة الشيوعية المصرية، بل واتخذت منها موقفاً عدائياً من خلال اندراجها – على الأغلب – في حركات قومية مناوئة للشيوعية. وكانت نسبة المناضلين المنتمين إلى الجاليات الأجنبية في الحركة الشيوعية المصرية إلى المناضلين المصريين أقل من نسبة إجمالي أفراد الجاليات الأجنبية إلى عدد السكان المصريين. وكان هؤلاء المناضلون الأجانب يمثلون نسبة لا تكاد تذكر من أفراد الجاليات الأجنبية التي ينتمون إليها.

وعندما بدأ تكوين الخلايا الشيوعية الأولى في مصر عام 1918 كان العدد الإجمالي لأفراد الجاليات الأجنبية نحو 330 ألف نسمة في بلد يبلغ تعداد سكانه 13 مليون نسمة. وكان من الطبيعي أن تندرج أعداد من أفراد هذه الجاليات في صفوف الحركة الشيوعية، مثلما اندرجت أعداد أخرى – بدرجة أعلى بكثير – في حركات سياسية أخرى كالحركة القومية الأرمنية أو الحركة الفاشية الإيطالية أو الحركة الصهيونية اليهودية.

والواقع أن وجود اليهود في الحركة الشيوعية، خاصة في بداياتها، ليس قاصراً على الحركة الشيوعية المصرية. فقد عرفت الحركات الشيوعية في العديد من البلدان التي توجد بها أقليات يهودية محلية أو يهود أجانب ظاهرة اندراج مثقفين وأشباه مثقفين وعمال متقدمين في صفوفها. وقد أشار ليون تروتسكي (1879 – 1940) إلى هذا الواقع في عام 1939 حيث أوضح أن اليهود في مثل تلك البلدان "يشكلون أشباه أجانب، غير مستوعبين بالكامل، منفصلين عن الموروثات القومية للشعوب التي يحيون بينها، وينتمون إلى كل اتجاه انتقادي جديد، ثوري أو شبه ثوري، في السياسة، والفن، والأدب، إلخ".

باختصار، لا يجب التوقف عند واقع وجود عناصر يهودية أجنبية في الحركة الشيوعية المصرية، خاصة في بداياتها، بل يجب الانتقال من رصد هذا الواقع إلى محاولة تفسيره، وهذا يجرنا إلى ثاني استنتاجات طارق البشري.

2- في تجاهل تام لتفسير كذلك الذي قدمناه، يزعم طارق البشري أن "الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني في منطقة المشرق العربي".

هذا إذاً هو تفسيره، أو أحد تفسيراته، للوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية.

يستند طارق البشري في هذا التفسير إلى واقع رئيسي: تأييد أغلب الكوادر اليهودية داخل الحركة الشيوعية المصرية، خاصة في عامي 1947 و 1948 لقرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين.

ولابد من التساؤل: هل كان هذا التأييد صادراً عن عقيدة صهيونية لدى هذه الكوادر أم كان صادراً عن ذيلية هذه الكوادر السياسية تجاه البيروقراطية السوفييتية التي أيدت هذا القرار؟

لقد أيدت أحزاب ستالينية عديدة، ليست تحت سيطرة كوادر يهودية، هذا القرار، وكذلك فعلت كوادر ستالينية مصرية غير يهودية. بينما عارضته – في البداية على الأقل – كوادر ستالينية يهودية في الحركة الشيوعية المصرية. هذا واقع تاريخي.

ورغم أننا لا نستبعد حدوث اختراق صهيوني تخريبي للحركة الشيوعية في عدد من بلدان المشرق العربي ومصر، إلا أننا نعتقد أن تأييد غالبية الكوادر اليهودية لمشروع إنشاء دولة يهودية في فلسطين كان صادراً عن الذيلية السياسية لهذه الكوادر تجاه ستالين، الذي لم يكن، بطبيعة الحال، يهودياً، بل والذي يمكن التأكيد على أنه كان معادياً للسامية.

وحيث أن هذه القيادات لم تكن تتمتع بأية سيطرة ذات وزن على القطاعات الرئيسية للحركة الجماهيرية، فإنها لم تخف من خسارة هذه مثل هذه السيطرة – غير الموجودة – إذا أيدت موقف ستالين، وكان شاغلها الرئيسي هو السيطرة على الحلقات التي كانت تتزعمها والتي ربتها على روح الولاء لخط "الأخ الأكبر".

ومن ناحية أخرى فإن الكوادر اليهودية داخل الحركة التروتسكية العالمية، وعلى رأسها أرنست ماندل وييجال جلوكشتاين (الشهير تحت اسم توني كليف) قد اتخذت موقفاً أممياً عند تفجر النزاع العربي – الصهيوني في عامي 1947 و1948 ووقفت ضد قرار تقسيم فلسطين وشجبت اعتراف ستالين بالدولة الصهيونية.

المسألة إذن ليست مسألة يهود، بل مسألة سياسة. وقد كانت سياسة غالبية الكوادر الستالينية اليهودية تجاه النزاع المذكور سياسة انتهازية غير ماركسية.

3- أما التفسير الثاني الذي يقدمه طارق البشري للوجود اليهودي في الحركة الشيوعية المصرية بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر في عام 1937 فهو أغرب من التفسير الأول.

يزعم طارق البشري أن التوجه اليهودي الأجنبي إلى الحركة الشيوعية المصرية كان جزءاً من سعي الجاليات الأجنبية إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية.

لقد سبق أن أشرنا إلى أن الجماهير الغفيرة للجاليات الأجنبية في مصر قد ظلت خارج الحركة الشيوعية، بل واتخذت منها موقفاً عدائياً، وقد عبرت صحافة هذه الجاليات الصادرة في مصر عن هذا العداء مراراً، كما أن جماهير هذه الجاليات الغفيرة كانت غارقة، بحكم تكوينها الاجتماعي، في حركاتها القومية الخاصة: كان هذا حال الأرمن ولا يزال حالهم إلى اليوم وكان هذا هو حال غالبية أفراد الجالية الإيطالية التي راهنت على موسوليني، خاصة بعد نجاح غزو الحبشة، وكان هذا هو حال جانب غير قليل من اليهود الأجانب الذين راهنوا على اقتراب تحقق المشروع الصهيوني في فلسطين، إلخ.

ومن ناحية أخرى، فإن ميل الجاليات الأجنبية إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية قد فرض على هذه الجاليات تأييد اليدكتاتوريات المصرية التي كانت تقمع كل تحرك جماهيري مضاد للامتياز الاجتماعي – الاقتصادي، سواء كان مصرياً أو أجنبياً. ومن غير المفهوم أن يتوجه الأجانب في مصر إلى الحركة الشيوعية – التي لا تخفي عداءها للامتياز الاجتماعي – الاقتصادي، خاصة الأجنبي – سعياً إلى... تأمين امتيازاتهم.

إن التفسير الذي يقدمه طارق البشري ليس سوى لغز نرجو أن يتمكن من تفسيره.

لقد كان الرهان الرئيسي للجاليات الأجنبية المتميزة في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، مثلما كان قبلها، يتمثل في تأكيد السيطرة البريطانية على البلاد وفي تأييد وجود جيش الاحتلال.

لقد تدفق الأجانب على مصر مع عملية استعمار مصر، خاصة بعد الاحتلال البريطاني في عام 1882 وأخذت الجماهير الغفيرة لهذه الجاليات في النزوح عن مصر بشكل جماعي بعد جلاء الجيش البريطاني في عام 1956.

ذلك واقع تاريخي معروف للجميع، ولا ندري لماذا اختار طارق البشري تجاهل مغزى هذا الواقع وراح يتحدث عن رهان الجاليات الأجنبية على... الحركة الشيوعية.

4- يزعم طارق البشري أن جانباً من الصراع السياسي داخل الحركة الشيوعية المصرية في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يجد تفسيره في سعي العناصر اليهودية الأجنبية داخل الحركة إلى استبقاء هيمنتها على الحركة في مواجة الكوادر المصرية.

هذا الاستنتاج ضروري لتعزيز مجمل استنتاجات طارق البشري السابقة حول أهداف الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية.

ولا ندري لماذا يتحدث طارق البشري عن "الصراع السياسي" داخل الحركة الشيوعية المصرية بينما يعرف الجميع أن صراعات الفصائل الستالينية الداخلية كانت في أغلبها صراعات مبتذلة – ومريرة للأسف – بين حلقات وشيع وتجمعات معزولة عن القطاعات الرئيسية للحركة الجماهيرية؟

إن الصراع على الصدارة، في ظرف كهذا، لا يحتاج تفسيره إلى البحث عن "مذنب" يهودي، فقد كان الجميع "مذنبين"، وكان الجميع غائبين عن دور القائد السياسي الفعلي للطبقة العاملة المصرية.

والحال أن غياب حركة شيوعية ذات نفوذ رئيسي داخل الحركة العمالية هو من الأمور التي تشجع على الصراعات الفصائلية غير المبدئية وغير المسؤولة وعلى ميول كسب الصدارة داخل الحلقات وعلى احتداد الانقسامات وتزايد الانشقاقات اللامبدئية. ولا تتراجع هذه الظواهر السلبية إلا عندما تكون هذه الحركة الشيوعية حركة مسؤولة أمام جماهير عريضة. ولم تكن الحركة الستالينية المصرية حركة مسؤولة أمام جماهير عريضة ولم تكن هذه الجماهير مهتمة بالوقوف على النزاعات الفصائلية داخل صفوف الحركة الستالينية لأنها لم تكن تتحسس خطورة هذه النزاعات على حركتها التي لم ينجح الستالينيون المصريون في تحقيق انغراس مؤثر ومستقر في صفوفها.

وبسبب افتقار غالبية كوادر الحركة الستالينية إلى تربية أممية، فقد كان من السهل على الزعماء المتنازعين إذكاء الشوفينية القومية داخل الحلقات، سعياً إلى كسب الصدارة، وتبادل الاتهامات فيما بينهم، في الوقت نفسه، بخيانة الأممية البروليتارية.

لقد بينا زيف تفسيرات طارق البشري للوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية، ومع سقوط هذه التفسيرات يسقط، كذلك، تفسيره للنزاعات الفصائلية داخل الحركة.

مسائل منهجية:

لا شك أن طارق البشري يدرك جيداً أن التحقق من صدق رواية ما عن موضوع تاريخي ما وصحة نسب وثيقة ما هو من المقومات الأساسية للبحث التأريخي.

ورغم ذلك، فإن طارق البشري لم يهتم بإجراء مثل هذا التحقق في موضوع "اليهود والحركة الشيوعية المصرية". وسوف نكتفي للتدليل على ذلك بإيراد مثالين:

1- ينقل طارق البشري رواية عبد الرحمن فضل – التي أدلى بها الأخير لرفعت السعيد، حسب زعم رفعت السعيد – عن تجربته في موسكو.

وفي هذه الرواية، يتحدث عبد الرحمن فضل عن أبو زيام باعتباره "يهودياً عربياً، كان ينفذ الأغراض الصهيونية". وقد ذكر عبد الرحمن فضل أن أبو زيام قد أبعد عن الكومنترن في عام 1935 ضمن "70 شخصاً صهيونياً"، الأمر الذي اعتبره عبد الرحمن فضل تأكيداً لمخاوف وشكوك الشيوعيين العرب تجاه أولئك الأشخاص.

لا يتحرى رفعت السعيد صدق هذه الرواية. إنه يكتفي بإثباتها دون إثارة أي شكوك حولها. وطارق البشري – للأسف! – يفعل الشيئ نفسه، ويرتب عليها جانباً من استنتاجاته!

والحال أن هذه الرواية زائفة من أساسها.

فأولاً، لم يكن أبو زيام يهودياً عربياً، بل كان يهودياً روسياً. وقد سبق أن أشرنا إلى اسمه الحقيقي.

وثانياً، رغم أن أبو زيام قد أُعدم في عام 1941 بتهمة العمالة للاستعمار والدعوة للصهيونية، إلا أنه قد أنكر هذه التهمة. وجرى رد الاعتبار إليه رسمياً في عام 1957.

2- يسلم طارق البشري بادعاء رفعت السعيد أن الوثيقة التي تحمل عنوان "المشكلة الفلسطينية" ترجع إلى قلم هنري كورييل.

لم يحاول طارق البشري التحقق من صحة نسب الوثيقة المذكورة إلى هنري كورييل، رغم أن ادعاء رفعت السعيد بوجود "دلائل عديدة" على صحة هذا النسب لا يتضمن الإشارة إلى دليل واحد.

بل على العكس، هناك ما يشير إلى عدم صحة هذا النسب.

فأولاً، لا يشير هنري كورييل نفسه في الحديث الذي أجراه معه رفعت السعيد في باريس في 2/4/1973 والذي تحدث فيه الأول عن تطور موقفه تجاه المسألة الفلسطينية، إلى هذه الوثيقة.

وثانياً، لا يشير جيل بيرو، الذي كتب سيرة هنري كورييل وتناول تطور موقفه تجاه المسألة الفلسطينية، إلى هذه الوثيقة، رغم أن جيل بيرو قد اطلع على كامل أرشيف هنري كورييل.

وثالثاً، لا يشير هنري كورييل إلى هذه الوثيقة في الجزء الذي يحمل عنوان: "موقف الحركة المصرية للتحرر الوطني من المشكلة الفلسطينية" من تقريره عن تاريخ الحركة بين عامي 1943 و1948.

ورابعاً، يبدو من الوثيقة أن التحليل الذي تتضمنه للمشكلة الفلسطينية يتوقف عند خريف 1945. وفي تلك الفترة كان كورييل غارقاً حتى أذنيه في التعامل مع مشكلات تنظيمية داخل الحركة المصرية للتحرر الوطني، بشكل كان يتعذر معه عليه التفرغ لإعداد وثيقة عن المشكلة الفلسطينية.

وخامساً، تستند الوثيقة المذكورة إلى مراجع عبرية – ضمن مراجع أخرى – ولم يكن هنري كورييل – في عام 1945 على الأقل إن لم يكن بعد ذلك أيضاً – على إلمام باللغة العبرية.

وسادساً، تتضمن الوثيقة ملاحظات عن كيبوتزات في فلسطين، لا تتوافر إلا لشاهد عيان. والحال أن هنري كورييل لم يكن قد زار فلسطين في الفترة التي ترتبط بها هذه الملاحظات .

وسابعاً، يكشف تحليل بنية الوثيقة أنها لا تمت بصلة لبنية مختلف محررات هنري كورييل. ولو نشرت هذه الوثيقة ضمن مجموعة كتابات هنري كورييل لاكتشف القارئ العادي ذلك.

وثامناً، يعلن هنري كورييل في سيرته الذاتية أنه ورفاقه لم يهتموا بالقضية الفلسطينية خلال الفترة التي من المفترض أن الوثيقة قد كتبت فيها.

وأخيراً، فإن التاريخ الذي ذيلت به الوثيقة تاريخ مزيف، لأن الوثيقة نفسها تستشهد بمراجع صدرت بعد ذلك التاريخ. إننا نكتفي بالمثلين السابقين للتدليل على أن طارق البشري لم يلتزم في موضوع "اليهود والحركة الشيوعية المصرية" بقواعد البحث التأريخي.


مايو 1990







0 التعليقات: