روتشتاين ولينين والمسألة المصرية



بشير السباعي






يعجب المرء أشد العجب عندما يقرأ عدداً من المؤلفات التي صدرت خلال السنوات الأخيرة لباحثين مصريين عن تاريخ الحركة الاجتماعية – السياسية الحديثة والمعاصرة في مصر.



ومصدر هذا العجب هو ذلك الافتقار الملحوظ الذي تشكو منه هذه المؤلفات إلى جانب كبير من المادة الواقعية التاريخية المعروفة، من جهة، وإلى القدرة على التناول العلمي المنسجم والدقيق لموضوعاتها، من جهة أخرى.



ويكفيني الآن أن أشير تأكيداً لهذه الحقيقة، إلى مؤلفات الدكتور رفعت السعيد. فإذا ما توقفنا، مثلاً، أمام الجزء الأول من "تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر"، الذي صار رسالة دكتوراه (ولا أود الآن الحديث عن الترجمة الإنجليزية المقدمة لنيل الدرجة العلمية)، فسوف نجد أنه يفتقر افتقاراً شنيعاً إلى جانبٍ كبيرٍ من المادة الواقعية التاريخية المعروفة، ودليلنا على ذلك أن الكاتب قد أغفل تماماً استخدام كتابات على درجة كبيرة من الخطورة لعدد من القادة الشيوعيين مثل أنطون مارون وروبرت جولدنبرج، حفل بها عدد من الجرائد والمجلات المصرية التي كانت تصدر باللعة الفرنسية في مصر في الربع الأول من هذا القرن، إلى جانب أنه لم يستخدم المادة الموجودة في كتاب أ. شامي: (الحزب الشيوعي المصري)، الصادر باللغة الروسية في موسكو سنة 1929.



والواقع أن المادة الواقعية التاريخية التي تشتمل عليها هذه المصادر من شأنها، لو استخدمت، أن تكشف عن جوانب أساسية في تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر. وطبيعي أن إغفال هذه المادة لابد وأن ينعكس انعكاساً سلبياً على التحليل العلمي.



وقد تسبب إغفال رفعت السعيد لهذه المادة في توريطه توريطاً شديداً. وعلى سبيل المثال، فإن ما ينشره على أنه نص رسالة جوزيف روزنتال إلى الجرائد المصرية، ليس غير جزء فقط من الرسالة، والتي نشر نصها الكامل باللغة الفرنسية في صحيفة (لابورص إيجيبسيين) التي كانت تصدر في الإسكندرية.



كما تفتقر دراسة رفعت السعيد إلى التناول العلمي المنسجم والدقيق. والمسؤول عن ذلك إلى حد بعيد هو رفعت السعيد نفسه، الذي لا يعرف كيف يميز الماركسية من الإصلاحية، ويكفي دليلاً على ذلك اعتباره مصطفى حسنين المنصوري ماركسياً، في حين أن كتابات الرجل نفسها تثبت أنه كان من أتباع هنري جورج الذي انتقده ماركس وإنجلز ولينين انتقاداً شديداً، إلى جانب أن عدداً من المستشرقين المرموقين قد بينوا افتراق (اشتراكية) المنصوري الواضح عن الماركسية، وأذكر من بين هؤلاء المستشرقين، المستشرق السوفييتي زلمان إساكوفيتش ليفين، والمستشرق الألماني الشرقي جيرهارد هيوب.



على أية حال، أنا لا أنوي إخضاع كتابات رفعت السعيد التاريخية لنقدٍ شامل في هذا المقال. فكل ما في الأمر أنني أردت أن أسوق مثالاً لعدد من الدراسات التاريخية المعيبة بمناسبة المقال الذي نشره الدكتور سيد عشماوي في الجزء الأول من مختارات "الثقافة الوطنية".



وأنا لن أعلق على كل ما كتبه الدكتور عشماوي في مقاله، بل سأكتفي بتناول أمرين: أولهما ما ذكره عن ف. أ. روتشتاين (وليس روذستين كما اعتاد مترجمونا ومؤرخونا الكتابة) وثانيهما: ما ذكره عن عرض لينين مساعدة ثورة 1919.
بالنسبة إلى الأمر الأول، أجد أن ما أورده الدكتور عن روتشتاين غير كافٍ، من ناحية، وغير دقيق في جانب منه، من ناحية أخرى. غير كافٍ، لأنه يغفل الإشارة إلى جوانب من نشاط روتشتاين لها صلتها الوثيقة بموقف البلاشفة – اللينينيين من المسألة المصرية، ومن الحركة القومية – التحررية المصرية، ومن مختلف طبقات وفئات المجتمع المصري غداة ثورة 1919.



ومعظم ما أورده الدكتور عن روتشتاين مأخوذ عن مقدمة الترجمة العربية الأولى لكتاب (خراب مصر)، الذي كان قد نشره روتشتاين باللغة الإنجليزية في لندن في سنة 1910. ومن هذه الزاوية، فإن الدكتور عشماوي قد كرر ما فعله من قبله عشرات المؤرخين والكتاب المصريين دون أن يورد جديداً.



وما أود أن ألفت الانتباه إليه وأنا أتحدث عن جوانب من نشاط روتشتاين يغفلها مؤرخونا وكتابنا هو ذلك الجهد العلمي والدعائي الذي قام به روتشتاين بعد عودته إلى روسيا سنة 1920 ، حيث واصل متابعته للمسألة المصرية وأثمرت هذه المتابعة إضافة فصول جديدة إلى كتاب (خراب مصر) والذي صدرت طبعته الروسية الأولى في موسكو سنة 1925 تحت عنوان "انتزاع واستعباد مصر"، وإصدار كتاب جديد في موسكو في السنة نفسها تحت عنوان (الإنجليز في مصر) ومن المحزن أن معظم مؤرخينا لا يعرفون شيئاً عن هذه الفصول الجديدة، التي يواصل فيها روتشتاين تحليله للمسألة المصرية حتى منتصف العشرينيات ولا عن الكتاب الأخير.



ومن ناحية أخرى، فإنني أعتبر ما أورده الدكتور عن روتشتاين غير دقيق، في جانب منه. فليس صحيحاً، مثلاً، أن روتشتاين قد هاجر إلى لندن سنة 1893، بل سنة 1890، كما أنه لم يكن سكرتيراً خاصاً للينين، إذ عمل الرجل غداة عودته إلى روسيا، تحديداً منذ سنة 1921 وحتى سنة 1930، في السلك الدبلوماسي السوفييتي. وعلى أية حال، فإن بالإمكان الرجوع إلى دراسة ن. أ. بروفييف عن روتشتاين، المنشورة في موسكو سنة 1960، بعد سبع سنوات من وفاة روتشتاين، في مجموعة (الإمبريالية وكفاح الطبقة العاملة. إحياءً لذكرى الأكاديمي ف. أ. روتشتاين) إذا كنا نريد الوقوف على المعلومات الأساسية والدقيقة عن الرجل.



أما بالنسبة إلى الأمر الثاني والخاص بما ذكره الدكتور عشماوي عن موقف البلاشفة – اللينينيين من ثورة 1919، فإن من الواضح أن لينين وتروتسكي والقادة البلاشفة الآخرين قد أيدوا الحركات التحررية للأمم والشعوب المضطهدة ضد مختلف القوى الإمبريالية ومن أجل حق تقرير المصير. وبهذا المعنى، يكون صحيحاً تماماً أن يقال أن لينين قد أيد ثورة 1919 وانتفاضة 1921.



لكن ما نختلف مع الدكتور عشماوي فيه هو ما يذهب إليه من أن لينين قد (عرض على الوفد المساعدة وتدعيم نضال حركته).



فأولاً: لا توجد وثيقة لينينية واحدة بين أعمال لينين الكاملة التي اكتمل صدور طبعتها الروسية الخامسة منذ سنوات في 55 مجلداً، ولا في أجزاء (المجموعة اللينينة) التي صدرت حتى الآن منذ اكتمال نشر الطبعة الروسية الخامسة لأعمال لينين الكاملة، وهي مخصصة لنشر كتابات لينين التي لم يسبق لها النشر، تشهد على أن لينين قد قدم مثل هذا العرض.
وثانياً: لا توجد في كتب المذكرات الروسية، ولا في الكتابات التاريخية السوفييتية عن لينين، أو عن الكومنترن، أو عن الحركات القومية – التحررية في الشرق، إشارة واحدة إلى أن لينين قد قدم مثل هذا العرض.



وثالثاً: فقد ذكر لي المستشرق السوفييتي شرباتوف سنة 1969 أنه لا توجد أي وثائق لينينية تفيد أن لينين قد قدم عرضاً كهذا. وقال لي بالحرف الواحد ( إذا كان لدى المؤرخين المصريين وثائق تفيد ذلك، فلماذا لا يقومون بإعلانها؟).
ورابعاً: فإن الدكتور عشماوي يناقض نفسه، فهو يقول أن لينين قد قدم هذا العرض سنة 1919، ثم يعود بعد ذلك إلى الاستشهاد بأقوال علي إسماعيل الذي يقول أن هذا العرض قد وصل إلى سعد زغلول في جبل طارق، أي سنة 1922.
وخامساً: وهذا هو الأهم، فإننا نستبعد تماماً أن يكون لينين قد عرض ... على الوفد مساعدة وتدعيم نضال حركته، وذلك لسبب جد بسيط: ألا وهو أن لينين لم يكن على استعداد لتدعيم نضال حركة حزب كحزب الوفد.



إن هدف اقتراب الشيوعيين الثوريين من بروليتاريا وشعوب الشرق، لم يكن من الممكن، في تصور لينين، التوصل إليه عن طريق تدعيم نضال حركة القوميين الليبراليين في الشرق. وقد حدد جوليان، مقرر لجنة المسألة الشرقية، أمام المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن سنة 1921، قبل أشهر قليلة فقط من نفي سعد زغلول إلى سيشل ثم إلى جبل طارق، موقف الكومنترن من هؤلاء القوميين، حيث أعلن أن الشيوعيين لن يتمكنوا من الاقتراب من شعوب وبروليتاريا الشرق إلا إذا حققوا القطيعة مع الطبقات القوموية. وقد دعا إلى كشف القوميين وإلى البدء في اللحظة اللازمة بتحقيق قيادة شيوعية للحركة التحررية في تزاحم مع القادة القوميين وضد هؤلاء القادة. (انظر: المؤتمر العالمي الثالث للأممية الشيوعية، بتروجراد، 1922، صفحة 479). والمعروف أن لينين، الذي شارك في أعمال المؤتمر الثالث للكومنترن، لم يعترض على تقرير جوليان. ومن ناحية أخرى، فإننا نتساءل: كيف يمكن للكومنترن الذي أجاز تقريراً كهذا أن يرسل مندوبه إلى جبل طارق لبحث دعم حركة الوفد؟.



بقيت نقطة أخيرة: ليس هناك ما يدعو إلى استسهال التأمين على كل كلمة يقولها مارسيل إسرائيل، مثلما يفعل الدكتور رفعت السعيد. فليس صحيحاً، مثلاً، أن لينين كان يرسل كل رسائله إلى الحزب البلشفي عن طريق مصر(!)، لأن طرق اتصال لينين مع الحزب كانت عديدة، بل إن طريق الإسكندرية كان واحداً من طرق عديدة لوصول الإيسكرا إلى روسيا. وهذه الطرق العديدة مبينة على الخرائط المنشورة في الكتب الروسية عن جريدة الإيسكرا وعن تاريخ الحزب البُلشفي.



(مجلة "الثقافة الوطنية"، القاهرة، فبراير 1989)

2 التعليقات:

شريف الصيفي يقول...

مقال جيد يا أستاذنا أعجبني .... تحياتي

مصطفى محمود يقول...

احييك يا استاذنا على المهنية قبل اى شىء .