حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عامي 1938 و 1948

(1)

بشير السباعي

1987

يبدو أن وصف "تروتسكيين" قد استُخدم لأول مرة في السجالات الكلامية في أوساط اليساريين المصريين في أواخر الثلاثينيات. وقد استُخدم هذا الوصف من جانب عناصر ستالينية في سجالاتها غير المبدئية مع عناصر ستالينية أخرى. كما استُخدم من جانب مختلف الجماعات الستالينية في سجالاتها مع عناصر يسارية مصرية مناهضة للستالينية، في وقت أو آخر ومن منطلقات مختلفة، دون أن تكون منتمية إلى الأممية الرابعة أو دون أن تكون تروتسكية أرثوذكسية, فخلال الفترة الممتدة من عام 1938 إلى عام 1948 لم يكن للتروتسكية وجود ملحوظ في المشرق العربي إلا في فلسطين.

ويبدو أن أول من استخدم وصف "تروتسكيين" للإشارة إلى خصومه هو الستاليني السويسري المعروف بول جاكو ديكومب ورفاقه وتلاميذه (انظر، أحمد صادق سعد: صفحات من اليسار المصري. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، 1945 – 1946، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1976، ص 40).

ويرتبط اسم بول جاكو ديكومب في تاريخ الحركة اليسارية المصرية بـ "الرابطة السلمية" التي يذكر جيل بيرو أن كثيرين من المثقفين الأجانب والمتمصرين قد انضموا إليها خلال الفترة الممتدة من عام 1934 إلى عام 1939 (انظر، جيل بيرو: هنري كورييل، رجل من طراز فريد، دار النضال، بيروت، 1986، ص 93).

والحال أن "الرابطة السلمية" قد ارتبطت بالتيار الذي كان قد انبثق عن مؤتمر أمستردام الدولي لمناهضة الحرب والذي كان قد انعقد في أغسطس 1932 تحت هيمنة قوية من جانب الستالينيين، في ذات الوقت الذي انعقد فيه في موسكو الاجتماع الموسع الثاني عشر للجنة التنفيذية للكومنترن الستاليني، وهو الاجتماع الذي قلل من خطر الفاشية في ألمانيا واستبعد مهمة إنشاء جبهة عمالية متحدة تستند إلى تحالف الشيوعيين والاشتراكيين الديموقراطيين لدرء هذا الخطر مؤكداً، شأنه في ذلك شأن الاجتماع الموسع الذي سبقه، على ضرورة "توجيه الضربة الرئيسية ضد الاشتراكية الديموقراطية" (انظر: Institute of Marxism – Leninism, Central Committee of the CPSU, Outline History of The Communist International, Progress Publishers, Moscow, 1971, PP. 328 – 329.

ومثلما استبعد الستالينيون مهمة إنشاء جبهة عمالية متحدة لدرء خطر الفاشية، فإنهم قد استبعدوا أيضاً – في مؤتمر أمستردام – هذه المهمة لدرء خطر الحروب وآثروا التحالف مع دعاة المسالمة، والبورجوازيين الليبراليين في البلدان الرأسمالية المتقدمة، والبورجوازيين القوميين الليبراليين في البلدان المستعمرة. وقد سخر تروتسكي في سبتمبر 1932 من مسلك الستالينيين في مؤتمر أمستردام وكتب: "في وجه الحرب، صوت الستالينيون إلى جانب قرار دبلوماسي وحذر ورخو في أمستردام، اقترحه الجنرال فون شوينايخ، والماسون الأحرار الفرنسيون، والبورجوازي الهندي باتيل، الذي يعتبر غاندي مثله الأعلى" (Leon Trotsky, The Spanish Revolution 1931-1939, Pathfinder Press, New York, 1973, P. 185).

وكان الجنرال بول فون شوينايخ (1886-1954) أحد ضباط البحرية من اليونكرز الألمان ثم تحول إلى واحد من دعاة المسالمة ونشر في الصحف الألمانية مقالات متعاطفة مع روسيا الستالينية، بينما شكل الماسون الأحرار الفرنسيون، ذوو التقاليد الليبرالية، حلقة وصل بين الحركة الاشتراكية والجناح اليساري للبورجوازية. وقد نظر إليهم تروتسكي على أنهم يشكلون آلية لإفساد الحركة الاشتراكية. أما فالابهبهاي باتيل (1877-1950) فقد كان أحد ممثلي البورجوازية الهندية، وقد صار عضواً في الحكومة بعد إعلان استقلال الهند (انظر، (Ibid., P.414).

والحال أن نشاط "الرابطة السلمية" التي أسسها ديكومب في مصر قد عكس الموقف الأصلي الذي كان الستالينيون قد اتخذوه في مؤتمر أمستردام والذي شجبه تروتسكي. فبدلاً من الاتجاه إلى الجماهير الرازحة تحت نير الإمبريالية البريطانية، حرصت "الرابطة السلمية" على توثيق الأواصر مع عدد من الزعماء الوفديين وشخصيات من الحركة النسائية البورجوازية وعلى ترتيب لقاءات بين زعماء حزب الوفد المصري وحزب المؤتمر الهندي (انظر: د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، 1940-1950، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1976، ص 167). وبعبارة أخرى، فإن "المدخل إلى الجماهير لم يكن ليمر عبرها" (جيل بيرو، مصدر سبق ذكره، ص 93). "ومن الطبيعي أن عملها ظل في دائرة محصورة من الأجانب في هذا الوقت. فعدو مصر كان الاستعمار البريطاني، وكان من الصعب على المواطنين العاديين أن يهتموا بعدو آخر... كانت بعض الاتجاهات الثورية الوطنية المعارضة لأسلوب المفاوضات ترى في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأسلوب الرئيسي – وقد يكون الوحيد – الناجح لطرد المستعمرين. ولذلك لم يكن التيار الوطني يرتاح إلى المناداة بالسلام ويفهمها على أنها تحبذ الأساليب السلمية فقط ويعتبرها استسلاماً للاستعمار" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 39).

وطبيعي أن رابطة كهذه كان من المستحيل تماماً أن تتسع لأية توجهات سياسية تروتسكية في مجال درء خطر الحرب. ولم يكن هناك ما يدعو أية عناصر تروتسكية محتملة إلى التفكير، مجرد التفكير، في الانتماء إلى رابطة كهذه تتميز، علاوة على ذلك، بعزلتها الشديدة عن الجماهير العمالية المصرية.

والحال أن خلافاً قد نشب في أواخر الثلاثينيات داخل "الرابطة" - عشية حلها – وضع راءول كورييل وريمون أجيون ومارسيل إسرائيل وآخرين في مواجهة مع ديكومب الذي اتهموه بحصر نشاط الرابطة ضمن أطر ضيقة، خاصة وأن ديكومب قد رفض اقتراحاً قدمه مارسيل إسرائيل بضم مجموعة من الإيطاليين المناهضين للفاشية إلى الرابطة. وقد اتهم راءول كورييل وأصدقاؤه ديكومب بالعصبوية الناشئة – في جانب منها – عن ميل الأخير إلى رؤية عملاء استفزازيين في كل مكان. وقد اعترف ديكومب بأن راؤول كورييل وأصدقاءه حاولوا توسيع مجال الرابطة وقال: "أنا خشيت أن يهدد نشاطهم كيان الجمعية (يقصد "الرابطة السلمية") وأن يكشفنا البوليس السري" (انظر، د. رفعت السعيد: الصحافة اليسارية في مصر 1925 – 1948، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1977، ص 109). وقد سارع راءول كورييل وأصدقاؤه إلى تقديم استقالاتهم من الرابطة في أواخر عام 1938. لكن ديكومب رفض قبول استقالاتهم وقام بدلاً من ذلك بفصلهم بتهم مثل عدم الانضباط و"عدم تسديد اشتراكاتهم" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 40) وأعقب ذلك وصفهم بأنهم "تروتسكيون". وكانت تلك هي المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا الوصف في سياق خلافات بين يساريين مصريين. وبعد نحو ثمانية وثلاثين عاماً من فصل راءول كورييل وأصدقائه، وصفهم أحمد صادق سعد (ولد عام 1919) أحد تلامذة ديكومب، بأنهم كانوا يمثلون "مجموعة تروتسكية" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 40)، بينما اعتبر د.عبد العظيم رمضان هذا الكلام "على جانب كبير من الأهمية التاريخية" (د. عبد العظيم رمضان: "مقدمة تحليلية"، انظر، أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص21).

لماذا هذا الوصف بالتحديد دون سواه؟

يتبع

0 التعليقات: