ردود بشير السباعي على أسئلة من الصحافي سيد محمود

(31 مايو 2011)

- هل تقبل الرأي الذي راج في فلسفة ما بعد الحداثة بشأن انتهاء المرويات الكبرى وعلى رأسها المروية الماركسية؟

- كانت ما بعد الحداثة موضة ثقافية للعقدين الأخيرين من القرن الماضي. وعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة بدت آنذاك مصطلحاً لا يتميز بمعنىً محدد، إلا أن بالإمكان رصد مكونات رئيسة لها، لا يهمني منها هنا سوى الاستنتاج الريبيّ الذي انتهى إليه جان ليوتار فيما يتعلق بالمعرفة المعاصرة، فهو يرى أنها تتخذ شكلاً متشظياً باطراد، دون أي ادعاءٍ بالوصول إلى الحقيقة أو التماسك العقلاني. وهو استنتاجٌ يعني انتهاء "المرويات الكبرى" وانتهاء المشروع الذي بدأ مع التنوير الفرنسي، وهو مشروعٌ واصله ماركس مواصلةً نقدية، تمهيداً لبيان مقدمات الإمكانية الواقعية لإنجاز التحرر الإنساني، وهو تحررٌ أعمق معنى من التحرر السياسي والاجتماعي، إذ أنه تحررٌ من كل أشكال الاغتراب.

من جهتي، لا أوافق على الريبيّة الفلسفية لما بعد الحداثة، فإمكانية المعرفة واردة دائماً، ولولا وجود هذه الإمكانية لما أمكن انتاج المعرفة أصلاً، ومشروع التنوير يستند إلى هذه الإمكانية كما يستند إلى إمكانية التحرر، وهي إمكانيةٌ ليست أقل معقولية ولا واقعية من إمكانية الهبوط على المريخ.

ومن جهة أخرى، لم يقدم ماركس مرويةً كبرى لمجمل التاريخ البشري ومسارات تطوره، بل لم يقدم مرويةً كبرى لمجمل تاريخ الغرب، وكل ما فعله هو تقديم منهج لتفسير التاريخ، والمنهج شيء مختلف عن المروية.

يكتب ماركس في رسالة إلى جوزيف فيديماير مؤرخة في 5 آذار/ مارس 1852:

"لا يرجع إليّ أي فضلٍ في اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع الحديث أو الصراع بينها. فقبلي بزمن طويل، كان مؤرخون بورجوازيون قد وصفوا التطور التاريخي لهذا الصراع الطبقي وكان اقتصاديون بورجوازيون قد وصفوا التشريح الاقتصادي للطبقات. أما الجديد الذي قمت به فهو التدليل على 1) أن وجود الطبقات لا يرتبط إلا بمراحل تاريخية خاصة في تطور الانتاج، و 2) أن الصراع الطبقي يقود بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا و 3) أن هذه الديكتاتورية نفسها لا تشكل سوى الانتقال إلى إلغاء جميع الطبقات وإلى مجتمع لا طبقي".

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1877، بعث ماركس برسالة إلى هيئة تحرير مجلة "المذكرات الوطنية" الروسية، سخر فيها من ميخائيلوفسكي على النحو التالي: "إنه يشعر أنه يجب عليه وجوباً مطلقاً أن يمسخ مخططي التاريخي لأصل الرأسمالية في أوروبا الغربية وأن يحوله إلى نظرية تاريخية – فلسفية [ أي إلى "مروية كبرى" بلغة أيامنا. – بشير السباعي ] عن الطريق العام الذي كُتب على كل شعبٍ أن يسلكه، أياً كانت الظروف التاريخية التي يجد نفسه فيها، حتى يتسنى له أن يصل في نهاية الأمر إلى شكل الاقتصاد الذي يكفل أكمل تطور للإنسان، إلى جانب أكبر اتساع للقوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي. لكنني أطلب عفوه".

أين إذاً "المروية الكبرى" الماركسية؟

معروفٌ أن المرويات الكبرى متباينة. خذ، مثلاً، مروية الديانات الإبراهيمية الثلاث عن الخلق والحياة والموت والبعث والحساب والآخرة عموماً، هذه المروية مازالت تحكم تصورات ملايين من الناس عن العالم، تعبيراً عن اغترابهم الروحي، وخذ، مثلاً، المروية المانوية عن صراع الخير والشر، والنور والظلام، إنها مروية آسرة لوجدانات مليارات البشر، وذلك بقدر ما أنها تترجم حالة العالم الذي يحيون فيه والذي لا يقاربونه مقاربةً ماركسية.

الواقع أن ما يقصده دعاة ما بعد الحداثة هو مروية صراع الطبقات، لكن صراع الطبقات الفعلي شيء لا سبيل إلى زواله مادام المجتمع الطبقي قائماً، وما المروية، سواء أكانت دقيقة أم غير دقيقة، غير تعبيرٍ عن الوجود الفعلي للصراع الطبقي، فكيف تسقط إذا كان الصراع الطبقي لم يسقط، بل ازداد حدة؟

- ما تفسيرك للثورة المصرية وما تمر به من تحولات؟

- الثورة المصرية ثورة ضد الليبرالية الجديدة، ضد اقتصاد السوق الحر الذي جر الويلات على غالبية المصريين، دون أن يستفيد منه سوى أوليجاركية بورجوازية زبون للإمبريالية، إنها ثورة ضد الرأسمالية المحسوبية التي استندت إلى نظامٍ سلطويٍ فاسد يمثل هو نفسه تعبيراً عنها وأداةً من أدواتها، بكل ما يملك من ترسانة قوانين استثنائية وسجون ومعتقلات، إلخ.

كانت هبة 25 كانون الثاني / يناير 2011 هبةً شبابية من أجل الحرية السياسية، تحولت منذ اليوم الثامن والعشرين إلى ثورةٍ شعبية تطمح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه كلها طموحاتٌ لا يمكن تحقيقها ضمن أطر المجتمع البورجوازي، فهو مجتمعٌ أساسه الحرمان والتهميش والإقصاء والامتهان للغالبية العظمى من الشعب. ومن ثم فإن تحقيق هذه الطموحات لا يمكن أن يتم إلا عبر تجاوز هذا المجتمع تجاوزاً ثورياً، وهو تجاوز غير ممكن أصلاً من دون قيام سلطة شعبية تعبر عن أهداف الثورة الشعبية.

- ما تفسيرك لظهور أحزاب يسارية في الشارع المصري الآن؟ وهل يمكنها تجاوز أخطاء أحزاب الماضي؟

- لا تعبر هذه الأحزاب إلا جزئياً عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب برنامج التحرر السياسي والاجتماعي، وخياراتها التكتيكية الراهنة المتمثلة في التحالف مع السياسويين الليبراليين البورجوازيين هي خيارات "جبهة شعبية" بورجوازية ليس من شأنها سوى الإسهام في هزيمة الثورة، وتجربة الثورة الإسبانية (1931-1939) درسٌ مفيدٌ لمن يريد أن يتعلم! وإذا كان الفصيل الأكثر جذرية بين صفوف هذه الأحزاب "اليسارية" يؤيد هذا التكتيك الانتهازي فهل يشكل ذلك تجاوزاً لأخطاء أحزاب الماضي؟ بالطبع لا!

- كيف تقرأ صعود التيارات السلفية وقوى الإسلام السياسي الآن؟

- لن تجد في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة والمعاصرة مفكراً بورجوازياً ثورياً واحداً ولن تجد في تاريخ الأحزاب السياسية البورجوازية المصرية يعاقبة. لم تحدث ثورة ثقافية تنويرية، ولم يجر فصل الدين عن الدولة وعن التعليم العام، والحبل متروك على الغارب منذ عدة عقود لسيطرة الإسلاميين على التعليم العام وعلى القضاء وعلى الجانب الأوسع من الإعلام. ونسبة الأمية في بلادنا تتجاوز 30% والتعليم منهار والإعلام فاسدٌ ورجعي وأموال أوليجاركية مجلس التعاون الخليجي تتدفق على الدعوة السلفية سعياً إلى درء خطر الثورة الدائمة. ورجال الأعمال من الإخوان المسلمين يسيطرون على نسبة 40% من المشاريع الاقتصادية في القطاع الخاص المصري والحركة الستالينية أصابها الانحطاط ومجمل منظور الحركة القومية البورجوازية انتهى إلى السقوط والهزيمة والشبيبة البائسة التي لم تحصل على تعليم علماني تتطلع إلى التمسك بأي وهم. وكل هذا، وغيره، يجعل نمو التيارات السلفية والإسلام السياسي تعبيراً عن احتدام التوترات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن أزمة الرأسمالية المعاصرة وبربريتها، ما يقدم دليلاً جديداً على أن الخروج من مستنقع السلفية والإسلام السياسي مرهون بتحطيم الرأسمالية، فالوشائج بين المستنقع والرأسمالية حميمة والجميع يلعبون بالنار ويحاولون تسميم الوعي العام بسموم التعصب الطائفي والعنصرية واحتقار المرأة ويتآمرون على الشبيبة الثورية وحركات الاحتجاج الاجتماعي النبيلة ويهددون المجتمع بالفاشية وبألف أربعاء دامٍ.


0 التعليقات: