ماركس ودستويفسكي







بشير السباعي


على الرغم من أننا لن نعثر لدى ماركس على إشارة واحدة إلى دستويفسكي وعلى الرغم من احتمال ألا نجد عند الأخير إشارة واحدة إلى الأول، فإن من الطبيعي أن نتوقع مساحة ما – بل مساحات عديدة – يتحركان عليها، كلٌ بالشكل الذي يراه مناسبًا.

والمساحة التي يتحدث عنها ألبرتو مورافيا في مقالته "المبارزة بين ماركس ودستويفسكي" ("إبداع"، ديسمبر 1919) هي مساحة "الأخلاق" من حيث شاغل فلسفي محوري. أما حركة كل من ماركس ودستويفسكي على هذه المساحة فهي، في رأي مورافيا، حركة متنافرة. فالاتجاه الذي يسير فيه ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه دستويفسكي. وما ذلك إلا لأن نقطة انطلاق الأول ليست نقطة انطلاق الأخير.

كيف؟

نحن نعرف أن ماركس يرد الأخلاق إلى شروط إنسانية تاريخية ملموسة، وهو، بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون مسيحيًّا، خلافًا لدستويفسكي، الذي يعتبر الأوامر الأخلاقية سرمدية ومنفصلة عن الشروط التاريخية للحياة الإنسانية، فهي أوامر إلزامية أيًّا كانت هذه الشروط. إن دستويفسكي يمكن في - مجال الأخلاق – أن يكون كانطيًّا، وهو ما لا يمكن أن يكونه ماركس.

وإذا انتقلنا من مستوى الأخلاق الفلسفي العام إلى مستوى خاص محدد كمستوى "الشر"، فسوف نجد أن ماركس يرد الشر، أساسًا، إلى الشروط الإنسانية التي يحيا فيها البشر وأن التخلص من الشر يتوقف أساسًا على التخلص من تلك الشروط. فهل يرى المسيحي دستويفسكي رأيًا آخر؟

يزعم مورافيا أن دستويفسكي كان يعتبر الشر حقيقة متأصلة في قلب كل إنسان، ومن ثم فإن من المستحيل التخلص من الشر في هذا العالم. فالتخلص من الشر لا يمكن أن يتحقق إلا بوصول الخلاص المسيحي إلى غايته، أي بعد أن نفارق هذا العالم: إن " الأخوَّة الحقيقية" مستحيلة في هذا العالم.

هنا بالتحديد يتمثل افتراء مورافيا على دستويفسكي. فالأديب الروسي الكبير الذي كتب رواية "الأبله" كان يرى أن "الأخوة الحقيقية" بين البشر هدف يجب السعي إلى تحقيقه في هذا العالم، لأنه هدف ممكن. وبعبارة أخرى، إن الشر ليس حقيقة متأصلة في قلب كل إنسان! وأيًّا كان الافتراق بين ماركس ودستويفسكي فيما يتعلق بسبل تحقيق هذه "الأخوة الحقيقية" بين البشر، فإن كلاًّ من الرجلين لم يتنكر لهدف تحقيقها في هذا العالم.

وبعد الافتراء على دستويفسكي يجيء الافتراء على ماركس. فأخلاق ماركس – وفق مورافيا – هي الأخلاق عينها التي قادت راسكولنيكوف (الشخصية الرئيسية في رواية دستويفسكي: "الجريمة والعقاب") إلى ارتكاب جريمته.

ودون أن نتوقف عند مقارنات مورافيا السخيفة بين دعوة ماركس إلى مصادرة البورجوازية وقتل راسكولنيكوف للمرابية العجوز، نتوقف أمام السؤال التالي:

ما الأخلاق التي قادت إلى تلك الجريمة؟ لن نجد صعوبة في إدراك كنهها إذا ما تتبعنا رؤى راسكولنيكوف عن "الإنسان غير العادي" و"الناس العاديين"، وبالمناسبة، فإن هذه الرؤى قد تشكلت تحت تأثير كتاب نابوليون الثالث (1808 – 1873) "تاريخ يوليوس قيصر" (1865) والذي أثار نقاشًا حادًّا بين صفوف المثقفين الروس فور صدوره. وليس من المصادفات أن أحداث "الجريمة والعقاب" تدور في عام 1865، كما ذكر ذلك دستويفسكي، وهو العام نفسه الذي صدر فيه كتاب إمبراطور فرنسا.

إن أخلاق راسكولنيكوف هي، باختصار، أخلاق تأكيد الصوت الخاص "غير العادي" على حساب أصوات الآخرين "العاديين"، بل وعلى حساب أرواحهم.

ويقدم راسكولنيكوف نفسه لنا نموذجًا لهذا الصوت "غير العادي"، هو صوت نابوليون بونابرت (1769 – 1821). فهذا الأخير "يدمر طولون ويرتكب مذبحة في باريس وينسى الجيش في مصر". وهذه الأحداث كلها، كما نعرف، ليست على مستوى أخلاقي واحد من الزاوية التاريخية، ولا حتى من زاوية وعي بونابرت نفسه، خلال كل حدث منها، بدلالاتها. فالهجوم على طولون في ليل 17 ديسمبر 1793 والذي تكلل بالانتصار في مساء اليوم التالي، كان مأثرة ثورية انتهت بتمريغ علم البوربون الملكي في الوحل وإنقاذ الثورة من تهديد جسيم. أما المذبحة التي ارتكبت في باريس في 13 أكتوبر 1795، فهي إن كانت قد أدت إلى الإجهاز على عصيان الملكيين، الذي شجع عليه التحول إلى اليمين بعد انقلاب 9 ثيرميدور على اليعاقبة، إلا أنها أفسحت السبيل أمام تشجيع الميول البونابرتية. وأمّا نسيان الجيش في مصر في عام 1799 فهو لم يكن إلا بهدف احتكار السطة في باريس.

إن ما يعجب راسكولنيكوف في بونابرت ليس أيًّا من هذه الأدوار المختلفة التي لعبها الأخير، بل بالتحديد، عزم بونابرت على تأكيد الصوت الخاص "غير العادي" على حساب الأصوات الأخرى. ويتذكر راسكولنيكوف أن بونابرت لم ينس الجيش في مصر وحسب، بل أنه بدد أرواح مئات الآلاف من الناس في الحملة على موسكو!

فما الذي يجمع بين هذه الأخلاق والأخلاق الماركسية؟ لاشيء، لاشيء البتة!

إننا لسنا بحاجة للتشديد أكثر من اللازم على ما يعرفه كل مثقف نزيه: إن الأخلاق الماركسية لا تعترف بإهدار أصوات الآخرين "العاديين" لحساب الصوت الفريد "غير العادي". ومن السخف أن يتصور المرء أن ماركس قد تثقف على يدي الإمبراطور الذي كتب سيرة يوليوس قيصر!

وإذا كان ماركس ليس تلميذًا للويس بونابرت، فمن السخف بالمثل اعتباره أستاذًا ليوسف ستالين الذي هو بالمناسبة، بونابرت آخر!

يزعم مورافيا أن الشر الذي اندفع كالسيل من باب الستالينية قد دخل أولاً من نافذة الماركسية: نحن إذًا أمام تعبير جديد عن زعم عتيق: لقد انبثقت الستالينية من الماركسية!

أين الدليل؟ ما من دليل. اللهم إلاَّ إذا اعتبرنا الثيرميدور الستاليني إنجازًا لمُثِل ثورة أكتوبر!

لكن الثيرميدور الستاليني هو، بحكم التعريف، حافر قبر تلك الثورة: إن "انبثاق" الستالينية من الماركسية هو انبثاق النفي لا الإثبات.

وبهذا المعنى، يصبح كبت ستالين لإبداع دستويفسكي أمرًا مفهومًا: إنه جزر من كبت الماركسية والثورة، على الرغم من أن إبداع دستويفسكي والماركسية والثورة ليست شيئًا واحدًا.

والأمر كذلك لأن كبت إبداع ديستويفسكي ليس أكثر من تكريس للفقر الروحي. فإثراء الروح يحتاج إلى هذا الإبداع. وعلى الأقل، كان هذا هو رأي تروتسكي – الماركسي الذي اغتيل على يد عميل ستاليني:

"إن ما سوف ينهله العامل من ... دستويفسكي سوف يكون فكرة أكثر تركيبًا عن الشخصية الإنسانية، عن عواطفها ومشاعرها، فهمًا أعمق وأبعد غورًا لقواها النفسية ولدور الوعي الباطن، إلخ. في التحليل الأخير، سوف يصبح العامل أكثر ثراء".

وبالمناسبة، فقد كُتب هذا الكلام في عام 1923، عام تفجر النزاع بين الماركسية والستالينية!

مجلة "الثقافة الجديدة"، القاهرة، مارس 1992.

1 التعليقات:

abdo يقول...

بديعه يا استاذ تستاهل تتعلق علي باب البرلمان لمن يهمه الامر