فوق الأرصفة المنسية





بشير السباعي





فوق الأرصفة المنسية





رماد الأزمنة الجميلة

كنتُ أبتسمُ
إذ أرى الممرضة ذاهلةً
من اللامبالاةِ المرتسمةِ على وجهيَ
في وجهِ الخطر
وكنتُ، ككل الأطفال، لا أخاف الموت
وكنتُ أستقبلُ الوحدةَ الجبريةَ
والأسرَ في الميناء
دون أن تفارقَ وجهيَ الابتسامة
وكنتُ أقول إن الخُلدَ الأحمر
يحفر تحت السور
وكنتُ أرى على ظهر الكوكب
غاباتٍ من أعمدة النور
وفي التيهِ الأسودِ آلاف الخرائط
وعلى كل خريطةٍ ألفَ علامة
وكنتُ أُقبِّل، على أرصفة اللحظة العابرة،
فتياتٍ لا أعرفهن
حبًّا لكل ما أبْدَعَتْهُ الأزمنةُ الجميلة فيهن
من رقة الشعور ومن سحر الوسامة
وكنتُ أترك قهوتي
لأضُمَّ إلى صدري سوسنةً عابثة
لا تُمارسُ الحب إلاَّ على فراشِ الأرض
وكنتُ ... وكنتُ ...
لكن الأزمنة الجميلةَ استحالت رمادًا
وغَشِيَني الخوف
إذ خلت الدروبُ من البشر النوارس
وامتلأت بتبكيت الضمير
فأشفقتُ على نفسي من سوء المصير

30 أبريل 1989



تروبادور الصمت

إلى ذكرى جورج حنين

من ماتوا واقفين في معتقل فوركوتا
والأمهريون الذين خنقهم غاز الخردل
وأطفال بابي يار الأبرياء
وطاووس كويواكان الأحمر
النازف دمًا
وهنود تزن تزون تزان

أولئك لم يروك في صحبة المومسات
في حانات عماد الدين
وأنت تهرب من صحبة الشعراء المأجورين
لم يروك في شوارع روما
وأنت تتمتم باسم أسيرة الحرس البريتوري
والأمير ذي الأنف السيمافوري
لم يروك في مترو باريس
وأنت ترتعد من مشهد الوجوه الإنسانية
وقد استحالت إلى مؤخرات

أولئك كان يمكن أن ينصتوا إلى كلمتك العارية
عرى النصل القاطع
وكان يمكن أن يحبوك.

1989




الكلمات المناسبة

إلى مارجريتا

الكلمات المناسبة التي لا نشتهيها
كيف تكون مناسبة؟
"اللغةُ هي الواقعُ المباشرُ للفكر"
فما هو الواقعُ المباشرُ للحب؟
أقولُ للمدرسةِ الروسيةِ الجميلة:
"إلى اللقاء!"
تشدُّ على يدي
تقولُ إن الكلمة المناسبة هي :"وداعًا"!
لا أدري ماذا تقصدُ
هل تصححُ لغتي؟
أم توبخُ قلبي؟!

10 مايو 1989



الرحيل


القطاراتُ الفضيةُ الصاعدةُ إلى الجنوب
أجنحة حماماتٍ مرهقة
أشواقٌ مُراقةٌ على فراش العشب البرِّيِّ
مناديلُ وداعاتٍ حسيرة
شرفاتٌ مفتوحةٌ على عذاب الروح
أنفاسُ حلمٍ أخيرة!

6 يونيو 1989




تراث

الزورقُ المبحرُ في قلبِ المحيط
لا يتركُ أثرًا على وجهِ الماء
وجرذان الضفاف تخمشُ وجه اليابسة
وتُخَلِّفُ "تراثًا"!

19 يونيو 1989




هواء نوفمبر

إلى ايلينور

أموتُ قبل غروبِ الشمس
يحملُ النوتيُّ والمرأةُ النرويجيةُ جثتي إلى شاطئ النهر
إلى كوى الليل تنسلُّ الكلمات
وإلى قلب الأرض تؤوب الأغاني
يتبددُ صوتي في نشيج هواء نوفمبر
أفتقدُ ذكاء عينيكِ
... فأنام إلى جوار طفلي
... وأستريح

1 يوليو 1989




الاسم الوحيد

الفتاةُ ذاتُ الفستانِ الذي بلون الشجن
تكلمُ النوارسَ عند اقتراب السفن من مرافئ الشمال
تنثرُ في فضاءِ الكونِ أشواقها
في كل منفى تغيرُ اسمها
أسألها .. متى تعود
تقول: "حين يكون لي اسمٌ وحيد!"

1989




الأسد آبادي

كان الشيخ جمال الدين الأسد آبادي
يجلس كل مساء على رصيف قهوة "متاتيا"
يثبتُ عينيه على حدائق الأزبكية
يجرفه الحنين إلى المروج الفارسية
"يوزع السعوط بيدٍ
والثورة باليد الأخرى"

هذا المساء
بين رميتي زهر
على رصيف قهوة "زهرة البستان"
لمحته فجأة في أحد الأركان
كان حزينًا
مهمومًا...
وضجرًا...
لا يكاد يثبت عينيه على شيء
وكان يوزع السعوط بكلتا يديه!

أواخر يوليو 1989




فوق الأرصفة المنسية

النوارس التي سكنت سماء قلبي
إلى ضفاف عينيكِ تؤوب
يحملها نسيمُ الزمن الذي كان
والزمن الذي سوف يكون
تخترقُ دروبًا وحشية
تعلو فوق الأرصفة المنسية
جيشانَ حنين

21 مارس 1990




يومًا ما

يومًا ما..
سوف تحتضنُ الأرضُ الدافئةُ أسرار قلبي

يومًا ما
سوف تتذكرني امرأةٌ منتشيةٌ بالفرح
أو متشحةٌ بالسواد

يومًا ما
سوف تكونُ الأرضُ في رقةِ امرأةٍ
وتكون امرأةٌ في دفءِ الأرض!

19 يوليو 1990



امتنان

والآن ماذا ستفعلين
بعد أن رأت طفلتك فرحة عينيك
على رصيف لقاء غير متوقع
ومالت على صدرك
قبل أن تتدثر بأحلام لم يئن أوانها
وقالت لكِ:
اشكريني
أنا التي دعوتكِ إلى السير في ذلك الشارع!

10 فبراير 1992




يومٌ آخر

سوف يجيءُ يومٌ آخر .. ربما
وأعرفُ امرأةً يروقُ لها سماعُ حكاياتِ
الحب والموت
وتبتهجُ إذا ما رأتني في دورِ شهرزاد
وإن كنتُ أعرفُ أنها سوف تقتلني
في الليلةِ الأخيرة
ثم تبكيني بدموعٍ حسيرة ...

3 مارس 1992



اجتياز الروبيكون

1

الرجالُ يحركون بيادقهم
يحلمون بقهر جيادكِ الذكية
وحصاركِ في المربعِ الأخير
عندئذٍ ..
تميلين برأسكِ إلى الوراء
تملين المباراة مع الخصوم
وتحركين بيادقك على إيقاعٍ واحد

2

لماذا يتشبثُ المرءُ بأهدابِ الكلمات
حين يتحدثُ مع من يحب
فيبدو خائفًا من فرارها؟
ربما أملاً في ألاَّ تخونه الذاكرة
حين يعوزه الحنين إلى ما يعرفُ أنه
سوف يصبحُ ماضيًا ...

3

ولماذا يخجلُ الإنسانُ من أجملِ مافيه
من انتباههِ فجأةً إلى أنه مازال حيًّا
فيتراجعُ مذعورًا إذ لا يرى محطةً نهائية
مؤثرًا الانزواء في ركنٍ بلا طائل
حيثُ لا شيء يتحركُ إلاَّ مقصلةَ الأشواق؟

4
حين تتعرف امرأةٌ على اسمها
تغمرها الفرحة
كما لو كانت قد اكتشفت قارةً عامرةً بالأسرار
-حتى دون أن تحمل خرائط- ،
وعندئذٍ
تتذكرُ أنكَ هناك
وتدعوك إلى مغامرة اكتشافٍ أخرى ...

5

كيف يودعُ المرءُ امرأةً تتنازعها الرغبة
في الحملِ والإجهاض
تفتحُ نافذةً كي تستنشقَ هواءً نقيًّا
فإذا بها تفكرُ في الانتحار!

6

حين تسألُ امرأةً تُحبها وعدًا بألاَّ تخذلك
ترفعُ عينيها البريئتين إلى السماء
لتُشهدَ الرب على حُبها السرمدي
وإذ تتسعُ ذاكرتها لكل شيء
وتُصبحُ كونًا لا نهائيًّا
لا تنسى شيئًا غير هذا الوعد!

7

حين تُراوِغُ عينيكِ وعود السَّحَر
وتلمحين على موقف "الباص" المهجور
طيفًا غارقًا في الضباب
ثم ترينهُ عبر نافذةِ القطارِ المتجهِ إلى البحر
بين أشجارٍ تتحركُ سريعًا
لا تفزعي من مُكابداتِ الروح
ولا تقولي: وداعًا!

5 أبريل 1992




ب. كريستنسن

لأنها لا تحبُّ رؤية بشر
يُذكرونها بأعوادِ الثقابِ المطفأة
تهربُ من كوبنهاجن
وحين أرفعُ بصري إلى عينيها الحزينتين
أرى قلبي مشتعلاً!

19 أبريل 1992




رسالة إلى أولجا ستيفانوفنا

يشعلُ لي سيجارة
يقولُ إنها بكت كثيرًا عشيةَ رحيلِها
يتذكرُ أنها اشترت بآخرِ ما معها من دولارات
ملابسَ جديدة
كي يفرحَ بها وهي تخلعها
يسألني أن أترجمَ رسالةً قصيرةً إليها
أقولُ: لا عليك!
يأخذُ ما كتبتُ ...
ويُذيِّلُهُ بتاريخ أول أيامِ وحدته!

25 أبريل 1992



فانتازيا

عندما تخبو الأنوار في حانة "فانتازيا"
تخرج أولجا ستيفانوفنا
إلى الجادة التي ترد إلى تيرنوبول
وإذ يُبلل رذاذُ المطر شفتيها
تتذكر أمسيةً سَكندريَّة
وتنسى كل أحزانها
وعندما تدخلُ شقتها
تسمعُ صوتًا لم تسمعه من قبل
تحسبُ أنه يُحَدِّثُها
بينما يُحَدِّثُ امرأةً أخرى.
امرأةٌ أخرى تحب سماعه
وتخافُ من لقاء صاحبه!

27 أبريل 1992




هكذا يجب الآن أن تتحرر

هكذا يجب الآن أن تتحرر:
أن تُدرك أخيرًا أن ما تسميه حبًّا
ليس غير أوزارٍ تثقلُ قلبك
وأنك لن تصلَ أبدًا إلى روحِ امرأة
إن كان بينك وبينها جسد امرأةٍ أخرى
وعندما تُقرِّرُ الإبحار
لا تُصَلِّ للرب
وتذكر فقط أن تحملَ الخريطة المناسبة

4 أغسطس 1992





تَنْسَلُّ يدٌ من يدٍ

تَنْسَلُّ يدٌ من يدٍ
كي تُفسح ساحةً للأسف
وتُوقفَ زحف الرجاء
ما أغرب الإنسان!
يتخذُ من الحنين إلى ما كان متراسًا للاحتماء
من الشوق إلى ما لم يأت بعد!

5 مايو 1993





لو كان..

إلى سوزانا
غاب في عينيّ هيلين
وتَذكَّرَ ستامبيلوس العجوز
كان يهتف وسط البار كل مساء
-     واليونان مناط الحنين –
"لن ننساك يا هيلاس!"
بينما كان وزيرٌ هيليني
من أحفاد ميتاكساس
يتحدثُ بكركرة ديكٍ روميٍّ عن مقدونيا
مستعيدًا ذكرى فيليب والإسكندر
ومصورًا كافافي
في صورة صبيٍّ في سيرك وطني
تنهدت امرأةٌ من بوهيميا
وقالت
"لو كان السكندريُّ بيننا الآن
لخرج
بحثًا عن "البرابرة"!"

هيلين تقفُ كل صباح
على بابِ معتقل الجبل
تحملُ للأسير سجائر وخبزًا ساخنًا
تتذكرُ طروادة
وتحلمُ بالحرب العادلة.

ستامبيلوس الذي لن ينسى هيلاس
فناري يدل اسمه عليه
ربما لم ير اليونان ولو مرةً واحدة.


السكندريُّ يتذكرُ "أوراق العشب"
ويتساءل:
"لماذا يجبُ ألاَّ تكونَ هناك
سوى مقدونيا واحدة
بينما تحمل مدنٌ كثيرة
اسم الإسكندر؟ .."

أواخر نوفمبر 1993






نثارات الذكريات

هذا المساء
دفع شبحٌ أشيب
باب الحانة الزجاجي.
لأول مرة منذ زمن
رأى أرملته تحاورُ ورودًا بلاستيكية.
ارتد باب الحانةِ بعنف.
رأى الذكريات نُثارات
مبعثرة بين نُثارات الزجاج المتكسرة.
كانت كلها صفراء
ولم يهتم بلملمتها.

19 سبتمبر 1994




وردة فسفورية

حين تخرجُ من البار اليوناني قبيل الفجر يرتجفُ قلبك عند سماع صياح الديك وتحلم بالكنز المسحور حتى يتسنى لك تبديد أكثر ما يمكن من أوراق البنكنوت على مائدة القمار.
سوف تهتف:
"كل قلب مثل قلبي خافق
كل قلب مثل قلبي ذو حنين"
لكنك لن تنسى الشاب الهازئ الملامح الذي كان أباك، وهو يسامرك على فراش الموت ...، كان جميلاً مثل وردة فسفورية على شط المحيط.
ربما تقرأ الليلة شيئًا من " الأخلاق إلى نيكوماخوس" وتتساءل: هل كان المعلم الأول مقامرًا؟
وحين يقتلك السأم سوف تهتف من جديد:
"كل قلب مثل قلبي ..."
لكن أحدًا لن يتمهل تحت نافذتك
ولن تمتد لك يد عند عذاب الروح!

5 أكتوبر 1994






شتاءٌ مرير

لابد أنكِ تجربين الآن شتاءً مريرًا
مرارة الأشواق التي بلا طائل
تخرجين إلى شوارع فيينا وردة عارية إلاَّ من الحنين
تتذكرين ارتعاشات جسدك المحموم على رصيف نهار من جمر
وعنفوان روحكِ الذي كان يتحدى غبش الأسرار
وتهمهمين:
لماذا يكون المرء دائمًا حيث لا يجب أن يكون؟


6 نوفمبر 1994




صُوَر

رأيتكِ أول مرةٍ
مرسومةً عاريةً
داخل كهفٍ سحيق
ولمحتُكِ مرةً ثانية
تخرجين من آخر ضوءِ شمعةٍ تموت
ثم وجدتُكِ أخيرًا
نهارًا أبديًّا
يسكنُ رأسيَ المزدحمةَ بالهلوسات
يناير 1996





ظل

أيتها اليمامةُ
المتشبثةُ بسهم اتجاه الريح
لماذا توبخينني كل صباح
عندما أفتح النافذة
لأستقبل هواءً نديًّا
وأختلسَ نظرةً بريئة
إلى ظل التلميذة
التي تأخذ حمامًا ساخنًا؟
يناير 1996





أمنيات

1

رأيتُ أرملتي
تعبرُ الدربَ لاهثةً
تحتَ شمسٍ حارقة
تمنيتُ أن تنسى أحزانها
وتكفَّ عن صب اللعنات
على هادم اللذات
أن أحثها على البحثِ عن حبٍ جديد
لكنَّ الملاكَ المتجهمَ
الواقفَ إلى جواري
ألجَمَ لساني!

2

كنتُ أسيرًا
أستخدمُ ملابسي مناشف
وأقفُ عاريًا داخل زنزانة
تؤالفُ بين ضمير الزمن
والسحالي
ثم جاءتني امرأةٌ يونانية
بثيابٍ ومناشف
فتمنيتُ أن تكون لها عينا ميدوزا
لتحجِّر الحراس

3

المعي يا عيني ببهجةِ السكينة
وباحتدامِ الخطر
المعي يا عيني بدمعةٍ حزينة
وقهقهاتِ المطر

4

كنتُ رملاً ناعمًا
على شاطئ البحر
ترسُمُ أقدامُ الأطفالِ الراقصةُ
ملامحي
ثم يغسلُ الموجُ وجهيَ عند الغروب
فأنامُ وأحلمُ بالأقدامِ الصغيرة
لكنني هذا الصباح
استيقظتُ فوجدتُني رصيفًا
يتأوَّهُ تحت سلالم حديدية
لآلافِ البوارج

5

ليتني كنتُ زهرةً
تمسحُ فراشاتُ الفجرِ عن وجهيَ
نُدفَ الثلجِ
فأمنحُها أنفاسيَ الأخيرة...
قبل أن أذوبَ
في رمادِ العالم

فبراير 1996




أسفارُ الحُزن
إلى إحسان

1

رأيتُ شمسَ الهندِ
تستحمُّ في نهرِ الجانجا
كانت مخضبةً بدماءِ الحجيجِ
الذين تهاوت بهم الجسور
فتساءلتُ
لماذا يكونُ الربُّ الحافظُ
هو ربُّ الدمار!!

2

ورأيتُ استنبول ليلاً من البحرِ
كانت تتلألأُ عاليةً
وسطَ النجومِ
وحين ارتقيتُ مدارجَ دروبها
رأيتُني أهبطُ إلى أحزانها
على ضوءِ شموعِ الفقراء

3

وعلى أرصفةِ موانئ الشمال
رأيتُ النساءَ
عبر غَبشِ آخرِ الليل
أرواحًا حزينةً
تمسحُ دموعَها
بمناديلِ سلامٍ ملائكي
فالليالي
سوف تُمسي أكثرَ برودةً
بعد رحيلِ الرجال

4

وحين ارتددتُ باتجاهِ الشرقِ
نَزَلتُ خلفَ قبرِ المليكةِ المرمري
ورأيتُ أطفالَ الشودرَويين
عرايا في الهجير
ولم تكن في نهرِ يامونا قطرةُ ماء

فبراير 1996




حين سميتُ ماركس خُلْدًا أحمرَ

حين سميتُ ماركسَ خُلْدًا أحمرَ
كشفت الخراتيتُ عن مؤخراتها
إعلانًا لـ "نهاية التاريخ"!
لكن الزمن مفتوحٌ
ليس كجرحٍ أبديٍّ
بل كوردةٍ
تتأرجُ باشتهاءاتِ الخاسرين.
يناير 1996





ويتمانيا

إلى تامران
إذا ساقتكَ الأقدارُ
إلى العالمِ الجديد
اخلع نعليكَ
وخفف الوطء
ليس خشوعًا لآلهة الدمار
بل لأنك حين تمشي على العشب
قد يكون والت ويتمان تحت قدميك.
فبراير 1996





خيانات

إلى ذكرى الفيلسوف الامبراطور الروماني يوليانوس

الأشياءُ تتنكرُ
وكذلك الأسماء
ولكن
ليس دون التباساتٍ صوتية
تجهرُ بالخيانة
هكذا يموتُ الخرِّيتُ
ويولدُ الخِرْتِيُّ

*

إن كانت مرآة الأزمنةِ مشروخةً
فهي، مع ذلك، لا تكذب
ومن حقها أن تكشر لشحوبِ الكائنات

*

ليس لي أن أحدثها
عن ذرية المهزومين
الذين لم يروِ لهم الآباءُ شيئًا
من تواريخ عذاباتهم
فهي تدرك
كيف أصبح الصمت
هو الأبجدية

*

أين كنتِ يا ربة الجمال
حين حطموا تماثيلك المرمرية؟
-  كُنتُ مصلوبةً على مداخلِ روما
حين اعتزل البشرُ قلوبهم
واستناموا إلى فداء السماء.
يا لهم من جبناء!
منحتهم حبي
فتحتُ لهم فخذيَّ السخيتين
كي تشرب طيورُ اشتهاءاتهم
من ماء فردوسي الدنيوي
أنا الربةُ الهازئةُ بالخالدين
وحين اغتالوني
دخلوا ليلَ الزمانِ شاحبين
غير جديرين بالرثاء

فبراير 1996




أشواق

إلى هالة
هكذا تُحوِّلُ عينيكَ
عن أعين الأطفال
خوفًا من أن تشي ابتسامتك
بأحزانك
فتبدو كما لو كانت خيانة لابتساماتهم
عندئذٍ تشعر بالذنب
وحين يستولي عليكَ الشوقُ
إلى عدالة المحبة
تباغتهم بحنانٍ شفيف
معتذرًا عن ندوبٍ...
بريئين منها

*

كيف لهم أن يلجوا
سراديب الروح
حيث الأطفال الميتون
يجيئون إليك في الحلم
يحدثونك عن آلام رحيلهم
شاكين من عجزك عن فعل شيء
لإخراج الديدان من محاجر عيونهم
لكنك لست إلهًا...
ابك إن شئت
ولكن بعيدًا عن أعين الأطفال
الذين يبتسمون لك

*


وعندما تخلو إلى نفسك
خذ نَفَسًا عميقًا
كأنك تحشو بندقية
لتطلق رصاصها
على شقاء العالم

فبراير 1996





امرأة تقف على شاطئ النهر

امرأةٌ تقف على شاطئ النهر
شجرةً عجوز
تكلمُ الماء الذي يلثم شفتيها
تتجردُ من ثيابها
تتأملُ نهديها البازغين تحت الشمس
تمرُّ الخماسين بين فخذيها
فتنتشي
وتلمحُ طيورَ طفولتها
تخترقُ الفضاء

أواخر نوفمبر 1996





امرأةٌ تسكنُ عينيها النجوم

امرأةٌ تسكُنُ عينيها النجوم
ترقدُ على عشبِ الجبل
تتوسَّدُ بنفسجاتٍ برية
وتحلمُ بالأبدية.
فجأةً تنتصبُ مذعورةً
إذ تلمحُ شاهدةَ قبرٍ
تحملُ اسمها...
يسكنُ عينيها السُّهاد
وتهبط ُ المنحدر
رويدًا رويدًا
تحتَ المطر...
أواخر نوفمبر 1996




امرأةٌ تشرئبُّ على منحدرِ الليل

امرأةٌ تشرئبُّ
على منحدرِ الليل
يصعدُ وجهها الموشومُ بالشهوةِ
وسطَ سحابةٍ من الدخان
تتحسسُ دفئًا يخترقها
فيتكسرُ صمتُها مواءاتٍ ساخنةٍ ...
أُلملمها في قلبي

أواخر نوفمبر 1996




جونفياف
إلى وسام

التلميذةُ التي تتهيأُ لدخولِ الدير
الوردةُ التي تؤَرِّجُ شارعَ الوابورات
يهتزُّ الصليبُ على صدرها الناهد
إذ يتحرشُ بها الأولادُ الأشرار
تتمتمُ بالسلامِ الملائكي:
المجدُ لك يا مريم!
تتشبثُ بيدي كأنني الملاك الحارس
يرتجف قلبي الصغيرُ فأُردد:
المجدُ لكِ يا مريم!
يا أمَّ أجملِ البنات!
1 ديسمبر 1996





إدوار

إدوار
التلميذ ُ اليهوديُّ الوحيدُ في المدرسة
وحدهُ يتركنا مرةً كلَّ أسبوع
وحده يجلسُ تحتَ شجرةٍ وحيدة
تُخَيِّمُ على فناءِ المدرسة
وحدهُ يرسمُ على الرملِ أشكالاً غريبة
يُقاتِلُ الضجرَ وحده
تِلك ساعةُ درسِ الدين
حيثُ لا يتعلمُ شيئًا
غير الوحدة

2 ديسمبر 1996





حين أخذتني أمي إلى الراهب

حين أخذتني أمي إلى الراهب
اجتازت بي دربًا مبلَّلاً بالدموع
ثم توقفتْ أمام بيتٍ خشبيٍّ عتيق
ودفعتْ البابَ الخارجيَّ كأنها تدخلُ بيتها.
كانت لا تزالُ أرملةً شابة
وكنتُ، بداهةً، حديثَ اليُتم
صافحني الشيخُ الجليلُ مبتسمًا
قال لي أن لا أخاف
فهو لن يفعل شيئًا سوى أن يصلي من أجلي
عسى أن تهدأَ روحي المضطربة
وبنبرةِ تأكيد لحسنِ النوايا
قال إنه كان أخًا لأبي...
في الماسونية!

4 ديسمبر 1996




الشبح

رأيتُ شبحي وهو يَنْسَلُّ مني
لوَّحَ لي بوشاحٍ أسود مودِّعًا
وفرَّ إلى كشكٍ خشبيٍّ مهجور
عند شريط القطار.
كان يخوضُ في الوحل
ويزيحُ اللبلابَ بعنف
كأنهُ وحشٌ جريح
أدركته بعد عَناء
توسَّلتُ إليه أن يرجع إلى روحي
فقال إنه لا يقدر على ذلك
لأنني مسكونٌ بشياطين غريبة

6 ديسمبر 1996




بينما كنت عائدًا إلى داري ليلاً

بينما كنتُ عائدًا الى داري ليلاً
غَشيني دوارٌ مفاجئ
واختلطَ الليلُ بالتراب.
كنتُ مدربًا على ذلك...
توقفتُ تحت نافذةٍ مضاءة
وأسندت ظهري إلى الجدار
ريثما أستعيد توازني.
لكنني بدوتُ كمن يقفُ أمامَ كتيبةِ إعدام
ولو أن الجنود لم يصلوا بعد.
فجأةً تناهتْ إلى سمعيَ أصواتٌ ليست كالأصوات
-         وإن كانت أشبه َ بمزيجٍ من هسيسِ الريحِ والحنَّاءِ وشعرةٍ من رأسِ الأسد -
كانت تدمدمُ بأشياءٍ من قبيل
"إحراق الصيدليات"
و "إعدام المهدئات"
و" ... حتى لا يهرب منا".
تحسستُ جسدي وأنا أرتجف.
كان لا يزالُ موجودًا رغم كلَّ شئ.
عَاوَدْتُ السيرَ وأنا أُفكر:
لابُدَّ أنها الوساوس السوداء
تُخطِّطُ لاغتيالِ روحِ إنسان!

11 ديسمبر 1996




الشاعر

بعد أن دفنوا الشاعر
تحت سماءٍ سكندريةٍ غائمة
قال واحد منهم لأرسين يرجات*:
"كان ملحدًا،
... بأم عيني رأيته ذات مَرَّةٍ
أمام تماثيل التاناجرا،
كان مفتونًا إلى حدِّ التلاشي!"
لم يَرُدَّ يرجاتُ من فوره،
بدا كما لو أنه لم يسمع شيئًا
كان يتأملُ السماءَ الغائمة.
ودون أن يتوقفَ عن السير
ودون أن يُحَوِّلَ بصره الحادَّ عنها
تمتم بنبرةٍ حزينة:
"... كان مسكونًا بآلهةٍ كثيرة ..."


21 ديسمبر 1996

*أرسين يرجات شاعرٌ فرانكوفوني أرمني مصري، كان صديقًا للشاعر السكندري قسطنطين كافافي.





امرأة حائرة

امرأةٌ حائرة
تبحثُ عن دار
تسكنُ صميمَ قلبي
عندما تجدهُ معتمًا
تسكنُ سهادَ عيني
فأذرفها مع الدموع

24 ديسمبر 1996




امرأة بلون أحزاننا

امرأةٌ بلونِ أحزاننا
تنيخُ على جسمها النحيلِ
رأسُ عرَّافةٍ
تسخرُ من وجوهنا الحائرة
تخبطُ الطاولةَ بيدينِ منذرتين
فتطيرُ أقداحُ القهوةِ
ونبكي مصائرنا المُراقة

28 ديسمبر 1996





جوزفين

عندما تجلسُ جوزفين الى البيانو
لا تكترثْ كثيرًا لعزفِها
(لو كان موتسارت هناكَ لألقى بها من النافذة!)
يكفيكَ أن تنظرَ إلى شفتيها المُرَّتين اللتين تبتسمان لك
وأنت تدنو من النهرِ الذي يتدفقُ بين نهديها شبه العاريين
تَذَكَّرْ فقط أنها تحبك
واغفر لها عَزفَها...
جوزفين...
عاملة التلغرافِ الجميلة

29 ديسمبر 1996




المقاعد الخشبيةُ البائسةُ تستريح

المقاعدُ الخشبيةُ البائسةُ تستريح.
عندما ينصرفُ الشاتمونَ والمشتومون
يحنيها الحراس ُ المتجهمون على المناضد
بعد أن يرسلوا المفارشَ إلى المغاسل.
تركُلُ بأقدامها المتورمةِ
نفاياتِ الكلماتِ الشريرة
التي تسقطُ على الأرض.
ثم تنامُ
في ندى الليلِ البريء.

2 يناير 1997




خارج قلبي

رأيتُهم واقفينَ خارجَ قلبي
متحفِّزين
كُلهم يعرفون كلمةَ السرِّ اليه
مثلما يعرفون أسماءَ أُمَّهاتهم
لا يفكرون في الدخول
مع أنه مفتوحٌ
كجراحهم
وليس هناك ما يُبَرِّرُ لهم
أن يخترقوه
بالخناجر

11 يناير 1997





امرأةٌ شربتُها

امرأةٌ شربتُها
حتى القطرة الأخيرة.
جنيتُ على روحي
حين التقطتُّ قارورةً تحتويها
قَذَفَ بها سليمانُ إلى البحر
منذُ آلافِ السنين!

16 يناير 1997





وجوهٌ صفراء

كعلبِ السردين الفارغة
تطفو وجوهٌ صفراء
عندما تتسلل إلى شباك الصيادين
يلقونها فريسةً للصدأ من جديد
ويبصقونَ على حظهم العاثر

14 فبراير 1997




وردة

بينما كنتُ أُعيدُ ترتيبَ أوراقيَ
التي أفلتت من غاراتِ طيورِ الليل
انسلَّت وردةٌ من كراسٍ أزرق
فَرَكَتْ عينيها مثل طفلٍ مات مِنِّي
قبل عشرينَ عامًا
وعندما رأتني
ترددتْ قليلاً، ثم قالت:
لماذا تركتني أموتُ
كُلَّ هذه السنين؟

23 ابريل 1997




يحيى

كان اسمهُ يحيى
عندما يبتلُّ شاربُهُ التتريُّ بالبيرة
تصهلُ خيولُ الأحلامِ في صدره
ولا ترتاحُ إلا على صدرِ السماء.
*
بعد أن وَدَّعنا الكليةَ
التقينا صدفة
على رصيفِ بارٍ فقير.
شَرَبْنا نخب سكستوس إمبريكوس
والرَّيْبِيِّين الآخرين
قبل أن نبدأ الكلام.
*
كان وحيد أُمِّهِ الأرملة
سألتُهُ عنها
قال إنها ماتت يوم تخرجه.
سكتنا قليلاً...
*
عن المستقبل
قال إنه يجب أن يُحسن اختيارَ فتاته
لأنه لا يريدُ لحياتهِ أن تكون حقلَ تجارب
بعد أن أصبح وحيدًا تمامًا.
*
على مداخلِ سيناء
قتلوه
في الثانيةِ والعشرين من عمره...

20 يونيو 1997




امرأةٌ جميلة

كان الزمنُ خاليًا من الشعر
فأحبت امراةٌ جميلةٌ أن تكتبَ قصيدة
من بيتين اثنين.
تَجَرَّدَتْ من ثيابها
وانتحرت عارية.

النائبُ العام،
حارس مملكةِ الضجر،
لا يحبُّ الشعر
ولم ترُقْ له هذه القصيدةُ بالذات.

تَجَمَّعَ الناسُ حولَ الوردةِ النائمة
واستولى عليهم الأرق.

النائبُ العامُ وحدهُ هو الذي نام
بعد أن وقف أمام المرآةِ وقال:
لكن هذا فعلٌ علنيٌّ فاضح!

8 يوليو 1997




عندما أجلس إلى جواركِ

عندما أجلس إلى جواركِ
أتذكر طفولتي.
بعد الكأسِ الأولى
أتخيل نفسي زورقًا
لم يهجر اليابسةَ من قبلُ قط
فتجتاحني رغبة في النزول إلى النهر
وملامسةِ الماء
ربما أَتَعَرَّفُ على ملامحي
عندئذٍ تمتدُّ يدي بين فخذيكِ
حتى تخومِ العُشب الأولى
فأعرفُ طريقي إلى بحيرةٍ من النار
ثم أرسو
على خط الاستواء

10 أغسطس 1997





عندما شَفَّت الرغبة

عندما شَفَّت الرغبةُ
عن شفتيكِ الساخنتين
وأنتِ تبتهلينَ إلى السماء
تذكرتُ الشوارعَ الملحدة العظيمةَ
تحملُ أسماءَ قديسين
وخائفينَ من الرب
وأنبياء ...

10 يونيو 1998





أطفال

أطفالٌ هؤلاء ... لكنَّ
أَرسانَ كلابهِم خشنةٌ تجرحُ رِقابَها ...
يالهم من قُساة! ...
أبدًا لن يكونوا شيوعيين!

19 فبراير 2009


1 التعليقات:

هند بكر يقول...

هذه الكلمات تُصيب بألم الذكرى اللذيذ، تنال منّى بهدوووووووووء قاتل ..نصوص رائعة.