أغنيةُ الغريب - أصواتٌ فرانكوفونية مصرية




 
أغنيةُ الغريب
أصواتٌ فرانكوفونية مصرية


ترجمة
بشير السباعي



أحمد راسم (1895-1958)
دعاء

إلهي، يامن تعلم
ثقل الكلمات،
أدعوك أن تجعل كل قصائدي أغنيات حب
مُطَرَّزَةً بالصمت كأفئدة اليتامى
لأنه لم يبق فيَّ
غير إيقاعات خفية،
لأنه لم يبق فيَّ
غير سر الكلمات
المتلاطمة حتى الضنى.
أدعوك أن يتسنى لي مثلما تسنى للشاعر تاو تسين
أن أتمتم بأغنيات على عود بلا وتر
لا يفهمها سوى حبيبتي
مثلما تفهم نظرتي
حين تستقر، خجلى،
على عري
يديها الأنثويتين.



أحمد راسم
جميلة مثل لهب

جميلة مثل لهب
جميلة مثل فتاة صغيرة تلمع بالعرق
جميلة مثل امرأة في حقل من حقول قصب السكر، مثل المهج
الكسيرة، مثل الأكتاف المهزومة
جميلة مثل ثمرة معطرة بالبراءة
جميلة مثل ثمرة مترعة بالنقاء
جميلة مثل تربة ما عاد ينبت فيها شيء
جميلة مثل حلم
جميلة مثل بحر مجهول الأمواج
جميلة مثل رغبة صباحية
جميلة مثل الصورة التي تهتز في كل قلب
جميلة مثل لغة المروج الكوكبية
جميلة مثل فيض الشمس القزحي
جميلة مثل حريق
جميلة مثل طيف منتصب في الأفق
جميلة مثل البحر حين يسبح القمر في أمواجه عاريًا
جميلة مثل انسجام رائق
جميلة مثل خاطر إلهي
جميلة مثل لهب
جميلة مثل الموت




أحمد راسم
كيف يمكنكِ؟

حين تفتشين عن أسرار قلبي
تشبهين الأطفال الذين يهشمون لعبهم بحثًا عن الروح الخفية
التي تحرك قطاراتهم.
إن كان حلمي على إيقاع أصابعك يشدو
وإن كان فكري على زورق ضفائرك يهيم،
فكيف يمكنك الشك في عاطفتي؟

حين يتركز عليَّ بهاء عينيك
أشعر أن كل شعاع حزمة حية ..
وهيهات أن أكون في أي وقت آخر أكثر قربًا من الله.




أحمد راسم
لماذا؟

سألتك ابتسامة
فمنحتني كل نفسك..
وحين سألتك لماذا؟
جاوبتني بابتسامة..




أحمد راسم
"المرأة ذات العينين الخضراوين"
للرسام محمود سعيد

صورة ذراعيها تثب فيَّ كغزالة
في الحلم، شددت على ذهب أذنيها
تنسمت أزهار فستانها
وأصابعي  تحرس عذوبة
أفنانها.
أشعر أن رضاب ثغرها
سوف يشفيني.
نظرتها تصلني كنسمة رقيقة
تستخلص من الأزهار أريجها المتموج.
نهدان نبيلان مثل أوزتان تتقدمان.
إذ خانتني الشجاعة على مواجهتهما،
انزلقت نظرتي
بمكابدة طفولية.
كانت السماء أقل عذوبة من خضرة عينيها.
كان قدها رقيقًا مثل ساق زهرة، طريًّا مثل سعفات نخيل
داعبها النسيم..
وبدا أن أعواد القصب تسخر من حيائي.



أحمد راسم
حزينة هي..

كيدين ضجرتين..
كباقة زهر..
حزينة كثمرة خلقت للاشتهاء..
حزينة كالموجة التي تنحسر وتموت..
حزينة هي كوجه بلا استجابة ..
كالنجمة التي تنام في مطر الأرصفة..
كالشعاع الأخير فوق مدينة غافية..
حزينة ككتاب ينقفل إلى الأبد..
يرتجف صوتها، في الفضاء، كورقة تسقط في بركة لا يتجه
إليها أحد.






أحمد راسم
أزهار البستان تقول لي..

أزهار البستان تقول لي :
لِمَ لا تفكر في وجهها وأنت في بيتك
بدلاً من أن تجيء إلى هنا
وتذلنا؟



أحمد راسم
قصيدة صيف

الحياة تمضي كانعكاس حلم على وجه الماء..
فعودي، يا صاحبتي، لأن الزمن قصير..
عودي، فسوف أمنحك زهور حبي الخفية.
عودي، فأنا كالنبتة التي تطلع ثانية بعد قطعها.
 

 

أحمد راسم
ماروخا القرطبية

الغجرية النحيلة التي سألتها عن طالعي عند زاوية السكة الفسيحة، تقول لي: "كفك لا تروق لي. اسْتَعِدْ قطعة نقودك وأرني عرض ظهرك.
لماذا لا ترحل ياصاحبي؟ ولماذا هذه الابتسامة
فجرحك مفتوح؟
على حافة الماء نساء معتوهات كحزمات من قصب السكر.
أرم لهن قبعتك وسوف يمشين فوقها.
وداعًا، يا ابن  روحي، وليكن الزمن لك لا عليك.."
إذ ألحف في السؤال ويدي ممدودة،
تقول الغجرية النحيلة مستسلمة:
"تأمَّل هذه الخطوط .. إن حياتك أرض بور..
كل زهرة تلمسها تذبل..
بعضهم يزرع الشر في طريقك،
كي تجنيه أنت.
لكن ما الذي يهمك
وأنت تملك في قلبك الصخرة.
لا تكذب، فأنا أراها.
يومًا ما، رمت شقراء هزيلة
في قلبك
صخرة حبها،
حبها الأنثوي،
صخرة سوداء عظيمة.
تستقر الصخرة في القلب
وإلى الأبد..
لكن لماذا هذا الابتسامة وجرحك مفتوح؟
على حافة الماء غير بعيد عن الدير، نساء ينشدن أغنية شجية شبيهة بأغنية النوافذ الملونة التي تلف صورة عذرائنا بالنور. لتهتد خطواتك إليهن.. ولتملأ أصواتهن قلبك بالسكينة..
يا ابن روحي،
إن الآلام التي تنتظرك
تشبه أمواج البحر
تتراجع أمواج.. لتفسح المكان لأمواج أخرى
وهذا سر صفاء قلبك..
يوم ولدت
سقطت قطعة من السماء.
وإلى أن تموت،
سوف تظل السماء على هذه الحال،
لكن اسمع:
لا تعد إلى وضع خلاصة ثقتك
على تنورة، حتى وإن كانت من الحرير.
ماروخا هي التي تصرح لك بهذه الأقوال الغامضة،
ماروخا، امرأة، مكروهة أكثر .. من دون جميع النساء..
لكن قل لي، أيها البائس ذو العينين اللتين من زيتون أسود:
فيم تستخدم هذا المظهر لراع صغير وقلبك، كما الوردة، له
أشواك صدئة؟
الوردة فقدت عطرها..
لا تنظر هكذا إلى هذه المرأة التي تمر.
إنها العذراء الوحيدة في هذه القرية اللعينة.
والآن، يا ولدي، يمكنك أن ترحل.
إن أحببتني يومًا،
عد وقل لي
لكن على مهل
كي لا أموت.."






أحمد راسم
كونشيتا

في وشاحك الأسود، ترقصين رقصة بلادك الإشبيلية.
يداك تبدوان كما لو كانتا تنثران على البلاط المرمري نثارًا
مُسْكِرًا ولاذعًا..
لكن ذراعيكِ الخطرتين تتضوعان بعطر وحشيٍّ يذكِّر المرء
بأزهار شجر الزيتون..
تأسرنا فتنتكِ المتموجة، وجسدكِ الغادر الرهيف رهافة
السيف..
لردفيكِ رقة البندول الغريبة، البندول الذي تختزل كلُّ حركة
فيه مشوار عمرنا..
ليس ما يأسرنا خطوط وجهكِ لا ولا خطوط جسدكِ الغادر
المثير
بل اللهب الذي يضيء
نظرتك العطشى
للدم..
الماتادور يدفع الثور الضخم إلى الجنون ويوقظ فيه وحشية
إنسانية، إذ يلوح له بوشاحه الأحمر الذي يشبه منديل
عرس..
حمرة شفتيكِ تثير أعصابي الخشنة وتحرك فيّ شهوة ضارية..
فترفقي يا امرأة
بالبدائي الحامل في قلبه الذي من الشمس ألق رمال الصحراء
ورقة النخيل المتمايل !..
أيتها المرأة التي لها عينان من ثمار برية،
ما دام دربانا متقاطعين فاسمعيني:
إن غيابكِ يقتلني
لكنني أموت إذ أراكِ
فاغرزي في قلبي خنجرًا
ببطء،
لكن ببطء شديد،
كي لا يأفل عذابي سريعًا..
مدريد، 1927






أحمد راسم
أغنيات إسبانية لا تُنسى

(1)
حين أمرُّ ببابكِ،
أشتري خبزًا آكله
كي لا تخامر أمكِ الظنون
لكنها تقول لي:
لا تَعُدْ إلى رمي الحصى عبر نافذتي
أمي غيرت موضع فراشي.

(2)
الأرض والسماء تبتسمان اليوم لي،
اليوم تضيء في أعماق روحي شمس..
رأيتها اليوم؛ منحتني اليوم نظرة..
اليوم أومن بالرب.
عالم، لقاء نظرة..
سماء، لقاء ابتسامة.
لقاء قبلة، لا أعرف
ماذا أهبها لقاء قبلة..

(3)
التنهدات من الهواء وإلى الهواء تذهب.
الدموع التي من الماء تذهب إلى البحر؛
لكن قولي لي، يا امرأة،.. هل تعرفين
إلى أين يذهب الحب حين يموت؟







أحمد راسم
مقتطفات من "يوميات موظف بائس"


"كان أحمد راسم يدرك إدراكًا جد قوي أن الكلام هو، بالدرجة الأولى، طاقة. وهو في حالته البرية يشع من جميع جوانبه إشعاع قطعة من البللور الصخري. وعندما كان يسمع صخب الشارع، عندما كان يحاول متابعة كلام الناس الذين يجهلون كل قواعد النحو والصرف، منبوذي اللغة الحقيقيين، كان يتزود بالطاقة. وكان يحب أولئك العلماء الأميين الذين يستخدمون مفردات مزدراة، أولئك المبدعين للأمثال التي تمور فيها ذاكرة وسخرية شعب بأكمله".
جورج حنين، 1958
20 مارس
ماذا تصبح الدموع التي لا نذرفها؟

9 أبريل
ما تجهله المرأة، هو أن الرجل الذي يحبها يخونها، منذ الأمسية الأولى، مع الحلم الذي يصنعه منها.

28 مايو
حين رأى امرأة جميلة ذات سيماء تتألق بالقرصنة، مجملة بفوران ما، لم يفته أن يحدث نفسه بأنها ، في هذه اللحظة نفسها، لابد وأن تكون مؤخرتها ناضحة بالعرق، وقد جعله هذا يشعر بالقرف منها بعض الشيء...
ثم تنبه بدنه لروعة هذه السفن التي يركبها قراصنة.

29 مايو
قطار انتابه الهلع، يخرج عن مساره.
الموت مسألة لحظة، ولكن فكروا في آثار الزكام التي يستحيل التنبؤ بها.

30 مايو
بعد ليلة من الأرق، تنعس العينان مليئتين بالنجوم.

12 يونيو
نافذتها تخرج لسانها بسجادة سرير.


14 يونيو
لسعف النخيل حركات شهوانية تكاد تكون فاحشة. ويحسب المرء أن نساء ذوات شعور طويلة هن اللواتي تطلبن بعضهن بعضًا. وتتحاضنَّ وتتموجن من جراء مداعباتهن.

19 يونيو
أكتب أغنية حب بين عاشقين، لا يقولان مرة واحدة فيها : أحبك.
صدور تهب السماء الغواية.

14 يوليو
حسناء ذات غنجات منفلتة... يا إلهي، كم كانت جميلة هذا المساء على الهاتف!

18 يوليو
ألا تفتر ابتسامة فولتير الساخرة الشهيرة عن مجرد غياب أسنان في الفك الأعلى؟

19 يوليو
تعرفت على امرأة شابة رائعة. أحبها لأن الزكام لا يزعجها ولأنها تنظر إليَّ كما لو كانت تتخذ وضعًا لرسم بورتريه لها. لكنني سرعان ما أدرت رأسي لأنني شعرت أن نظرتي التي مالت ميلاً متوازنًا على كتفها سوف تسقط، رغمًا عني، وتنزلق في صدارها.

20 يوليو
الطبيب النفسي سيد يذهب إلى مسرح "فولي بيرجير" (1) ويراقب المتفرجين.
مغنية تتثاءب في قفازات سوداء.
أحلم بطبق مكرونة تتضافر تجريداته البسيطة تحت ضوء اللغز والفتور... وأحلم بشاعرة تستطيع ترديد النشيد الوطني الروسي (2) وهي تفرد أصابع قدميها على شكل مروحة وتغمض عينيها من فرط الاحتدام.

29 يوليو
مات الشاعر لي- تاي- بو (3) في عام 762. كان يتنزه في قارب، وهو مخمور أبدًا، وقد مال أكثر من اللازم لكي يعانق صورة القمر المنعكسة على صفحة الماء الرائق وغرق عموديًّا.

أول أغسطس
يعزي الحكيم نفسه عن أنه ليس سيد مصيره بأن يحدث نفسه بأنه سيد قوائم وجباته.

4 أغسطس
يسمع المرء في محطة باب الحديد:
"الأوبرا... كائنات تتشاتم وهي تغني"

20 أغسطس
في الشتاء، عندما يبدأ البرد، أكابد مكابدة فظيعة من عجزي عن وضع معاطف من الفراء على أكتاف البنات الصغيرات اللاتي يسرن مرتعدات.

20 أغسطس
رينيه صديقة فاتنة. جميلة كفهد أسود. في عينيها يهجع الموت مثلما يهجع في صلب الخناجر اللامع البارد.

16 سبتمبر
سائحة – انجليزية شابة – تقول للترجمان:
-  ما حكايتكم، إنني أجد مساجدكم جد خالية...  فلا رسوم جدارية... ولا زينات... ولا حتى تمثال.
-  أنتِ على حق يا آنسة: فمساجدنا ليس فيها غير الله.

18 سبتمبر
اليوم تبدو لي زرقة السماء عديمة الجدوى.

29 سبتمبر
هناك جلود جد متصلبة يكف الاحتقار معها عن أن يكون مسرة.

9 أكتوبر
أنصب الخيمة في الصحراء. وفي ثقة بالنفس، يمنح الناس أسماء للنجوم. لم يغمض القمر عين الليل.
جبن الأكف حين يتوجب التصفيق.

أول نوفمبر
تلغراف دون أسلاك في مصر؟ ... ولكن على أي شيء سوف تحط كل طيورنا الصغيرة؟



(1) مسرح استعراضي رخيص في باريس – م.
(2) المقصود هو النشيد الوطني الذي فرضه الزعيم السوفييتي يوسف ستالين خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن ألغى النشيد الأممي – م.
(3) شاعر صيني  من عهد أسرة  تانج ( 618 -  907) ، وقد كتب قصائد كثيرة عن القمر ، من بينها "ليلة مقمرة" : ينساب ضوء القمر على فراشي : جاعلاً إياه شبيهًا بأديم مغطى بالجليد : وإذ أرفع رأسي، أرى الإشراقة الصافية : ثم حين أنكسها : تجتاحني رؤية بلادي – م.





أحمد راسم
حكاية من أجل الكبار
روتها إنجي أفلاطون (9 سنوات)


كان ياما كان صديقان – حلاق وخباز – اعتزما القيام برحلة طويلة.
فقال الخباز:
-       لنأخذ معنا خبزًا كثيرًا.
لكن يوسف، الحلاق الصغير، لم يكن يرى هذا الرأي، فهو لم يكن يريد أن يظهر بمظهر شيخ عجوز يحمل على ظهره سلة خبز.
عندئذ قال الخباز:
-         بالنسبة لي، سوف آخذ معي خبزًا كثيرًا.
ووضع على ظهره سلة خبز كبيرة، فوق لوح مثبت بحبل.
وبعد أسبوع، صعد الحلاق الصغير، وهو يتظاهر بالتعب، على اللوح المثبت على ظهر صديقه، وأخذ يأكل الخبز وهو يصفر. كان يأكل الخبز لأنه كان جائعًا، وكان يصفر لأنه كان مبتهجًا.
وذات يوم قال له الخباز:
-         ناولني قطعة من الخبز، يا صديقي الحلاق.
لكن الحلاق الذي كان يصفر لم يجب.
وألحف الخباز في الطلب، عندئذ قال يوسف:
-         لن أناولك خبزًا إلاَّ إذا فقأت لك عينًا.
وبما أن الخباز كان ولدًا طيبًا وكان يعرف أن صديقه شرير، فقد تركه يفقأ له عينًا ... لكي يحصل على قطعة من الخبز ويتمكن من مواصلة السير.
وكان يوسف يصفر بلا انقطاع، وهو يجلس مستريحًا على اللوح المثبت على ظهر صديقه. وسار الخباز وهو لا يرى الطريق إلاَّ بعين واحدة.
وفي صباح اليوم التالي، طلب قطعة أخرى من الخبز لأنه كان جائعًا ولم تعد لديه قدرة على مواصلة السير.
عندئذ قال يوسف، الحلاق الصغير:
-         إنك تأكل خبزًا كثيرًا ... ولن تحصل على قطعة أخرى إلاَّ إذا فقأت عينك الثانية.. وعندئذ فسوف نحيا معًا دائمًا لأننا أصدقاء. أنت تحملني وأنا أدلك على الطريق.
ووافق الخباز لأن قلبه كان أبيض ورقيقًا مثل لب الخبز.
وبعد أن فقد بصره، أكل كسرة أخرى من الخبز، ثم استأنف سيره ... بينما أخذ الحلاق يصفر وهو جالس على كتفه، لأنهما كانا يريدان الوصول إلى القصر العظيم الذي كان على قمة الجبل.
وعندما أحس الخباز بالتعب، توقف لحظة ليستريح، وأنزل على صخرة لوح الخشب الذي كان مثبتًا على ظهره والذي كان يوجد عليه ما تبقى من الخبز وصديقه الحلاق.
لكن يوسف الذي رأى القصر العظيم الذي كان على قمة الجبل، ترك الخباز الأعمى واتجه وحده إلى غاية رحلتهما.
وسالت الدموع من عيني الأعمى المفقوئتين. وبينما هو يجهش بالبكاء، سمع صوت امرأة يقول له:
-         إذا مسحت عينيك بيديك المبلولتين بالدموع فسوف تسترد البصر.
وبصق الخباز المسكين في كفيه لكي ينظفهما قبل أن يمسح بهما خديه، ثم فرك عينيه بيديه المبلولتين بالدموع.
عندئذ رأى أمامه فجأة، ليس فقط امرأة، وإنما أيضًا حمامة.
ولما كان الجوع قد أخذ منه كل مأخذ، فقد قال لنفسه: "لو كان بوسعي أن آكل هذه الحمامة..."
عندئذ قال له صوت آت من شجرة:
-         دع هذه الحمامة وأكمل سيرك.
وعندئذ سار الخباز، الذي كان ولدًا شجاعًا، لكنه صادف بعد لحظة المرأة نفسها محاطة بفراخ صغيرة.
وإذ استولت عليه الدهشة، قال لنفسه: "إني جائع".
لكن المرأة الجميلة قالت :
-         أرجوك لا تمس فراخي لأنني أحبها لما تمنحني إياه من بيض.
عندئذ مشى الخباز الذي كان فتىً شجاعًا وهو محتدم الشعور، تاركًا الفراخ التي كانت تحيط بالمرأة الجميلة. وسار ساعات طويلة ولم يتوقف إلاَّ عندما رأى أمام قدميه سحلية. وبما إن الخباز المسكين كان مرهقًا جدًّا، فقد سقط على صخرة. وعندما تمكن من فتح عينيه، وجد نفسه في البستان الذي كان القصر العظيم فيه، فدخله، وهناك، وجد أن صديقه يوسف قد أصبح حلاق الملك.
ولم يشعر الحلاق بالارتياح لرؤية أن الخباز لم يعد أعمى. وقال الحلاق للملك:
-         مولاي، لقد كان هذا الفتى أعمى. وقد استرد بصره. ولابد أنه على صلة بالجان. إن وجوده هنا خطر.
لكن الملك الذي كان رجلاً ذكيًّا قال له:
-         أنا لا أظن ذلك.
عندئذ أشعل الحلاق النار في القصر، انتقامًا من صديقه.
فقال الملك للخباز:
-         أنت وحدك القادر على إنقاذنا. لقد تمكنت من استرداد بصرك. ولذا فإن بوسعك أن ترى في هذه اللحظة الخطر المحدق بنا، وإلاَّ فإنك سوف تهلك معنا.
وفي البستان، وجد الخباز الحمامة مع المرأة الجميلة التي تحب الفراخ، وأدرك الجميع سبب حزنه.
وبينما راحت المرأة والفراخ تنظر إليه، هطل وابل مطر من السماء السوداء، وأطفأ الحريق الذي كان قد بدأ.
وسالت دموع كثيرة من عيني الخباز على خديه عندما عرف أن صديقه الحلاق قد مات في الحريق.

* * * * * * *

يبدو أن رسالة هذه الحكاية هي أنه لا يجب عليك أن تحمل على كتفيك إنسانًا قادرًا على أن يفقأ عينيك.
فالمرء لا يسترد بصره إلا في الحكايات التي تُروى للأطفال.




أحمد راسم
قسطنطين كافافي


ها هو ذا واحد آخر يرحل عنا! بكل بساطة... كالآخرين. ملمحٌ جميل من أزمنة ولَّت كان يضفي شيئًا من الرونق على مدينة الإسكندرية. أما بيته الحافل بالأسرار، في شارع ليبسيوس، حيث كانت بضع شموع تعكس على الجدران ظلالاً غريبة، فقد كان يشيع حوله موجاتٍ مفعمةٍ بالشعر وباللغز. لقد كان يحب الأشكال الجميلة والأفكار الجميلة وكان يتجول على امتداد الأرصفة كظل. بينما كان حيًّا، كان شبحًا بالفعل، وبموته، يبدو أنه قد أصبح أكثر حياة.
لم ألتقِ بالرجل في حياتي ولا مرةً واحدة، لكن ما أكثر أصدقائي الذين كانوا جد معجبين بشعره.
ذات يوم قال لي بيتريدس:
هذا الشاعر ليس البتة ذلك النبع الصافي الذي ينشد في الفجر كل صباح؛ ولا هو أيضًا النافورة التي تروي ظمأ من به كرب؛ إنه شراب محبة، شراب محبة رائق الماء وعذب الغناء. لم يكتب غير عدد قليل من القصائد، يرسلها إلى أصدقائه عندما يطبعها على أوراق منفصلة.
كما قال لي بيتريدس:
قرأتُ ذات مرة لكافافي المثل العربي التالي، الذي كنت قد عثرت عليه للتوِّ في مجلة أدبية:
" تضع أنثى النسر ثلاث بيضات. ومن الثلاث، تهمل واحدة وترقد على البيضتين الأخريين. ومن فرخيها، لا تطعم غير واحد.
أيها الشاعر، لتحذُ حذْو أنثى النسر؛ وإن كتبت ثلاث قصائد، فلتكن لديك الجسارة على إعدام اثنتين منها ".
عندئذ مسح كافافي صدره بيده مسح من به شهوة وقال:
" لَكَمْ أفهمُ أنثى النسر! إنني أفهم هذا المثل. إنني أحب هذا المثل وأحسه ".
*

لم أقرأ لكافافي غير بضع قصائد مترجمة أحسستُ بقوة جمالها . لكن المرء لا يمكنه، في حالةٍ كهذه، أن يجيز لنفسه الحديث عن شاعرٍ عظيم.
لكن (ستافروس) ستافرينوس (رئيس تحرير مجلة "لاسومين ايجيبسيان" . – المترجم) ، وهو رجل عنيد، يطلب إليَّ، مهما يكن، بضعة سطور عن كافافي.
من رسالةٍ  تلقيتها أخيرًا من الرسام ماكريس ، يسعدني أن أعيد نسخ هذه الفقرة وفي ذهني الأب ستافرينوس...  وروح كافافي الرومانسية الرقيقة:
"لكن الديك الذي يقف على الإفريز، جد قريب من غرفتي، لم يصِحْ البتة عندما دقت ساعة المحطة الجديدة في الواحدة أو الثانية أو الثالثة فجرًا. إنه لا يصيح إلاَّ في الواحدة ونصفًا أو الثانية ونصفًا أو الثالثة ونصفًا."
ليسمح لي صديقي وشاعري الكبير بأن أذكره بهذا المثل الذي سمعناه صغارًا:
"الديك لا يصيح إلاَّ في ساعة صياحه في موطنه الأصلي".
والحال أن كل من أتيح له امتياز قراءة شعرك لابد من أن تكون روحه روحًا مُعَذَّبة حتى يتسنى له فهمك.

1933



فولاذ يكن(1901-1947)
رؤيا

الشفقُ يُرخي غلالاتهِ الشفيفةِ،
عندما أراكِ جالسةً في ركنٍ قصيٍّ:
سماءٌ متوهجةٌ وعامرةٌ بالنجوم
تُنَوِّرُ وَجهكِ المتأمل بضيائها الجميل.

حالمةً، تراقبين المشهد الطبيعي الرحب
الذي تتراءى وجوهه المتباينة في عينيك،
وإذ تجتازُ النسمةُ أوراق الشجر المخضوضرة
تَطبع قبلتها المديدة على ذَهَبِ شَعركِ.

أخال أنني أرى فيكِ، يا ذات الحُسنِ الذابلِ الفخور،
فنظرتُكِ تعرفُ جيدًا إبداء ذلك،
شعاعًا شمسيًّا هادئًا وحيدًا،
بحيث إن النهار، إذ يرحلُ، يَنسى جَرَّه وراءه!


فولاذ يكن
سونيت


بينما كُنتُ أبحثُ عن الكائن البريء الرقيق
عَلَّني أتَحسس فرحةً طال اشتهائي لها،
أشعلتِ في حواسي، بنظرةٍ عابرة،
الرغبة َ التي بَرَّحَها انتظارُك.

منذ ذلك الحين صرنا أحباء. فمن ذا الذي يعيد لنا
تلك الأيام التي ولَّت، الممتلئة صفاء،
تلك اللقاءات الرائقة في أمسيات الصيف الجميلة
حيث تَوَحَّدَ قلبانا المخلوقان للتواصل؟

أُخرياتٌ جَعلنني أقضي ساعاتٍ من المسرة
لكن ما من واحدة منهن تَسنَّى لها قهري
تحت التباريح الحلوة لنشوةٍ حبيبة.

وربما، في أيام زاهية أكثر، وأكثر صفاءً،
تصوغ مشاعري القديمةُ القصيدةَ
التي سيكونُ حُبِّيَ الأولُ أجملَ أبياتها.



إدمون جابس (1912  1991)

عشر أغنيات
(1943-1945)

أغنية لأجل ملك الليل

هل تعرفُ الملكَ الأسود
الذي يحفظُ في قلبه
سيفًا وأزهارًا؟

هل تعرفُ أخواته؟

الأولى توقظُ الريح،
محلولةَ الشعرِ، مرفوعةَ اليدين.

الثانيةُ تهيِّجُ المحيط:
عمرها مائة عام.

الثالثةُ فأرةٌ، صبيةٌ جميلة،
يشبكها الملك
على كرافتة ابنه.

ذاتَ صباح
اغتالَ ثلاثونَ أميرًا حاسدون
مليكهم،

تلك هي الحكايةُ الأسيفة
حكايةُ الملكِ الأسودِ مالاكو
الذي تسكنُ قلبه
ثلاثةُ أشباحٍ تبكي


أغنيةٌ لأجل الموتى الثلاثة الذاهلين

 كنا ثلاثةَ موتى
لا نعرفُ ما الذي جئنا لنبحثَ عنه
في هذهِ المقبرةِ الفاغرة
أكبرنا سنًّا قال: "ياللروعة!"
الآخرُ قال:  "الدنيا حر ..."
وأنا الذي أكادُ أفيقُ بالكادِ من نعاسي
بداهةً أقول:
"بمثلِ هذه السرعة؟"
كنَّا ثلاثةَ ظلال
بلا شِفاه، بلا رِقاب
وإن كنَّا نضحك
تحتَ الإبط
إن لم توجد الأحلام
ثم جاءتنا فتاة
عندَ هبوطِ الليل
لتكونَ في صُحْبَتِنا.


أغنيةٌ لأجلِ قارئي

 لن تجدَ، يا قارئي، في ألبوم الأغاني هذا
أُغنيتي الأثيرة.
إنها تختفي في مكانٍ آخر،
في الريحِ التي تُذَهِّبُ أهدابك
هذهِ النظرةُ التي تشيع فيها الهواء..
لابدَّ إنَّك عندما تنام،
تسمعُ أغنيتي...

لستُ مُغَنِّي الليل.
أنا حيثُ تضحكُ، ضحكتك؛
وحيثُ تبكي، وروارُ دموعِكَ الذاهل.
كلُّ نسغ العالم على شفتيك.
لابد إنك عندما تستيقظ،
تغنِّي أغنيتي...


أغنيةٌ لأجلِ مساءٍ ممطر

رجلٌ انتظرَ
أن يُحب.

الأجراسُ بعيدًا
تدُق.

بلا رجاء
انتظرَ الرجل.

كلُّ بابٍ موصد
يحفظُ سرَّه.

رجلٌ يبكي
المحبوبة...


أغنيةُ النهارِ الضائع

النهارُ سقط
كصرخةٍ ناضجة.
أنا لا أحبُّ الصرخات.

النهارُ سقط
كشمسٍ ناضجة.
أنا لا أحبُّ الليل.

هذا النهارُ الذي يتقدُ
في وجعي.

النهارُ سقط
كعصفورٍ عجوز.
أنا لا أحبُّ الأرض.

النهارُ سقط
كحلمٍ قديم.
أنا لا أحبُّ البحر.

هذا النهارُ الذي يموت
في النظرات.

النهار سقط
وسط الطريق.
لم يلتقطهُ أحد.


أغنية الغريبة

 كانت واقفةً
بإزاءِ الشجرة.
كانت عاريةً.
كانت فرج الشجرة.

انتظرت الرجل
ومن عشقهما
سيولدُ العالم.

كانت شاحبةً.
كانت المحبة.
وبثها الرجلُ
اسم إخوته.

كانت ميتةً
ولم يَكُفَّ الرجلُ عن الكلام.


أغنيةُ الغريب

 ها أنذا أبحثُ عن رجلٍ لا أعرفه
لم يُصبح قَط أنا نفسي إلى هذا الحد
إلاَّ منذُ بدأتُ البحثَ عنه.
أَلَهُ عينايَ ويداي
وكلَّ هذهِ الهواجسِ الشبيهةِ
بحطامِ هذا الزمن؟
موسمُ الألفِ غرق،
البحرُ يكُفُّ عن أن يكونَ البحر،
يصبحُ ماءَ القبورِ الباردَ المتجمدَ
ولكن، أبعدَ من ذلك،
من الذي يعرفُ أبعدَ من ذلك؟
صبيَّةٌ تُغنِّي للتقهقر
والليلُ يُخَيِّمُ على الأشجار،
راعٍ وَسَطَ خراف.
انتزعوا العطشَ من حبةِ الملح
التي لا يرويها أيُّ شراب.
بالحجارة، يدمدمُ عالمٌ
لكونه، مثلي، بلا مكان.


أغنيةُ المرأةِ الجالسة

هذهِ امرأةٌ جالسة
تنهشُها الشموس.

دموعُها في الزمنِ الغابرِ
ملأت الأرضَ أشجارًا
قلبُها يحترق.

هذهِ امرأةٌ جالسةٌ
على رُكبتيَّ. شاردةً
تحسبُ الأيام.


أغنيةُ الفتاةِ الشرسة

 الفتاةُ
ذاتُ القبعةِ المبرقشة
-  من هيَ؟ أنا لا أعرفُها-
تغرِزُ، ضاحكةً، يديها
في عيونِ النائمين.
عاشقةٌ للأغاني
جدُّ شرسةٍ بالفعل
-  من هيَ؟ أنا لا أعرفُها-
وهيَ أيضًا تجْهَلُني
لأنَّ عيْنَيَّ، المغرمتين بِنَفْسَيْهِما
تلتهمان نَفْسَيْهِما عندَ هبوطِ الليل.


أغنيةٌ قصيرةٌ لِيَدِ الجُنديِّ الميِّت المُتصلِّبَة


يدُ الجُنديِّ الميت ما بَرِحَت متَشَبِّثَةً بالشجرة،
والسبَّابةُ على زِنادِ البُندقية.
ما أكثر النجومِ، ضحاياه.
يا هذا الجُندي،
إنَّكَ لَتَصْنَعُ لَنا سماءَ فَرَح.
إنَّهُ الصيف.
العُشَّاقُ يتَمَتَّعون بأجملِ سَقْف.
يا هذا الجُندي،
ها أنتَ ذا تَنام؛
ولكن ما الذي تَراه؟



إدمون جابس
شذرات

ماتت أختي بين ذراعيَّ بالفعل. كنت وحدي قرب وسادتها. أذكر أنني قلت لها شيئًا كـ : "لا يمكنك أن تموتي. هذا مستحيل" . وهو ما ردت عليه بهذه الكلمات بالضبط : "لا تفكر في الموت. لا تبكِ. فالمرء لا يهرب من قدره".
أَدركتُ، يومها، أن هناك لغةً للموت، كما أن هناك لغةً للحياة.
إن المرء لا يتحدث لمحتَضَرٍ بالأسلوب نفسه الذي يتحدث به لإنسانٍ حيٍّ. وهو لا يُجيبك بعدُ بالأسلوب الذي كان يمكن أن يجيب به قبل ذلك بلحظات. إن كلامه مختلف.
*
لقد كنت في آن واحد متمردًا على الظلم الذي يمثله كل موت – والمُبَرِّرُ أقوى عندما يحل بإنسان في مقتبل العمر- وسلبيًّا. لقد تكلمت أختي قبل أن تلفظ أنفاسها عن "القدر". وفكرة القدر تخترقني، بدوري،  اختراقاً جد عميق ومن المؤكد أن مصر ليست غريبة عن هذه الفكرة.
إنني أعتقد أن هذا كله كامن في أعمق أعماق كتبي. والحال أن اليهودية، المشربة بهذه الجبرية بحكم أصولها الشرقية، قد جعلت من ثنائية السلبية – التمرد، أساسًا، عين فضائها. لقد أصبح تمردها تساؤلاً معذَّبًا.
*
لا يمكن للمرء النظر إلى مصر، إلى الشرق، بعيونِ غربيين دون أن يسقط في غرائبيةٍ تتنكر لما هو أساسيّ.
....... كلا، إن المصري ليس كسولاً ولا بليدًا ولا خامل الحس. إنه ببساطةٍ شديدُ الالتفات – خاصة الفلاح – إلى العلامات والإشارات التي تغيب عنَّا.
*
إن فكرة الذهاب للعيش في إسرائيل لم تخطر ببالي قط. ولعل ما وراء ذلك هو شيء أعمق بكثير، شيء يجري تناوله باستمرار في كتبي، وهو كرهي الأصيل لكل انغراس. إن لديَّ انطباعًا بأنه لا وجود لي إلاَّ خارج كل انتماء. وانعدام الانتماء هذا هو جوهري ذاته. ولعلني لا أملك ما أقوله غير هذا التناقض الأليم: إنني أطمح ككل إنسان إلى مكان، إلى دار، ولا يمكنني، في الوقت نفسه، أن أقبل المكان الذي يعرض نفسه عليَّ.
*
كل ما أعرفه هو أن الوحدة، بحكم قوة الأشياء، قد أصبحت القَدَرَ العميقَ لليهودي. ودولة إسرائيل، ليس فقط لا تُنهي هذه الوحدة، بل إنها، أحيانًا، تزيد من حدتها.






ألبير قصيري (1913-2008)
الجوع


عندما يجوع المرء مساءً، - بعد أن يكون قد صاغ
وجوده المر في إيقاعات سونيتات فاحشة، -
يهبط إلى الشارع مصاحبًا تعاسته،
ويجد لأحشائه الجائعة شيئًا قابلاً للذوبان.

ما أبعد المرء عن تحرقات المشاعر والأحلام والأوهام؛
فالمثل الأعلى آنئذ هو الخبز المؤرَّج،
ولا يعود المرء راغبًا في البصق على البورجوازيين العابسين
ولا في التحرش بمؤخرات بناتهم الفاتنات.

فمشهد الحلوى الجميلة في محال الحلوى
يمنح معدتك لذات زهيدة؛
وسرعان ما ينسى المرء لوسيل و ماري.

ودون أن ينخدع بعدُ بالحسناوات المستحيلات
يحلم القلب، - الذي صرعته رغبةٌ متضورةٌ –
بالنكهة المحبوبة لحساءٍ ملائكي.

1933

0 التعليقات: