بلاءُ السديم - مختاراتٌ من أعمال كاتبٍ سورياليّ





جورج حنين
بلاءُ السديم
(مختاراتٌ من أعمال كاتبٍ سورياليّ)

ترجمة
بشير السباعي
وآخرين
جان جاك لوتي
الحركة السوريالية في مصر
ترجمة
بشير السباعي

تعرفون كل تلك الأكشاك الرمادية الباهتة الملساء التي تحتوي تارة على محولاتٍ كهربائية قوية وتارة أخرى على كابلاتٍ عالية التردد والتي تجدون على جوانبها عبارة قصيرة تحذركم : "لا تفتحوا : خطر الموت" . حسناً!، إن السوريالية هي شيء كتبت عليه يد لا حصر لأصابعها رداً على الصيغة السابقة : "نرجوكم أن تفتحوا: خطر الحياة".
جورج حنين

إن الحركة السوريالية في مصر، وهي بلدٌ ذو تقاليد شعرية ترجع إلى زمن بعيد، إنما تطرح نفسها دفعة واحدة بوصفها وريثة رامبو ولوتريامون وجاري. وهي حركة تحث على صدم الأساليب المألوفة لاستجابات الحواس، وتنشر مزاج السخرية السوداء، وتحرض على التمرد على كل ما من شأنه الإخلال بالحرية المطلقة. وبهذا فإنها تمس جميع مجالات المعرفة ولا تتركها على حالها. وما الخيارات السياسية للحركة السوريالية غير نتائج طبيعية مصاحبة لهذه المواقف كلها. ويترتب على ذلك، خاصة في المجال الأدبي، أن السورياليين يرفضون التقنيات التقليدية (والتي من العجب أن لوي آراجون قد رد إليها الاعتبار). وهم يدعون أنصارهم إلى مواصلة البحث عن الجدة والابتكار وعن الخارج عن المألوف ملتمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة ومؤكدين لهذا البحث على شتى المستويات الممكنة. كما أنهم، أخيراً، يثيرون الشبهات والريب حول اللغة التي تنطوي على الكثير من العادات والمألوفات والكوابح والقيود، وتسدل ستاراً وحجاباً على الحياة.
والحال أن الناطقين بالعربية كانوا لا يعرفون آنذاك من الناحية الفعلية أي شيء يتصل بهذه الحركة كما كانوا لا يعرفون أياً من الكتاب الذين تعتبرهم السوريالية أسلافاً لها أو منتمين إليها. أما الناطقون بالفرنسية (في مصر)، والذين تلقوا تعليمهم في مدارس تتميز بقدر بالغ من محدودية الآفاق، علمانيةً كانت هذه المدارس أم دينية، فنادراً ما أتيحت لهم الفرصة، خلال دراستهم المدرسية، للتعامل مع إبداع الكتاب الذين كان من شأن تحررهم في الموقف من الأخلاق واللغة أن يصدم المجتمع الذي يعلي من شأن الرزانة والتعقل. وهكذا فإن الحركة السوريالية، بمواقفها المضادة للاتباعية، قد هزت ما يستحسن تسميته بالمؤسسة المحلية. وكان الناطقون بالفرنسية، خاصة الأكثر شباباً بينهم، هم أول من يصغون للأصوات الجديدة وأول من ينكَبُّون على مناقشتها. أما الصحافة الأدبية المصرية، وهي عزبة للمتقدمين في العمر، فقد ظلت من جهتها جد متحفظة وإن كانت لم تحرم نفسها أحياناً من التهكم على محاولات المجددين.
والحال أن جورج حنين إنما يدخل السوريالية إلى مصر في عام 1934 عندما ينشر كراسين، أولهما بحثٌ تنكر له، عنوانه: تتمة ونهاية، وثانيهما كراس لم يكن مؤهلاً بعد لأن يتنكر له ولم تكن فرصة التنكر له كبيرة. وعنوانه: التذكير بالقذارة. فالواقع أننا لا نتنكر، مخلصين، لعنفنا الخاص إلا لكي نتبنى عنفاً أشمل. وقد واصل نشاطه بإلقاء عدد من المحاضرات، ومن بينها محاضرة عن موسيقى الجاز، وأخرى عن لوتريامون، وثالثة اختار لها عنواناً: من بارنابو إلى كريبور. وبعد ذلك ببضع سنوات، حاول تقديم رؤية شاملة، فعرض أفكاره في محاضرة، نشرت بسرعة، وكان عنوانها: حصاد الحركة السوريالية (1937).
وفي عام 1937، في إطار جماعة المحاولين، وهي منتدى ثقافي بالقاهرة، شجب جورج حنين بعنف – خلال جلسة نظمت تكريماً للشاعر المستقبلي مارينيتي – تواطؤ الشعر مع الإمبريالية الإيطالية في الأعمال الأدبية للفاشية. وقد أدى الصدام إلى انشقاق في صفوف الجماعة الصغيرة وابتعد جورج حنين عنها. وعندئذ، أسس جماعة الفن والحرية، وهي جماعة تجاوبت فوراً مع نداء أندريه بريتون في البيان الذي يحمل عنوان: من أجل فن ثوري حر. وقد وقعه جورج حنين مع الباقين، في عام 1938، في مكسيكو، جنباً إلى جنب دييجو ريبيرا. (1)
وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان: يحيا الفن المنحط!، (2) وهو عبارة عن احتجاج على الحظر الذي فرضه هتلر على فن التصوير الحديث، كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي وإلى التمرد على المبادئ الموروثة الجاهزة. وإليكم الفقرة الأغنى بالمعاني في تلك الوثيقة:
"من المعلوم لنا بأي قدر كبير من العداوة ينظر المجتمع القائم إلى كل إبداع أدبي وفني يهدد على نحو مباشر إلى هذا الحد أوذاك الأنساق الفكرية والقيم المعنوية التي يتوقف على صونها إلى حد كبير استمراره هو – بقاؤه.
"وتبرز هذه العداوة اليوم بشكل واضح في البلدان الشمولية، خاصة في ألمانيا الهتلرية، عبر العدوان الأكثر خسة ودناءة على فن يصفه الهمج المزينون بشرائط ضباط والذين جرت ترقيتهم إلى رتبة المحكمين العليمين بكل شيء، بأنه فن منحط...
"أيها المثقفون والكتاب والفنانون! فلنواجه التحدي يداً واحدة. إننا نتضامن تضامناً مطلقاً مع هذا الفن المنحط. ففيه تكمن كل وعود المستقبل. فلنعمل على انتصاره على العصور الوسطى الجديدة التي ترفع رأسها في قلب الغرب" (ديسمبر 1938).
وبعيد ذلك أسس جورج حنين معرض الفن الحر. وقد رعى مجلة أسبوعية اسمها: دون كيشوت (12 عدداً). ومن بين من كتبوا لها نتذكر: ريمون أجيون وكورييل ورمسيس يونان وسانتيني ومنير حافظ وماري كافاديا. وقد نجح جورج حنين أخيراً في تهيئة الأذهان للتعامل مع ما تدخره لها الحرب العالمية الثانية من مستجدات. ولنذكر بسرعة أسماء عدد من الفنانين الأجانب الذين أبقتهم الحرب العالمية الثانية في مصر: إيريك دو نيميش، وهو رسام روماني متنوع المواهب، وديفيد دو بيتيل، وهو رسام انجليزي يتميز بأعمال غير مألوفة. وكتاب مثل جون فليمينج وويليام ويلز وجون ميلر. وكانوا كلهم أعضاء في جماعة السمندر التي أسسها في القاهرة ج. بوليت. وكانت مكتبة ركَّاح في القاهرة إلى جانب مرسمي إيريك دو نيميش وديفيد دو بيتيل هي أماكن اللقاء. وهناك كان يظهر جورج حنين وأصدقاؤه عندما لا يلتقون في بيته. وبهذا الشكل، فإن عدداً كبيراً من الفنانين المحليين، مثل كامل التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وسمير رافع... يكتشفون مالم يكن بوسعهم أن يجدوه في أي مكان آخر. لكننا سوف نرجع إلى الحديث عن ذلك فيما بعد.
في عام 1947، سوف يصدر جورج حنين وإدمون جابس مجلة لابار دو سابل، وسوف تصدر منها ستة أعداد حتى عام 1953، وسوف تظهر على صفحاتها نصوص مؤسسيها ونصوص أصدقائهم: إيف بونفوا و م. بلانشار و سي. لوسيه وهنري باستورو وكثيرين غيرهم. وسرعان ما تصبح لابار دو سابل العنوان العام لمجموعة كتابات يصدر منها على التعاقب في مائة نسخة فقط للعمل الواحد الأعمال التالية:



1-   ج. جرينييه : مفردات ، 1949
2-   ف. سوبو : أغنيات ، 1949
3-   ا. جابس : صوت الحبر ، 1949
4-   ج. حنين : المتنافر ، 1949
5-   إ. بونفوا : المسرح الدائري ، 1949
6-   م. بلانشار : العالم المحيط بنا ، 1951
7-   ا. جابس : بول ايلوار ، 1952
8-   ج. حنين : الصورتان ، 1953
كما تظهر دراستان فلسفيتان لجورج حنين:
إلماعة عن كافكا (1954)، مع نصوص فرنسية وإنجليزية وعربية.
آراء حول كيركجارد (1955)، بالاشتراك مع مجدي وهبة.
وليس من غير المفيد التذكير بأن جورج حنين وإقبال العلايلي، زوجته، قد أسسا أيضاً دار نشر ماس نحو أواخر الحرب. وهكذا فقد نشرا، ليس دون نجاح، الأعمال التالية:
1-    ألبير قصيري : منزل الموت المحقق (رواية) ، 1944. كما صدرت في الوقت نفسه ترجمة إنجليزية لها.
2-    ج. حنين : من أجل وعي منتهك للمحرمات، 1944.
3-    ج. دميان : من هو السيد أراجون؟ . 1945.
4-    إ. العلايلي : مأثرة ألمانيا ، 1945.
5-    ن. راضي : مؤامرة العاجزين، 1945.
6-       -     : العرض مستمر (لفناني وكتاب جماعة "الفن والحرية").
كما كتب جورج حنين في المجلات العربية لذلك الزمن، خاصة مجلة التطور، حيث تظهر ترجمة لـ فصل في الجحيم لآرتور رامبو، كما كتب في المجلة الجديدة. وكتب في مجلات فرنسية مثل لي ليتر نوفيل و لا فليش و ليزامبل و لي كاييه دو سود.  ولا يجب أن ننسى أنه كان واحداً من محركي مجلة ايتود ميديتيرانيين وفيو (نيو يورك) وفي- في- في (نيويورك) و لوسي بلو (بروكسل) و بلو (بروكسل) و إدَّا (بروكسل) و لي دوسور (بروكسل) و بوا (بوينوس آيريس) ... وفي مصر، ظهرت نصوصه في لابورص ايجيبسيّن و جورنال ديجيبت و نيل و بروجريه اجيبسيا، كما ظهرت في المجلات التالية : أنيفور و لاسومين ايجيبسيّن و لا ريفي دو كير و كارفور و فالير و لوازير . ويصعب اليوم الوصول إلى الصحف المصرية التي صدرت بالفرنسية، وهو أمر نأسف له.
*
بعد أن عرضنا النشاط الثقافي الذي قام به جورج حنين وجماعته، من المناسب أن ننظر في إسهاماته الأدبية الأساسية.
كان عنوان واحد من أعمال جورج حنين الشعرية: لا مبررات الوجود (1938)، وهو عنوان يشكل في حد ذاته تحدياً بالفعل. والحال أن القصائد، مثلما هي الحال إلى حد ما عند بريتون أو بريفير، إنما تتدافع كشلال من الصور غير المألوفة التي تتلاطم، ثم تنفجر كأسهم نارية. لكن هذا كله بعيد عن أن يكون مجانياً أو اعتباطياً. فخلف السطور، يتضح المراد: إن صورة خطية تتراكب على صورة أخرى ودون أن تطمس مع ذلك الصورة الأولى، بينما تظهر بالفعل صورة ثالثة وهلمجراً. ووراء المجازات الخاطفة، بالرغم من أنها جد مشوهة وجد شاذة، تبقى تيمة متصلة، هي تيمة الزمن. ذلكم هو الساحر العظيم – بحسب بودلير – والذي يحول كل شيء، الأشخاص والأشياء. ويمكننا عندئذ أن نتساءل ما إذا لم تكن مجازات جورج حنين إعادات خلق لا نهائية للزمن. ولابد لنا من أن نسجل أنه في حين أن هذه الأخيرة بعيدة عن أن تدور في الزمن إلاَّ أنها في الأغلب متزامنة. إن القصيدة تتقدم وهي تنشر صورها مع اقتحامها المتواصل للأعماق. وهي تنتج، عبر التتابع، أبعادها الخاصة. إلاَّ أن من الأحرى بنا أن ندع جورج حنين يوضح بنفسه معنى واتجاه الصورة في شعره:
"حتى يتسنى لنا، كما يشدد على ذلك رامبو، أن نكون في المقدمة، حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آن واحد ما له صورة وما ليس له صورة، يجب بشكل واضح وفي المقام الأول أن نتخلى عن كل ما يتعارض، في الأطر القديمة للشعر وللتعبير الشعري، بل ولأسلوب عمل الذهن، مع السير نحو المجهول، مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة. وإذا كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها، أفلا يرجع ذلك ببساطة إلى أن الصور التي استخدمها الشعراء كانت قد وصلت إلى درجة تشبع لا تنتج غير صور مقفلة؟ ألا يرجع ذلك إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها، بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء، قد فرضت تداعيات جديدة لصور توسع إحداها الأخرى على مدى البصر، لصور مفتوحة، لصور نوافذ؟
"هنا، من حقكم أن تتساءلوا: وما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و "الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من الأمثلة السريعة أن تسهم في إيقافنا على هذا الأمر.
"كنموذج للصورة المقفلة، أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من لامرتين:
المساء يعيد الصمت.
جالساً على هذه الصخور المهجورة،
أجد نفسي قي موجة الفضاء
مركبة الليل التي تتقدم.
"فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة: "مركبة الليل التي تتقدم"؟ لاشيء سوى ما هو مجاز ومعترف به بالفعل. زحف الظلمات المهيب على الأرض، - حيث المركبة في الشفرة الشعرية، هي الأداة التي ترتبط بشكل عادي تماماً مع فكرة المهابة. لكن ذلك لا ينشئ أية علاقة جديدة بيننا وبين الليل، والحق أننا لسنا بإزاء تذكير. وهو تذكير ملون بالكاد بإشارة جد عمومية لا يتوجب بعد أن يوجد مجال للعودة إليها. وهذه الصورة تنقفل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريرة منذ زمن بعيد. وهو مقرر إلى حد بعيد بحيث أننا لا نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه مع الشاعر، حيث لا يمكننا أن ننتظر – لا نحن ولا الليل – شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبررات عتيقة للنظر، لا شك أن مراعاتها لا طائل من ورائها.
"وفي هذه الحالة المحددة، تتقدم مركبة الليل ماشاء لها أن تتقدم، بلا طائل، أما الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء، يتراجع بشكل لا علاج له.
"لننظر الآن في "فلاح باريس"، حيث تنتشر في باقات من الكريستال العبقرية الشعرية لآراجون الذي نحبه، والذي لم تكن قد أفسدته بعد تقلبات حياته وزوجته وحزبه. فما الذي نقرأه هناك؟
"على مدار عامٍ كامل شددت بنواجذي على شعور من السرخس. عرفت شعوراً من الراتنج وشعوراً من الزبرجد وشعوراً من الهستيريا. شقراء كالهستيريا، شقراء كالسماء، شقراء كالتعب، شقراء كالقبلة.... كم هو أشقر صخب المطر، كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة، من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط، من اللدغة إلى الأغنية. ما أكثر الشُقرات، ما أكثر الجنون....)
"هاكم إذاً، أليس الأمر كذلك؟ موجة من الصور المفتوحة، مفتوحة على ما لا نهاية له من العلاقات الجديدة والمثرية بين الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة، في الطبيعة، في الحب. إن كل صورة من هذه الصور تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها. وخبرة المرء الشخصية، بقدر ما لا يكون المرء جثة بالفعل، سرعان ما تتخذ مظهراً جديداً من جراء ذلك، ثم إنها، بدورها، تحوز فرصاً لإنماء، أي لإثراء الرؤية الأولى التي تدين لها بزخمها. والحال أن آراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا، في صفحة أخرى من "فلاح باريس" هذا نفسه، عن فضيلة الصورة المفتوحة التي، إذ تصل إلى أقصى انفتاح لها، تصبح الصورة السوريالية:
"(إن الرذيلة المسماه بالسوريالية هي عبارة عن الاستخدام الخارج عن الأعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة، أو بالأحرى للاستفزاز المنفلت للصورة لأجله في حد ذاته ولأجل ما يستتبعه في مجال تمثيل الانقلابات التي يصعب التنبؤ بها والتحولات الغريبة: إن كل صورة، في كل لحظة، إنما ترغمكم على مراجعة الكون برمته)".
(مقتطف من إشعاع الروح الشعرية الحديثة المنبثق من باريس. القاهرة، "ريفي دي كونفرانس فرانسيز أن أوريون" العدد 5، مايو 1945، ص ص 295 – 296).
*
 بعد هذا الطرح يمكننا أن نفهم على نحو أفضل موقف جورج حنين وطرائقه الأدبية. وفي عمل آخر عنوانه: من أجل وعي منتهك للمحرمات (1944)، يزعم النقد أن الكاتب يتحدث فيه عن السياسة وأن الكراس قد كتب ضد نظام معين. ربما. إلاَّ أننا نرى بشكل خاص أنه قد كتب بهدف إعطاء الكلمات جسامتها وبهدف إعطاء الوعي قدرته على التساؤل.
في عام 1948، يقطع جورج حنين صلته بالحركة السوريالية التي كان قد انضم إليها منذ عام 1936. وهو يواصل، منذ ذلك الحين، طريقه بمفرده، متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية. فهو يعمل عن طريق الحذف ويتقدم عبر الإلغاء. وقد بدا له أن هذا النهج في التصرف إنما يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية، على مواقف وحالات تفك عقد الوجود. والحال أن عدداً من القصائد في مجموعة "المتنافر" (1949) وصفحات معينة في "العتبة المحرمة" إنما تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد.
لم يحاول جورج حنين فرض تيمات جديدة، بل حاول إنعاش بيئة شعرية وإطلاق حرية شكل من أشكال التعبير ومن الرؤية ينبثق من التداعيات التلقائية والمحفوفة بالاحتمالات غير المتوقعة. وهو ينكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينظر فيها نظرة تتميز بقدر كبير جداً من الصرامة والقسوة، ليس البتة بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها رامبو، وإنما بهدف إعادة هذه الفوضى إلى خطوطها الأساسية، إلى لحظاتها الحاسمة.
*
من بين الشركاء الأوائل، أشرنا إلى جانب جورج حنين إلى اسم إدمون جابس. وقد اكتشف بمفرده، في صدر شبابه، مرشده إلى السوريالية: ماكس جاكوب، الذي كان هو نفسه قد تخلى عنه السورياليون. وقد نصح ماكس جاكوب جابس بالاتصال ببول ايلوار في 1936/1937 ، وهو ما فعله بالفعل. وقد سارع جابس، لدى عودته إلى القاهرة، إلى التعريف بماكس جاكوب، بل إنه قد نشر الرسائل الذي كان هذا الأخير قد أرسلها إليه. وقد طلب جورج حنين إلى إدمون جابس أن يرتبط بشكل رسمي أكثر إلى الحركة التي أسسها. وكما ذكرنا أعلاه، فقد اشتركا في تأسيس لابار دو سابل. كما لعب إدمون جابس دوراً ثقافياً لا ينكر. وعلى أثر خلاف مع صديقه، أسس جابس وأشرف على مجموعته الخاصة: لو شيما دي سورس ونشر الأعمال التالية في مائتي نسخة فقط للعمل الواحد:
1-    ج. جرينييه: الإضرابات، 1955.
2-    ج. بونور: صمت رامبو، 1955.
3-    ر. شار: إنسان الثلوج الكريه، 1956.
أما فيما بتعلق بعمله الشعري، فقد نشر جابس بين عامي 1930 و 1947 ست مجموعات شعرية، في القاهرة. وقد حاول أن يوضح لقرائه الحائرين، وقوف الحلم الأبدي في وجه الأرق، بما فيه من مسرات وخيبات أمل. كما نرصد في قصائده ميلاً واضحاً إلى الشعوذة اللفظية وشكلاً من الخبث الطفولي إلى جانب رغبة صادقة في التحرر من القيود العروضية.  والحال أن هذه الروح المتمردة قد استخلصت لحسابها شيئاً من خيال ماكس جاكوب. وبعد أن أدت الأحداث إلى نضج الشاعر، أحداث حربي أسبانيا والحبشة ثم أحداث الحرب العالمية الثانية، فإنه يتوقف عن اللعب بالتورية، إلاَّ أنه بما أنه كان شبه جاد شبه مازح دائماً، فقد نشر سلسلة من "الأغنيات" التي تلخص كل مرارة الحياة والمجتمع وفيما بعد، حتى بعد ظهور أعمال رئيسية مثل أشيد داري (1959) أو كتاب الأسئلة أو حتى ايل أو الكتاب الأخير (1973)، فإننا نلحظ أن رؤية جابس للكائنات وللأشياء هي رؤية فريدة. ولا مراء في أنها رؤية أكثر اتصالاً بالواقع مما بالاستشباح، تجتمع، علاوة على ذلك، مع سذاجة موقف بكر تماماً من العالم. ولا يفتقر إدمون جابس إلى الاستغلال الصارم لأبسط زوايا الحياة الباطنية.
*
في الحركة السوريالية في مصر، احتلت ماري كافاديا (1901-1970) مكانة خاصة إلى حد ما. لقد كانت من أوائل من دعموا نشاط حنين وجابس الأدبي، حيث فتحت له أوسع أبواب صالونها بل وعرضت نفسها للخطر من جراء ذلك. ومازال إنتاجها الشعري مبعثراً في المجلات المحلية بحيث يصعب الوصول إليه. أما فيما يتعلق بمجموعاتها، فهي تقتصر على إعادة إصدار لكتاب الربيع (1943) وعلى سلسلة من الحكايات ظهرت تحت عنوان بشرة الملاك (1944). وهذا العمل الأخير وحده هو الذي يمكن اعتباره سوريالياً بحكم موضوعه أولاً، ثم بحكم استخدامه لعدد من المكملات الملازمة للسوريالية: اللقاءات غير المتوقعة، الاختفاءات، الممسوخات، وخاصة بحكم استخدام ألفاظ جديدة يتكفل السياق بتوضيحها: بليز، ريشي، موردور... كما نرصد إحساساً مثيراً أبدياً بالألم الروحي وبالرعب وبالمستحيل إدراكه وبالقسوة وبالشبق الحزين وبالإيمان بأباطيل التطير والذي يفضي إلى الإشارات الأكثر مدعاة للاستغراب.
*
وإذا كان حنين وجابس قد ظلا ضمن الإطار الدقيق للسوريالية، إلاَّ أن الكتاب الذين جاءوا بعدهما قد أعطوا الأولوية لعدد من الجوانب جد المحددة لهذا النهج في الإبداع. وهكذا فإن حورس شنودة ( ولد عام 1917) قد حافظ في عمليه: استيهامات (1942) و الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم (1946) على غرابة الصورة. وتحت فوضى ظاهرية بأكثر مما هي واقعية، فإن عمق الفكر يتحالف عنده مع المنطق الباطني. وهذا هو ما يختلف فيه اختلافاً أساسياً مع السورياليين الذين يحتقرون وينبذون كل منطق، وكل سيطرة للعقل. فخلافاً للحال عندهم، نجد أن الرؤى والصور التي تنسرب في شعره إنما ترغم القارئ على التوقف والتأمل. عندئذ تظهر بشكل واضح فلسفة كاملة عبر الرموز الحلمية العزيزة على المدرسة السوريالية.
إن بعض القصائد هي عبارة عن رؤى مهلوسة عن الرذيلة، في حين أن بعضها الأخر، في المقابل، إنما يدفع القارئ إلى عتبة الروحانيات. ونادرون هم الشعراء الذين ألقوا نظرة أكثر حدة من نظرته هو على الأحلام التي تجوس بذهن مخمور منتشٍ. والحال أن الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم هو عمل تال للاستيهامات بأربع سنوات. وفي هذا العمل، لا نعرف ما إذا كان يجب علينا أن نعجب بالترف جد الشرقي للصور أكثر أم بقوتها الإيحائية الملحوظة. وفي هذا الثراء البالغ، لا يوجد مع ذلك لا فوضى ولا عدم تماسك. والمجازات، بالرغم من تعددها الوفير وبالرغم من تنوعها الشديد، ليست محل مراكمة وتكديس عاديين، بل يجري جمعها بصرامة وفق متطلبات الفكر وتجليات كل مجاز منها تتوافق دائماً بالكامل. والشاعر، بدلاً من أن يدع خياله يستولي عليه،إنما يوجهه هو ويسيطر عليه بلا توقف. وهو إذ يراقب نفسه بأعظم انتباه، فإنه إنما يستبعد ويختار ويعيد تركيب الصور، أي أنه، باختصار، يحاول إنتاج عمل فني.
*
ومع ميريّ فنسندون (1910)، نبتعد أكثر إلى حد ما عن السوريالية. فالخروج على مألوف عمل الحواس عندها يفتقد مكانه لكن الشاعرة تحتفظ بعنف المجاز الذي يظهر في مجموعة حوار الأشباح (1953). ونحن نرى أننا بإزاء شعر متحرر من القيود الكامنة في هذا النوع الأدبي بأكثر مما أننا بإزاء التزام بالسوريالية... ثم إننا نجد في قصائد م. فنسندون خط التوجيه الذي يسمح بالمغامرة، دون مكابدة أليمة، في ولوج الشبكة المعقدة للوحدة المتشامخة وللانطواء الذي لا يرحم وللكبرياء التي لا علاج لها، وهي تيمات موجِّهة تكشف عن الأسرار الأكثر احتجاباً عبر توضيحها من داخلها.
*
أما فيما يتعلق بأندريه شديد، فلم تعد هناك حاجة للتعريف بها في فرنسا، فأعمالها قد حظيت هناك بالشهرة إن لم يكن بالمجد الذي تستحقه. ومنذ عام 1949، نشرت أندريه شديد عشر مجموعات شعرية يقبل عليها المعجبون بها إعجاباً قوياً. ولن نشير هنا إلاَّ إلى المجموعات التالية: بلد بديل (1965)، المدينة الخصبة (1972) وأُخوة الكلمات (1978). والحال أن أصالة العمل الأول والذي هو، في الواقع، جمع لغالبية القصائد السابقة أو الكتيبات التي كانت قد نشرت من قبل بالفعل، إنما تكمن في أن شيئاً لم يتغير في هذه الأشعار منذ خمس عشرة سنة، أي منذ أقدم الإصدارات. وفي القصائد الأقدم، تعتبر غنائية أندريه شديد رائقة وموجزة، كما لو كانت أشبه ما تكون ببرهان أخاذ لا ينطوي على أي لغز: إذ يبدو أن كل شيء إنما يقال بوضوح وتحديد، لكننا نشعر خلف كل قصيدة بمنفذ عاصف إلى الأسطورة ... وفيما بعد، خاصة مع العملين الأخيرين اللذين أسلفنا الإشارة إليهما، تتباعد أندريه شديد عن شار وبول ايلوار وتتقارب أكثر مع جورج شحادة. لكن من واجبنا، مع الشعراء، أن نشك دائماً في التسميات التي نسارع إلى إلصاقها بهم. إن أندريه شديد إنما تتحول في اتجاه شعر يعتبر فيه جانب الخرافي أكثر وضوحاً، لكنها، في الوفت نفسه، في قصائد الحب، تجد حيوية جديدة وأحياناً تحليقات جميلة. وعندئذ تظهر إيماءات استشراق خفيف في قصائدها تدين بها لصور ولألحان التقت بها في طفولتها. وفي المجموعة الأخيرة التي أشرنا إليها، يصبح شعر أندريه شديد أكثر نقاء وشفافية ويبتعد عن الصورة البراقة المتوهجة. لقد تخلت عن حناناتها الرقيقة القريبة من إيلوار. فتنسرب حكمة معينة بين الكلمات. والذروة الصارخة لهذا التحول هي مجموعة أخوة الكلمات التي نالت جائزة أكاديمية مالارميه. وهناك من يعتبرون الغنائية مجرد حيلة أو وعاء لصوغ التجربة. أما أندريه شديد فإنها تعتبرها تأكيداً لحقيقة شفافة لا يمكن فيها للنثر وللشعر أن يفترقا.
*
وقد يتصور المرء بعد ذلك أنه مع أندريه شديد فإن الشعر السوريالي قد اختتم مسيرته بين الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية على ضفاف النيل. لكن هذا يعني نسيان جويس منصور (1928). فالواقع أنها تمثل الجيل الجديد من الشعراء السورياليين المصريين. ويبدو أنها تعرف جيداً علوم السحر والتنجيم والقبالة وطقوس السحر، فالتعبيرات الغامضة لهذه الحقول تعاود الظهور بشكلٍ متواصل في أعمالها. وعنفها الاستفزازي، حيث يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمتي الحب والموت، جد القريبتين إحداهما من الأخرى، ليس من شأنه إلاَّ أن يذهل القارئ. إذ يبدو له عندئذ أنه يقرأ استحضارات مأساوية لإلهة أسطورية عطشى إلى الدماء. فمن مجموعة "صرخات" (1953) ومجموعة "تمزقات" ... وحتى "حكايات وبيلة" (1973)، نجد انفجاراً كانفجار الحمم لصور مهلوسة حيث يتمدد في كل قصيدة هاجس مسبق عن الاشمئزاز والرعب. والحال أن جويس منصور، بمشاركتها في جميع المطبوعات السوريالية، قد قدمت إلى الحركة عنصراً فريداً ولا بديل عنه. إن شعراء مثل بيير-جان جوف وأندريه بريتون، ونقاد مثل ماكس- بول فوشيه وجان روزلو، قد صدمتهم النبرة الحزينة، بل والغاضبة والعميقة عمقاً قاسياً لدى الشاعرة الشابة التي تعبر، دون احتيال أدبي، عن ردود فعلها تجاه الحياة والحب والموت.
*
وقد قدم كتاب آخرون كثيرون أمثلة للحركة السوريالية في مصر، وليس بوسعنا الإشارة إليهم كلهم. على أننا لايمكننا نسيان رولان فوجل، وهو معماري من أصل سويسري قضى عدة سنوات في القاهرة قبل أن يرحل عنها ليستقر في تايلاند. ونحن لا نعرف له مجموعة شعرية وقصائده موزعة دائماً في المجلات المحلية. أما منير حافظ، فقد برز أكثر من مرة في التجمع السوريالي. وقد ظهرت كتاباته في القاهرة وفي باريس؛ وقصائده وأبحاثه لا تفتقر لا إلى العمق ولا إلى الموهبة.
*
لم تقتصر الحركة السوريالية على التوجه إلى الأدباء وحدهم، فقد جرت دعوة الفنانين أيضاً إلى المشاركة فيها. ثم إننا قد أشرنا إلى ذلك بالفعل. وقد لعبت الحركة التي دشنها جورج حنين في مصر دور المحرك. ففي إطار حركة "الفن والحرية"، نظمت معارض الفنانين المستقلين في عامي 1940 و 1941 في عمارة الإيموبيليا وفي عام 1942 في فندق كونتينينتال، وأخيراً في عامي 1944 و 1945 في قاعة الفنون بالليسيه الفرنسي في القاهرة. كما كانت هناك ثلاثة معارض للفنانين المستقلين نظمت في القاهرة تحت رعاية جورج حنين: نحو المجهول في عام 1958 والمجهول لايزال في عام 1959 وأخيراً الفن الحر في عام 1960. وعلى مدار سنوات، وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، كانت "الفن والحرية" بؤرة لقاء الفنانين المحليين والأجانب الذين اعتصموا بالبقاء في مصر خلال أعوام الحرب. وقد عرفت الجماعة الجمهور بالرسم الحديث وأتاحت للفنانين المصريين فرصاً لطموحات فنية جديدة. وفي تلك اللحظة وحدها، أصبح بابلو بيكاسو وبول ديلفو وإيف تانجي وسلفادور دالي وماكس إرنست أساتذة معترفاً بهم من مصر.
والحال أن جماعة "لابار دو سابل"، التي تأسست في عام 1947، لم تكن غير محاولة عابرة لإحياء جماعة سوريالية، حيث كان فؤاد كامل، مع آخرين، رساماً يعتمد على النزعة التلقائية وصاحب رسوم تتميز بالحدة وبالرسوخ قام بها لأجل مجموعة "استيهامات" (1942) لحورس شنودة. وبعد ذلك، انخرطت "لا بار دو سابل" في طريق أدبي أكثر يتماشى على الأرجح تماشياً أفضل مع ميول أتباعها. على أننا لا يمكننا أن نتجاهل أن عدداً من الفنانين المشاهير، إلى جانب فؤاد كامل، مثل كامل التلمساني ورمسيس يونان وباروخ، بين آخرين، قد وجدوا في السوريالية مصدر إلهام لهم.
وقد انخرط كامل التلمساني في عالم فن التصوير خلال زمن الحرب (1939-1945). وقد احتفظ منه بالتمرد والجيشان. والحال أن التوترات وخيبات الأمل والاحتدام، باختصار، إنما ترمز عنده إلى تلك الأزمنة غير العادية. وغالباً ما تطغى لوحة ألوانه الحادة على الإحساس الذي تود نقله. وفيما بعد، ومع احتفاظه بالطابع العنيف لعمله، فإنه يميل إلى الاستسلام لقواعد الرسم الزيتي. على أن الفعل التصويري إنما يبدو له مدعاة للسخرية إزاء بشرية عطشى للدم دائماً وعمياء تجاه المظالم الاجتماعية. وعندئذ، إذ يتخلى عن الرسم في عام 1944، فإنه ينشد في السينما الوسيلة اللازمة لإعادة بناء عالم جديد أكثر تناغماً وانسجاماً من العالم القديم.
وقد اشترك كامل التلمساني بشكل مباشر في الحركة السوريالية برسمه لوحات لمجموعة قصص الناس إللي ربنا نسيهم (1941)لألبير قصيري ولمجموعة قصائد لا مبررات الوجود (1938) لجورج حنين. كما أعد رسوم مجلة التطور العربية.
والحال أن واحدة من أروع تلامذة كامل التلمساني، أعني إنجي أفلاطون، قد شاركت إلى جانبه في معرضي الفن والحرية في عامي 1942 و 1943.
أما رمسيس يونان، فقد استقر في القاهرة في عام 1940. وقد شارك في مختلف معارض الفن الحر و لابار دو سابل، بل إنه قد شارك في معرض السورياليين الدولي الذي نظم في باريس في عام 1947. وبعد ذلك بعام، نجح في إقامة معرض خاص لأعماله في المدينة نفسها.
ويحكم فن رمسيس يونان استيعاب التمرد الذي يدعمه، وسورياليته لها وجه إنساني واضح. فهي تقبل التحليل وتظل شخصياتها المرسومة خاضعة لعقلانية الأشياء.
والحال أن هذا الرسام الذي ترجم كاليجولا إلى العربية (1947)، قد كابد محنة كبرى من جراء موت كامي. فلم يبق للرسام غير ترامي أطراف الصحراء وعناد النبات وصمت المعدن. فهل يمكن للإنسان المتمرد الذي كانه أن يظل أسير التمرد الصامت والشكوى من لاجدوى الفعل؟ كلا، لأن رمسيس يونان هو قبل كل شيء فنان يستخدم الوسائل التي خلفها له التراث. وإذا كان قد أخذ الثورة على عاتقه، فإنه يجهد على الأقل في تحمل أعباء هذا التناقض.
والفنان الثالث الذي يمكننا ضمه إلى هذه الجماعة هو باروخ. وقد بدأ هو أيضاً مسيرته في الوقت الذي كانت السوريالية تصوغ فيه في مصر وعياً فنياًّ جديداً. على أن باروخ، خلافاً للتلمساني وليونان، لم يستسلم لإغراء الحلم. فقد طالب بحقوق العقل. بيد أن موقفه لم يمنعه من المشاركة في معارض الفن الحر. وسرعان ما يتطور في اتجاه شكل فني خاص جداً. وقد أتاحت له رحلة قام بها في عام 1946 إلى فرنسا فرصة الاتصال بكل من أ. جليزيس و ج. فيون و م. جرومير و ف. ليجير و ج. براك. والحال أن هؤلاء الأساتذة قد زودوه بالعناصر الأساسية لتحوله. والموضوع الذي شغله حتى ذلك الحين يختفي في عام 1949 لحساب تعبيرٍ صافٍ وإيقاعي لأشكال ولألوان متحررة من العبودية للموضوع. ومنذ عام 1954، يستقر باروخ في فرنسا.
أما فيما يتعلق بفؤاد كامل (1919)، والذي أشرنا إليه بالفعل، والذي اندرج في الحركة السوريالية في مصر منذ بداياتها، فقد أصبح واحداً من دعاتهاالمتحمسين. وهذا الفنان النشيط ولكن الرزين، ينتقل من السوريالية إلى التعبيرية في بداياته الفنية إلى الفن غير التصويري خلال الستينيات. وهذا تطور يستحق التنبيه إليه.
ومن المناسب أيضاً الإشارة إلى فنانين مثل حسن التلمساني وعبد الهادي الجزار وحسن حسن وخديجة رياض وسمير رافع وكذلك إلى آخرين كثيرين أجانب مثل إيريك دو نيميش (1910). فهذا الفنان الذي استقر في القاهرة في عام 1940، قد شارك في معارض الفن الحر وفي بينالي الإسكندرية في عام 1955. وقد اشتهر برسومه التصويرية لأعمال مثل المَنون الفتية لبول فاليري والجحيم لدانتي وبحث حول التراجيديا لسيريل دي بو، وهو كاتب مصري يكتب بالفرنسية. ويجب أن نذكر أيضاً أنجيلو دي ريز (1910) الذي شارك في الحركة السوريالية وعرض أعماله في معارض الفن الحر. ولا يمكننا أن ننسى أندريه نوميكوس وميشيل كنعان وريمون أبنر الذين تجب الإشارة إلى أهميتهم في الحركة السوريالية في مصر. ومما لاشك فيه أن فترة الحرب العالمية الثانية كانت الأكثر إثراءً من الناحية الفنية لأن الفنانين المحليين والأجانب الموجودين في مصر في ذلك الوقت قد سعوا، بسبب انقطاع الاتصالات والعلاقات الخارجية، إلى الاستفادة من وضعهم عبر تبادلات كانت مثمرة، وذلك بالرغم من الظرف غير المستقر السائد آنذاك.
*
وفي ختام هذه الدراسة، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان للسوريالية من أثر على الأدب المكتوب بالعربية أولاً. والحال أنه بالرغم من الجهود التي قام بها جورج حنين في مجلة التطور لكي ينشر رسالة السوريالية بين الجمهور المثقف الذي يقرأ ويكتب بالعربية، إلاَّ أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتراف بأن النتائج كانت جد طفيفة وقليلة التشجيع. ويبدو لنا أن السبب في ذلك إنما يكمن في تنافر معين مع القواعد الشعرية المقررة في مصر آنذاك. فخلال الثلاثينيات والأربعينيات كان الأدب العربي لا يزال وثيق الارتباط بالتراث وبالتقاليد وكان يبحث دائماً عن نماذجه بين الشعراء السابقين على الإسلام وعند أساتذة راسخين مثل المتنبي أو الجاحظ. والحال أنه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مؤسسي الحركة السوريالية. ولم يكن بوسع الشعر العربي الحديث أن يلج دروب مغامرة الأدب الطليعي دون أن يجازف بفقدان هويته هو، أو على الأقل، كان ذلك هو اعتقاده. ثم إن إحياء الفن الشعري العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان لا يزال حدثاً قريباً جداً بحيث يتعذر نبذه فجأة. وكان أمثال البارودي والمنفلوطي وحافظ إبراهيم لا يزالون جد حاضرين في الأذهان بحيث يصعب أن يحل محلهم أحد. كما لا يجب أن ننسى التحيزات، المنتشرة غالباً، والناشئة عن الوضع السياسي (خاصة الاحتلال البريطاني)، والتي كان الأدباء الذين يكتبون بالعربية يزكونها تجاه الكتاب الأجانب، الأمر الذي حال دون ترويج أفكار جديدة في الأدب. على أن أصواتاً لها مكانتها قد نجحت في التعبير عن نفسها. ونحن نجد في مجلة التطور بين كثيرين من المسهمين رمسيس يونان، الرسام والأديب، وحفني ناصف، الشاعر المهم،(3) وعبد الحميد الحديدي وحسين محمود وآخرين كثيرين. ونحن نرى أن الوحيد الذي أخذ على عاتقه مهمة مواصلة الرسالة السوريالية هو كاتب موهوب وإن كان محل سوء فهم دائماً، أعني عبد القادر الجنابي. فهل كانت الرسالة السوريالية سابقة للأوان إلى حد بعيد بحيث تعذر الترحيب بها من جانب الجمهور الناطق بالعربية؟ إن مثل هذا الافتراض يستوجب التدقيق والحذر.
أما المسألة الثانية فهي مسألة الحكم على الأثر الذي كان للحركة السوريالية على الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر. ولنقل بوضوحٍ تام أن السوريالية هي أول حركة أدبية تولد في هذا البلد في الوقت عينه تقريباً الذي ولدت فيه في فرنسا. فجميع الحركات التي سبقتها كانت تجيء متأخرة زمانياً بشكلٍ ملحوظ، وأحياناً كانت تجيء بعد جيل. أما فيما يتعلق بالسوريالية، فقد كانت القاهرة مواكبة لباريس.
ويمثل الشعر السوريالي في الأدب المكتوب بالفرنسية في مصر محاولة واعية للتحرر من الشعر التقليدي أو الرومانسي أو الرمزي، والذي كان الشعراء المحليون يمارسونه آنذاك. كما أن السوريالية تمثل محاولة لتجاوز قواعد العروض. وعندئذ يظهر عدد كبير من الشعراء. ولما كانوا قد تحرروا من جميع القواعد، فإنهم يكفون عن الالتزام بالقواعد التي كانت قد بددت طاقات جميع أولئك المتحرقين إلى الإمساك بالقلم. وقد هيمن الاعتقاد بأنه يكفي رصف الكلمات (الكتابة الآلية)، والجمل ونثارات الأحلام والصور الأكثر غرابة وليدة الروح الفاقدة للاتزان، حتى يتسنى إنتاج عمل فني، في الشعر كما في الرسم. ولم تتأخر مثل هذه المفاهيم عن الإساءة إلى الحركة برمتها. أما أولئك الذين كانت لديهم الملكات والمواهب الكافية والمناسبة فإنهم وحدهم هم الذين واصلوا السير في هذا الطريق وعرفوا النجاح... في باريس.
ولعل أفضل ظهور للحركة السوريالية هو ظهورها في فن التصوير. فالأدب، إجمالاً، لم يكن يهم غير جماعات محدودة من المصريين أو الأجانب، في حين أن فن التصوير، وهو اللغة الدولية للون وللإشارة، كانت لديه فرصة أكبر لأن يثير الأذهان ولأن يجتذب الجمهور. وقد رأينا كيف أن لقاء الرسامين الأجانب والمصريين خلال سنوات حرب 1939-1945 كان مفيداً للجميع. لقد حدث ازدهار للمواهب المتباينة وحدثت تبادلات ولقاءات لم نحلل غير بعض جوانبها. وكان فعل السوريالية هو أصل تجديد تصويري عميق مازلنا نشعر إلى اليوم بآثاره البعيدة. كما أنها أول حركة فكرية انتمى إليها فنانو مصر بشكل عفوي وقدموا إليها إسهاماً أصيلاً. وهي، علاوة على ذلك، الحركة الوحيدة التي تمكنت من تعبئة الإنتلجنسيا المحلية ومن حفز اتخاذ موقف سياسي. فألا يعد ذلك نجاحاً كبيراً للحركة السوريالية؟
باريس، نوفمبر 1980



تعليقات من المترجم

1-    لم يوقع جورج حنين (1914-1973) البيان المذكور في مكسيكو، إذ كان في باريس آنذاك.
2-    صدر البيان المذكور في ديسمبر 1938، بينما تأسست الجماعة في يناير 1939.
3-    لم تنشر التطور أية نصوص لحفني ناصف، بل نشرت مقالات لابنه عصام الدين.






شعر


لا مبررات الوجود







عدم التدخل

المستشاريات تفيض بجثث رائعة
تنبجس من أعظم تمزقات إسبانيا
كم يتشابه كل هؤلاء الموتى الجدد
كم حوى موتهم كل ماهو جدير بالحياة

لم يتوافر قط
مثل هذاالقدر من اللحم
للخطب والملفات والتقارير
دمعة من هنا وأخرى من هناك
لم يحدث قط أن سقط مثل هذا القدر من الضحايا
والضمير معدوم إلى هذا الحد

انظروا المدن فقدت شرايينها شرياناً بعد شريان
والقرى فتكت بها قُرَحٌ شرهة
والطرق ما عادت تُسلم
إلاَّ لسواد رعب مماثل
حيث لا يستطيع أحد أن يميز سماء من أرض
لأنه لم يبق في المكان غير بعد واحد
هو بعد القتل

انظروا الضربات القاصمة
تستقر في جوف الشعب

والملاك الجدد للشاطئ الأزرق
يخلقون في اللحم – الهبة العظيمة للأحياء –
مساحات من العذاب كل يوم

الديبلوماسيون لحسن الحظ هناك
جدلهم ما عاد يزدهر إلاَّ فوق الحطام
فوق حداد مدريد وبرشلونة
العاصمتين المشدوفتين
أيتها الأحياء التي خرجت من ليل الحديد ناراً
فلتواصل صفاراتك الحادة صراخها
حتى تصاب بالصمم آذان الزمن

أيها الحطام الذي لا يغتفر
يتحدثون عنك في وزارات الخارجية
عن نقالات الجرحى والتوابيت والمقابر
أيها الناس أيتها الحجارة عزاء
يا خرائب إسبانيا لن تكوني الأخيرة
هكذا تقرر أن يكون المصير

ثم لا تيأسوا من الآخرة
فها هي ذي تتقدم نحوكم
خيانات غيبية مبجلة
ساحة لمن استولوا على باداخوث
ساحة لمن ابتدعوا عذاب الجلجثة
إنهم سوف يقدمونكم قرباناً لخلودهم

سيرتبون لكم طقوس رحيلكم
على هيئة طوربيدات
حتى تكون في النار راحتكم الأبدية!

ترجمة
أنور كامل وبشير السباعي




معنى الحياة
"لا معنى لوجه يشبه جميع الوجوه"
ج. جويس "عوليس"


في اللحظة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئاً ما – أن يقترب من الإجابات الشفافة العظيمة – أن يتمكن من إبطال الأصوات المتعادلة في نفسه – أن ينتصر على قانون ثقل الروح – أن يمعن في الاغتراب – أن يكبر من جميع الوجوه – أن يراوغ القدر – في اللحظة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله  قريب الحدوث – يصطدم المرء بعتامة حائط – هذا الغريب نحييه مع ذلك – تتهيأ للشرح نحو أية ثروات مجردة تدفعك سرعة داخلية غامضة – دون جدوى – كل كلام عند خروجه من فمك تقطع رقبته مقصلة حائط جديد – يأتي من بعيد جداً – يسقط من عال جداً – بيننا وبين الاكتشافات الشاغرة التي لن يعرف أحد عنها شيئاً – امبراطورية الحوائط لا تنتهي – الويل لمن يساومها على وجبة الطوب والجبس المستحقة لها – إنها بعد نعاس طويل تنشر في وضح النهار أشباحاً لا تطاق – تنفث الاضطرابات في اضطراب الجماعات – من قال حائط فقد قال سُمك – وفي نهاية الحساب يدرك المرء أن كل شيئ يجري وفقاً لسُمك معين – في البداية يكون المرء واحداً – بلا سُمك تماماً – مهملاً تماماً – خَرْيَِة ضئيلة وحيدة – ثم يصبح خَرْيَتَيْن – أمام القانون أو من ورائه – وهكذا فوراً يصير أكبر سُمكاً – الناس الآن تريد أن تنظر إليك باهتمام واحترام – إنهم يراقبونك لكي يروا ما إذا كنت لن تنمو أكثر – ما إذا كنت لن تكون أشد إزحاماً – فما تقضي به قوانين الطبيعة – ووصايا الأخلاق – هو أن تملأ مكانك تحت الشمس – أن تسهم في السُمك الجمعي – الأسرة تمثل سُمكاً مهماً بما فيه الكفاية – يستحق التشجيع – من الصعب تخطيه – واثقاً من حقه في الوضع النظامي – تبقى بعد ذلك طوابق أعلى للتخطي – على القمة تتربع الدولة – الدولة تكتب التاريخ – مسألة خطوط بسيطة – ومن حين إلى حين تعبئ الدولة مجموع خدمها – لكي تتحقق من درجة سُمك الأمة – لكي تُذِلَّ السُمك المنافس للأمم المجاورة – وعندما يُستهلك كثير من السُمك – يبدأون من جديد في بناء الحوائط – وفي الحياة كحوائط – بالضجر نفسه – بالجمود نفسه – مع وجود الحوائط المعادية – مع مصير سميك عقيم مليء بالحوائط.

ترجمة أنور كامل وبشير السباعي



قصة غارة

الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء. أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعلانات صغيرة. لا شيء غير سيدات بين أعمار لا بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة. بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج. أستوقف حاجباً ينبئني. هناك يجلس الراعي الذي يعقد زيجات المصلحة. يشتغل على فحم الكوك. يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً. راعياً جديداً لن يعقد قراناً بعد الآن إلاَّ على المازوت.
بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات، أو بالنوارس أو بالثلوج. موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن يخرج منه.
أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة. يقول لي هذا الحيوان: "ما تظنه نساء ليس في الواقع غير خطوط زوال طولية والإنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق. الحريق يزور في هذه اللحظة كل المنطقة على متن مُطفئه الخاص. السكان الأصليون يحسبون أن شرفاً عظيماً أسدي إليهم لأن الحريق يسافر في الغالب متنكراً".
الحيوان الأليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد: "لاحظ أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير. كل قرن تحدث بينهما منازعات لا تنتهي. الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم. تلك فضيحة يا سيدي، فضيحة خالصة، ومن المستحيل، مع ذلك، فهم دوافع هذه المنازعات. إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية للأحداث... إنك في نهاية الأمر لست سوى أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً لا يتبدل: "أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط... أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط" وهكذا دواليك. إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك لأنه يحرق كل التظلمات التي تقدمها له الشفاه. أنا أعتقد أنه قد آن الأوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها، مثلاً، لمغازلة أدوات الجراحة التي يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها".
قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صلاتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق الأفق. الإشارات تمكث طويلاً بعد مولدها بلا حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور ولا تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر صفوف من الكوى المتآلفة تضيء بنورٍ ثابتٍ محطةً محفورةً في قلب الماس.
الأخطبوط يشرح لي، وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط: " هذه المحطة لا تفيد في شيء على الإطلاق. لا في القيام ولا في الوصول. ولا في أي شيء. بل إنها لا تؤكل. لهذا يحترمها الجميع " .
القضبان سواعد عذارى، من اللحم المشغول، تُهَدْهَدُ على رصة السكة، شبيهة بأطفال متعَبين مسهدين لا يجرؤ أي قطار على سحقهم.
ناظر المحطة قط سيامي يحمله على الأكتاف مقعد من الزمرد. ناظر المحطة لا يتعجل. إنه لا يبالي. ربما لأنه على موعد مع المستقبل. العلم في بلُّورة عينيه.
ترجمة أنور كامل وبشير السباعي



انتحارٌ مؤقت
إلى "المنتحر" أنجيلو دي ريز
في أعماق الأدراج الزرقاء
التي رحلت مفاتيحها صوب الأقفال المتوحشة
وتاهت خطاباتها في سوق الاعترافات
في أعماق الأدراج الملونة بلون التلميذة
بين سيجارة ذابلة وصفعتين
يرجع تاريخهما إلى الفضيحة الأخيرة
يحدث أحياناً أن تلتقط
شفاه مرة
تتلو كلمات قريبة
تهبط كالحصى
منحدر الصوت

شفاه نادرة مختصرة
تنفتح لتدع جاسوساً يمر
متخفياً في فرقة عازفة
لا أعرف بعد أية سمفونية
تتشبث بطوق من اللهيب
والآن تقف النافذة
بلا عمر ولا نور
شقيقة الشفاه المهيبة
منها تدخل الأعصاب الهائجة
متلبسة بأيدٍ بشرية
تقطع رؤوس النساء
بعد الحب

على مائدة ما
شيء يبتسم خلال كل نعاس العالم
إنه وجه
لا يُلمح أبداً
لا يُنسى أبداً
وجه يؤرجحه
ثلجُ الذكرى الذي لا ينتهي
ترجمة مجلة "التطور" (فبراير 1940)



آفاق

إلى أندريه بروتون

لم لا نصادف على قنطرة تنتصب فجأة بين كارثتين امرأة ذات عينين خفاقتين تخبرانك باسمها فيبدو أجمل من شفا هاوية مكسوة بغلالات سوداء؟
لم لا نجسم على مسرح الأفق المقفر دائماً غروبات مهيبة لشعور متعددة الألوان؟
لم لا نُهَيِّئ منحدرات الجبال بمخلوقات فروجها راديوميةٌ تتحد بالمناظر الطبيعية وتشعلها عند كل عناق وتبقى وحدها في ألقٍ مُدَوِّخ؟
لم لا ننقذ بضربة واحدة حشد المرايا المرشوقة على فراش الأرض؟
لم لا نجعل الحياة أهلاً للسكنى؟
لم لا نهرب من المقاعد المألوفة والمصائر المعيشة بما يكفي؟
لم لا نُبعد الجفون عن الطرق الملعونة ونختفي في الليل الأكثر غموضاً حاملين بأقصى سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها حلمٌ يحتدمُ دون خطرٍ من يقظة؟

ترجمة بشير السباعي وأنور كامل




في مستوى الغياب

أكداس من منتصفات الليالي ذابلة في عينيك
وبرك من خمر مروعة
يردها أشقياء منكسرون
ينكشفون متلبسين باقتراف البراءة
والذاكرة نفسها بين كابوسين

في منتصفات لياليك أرغنات حامية
تطيل دموعها الشمعية
الأصابع المحمومة لأغنية
تخنق الاستصراخات المبحوحة للحيوانات الضالة
واحدة فواحدة

على جبين حياتك
كل الغضون المهيبة للشباب
والتوقيع الذي تطبعه شفتاك
أسفل صفحة من الخمر
يحوي كل ضروب الحكايات الحقيقية
الجالسة على فراش طريق يكاد يكون مقفراً
ما تزال تطوف به جلجلات ضحك صاخبة
وغربان ضخمة تبرأت منها سماؤها

في صوتك أكداس وداع
وحين تنكسين رأسك
لكي تسعلي ما شئت
يبدو كما لو كنت تحفظين الموت عن ظهر قلب

وحين ترحلين للحاق بصمتك الأثير
يخلو المكان كله مما ليس أنت
ويتركنا وحدنا مع غيابك الخصب أبداً
الخصب كإعلان انتحار
أو كالوجه الآخر لمحيط.

ترجمة بشير السباعي وأنور كامل



بورتريه كامل التلمساني

ها أنت ذا أيها السحاب الأسود على استعداد أبداً لأن تنصهر على المواكب الأخلاقية المتجهة صوب الحساب الأخير أو ما لا أدري أي خبز عبثي يومي...

أسمع كلامك المنقض على صلابة المدن مع تأوه شجرة تستمتع باستئصال نفسها بنفسها.

أنت ذاتك الشهاب المجعد ينتزع كل أصحاب عائد المغامرة من بطء هضمهم ويقلب بحركة طائشة المناظر الطبيعية التي يتمدد فيها البشر الراضون بالوجود.

تعرف كإنسان كيف تهتك أسرار العاهرات غير المباحة وكيف تعيد إلى وجه النهار عيونهن الفاحشة المدفونة منذ زمن بعيد.

تعرف كيف تجعل من هذه الغنائم المنتزعة من باطن اليأس بصائر طريق عظيم مسددة ضد أرواح الناس المهذبين.

تحب الفرش الذابلة مرة وإلى الأبد – أسرة نقض الحب والشرفات الليلية التي تنطلق منها تجديفاتك النقية لتطارد السماء.

مأثرتك السامية ستكون تلك الغارة الكبرى بين أحضانها يتآخى قطاع الطرق والعسكر في العالم كله متحدين أخيراً ضد العالم كله.

أيها السحاب الأسود الجميل أرى فيك لقاء غير مأمول بين نهاية العالم والأحداث التافهة.
فلا تنطفئن أيها السحاب الأكثر صفاء من حريق!


ترجمة بشير السباعي وأنور كامل




سان لوي بلوز

الشمس تتأهب للسقوط مثل حجر جسيم بالغ النضوج. الحجر الذي أضناه سفر طويل يسأل النهر أن يستضيفه فيجيب : " أدخل – أنت هنا بدارك " .

يتوقف الفلاحون لمشاهدة المنظر. أحدهم يتمتم: أود لو اجتزت هذا الشيء لأن من المؤكد أن على الجانب الآخر امرأة من المدينة سوف أحبها.
ويضيف الفلاح الذي لم ير حلياً قط:
امرأة من المدينة سوف أحبها بسبب الحلي التي سوف تلبسها.

يحدق الآخرون في وجبة النهر اليومية. ينفتح النهر نهرين كما لو كان ليسمح بمرور غرق كبير.
أما الطرق فتستنشق النسيم الوفير لصديقها الليل.
فلاح جديد يحاول عد النجوم.
عبثاً يحاول لأنه لا يعرف العد فوق العشرة
يظن أنه عندما يكبر بما يكفي سوف يتوصل إلى جرد السماء.
لكنه يخشى أن تنقص النجوم في تلك الأثناء. أن ترحل واحدة فواحدة.
أن تتركه وحيداً مع الليل الحقيقي.

صوت امرأة المدينة يتسرب الآن من الأفق كله. يطوق السهل كله.
إنهم جميعاً يسمعونه، ومعهم، قرون وقرون من الترقب الصامت.
إنها تقول إن بها رغبة جامحة في لقاء جديد مع نهرها.
إنها تنوي أن تحكي له كماً من الأسرار الخرافية التي لا يعرفها لا الراعي ولا الصيدلي.
إنها تود أن تشرح له حكاية السوارات التي تحرق ساعديها.
والسهاد المحتدم الذي يفرغ عينيها ولن يبرحها إلاَّ بالرغبة في قتل بعض العشاق العاجزين عن الإحاطة بشيء غير جسدها.
والحنين المر إلى شموس طفولتها. والحتجة إلى الرحيل زمناً أطول، ومسافة أبعد – وشراب الجن في الروح – صوب العواصم المتوحشة للوحدة.

يمد الفلاحون أكفهم صوب هذا الكلام.
كل منهم يحلم بالاستيلاء على كلمة سوف يكتم سرها مرغماً مدَّة طويلة.
لكن الكلام يهرب كالخفافيش.
إنه يعود إلى المدينة حيث تغني هذه المرأة أغنية رحيل لا ينتهي.

ترجمة أنور كامل وبشير السباعي







مختارات من مجموعات شعرية أخرى




سونيا آراكيستين

احفروا
فسوف تجدون هناك ابتسامة
ابتسامة قبرية
لأولئك الذين يصدقون وعود الحياة

احفروا
فسوف يغمر التراب قلوبكم
وسوف تمضون وقلوبكم في التراب
والحب الهامد
بلا حراك على ملتقى طرق الرفض

احفروا
فسوف تجدون السماء
ربما تكون السماء هناك
ربما يكون هناك تناثر أنواع الكائنات
أو مذاق المطر الأسيف

احفروا
حتى تنشر هذه المرأة مروحة سقوطها
حتى تصفع إلى الأبد بلادة الفضاء
حتى تزف نفسها إلى اليابسة
بوجهها البلوري المكسور الجميل

احفروا
فسوف تجدون العينين الأكثر وحدة في العالم
وعلى إسفلت الشارع البارد
امرأة غريبة دون سابق إنذار ككوَّة
احفروا لهاتين العينين نظرة مستحيلة
احفروا اسمنا في ليلنا
احفروا لأجلنا.

ترجمة بشير السباعي




فوترالبا

فوترالبا مدينة عالية معلقة في هرمية البناء
فولترالبا لا تستقبل أحداً إلاّ على هضاب عالية
فوترالبا تتساءل أحياناً على مدار سنين عن مدى إمكانية السماح ضمن أسوارها بدخول هذا الزائر أو ذاك القادم من بعيد جداً عبر آلاف من الأهوال
ثم إن أسوارها ضعيفة ورجراجة
فوترالبا مدينة طيش خالص.
مدينة لاتزال تجهل شيخوختها، لاتزال مجسمة في ثياب حلم قديم حيث تستغرق بيوتها وقتاً حتى تتهيأ، حيث تعرّي البنات صدورهن لصباح الواجهات، حيث لا يشنق المرء بعد الخيماويين إلاّ صورياًّ، حيث يدندن الوجهاء في العشب كما لو كان ذلك هو رسالتهم الأولى.
في فوترالبا ذات الأهداب المحترقة التشنجُ هو أبسط وسيلة لتمتين التعارف
في فوترالبا ذات الواحات المسورة العطشُ هو التسلية الأولى للرجال الصالحين
في فوترالبا التي تتآكل من فرط تخصيص غرفة في كل بيت للمدعو وغرفة لقاتل المدعو
الفلفل والألباجا رمزان للسيادة
تحكم فوترالبا ملكة فلفل وألباجا خنثى وهي لا تُبصِرُ هناك إلاَّ في ساعات معينة، ليست واحدة أبداً. كل ما هو غير متوقع هناك.
دون كلل، يدافع تنين مُعفَّرٌ عن مداخلها. لكن المداخل معتادة على التحايل عليها. كلمات السر لها لغة رثة. هناك اعتقاد بأن المرء يرى هناك كما في أماكن أخرى ثرثرات بائسة. ولا يوجد غير المتوقع إلاّ في عمى الملكة المتقطع.
على طول الأرصفة تتخذ مراكب شقراء أوضاعاً لرسامين نشوانين
وفي المساء، في حديقة مهجورة ما، يوجد دائماً فونوغراف بلدية يتمتم بين الظلال: "ماذا تكون هيكوبا بالنسبة له أو هو بالنسبة لهيكوبا..."
عدة مرات متتالية
عدة مرات متتالية
والصمت يتأوه في فوترالبا وعندما يكف عن التأوه يغدو ثوباً من النسيج الخشن مقوراً بشكل فاضح
وغداً تنفتح الدواليب المقدسة، ويولد العري من جديد من ذهبها وترفع المسرات الرهيفة غير المفهومة رأسها
ويتهيأ الجميع ويتزينون لشعيرة سوء التفاهم العظيم.
ترجمة بشير السباعي



حديقة سُو
إلى جان ماكيه
أيها الفرسان الخاضعون عبثاً
لبلاء السديم

أيتها الحجارة التي تبلى سلفاً

يا وجوه صدر المدى
الذي يجمل
إيقافُ الإنسان عنده

هنا لا يفوت أوان شيء
الحلم من قطعة واحدة
يتواصل منتصباً
مثل وفاءٍ نادر الإيماءة
مداعبة قوية ما عادت اليد
بحاجة إلى الالتئام عليها من جديد

هنا لا يفوت أوان شيء
تحدٍ طويل ميال إلى الخذلان
يجمد الهامات المرتفعة الأخيرة

لم تعد هناك عناقات مفاجئة
لم نعد نستأنف كلامنا.
ترجمة بشير السباعي



المرأة البيتية
جميلة
كالصاعقة التي تتوقف في منتصف السماء
كي تختار شجرتها

مجهولة
قريبة إلى حد إثارة الفزع
ومع ذلك فهي مثار اطمئنان
كاستراحة قصيرة في بلد معتدل المناخ

بطارية إضاءة
تمسك في حدقتها
بزمام الليل

هشة
كمصافحة
بين كائنين بلا مستقبل

عسرة
كاستهلال العالم

وجه محاط بالأسوار
لا يُرى غير مرة واحدة في العمر
عند الضغط على الزناد.
ترجمة بشير السباعي




رسالة إلى فتاة صغيرة
لأجل بداياتها في العالم

يا بحيرة صغيرة على شاطئ البحر
ترتسم على صفحتها النجوم
يا بحيرة راحة اليد التي لا دخل لها
بأي ظمأ

إن جميع الوجوه مثبتة
بمسمار الشحوب ذاته
يتظاهر المرء بأنه لا يدري عن ذلك شيئاً
لكن ضغط الدم آخذ في الانخفاض اليوم
ما عاد المرء يتحدث إلاَّ عن نفسه
البيوت على مستوى البشر
متخلفة عن خراب مؤاتٍ للخلاص.

لكن تيار الأشياء الكامن المرصود
الذي لا يكاد يُلحظ في طيشه الوليد
هو ما يزدهر فيك
يثبت المرء النافذة قبل النظر
التردد قبل الحياة
يجب بناء الوجه بالأسلوب الذي تُبنى به مدينة

العصافير المقدسة حسمت رأيها للتوِّ
في موقعه.

ترجمة بشير السباعي



إعدام خاص

تلك لحظة مؤثرة أبداً
كتلك التي يتساءل فيها المرء
في صباحات معينة
عما إذا كان سوف يتسنى له التعرف على الحياة

ما إذا كانت الأشياء قد لزمت المكان نفسه
ما إذا كانت الأماكن قد احتفظت بالاسم نفسه
ما إذا كانت لا تزال هناك مرآة للخلاص
يكف المرء أخيراً عن النظر فيها إلى نفسه
ويرى فيها ما هو أبعد من نفسه.

عندئذ سيكون ذلك كما لو أن المرء يتجه من تلقاء نفسه
إلى ساحة آراجو
عند الفجر
من أجل إعدام خاص
ولن يستشعر أي عزاء
في خاطر أن الجلاد ليس هناك

ومع ذلك فإن المرء يتلفت فجأة إلى الوراء.
وهذه علامة طيبة
فالمرء يعتقد أنه مُلاحقٌ
هناك إذاً أناس يلاحقون الآخرين
هناك إذاً ملاحقة وهذا هو كل ما كان المرء يود معرفته

في أحراش اللغة
صوت يبحث عن قول
الكلمة الأولى في النهار
مثلما يبحث المرء عن مفتاحه
على بسطة الدرج في الليل المعتم


يكف المرء عن التردد
يراهن المرء على هذا الشيء الضائع
على هذا الصوت القريب من المشارف
على المجهول المستند إلى أمنيات الحياة الممزقة
ولكن إلى أي شيء سوف لا يستند المرء هذا الصباح؟
إلى أي جرح؟
إلى أية إهانة؟


ترجمة بشير السباعي



مبدأ الهوية -1
تَكَتَّمَ اسمه
كماء راكد
حيث الأحجار عند سقوطها
لا تترك أية دوائر

هبط نحو الآلهة
غير مصدق وإن كان صبوراً
تقدم في ليل الآلهة
مفعماً بالتضحية بصورته هو
مفعماً بتماثله مع الشقاء

وعندما دخل مدينة السماء
تحدث أحدهم عن البيات الشتوى المطلق
أوصدت أبواب البيوت
كما تُوصدُ أبواب الفخاخ
بين الرجل والمرأة
لم يعد هناك غير الحد الرهيف
لسيف طليطلي

الحرمان من المغفرة
يعيد العالم
إلى أيدٍ لا تتحرك.

ترجمة بشير السباعي



مبدأ الهوية – 2

يضحي المرء بصورته هو
مثلما كانوا يقدمون القرابين البشرية في الزمن الغابر

عرفت إنساناً
لم يكن يتعيش إلاَّ على توجسات الآخرين

كان يتحرك أحياناً كمتنزه ضرير
صريعاً للشحوب له إيماءات عباد الشمس

كان يجلس أحياناً في وسط المدينة
وإذ يحدث رنين قطع عملة محظورة
يتصور أنه مُحاسِبُ وحدتنا

كان يتصور أنه يحمل اسماً عكس اسمٍ
وينكر أن الشقاء يماثله

يهلك من باب السهو أو من باب النزق
وفي السديم الصباحي
امتزج نَفَسُهُ اللاهثُ بأعذار الجلاد.
ترجمة بشير السباعي



ضريبة الحياة

أنا الإنسان الجالس على جانب الطريق
ذلك هو الوقت المناسب للكتابة إلى الأصدقاء
الكتابة مع صون الكلمات
مع سلخ الأصوات
مع رمي أولئك الذين يكتفون بالنظر
على رأس أولئك الذين يكتفون بالفهم
وهذا يحدث دائرة زرقاء واسعة حول العينين
لا يبرأ منها المرء.

أنا الذي يجلس على جانب الطريق والذي يُبقي أعداءه
تحت رحمة ضجره.
والذي يتوجب في نظره التدقيق في كل شيء.
طال أمد العمر أم قصر
ليس لذلك شأن كبير
ليس لذلك شأن كبير بالنسبة للإنسان الذي يثأر
من هوان شأن الإنسان.
ترجمة بشير السباعي



الانشقاق العظيم

انتبهوا إلى الكنوز التي لا يطالب بها أحد
إلى التلميذ الصبور والصموت
المنسي منذ زمن بعيد في ركن معتم
إلى التلميذ الذي يباغت الأحلام
الذي يخفف مرارة الحياة
الذي يبتدع امرأة مثلما نجهز سفينة
الذي يرى ما وراء حائط الإغلاق
ما وراء الجبال
ما وراء البحار
الذي كان ليكون بالفعل في أقصى العالم
إن لم نكن هناك لكي نكلمه عن الجَزْر.

انتبهوا إلى ذلك الهدب للجنون الخالص
على جبين سيدة قصر
وإلى برودة أعمدة على هامش صدغيها
وإلى صرختها التي يلم الليل فيها
تعب الطيور

انتبهوا إلى تلك النباتات الوقحة
التي تنحشر بين الكائنات
والتي تعطيها في نهاية المطاف حق
ادعاء الافتراق.
ترجمة بشير السباعي



الغافلة

الصدقةُ المتلقاةُ في قلب الأجمة
الإهانةُ المتلقاةُ في حميمية القبر
الفرحة المتلقاةُ على الوسادة
الصرخة المتلقاةُ في قلب الفم

نعرفُ كنوزنا

لكن هذه القروية التي لا تتعرفُ على نفسها بيننا
والتي ماعادت الأجراس تدقُ لها إلاَّ سراً
حيث نتلقى الجراح التي تتوسل إلينا حملها

لم يبق لها غير خمسين برجاً من الفرو
خمسين شرفة طليقة الأجنحة
خمسين خادماً أشقر كخمسين نمراً
خمسين بئرأ بلا قاع لخمسين نجماً بلا سماء
أوه أيها المَرِح أيها الهش
ربما لم يبق لها سوانا.
ترجمة بشير السباعي




الحقيقة الأكيدة

إلى إقبال

أكلمك لأن الليل
لا يهبط البتة من تلقاء نفسه
أكلمك لأن الليل
ملكية ضائعة
نقود يجيء بها الحظ
الأرجوحة الخائبة
للبهلوان المزخرف الثوب
شيء طائش عند قدميك العاقلتين
زينة تلك العابرة التي تقتادها الشرطة
فم يتوجب إطعامه
فم يتوجب حفره بصرخة
البوتقة السوداء التي تتمرد فيها ألوان الرسام
أكلمك لأن الليل
يلمع من ألف شرفة مجهولة
بعضها على مدخل
جميع الممتلكات الممكنة
وبعضها الآخر وراءها
أكلمك لأن الليل
قد خلق من فرط الأحلام
وليس فقط لكي نحلم
أكلمك من كابينة صماء تجاه كل الرسائل
المستَقْبِلُ الشائخُ بين عريشة النبات المتسلق والندى
يجرجر وجوداً أكثر روعة في غموضه من الكلام
أكلمك لأن الليل هو في آن واحد
بوتقة التعزيمات السوداء
وزينة تلك المرأة التي يقتادونها دون طائل
وتلك الكابينة – الشبح الجانحة في الغابة
وشيء ما أكثر من الوقت المباح التحايل عليه
ومن الصمت المتاح للبيع.

ترجمة بشير السباعي



بفارِقِ وجه

أيتها المرأة التي بلا حكمة
أيتها المرأة المستندة إلى الريح
المستندة إلى شقاء أكثر مما يمكن أن تحتمله
الموسيقى الثابتة التي يصعد فيها تنفس الأحلام
المتوسل.
أيتها المرأة التي بلا شائبة
إن النداءات التلغرافية
سوف تبحث عنك في صميم أروقة الدم
حيث تذوب البراءة في يديك
منذ نهاية المشهد الأول
أيتها المرأة ذات الصمت الذي بلا طائل
ذات الارتجاج الداخلي المديد
حيث يزول دنس القلوب الغجري
أيتها المرأة ذات الأثر النيلي
الأصعب على التعرف عليها مما على تحيتها
إن المرايا تسخر سخرية محزنة هذا الصباح
لكن الكلام يدور عنك في لغة من لا يملكون شيئاً
الكلام يدور عنك في لغة الصبا الصباحية
الكلام يدور عنك في لغة الدغل الأخوية
الكلام يدور عنك في لغة العواصم المتحجرة
حيث الابتسامات باهظة الثمن.

ترجمة بشير السباعي



في البعيد

في البعيد
في المكان
في المكان المسمى مكان الرهان
هناك حيث نحتقر النظام
هناك حيث نحتقر الأسرار الميتافيزيقية
هناك حيث لا يتكيف أحد مع شيء.

في مكان الطفل المتأرجح
الذي لا تحسن النباتات المتسلقة رعايته
ولا الأعشابُ ولا
الأشياءُ المجهولةُ
- طفت بالعالم، قال كافر كانت تتدحرج
تحته الأحجار-
رأيت مدناً بلا أسنان وراق لي
أن أجد نفسي بينكم، بعد كل هذه الأهوال،
أوه، أيها البشر الذين ليست لهم
أية غاية.
ترجمة بشير السباعي




كان ذلك زمنًا آخر

كنا جالسين تحت ساعة دون غيوم
كما لو كنا عند نبع الزمن القصير
كانت الفتاة الصغيرة الأقرب تتحدث بالسنسكريتية
وسألها أحدهم عن طريق لا وجود له.
وراءنا قرية
ذات عيون يوسع حدقاتها وقت الفراغ.

كنا نشاغب مداعبات
بقيت طويلاً على نوافذ المطر الزجاجية
وكان الصدأ يبلغ أطراف أصابعنا.
أطفالاً يجيئون بعد فوات الأوان وعاطلين
لا تصلح وجوههم لأحد
نترك العشب ينمو حولنا
كما لو كان حاجة آثمة
ونحلم بالاختفاء
مستترين أخيراً بهذه النزوة طويلة الأهداب
مستثنين من كل حضور ومن كل مكان.

كان ذلك يوماً موشى بالنسيان
ككنيسة باروكية
يوماً لا يملك القدرة على الاستيقاظ
وعلى أن يرانا ونحن في الشحوب.

ترجمة بشير السباعي




عودة الآلهة

نهود بازغة من عيد شفوي
ومختومة بشمع الذكرى
فتاة تبتسم لبشرتها
في الريح العارية للأرياف
ثم تهبط يداها بامتداد جسمها
مثلما تهبط مرساة سفينة
تعاد إلى اليابسة.

كالبريق الزائل لفصولٍ معيشة
تنكفئ على ألم
أكثر سرية من أي موت
على جذع وحدتها الصدفي
على رائحة الحب المباغتة
في درج للرذاذ

وبينما أصابعها تحت اختبار الدف
وقوامها على منحدر الطوق
تنوء بالإرهاق في الماء الضحل
لبعدها الخاص
كأذى سحر أسيء استجلابه

لكن ما من إفاقة
ما من إفاقة ممكنة
دون عودة الآلهة
التي لا تستحق أي إيمان.
ترجمة بشير السباعي




الفخ

القَدَرُ فهدةٌ ساخنة
واللحظة التي نُمسُّ فيها
تكتسب – في السخرية الليلية العظيمة –
مذاق عربدة ساراسينية

ثم ينبثق النور
وندرك أن ما هو جوهري
هو أن نحرص كل الحرص
على الأشياء التي ما عدنا نشتهيها.
ترجمة بشير السباعي




الرجفة
ما على المرء وماله
ما عاد بالإمكان قراءتهما
في البلّورة المجنونة للمعابد

للحظة فقط
بعد جمود سنوات غير مجدية
تعلو قوة جديدة
في أعين من يقيمون القداس

لحظة ذعر ومخلب
زيادة في البرَكَة
على فراش الغابة العظيمة
حيث يضيع ثمن كل إيماءة

إن رعب الغداة
يكفي لمواصلة الحلم.
ترجمة بشير السباعي




الإنسان الأخير

ولدنا لبرودة الدروع
ولدنا لكي نغالب مسار الميلاد
ولكي نتعقب في باطن الكائنات
علامات سوء النية.
قال لنا مولانا "دعوا الدم يُغامر"
ولم نعرف قط
هل المغامرة أم الزلل هو الذي كان دربنا.

بعيدٌ عن أن يفارقنا
ارتسامُ الضجر الخالد من الحياة
الواقع تحت ملاحقة لا تتوقف
نَفَسٌ خفيٌ يبثُ الفرقة
في حركاتنا المنفصلة عن الأرض
فيفرقنا كما تفرق العصافير.
يهتف أحدنا "إنها إرادة الغائبين"
وتحت كتفياتنا الصخرية
نستشف أننا عراة

نبقى، هذه المرة أيضاً، محاربين غير مرجحين...

ترجمة بشير السباعي




بعيدًا
بعيداً
يحل صوتٌ ضَمَّةَ الشفاه
سهواً
مثلما يسقط المرءُ في مطب

بعيداً
تمتد حبال الصقيع
يتم إلقاء اسم امرأة في عرض الحياة
تشكل العقدُ الجورديةُ
في اليد أطفالاً

بعيداً
اسم امرأة لا يتوافق معه أحد
شرفة بلا أهمية
بيت مؤجَّل
ينسحب منه الكلام

بعيداً
يوجه المرء ضربة
بعيداً
يتردد المرء في توجيه ضربة ثانية
يتنكر المرء للرأس التي يحملها

بعيداً
يتحرك اسم امرأة عبر الحقول
يستطيل اسم امرأة بين أشجار الخيزران
بينما تهبط من جديد
شُرَّاعةُ اختلاس النظر
ترجمة بشير السباعي


ما من دعابات فارغة

يحيا المرء على كره منه
في مخزن غلال يرتج كل ما فيه
حيث لا يعود بالإمكان قراءة المستقبل في الكفين
حيث تكف الخمر عن أن تضع أحدًا على
طريق الاعترافات
حيث النافل والضروري
لا يعودان يتواجهان إلاَّ تحت الشكلين
الباسمين بدرجة واحدة
لسيدة عذراء ولعاهرة.

يحيا المرء على كره منه
في سيناريو استوائي
لعبيد ولمتوحشين
يحفزهم ضد تشابك الغابة
سمسار أمريكي
لا يرتحل إلاَّ وكوب اللبن
موضوع على حافة نافذته.

يحيا المرء على كره منه
في حدود الخلود
على بعد متساو من الصداقة والخيانة
في دائرة من الربات الإغريقيات
اللاتي تحمل عيونهن الآن
نظرات حجرية قاسية.

يحيا المرء على كره منه
تحت حجاب اليفاعة
صاغراً عند قدمي تمثال
أمام وجه من الصلصال
أمام مؤامرات مرعبة تحاك مرة كل يومين
باسم الحريات الأصعب على الإمساك بناصيتها.

يحيا المرء على كره منه
في الضوء الذابل لنجوم الصباح
لأن الساعة تقترب
هشة على مينائها المبلول بالندى
في اللحظة التي سيكون كل منا فيها مرئياً
بالنظرة المجردة.

يحيا المرء على كره منه
في عالم لا جدوى البتة من تسميته
حيث بيرق الحياة
أقل قدرة من ذي قبل على حجب المتاجرة بالإنسان.

ترجمة بشير السباعي




من الرأس إلى السماء

مجرى الماء المستيقظ أول الصباح،
وجد المشهد الطبيعي ممدداً إلى جواره
وحسب موتاً طبيعياً
مالم يكن غير شكل جديد
لمؤامرة الصمت

كانت أشجار الحديقة مغطاة
بمفارش بيضاء عظيمة
ومن منحدر إلى آخر من منحدرات الجبال
كانت العناكب ترمي شباكها
الشبيهة بآلات موسيقية متنافرة

مجرى الماء المستيقظ أول الصباح
رأى في هذه الصحراء التي لا مرآة لها
عدداً من المخلوقات الزاحفة
المنتصبة على سلالم تدعمها الريح

عدداً من المخلوقات
تختصر بأقصى جهدها
المسافات الضرورية إلى الحب

عدداً من المخلوقات
العارية عرياً لا مثيل له
من الرأس إلى السماء

عدداً من المخلوقات
التي سوف نسميها رصاصاتنا الأخيرة
لكي يكون لنا الحق في إطلاقها
ترجمة بشير السباعي


مظهر هروب


هذا المساء سوف يلقون القبض على رجل في بيته
ساعة العشاء
هذا المساء سوف يقتادون رجلاً إلى السجن
ولن يكون هناك ما يستلزم الدهشة
إذا ما اعتبره ما لا ندري أي وسط عائلي
هذا المساء سوف يغرونه بصورة الموت الملكية
لكن صورة الموت لا تغري
الرجل الذي ينتظر تجريمه بشيء
يتساءل:
هل يتبرم رعاة البقر؟
هل يتبرم رعاة البقر قدر تبرمي؟
ورعاة البقر ذوو الحبل الأشيب
يتمددون على السهل وأعينهم قريبة تماماً من السماء
ودون أن تواتيهم القدرة على الحلم
يتساءلون ما إذا كان البحارة مع من معهم من شذاذ الآفاق
يحملون صخب التبرم ذاته في قعر رؤوسهم
ولا يجيب البحارة
لأنهم جد منهمكين في حساب أمواج البحر
البحارة يحسبون الأمواج دون أن يسمحوا لأنفسهم
بأن تلهيهم الحكايات القذرة التي وشمت على جلودهم يوم
دعوتهم
يعطون الأمواج درجات بحسب ما إذا كانت قصيرة هزيلة
منحرفة أم مجرد قاتلة
وهذا الحساب الورع لا يدع لهم غير وقت للأسف على عدد من
حالات الغرق التي لم تقع في عرض الكاب هورن
لكن ما لم يكن لدى البحارة وقت للتفكير فيه
تبصقه الحيتان على مستوى المنظار
وتتثاءبه الصبايا من وسط أفخاذهن
ويعلنه الوكلاء التجاريون أمام شوارب رجال الجمارك
ويتعلمه التلاميذ على المناضد التي تموت عليها طفولتهم
وتضعه الشعوب عند أقدام جلاديها


- "أعبر لكم يا سيدي
عن عظيم تبرمي"
الرجل في سجنه يقلم أظافره بنعومة
بينما في الخارج حشد مجنون
ينتظر مراوغاً ما لن يكون غير مظهر هروب.
ترجمة بشير السباعي
 


فيكِ

فيكِ
يسكن كسلي
يا بلادي الكسولة العظيمة
مثل ثعبان
في جذع شجرة مجوف

فيكِ
تدور عجلة الماضي نافذةُ الصبر
تحدقين في البعيد والقريب
بنظرة محايدة
والفنارات ترفع تنورتها الزَبَدية
كي تنطفئ في أحضان البحر
بلا رقباء

فيكِ
يستنطق الأخرقُ الحُجُبَ
فيكِ
يتجدد النفي الطويل لقُبلة

فيكِ
أكون في النهاية
تحت رحمة نفسي.

ترجمة بشير السباعي




عن تيمة أساسية لدى رمسيس يونان

حين ينغرز الخنجر غائراً في الجسد كما ينغرز في غمده الطبيعي المعتاد، فمن الأفضل تركه حيث هو لا نزعه. تركه حيث هو يعني ترقب الموت. أما نزعه فيعني الموت.
الرسم ضرب من ضروب الرمي بالقوس، حيث ينطلق السهم مغمض العينين.
هل لابد حقاً أن ندوم حتى نكون؟ إن التقاط صورة خاطفة لأحد الفراعنة معناه إعداده لسأم الغداة.
الارتجاج هو صيغة المصدر في اللغة التصويرية.
القوة وحدها يعيل صبرها. أما الوعي فيستنزف. إنه فأر مكتنز.
الافتراق البائن يكمن في اللاعودة، أياً كانت الذريعة، إلى الوضع الأول.
امرأة محنية الظهر تفقد حتى فكرة الصراخ. نافخ زجاج استل منها أكسجينها ليصوغها حية في نشوتها. إنها تريد الإبقاء على ما يخترقها وما تبقي عليه هو الحرب.
بوصلة الشهوة تثور. إبرتها نار متقدة.
لا أحد يستطيع اختزال صورة تكبر لأن الدماغ كُوَّة. هنا، لا مجال للإختفاء. لن يكون لذلك معنى. يرتد المرء على وجه الليل ارتداد كرة على مضرب.
كوكبة من النجوم تتثاءب. إنها القيلولة العنيفة للمادة التي تحكم علينا بالسهاد.
الذين في الخارج يدركون الآن أن المعرفة مغلقة.
ترجمة بشير السباعي




تحية لرسم رمسيس يونان

منحنيات خطوط ملحفة
دعوة لازبة إلى العذاب
لن يتبدل مشهد الدراما أبداً
وهذا بالكاد إن انتظره المرءُ بعدُ
هذه الباقة من أزهار النرجس
هذه العلامة للأزمنة الأكثر قتامة
والتي لولاها لاختُزل ابتزاز الليل المحتوم
إلى تجارة أفواه مهزومة
أفواه غير مؤهلة للتنبؤ
علامة الأزمنة الأكثر قتامة
تسارع إلى شد السجالات الإنسانية إلى الوراء
حتى لا يتمكن أي تلميح من تشويش تيبس النساء الاحتفالي
المنتصب وسط صمم القباب

لابرادور قاسٍ لغراميات غير باقية.

ترجمة بشير السباعي




نثر



بلاء السديم
(شذرات)



بلاء السديم
(1939-1945)

لاريب أن الإنسان الذي يصمت هو وحده الذي لا يحتقر الكلمات البتة. إن ليل الحارس تكليفات صارمة لكنه أيضاً تيقظ طويل لعنفوان الكائن. ومن الممكن أن يظل صمته عالماً مقفلاً إلى الأبد. ومن الممكن أيضاً أن يصبح بوتقة الحقيقة وأن تعيد هذه الأخيرة – مثلما يحدث ذلك في تراجيديات شكسبير – اكتشاف الصوت اللازم لتحية المصير بإسمه.
*
لأجل أي حصاد ندخر الماء؟ إننا نشيد سدوداً للصمت، آملين أنها سوف تتصدع يوماً ما وتجرفنا بعيداً، وأن الكلام المتجدد، سوف يكون منذ تلك اللحظة ممتزجاً بالطحالب وبالطمي، وإنه ليبدو لي، بالفعل، أننا نحس نوعاً من الشهوة الماكيافيلية إلى هذا الكلام المتدافع بأكثر من اللازم والذي، دون مراعاة تجليات جديدة (سوف نضعها من ثم تحت رحمة مبدأ الإغواء)، قد يرمز، بالنسبة لنا، إلى نهاية التلاشي. وهذا لأن الصوت يرق ولا يتحين فرصته الثانية بعدُ إلا من إفراط في التآكل.
*
تنكتب حياتنا بنقوش لا نكاد نلحظها نحن أنفسنا، بعيداً عن الإشارات التي نعطيها للآخرين. لقد عرَّى الفكرُ الإنسانَ رغم كل شيء، وها هو ذا جاهز للخنق. ويبدو أنه لا مخرج هنا إلا عبر تحويل الكائن إلى مادة من مواد العالم الفيزيقي، إلى عنصر ما غريب عن طبيعته. لماذا لا يُودَعُ  في الإبداعات التي نحبها، تركيز معين، يتميز بالإصرار، على البلّور أحياناً، على الكبريت أحياناً، على الحجر أحياناً، إن كل شيء يحدث كما لو كان المعدن الإنساني على وشك النفاد، كما لو كان قد تم بلوغ قعر المنجم، كما لو كانت الكلمات قد امّحت، والممرات قد اكتشفت، كما لو كان لم يعد هناك، باختصار، غير النزوح من حالة الإنسان صوب مناطق لم تمس بعدُ.
*
لوزان
4 سبتمبر 1939
اليوم الثاني للحرب العالمية
كل شيء يرتد إلى الفوضى وإلى الليل الأكثر تلويثاً. إنه تشتت البعض، وتعبئة البعض الآخر والتشوش التام للجميع. وتولد الكلمات العظيمة من جديد بقدر ما يموت الناس من جديد. لكن الكلمات العظيمة الحقيقية تظل في الداخل، في حصون الذاكرة المنيعة.
... تلك سرعة الموت المُكْتَسَبَةُ وقد أحدقت من كل حدب وصوب.
*
لقد حُفرت أنفاق في كل مكان تقريباً دون أن يكون الناس واثقين تماماً من الخروج من العتامة التي اختاروا ولوجها. ففي البداية، تكتفي الأكذوبة بالتطاول على الحقيقة. وما هو نسبي يمسي ملتبساً. وتكون تلك مرحلة تشوش تكون فيها أكذوبتان عكازين لحقيقة. ومنذ تلك اللحظة، لا يبقى للأذكياء غير أن يكونوا واضحين، أي أن يصفوا كل الأشياء بحيث لا يكون بوسعهم أن يتذوقوا منها غير ثمالتها.
*
عندما نقف على نقاط الارتكاز الأخيرة، فإننا نتلهى بالفرجة. وهذه لعبة ختامها التثبت من مبدأ الشلل.
*
إن أرغنات البربرية تصحب في شوارعنا أيضاً موسيقى عبثية شبيهة بتبكيت الضمير.
*
يرى المرء من هؤلاء الناس من، إذ يدخلون إلى مكان عام، يلبثون شاردي الفكر أمام أمثالهم ثم يسألون ماذا يكتبون، لكنهم لا يجرؤون أبداً، حتى لحظة الإغلاق، على التوقيع على ذلك الإعلان الطويل، ذلك الإعلان عن عدم الصلاحية للحياة.
*
إن ذاكرة إنسان البحر المتوسط تكشف شبابها، بالتحديد، في إلغاء هادئ للزمن.
ذلك هو ما يجعل من إنسان البحر المتوسط إنساناً يعرف العاطفة بشكل أسهل من معرفته للدهشة.
هذا البحر الداخلي مجال عقلي. ولقد اعتقد الناس أن هذا المجال المسوَّر مقصور على حس القياس، كما لو أنه غير محاط بضفاف الإيمان. كما لو أن هذا المجال المسحور لم يشهد سقوط قيصر وميلاد بونابرت.
إنه صندوق بريد التاريخ الدائم الذي تجد الرسائل فيه دائماً مُرسلاً إليه ولا تفقد شيئاً من معناها حتى لو سُلِّمتْ بعد قرون من التأخير.
لقد دخل البحر المتوسط، مرة وإلى الأبد، في مدار الإنسان ولا مجال للخروج منه.
*
 بجانب الأبطال الذين يجهلون أنفسهم، يوجد الأبطال الذين يجهلهم المرء، وعلى رأس هؤلاء الأخيرين، الصعلوك. الصعلوك المطلق والمتشدد المصر على ألاَّ يستجيب لشيء من الإغراءات النفعية التي تقف له بالمرصاد. إن حس الواقع يختلط عنده بحس المغامرة، حس مغامرة شخصية في كل لحظة، منسوجة من ابتسامات خفية لدى الانكسار المفاجئ لزجاج نافذة، من مشاريع غرامية تتشكل بالصدفة شغفاً بوجوه أنثوية مبلولة بللاً رقيقاً بقطرات المطر... بقطرات المطر الذي لا يستطيع أحد القول في أية لحظة بدأ يسقط.
*
أعتقد أننا نتجه نحو شعر رقيق وقوي، تدعمه تلك "الكآبة المبهمة الجسورة" التي يتحدث عنها إيف بونفوا كثيراً والتي ليست مفتاحاً لتفسير حالات الندم بل نسقاً لما لا يمكن حله، أي للوسط المحدد المنيع والذي يغرق فيه الشاعر.
شعر دون تنازلات يجب أن نتوقع منه أن يدفع من يمسه إلى ممارسة أفضل للوحدة وإلى تأمل مشحون بالعواطف ليس في ما نحن عليه، وإنما أيضاً في ما يُرفَضُ لنا أن نكونه، شعر يتوجب عليه أخيراً، وهذا هو الشيء الجوهري، أن يجعل إنسان الغد مُتَطَلِّباً حيال اللغة.
*
إن كلمات تخدم كل القضايا، تكف بذلك عن خدمة أية قضية.
ويجب التقدم من الآن فصاعداً، والكلمة عارية، كنصل قاطع.
*
إن اليقظة، وهي نوع من الميلاد المحتدم، هي هلع منظم تماماً يبدأ من تلقاء نفسه.
*
ربما توافر حل لعذاباتنا: أن نكتسب كطبيعة ثانية آلية دُمى، إلى جانب، علاوة على ذلك، ما لا أدري من الأشياء التي تترنح. هكذا يمكن للمرء أن يتجاوز، وهو ما يكاد ينوء بحمل هذا الدرع الصدفي الطفولي، مرحلة اليقظة، وأن يتحرك في الثابت، وأن يتقدم في الحسرة.
*
من فرط كتابة: "العلامات المميزة: العدم"، يتولى البيروقراطي إفهام من يسقط ضحية له ليس فقط أنه ليس هناك ما يميزه، وإنما، بادئ ذي بدء، أنه ليس من حقه أن يميز نفسه.
إن المرء ليتخيل بطاقة هوية يقرأ فيها:
العلامات المميزة: شخص خطر يتصور أن طفولته مستمرة.
*
إن كانت هناك في صميم الأشياء كلها، عاطفة غير مسماة تكسر وجوهاً قُدِّرَ كل ما فيها لراحةٍ مَلَكية وتُحولها إلى شظايا من البلّور، فلابد لتلك العاطفة عاجلاً أم آجلاً من أن تنال إسماً، والسوريالية جديرة بأن تضم اسمها إليها.
*
أحب أن أتخيل في البيوت الأكثر انكشافاً على الشاطئ طاولات كبيرة فاتحة اللون ممدودة للرحالة المتأخرين الذين يعرف المرء أنهم سوف يصلون، برغم كل شيء، على جناح العاصقة.
*
... من جهة أخرى، أقول لنفسي إنه لكي يكون هناك لقاء مع الآخر، فإنه يجب أن يكون هناك، بداية، لقاء مع النفس... إن كل لقاء هو من نوع ذلك التوسل، من نوع ذلك الرجاء الخفي الذي منحه لنا ذلك الجزء من كينونتنا والذي لم يفعل غير أن يقدم لنا وعوداً، إلى هذا الحد من الغموض، وإلى هذا الحد من الرعونة. وإذا كان الموت يراوغنا، في هذه اللحظة، فإن الجهد الكبير بلا طائل هو الذي يشرُف شرفاً عظيماً بإيقافنا.
*
أُسَلِّي نفسي بالتفكير بأن المرء يجد الراحة على الخشبة الأثقل. فالسعادة ليست تزحلقاً على العشب الأملس. والزاوية غير المتوقعة هي التي تجعل الصخرة الأخيرة تلامس الخلاء الأول.
وهناك لحظة نكون فيها تلك الزاوية وتُدوِّي فيها دوياً قوياً فينا حِدةُ العالم المُحبَطَةُ بلا توقف.
*
يروق للناس وصف زماننا بأنه زمن كوارث. وهذه الكلمة لها مأثرة مغازلة غرورنا. فنحن نكتسب، من خلالها، مظهر شهود ومحركين لكوارث عظيمة في آن واحد. وينبثق من هذا الاشتهاء للكوارث درس أوليٌّ ينطبق على معظم التأملات الثقافية المألوفة لدينا. إن قصر النظر العقلي بحاجة إلى منظورات عظمى. وهناك في الحياة، لعبة تعويضات خادعة بحيث إن فكراً ضامراً غالباً ما ينتهي إلى التعلق بشكل ما من أشكال الضخامة الإيديولوجية.
وما أن يفقد ذكاؤنا جسارته، ما أن تبدو له الحقيقة عصية المنال، فإنه يصبح من المغري بالنسبة له أن ينصهر في يقينٍ جماعيٍّ وقوده ذروة دائمة من نوع ما. والحال أنه فيما يتعلق بالإنسان، ليس من المبالغة القول بأن الصفر هو حاصل جمع ذاتين، ويوم تكف البشرية عن أن تكون أكثر من ضمير واحد سيكون المرء محقاً في الاعتقاد بأنها في سكرة الموت.
*
ليس الاختلاف هو الشكل الأخير للترف وحسب، بل هو أيضاً الفرصة الأخيرة لكي نحافظ في أنفسنا على جانب الحكمة بجانب الحماقة.
*
إنني أحفظ تلك العبارة الصغيرة غير المهمة، وإن كان بوسعها في الوقت نفسه أن تقود إلى إبادات مراوغة: "ليس ضرورياً أن يواصل الحياة أولئك الذين لا يسعهم أو لا يريدون العيش هانئين".
*
الموج يعلو حول من يمد يده إلى الفوضى.
*
ما يعتبره المرء الإبداعات الأأكثر تمثيلاً للإنسان، من كوليزيه إلى رامبو، هي بالقدر نفسه أنشوطات بالقياس إلى خنق مؤجل إلى أجل غير مسمى، هي بالقدر نفسه إسهامات في تكثيف اللغز. وحيثما لا يتكشف اللغز، يبدو لي أن من الواجب زيادة غموضه، مضاعفته بتفسيرٍ تُصبحُ جميعُ أشكالِ سوء الفهم ممكنةً معه.
وإذا كانت فكرة الرهان ليست غريبة عن تاريخ الإنسان، فمن المناسب ببساطة إقرار أنه قد راهن لحساب سوء الفهم وضد الوحدة.
*
لا ريب أن الشيء المهم هو الذود عن النفس ضد مختلف صيغ مجاوزة الذات، ضد الحلول الوقتية لذلك الذي لا ينشأ إلاَّ مما لا يمكن حله.
*
الكلمة ليس لها ثمن إلا بمقدار الدلالات المتحداة التي تحملها في ذاتها، المتحداة دون واحدة هي الأخيرة، والتي تسجل حرقها الصغير على الجلد مثلما تُسجَّلُ بصمةُ تحالف.
*
من كرومويل، هذه الفكرة المدهشة التي تشبه لياً معيناً للفكر الباطني: "لا أحد يصعد أعلى غير ذلك الذي لا يعرف إلى أين يمضي".
*
يجب للقصيدة أن تكون قادرة على أن تُواصَلَ، على أن تُستعاد، على أن تكون موافقة لكل غاد، من خلال كل ما هو حي. أما نحن فعلينا إطالة عمرها، وربما القضاء عليها، ليس فوراً ولا بصوت عال. وإنما يوماً ما، في الحلم أو في الأعمال، هذا الجانب أو ذاك وبطريقة ما، في اللحظة التي يتجنب فيها الشعر المكتبات التي لدينا أو التي نَكُونها نحن.
*
ما أندر حالات إمحاء الفن الصارخة إلى هذا الحد... إن الصورة تأخذ مكاناً في الحياة. وأسلوب بناء الإيماءات يتكفل بالباقي... ولا يُسلِّمُ البنيانُ أبداً بأنه ناجز. فهو في كل يوم يحمل نافذة جديدة. إن كل شيء يترنح بشكل مؤثر تحت رحمة ضَعفٍ في النظر. وإنه ليجب المضي إلى نهاية هشاشة الأشياء.
*
في حضور الفن فإن الوجود بأكمله هو الذي يتمايل تمايلاً معيناً، شبيهاً بشراع في مهب الريح.
*
يذوب الحلم مثل قبضة من الثلج في راحة اليد، ويهتدي المرء إلى طريقه، مجرداً تماماً، على الدرب الذي يرد إلى الذات.
*
الكتابة أسلوب للحفاظ على الذات وللحفاظ وحسب، للحفاظ على أحلام بادية، وربما كانت فرصة لكي يبقى المرء نقياً. أو أقل تلوثاً.
*
بلى، إنني أحلم بتأبين مهيب للإنسان ولتظاهره العاجز بالحياة، بتأبين تولد فيه من جديد وتعلو فيه أيضاً كلمة بوسويه المهيبة، الكلمة المقفلة، المنفصلة عن أي ارتباط بالمعيش أو بما يعيش.
إنني أحلم بمتاحف عصية على أن تولج، يتوجب على كل من يقترب منها أن يقدم برهان رغبة طويلة ومتواصلة في الجمال.
*
خاصية لنور ممسوس أو ملموس عن بعد. يسارع إلى التراجع لو تقدم المرء نحوه مُطَارِداً... غير حاسم بقدر ما نبدو نحن أنفسنا جد حاسمين، والحال أنه النور الوحيد الممكن من أجل بداية، والبداية الوحيدة الممكنة من أجل نهوض الإنسان من كبواتنا.
...على معرفة مستكينة نفتح أعيننا وعلى عرينا يستند إدراك عالم صار في نهاية الأمر بلا طائل. الصياد يرتقي فروع الشجر، والشاعر يتنازل عن عرقه لشجرة الأوركيد. شارب النمر مبلل بالندى، كشوارب سكارى لا مأوى لهم.
إن الشيء المهم هو تعلم كيفية خلط العلامات، كيفية نزع إمكانية التنبؤ بالمستقبل.
*
تنبسط راحة اليد حتى يتسنى مرور شعاع من الكسل.
*
يتميز الحجر على الإنسان بأنه يسقط عمودياً، وربما كان من المناسب الاعتراف بأن تعاساتنا قد بدأت بهذا الرفض الأول والذي لا يوجد فيه من الشجاعة غير المظهر، لأن قول "لا" في تلك اللحظة، هو في الوقت نفسه انقطاعٌ إلى تخلياتٍ لا تنتهي.
*
الإنسان يجادل، والجدل مساومة، وهكذا يولد التاريخ، ذلك الماء الذي لا ينشد غير الركود، وهكذا تتأسس، حتى النفس الأخير، مساومة طويلة وغادرة لا يستطيع فيها الإنسان، المحاصر بين بروميثيوس وسيزيف – السجانين المتطرفين لحماساته- أن يمارس أو أن يُذكي رغبته إلاَّ لكي يتمكن فور ذلك على أحسن نحو من نفيها أو خنقها بيديه هو. لاشك أنه يُمَنِّي نفسه أحياناً بابتكار علاجات جميلة، لكن الرياء هنا يكون صارخاً، لأن ما يتوخاه ليس علاجات. فبعدة ألواح خشبية للنجاة ينتهي المرء دائماً بصنع تابوت.
ترجمة بشير السباعي





مقتطف من مقال حول انتحار رونيه كريفيل

تحاشي التناقضات، مواجهة التناقضات دون التغلب عليها، التغلب على التناقضات دون إزالتها، تلك هي المواقف الثلاثة الكبرى التي يصطف حيالها جميع مثقفي عصرنا متمايزين فيما بينهم: أخذ أجازة من العالم، إدراك العالم، امتلاك العالم. وأية مرحلة لا تستبعد المرحلتين الأخريين، فالانتقال مسموح به، وضروري، ولكن في اتجاه واحد فقط. ذهاب دون إياب ... ما أكثر الكتاب الذين يؤثرون الرحيل على إفساد الروح وعلى تعفين الروح للروح. لقد كان كريفيل واحداً من هؤلاء الكتاب.

1935
ترجمة بشير السباعي


 

شذرتان حول ماهية الإبداع الأدبي

 

العمل الأدبي ليس أفيشاً انتخابياً. هذا لا يعني أن الأدب [...] يجب أن يكون غير سياسي. ليس هناك ما هو أقل صدقاً. إن ما يجب إبرازه هو أن الأدب يحتفظ بحق عقد صلة مع جميع عناصر الحياة، ومن ثم مع السياسة من حيث هي أحد هذه العناصر، شأنها شأن الرياضة، أو العلم أو الصناعة. لكن الأحوال تسوء حين لا يلتفت الكاتب إلى السياسة ولا يرصد الحياة الاجتماعية إلاَّ لحساب حزب أو برنامج. إن ما يقوم به عندئذ هو الدعاية. ومن الممكن أن يقوم بذلك على نحو رائع أو بصورة بائسة. وليس لذلك أهمية تذكر. فمن المفروض أن الكاتب يربض على قمة يُقَيِّمُ منها المجتمع والسياسة والإنسان تقييماً حراً. والحال أن الداعية لا يحكم من أعلى إلى أسفل، وإنما من أسفل إلى أعلى؛ فهو في السياسة لا يرى سوى الحزب، وفي الإنسان لا يرى سوى المتحزب. وهو يظل في جميع الأحوال أسفل الإنسان. هذا هو ما يحدث مع أراجون ولا نملك سوى الأسف لذلك.

من مقال "أجراس بال لأراجون"

مجلة "أنيفور"، عدد فبراير 1935

                                                                                              

ربما جاز الاعتراف بأن الشعر يمثل تجربة المصالحة الوحيدة المحاولة عبر القرون. ففيه تكف الكلمة عن أن ترتد ضد الإنسان. وإنما، على العكس من ذلك، تزيده رحابة، تنتشله من هزيمته اليومية. الكلمة، شأنها في ذلك شأن الأشياء المحسوسة والحقائق الواقعية الحسية تقريباً، تساعد الإنسان على أن يعي اتساع رغباته، وكثمن شيطاني يتعين عليه سداده لقاء هذا الانتصار الأخير – تساعده بأن تعرض عليه بلا توقف أكثر هذه الرغبات غواية.

وبفضل هذه المصالحة يمكن للشاعر أن ينظر إلى ما وراء المرئي، أن يهدد بشكل لا يكل أبعاد حياته هو، أن يعرض صورة قصره على الشاشة الرديئة للآخرين، جاراً إياهم صوب ما يحسن الرغبة فيه، مايحسن الحلم به، ما يحسن امتلاكه أو نسفه بالديناميت، ما يحسن سداده للحياة – فالشاعر، شأنه في ذلك شأن الساحر الذي تساعد تعاويذه على استثارة التجليات المنشودة، يسمي الكائنات والأشياء التي ينادي في آن واحد حضورها ونفورها على الأرض. وهو يسميها بشكل خاص، بانفجار يمضي من الرقة إلى العنف، وهو ما يشكل التأكيد الشعري.

1944

ترجمة بشير السباعي




 
[ الفن بوصفهِ أسلوب حياة ]


الفن في نظرنا لا يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير، يمثل شيئاً آخر تماماً. فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة، جميع الأشكال المؤقتة أوالأبدية للشعور، جميع الحالات والإدراكات، يمثل أسلوب حياة، موقفاً هو في آنٍ واحد حيوي وشعوري وواع. فالشيء المهم بالدرجة الأولى عند الإنسان هو نوع من الأناقة الأخلاقية المعنوية يصبح الفن بالنسبة له انطلاقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته. والحال أن هذه الأناقة الأخلاقية المعنوية التي يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد والإذلال، هي التي تجد نفسها في اللحظة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نظم الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر الأوضاع بؤساً. وهذا البؤس الروحي الذي لا سابق له لا يتماشى إلاَّ بشكل بالغ مع البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع. فما الذي يجري الآن هو تجريد الذكاء من جميع حقوقه؛ وحرمان الإنسان من امتلاك زمام مصيره. وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا لا يمارسون ضراوتهم ضد أسلوبٍ في الرسم بل ضد أسلوبٍ في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها. لم يعد من حق أحد أن يحلم بصوتٍ مرتفع لأن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني بشكلٍ عام ) إرادة التحرر من واقعٍ يتزايدُ غربة، إرادة تغيير الوطن إلى الأبد. وفي مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم، يجري النهي عن استيراد الحلم لاعتباراتٍ كبرى تتصل بالانضباط الاجتماعي. ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي، فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث محكومٌ عليه بالموت... ونحن نعتقد أن هناك مجالاً للرد على هذا التدجين القذر للفن. نحن نعتقد أن هناك مجالاً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد الكُتاب والفنانين حول رجال وأعمال تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية. وهذه الأعمال وهؤلاء الرجال موجودون. وهم موجودون بشكلٍ واسع بحيث إنه في بلدانٍ عديدة ليس لإداراتٍ بأكملها من وظيفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم، بالتناوب، الصمت والافتراء والإرهاب. إنهم ليسوا موجودين وحسب، بل إنهم يظلون في عالمٍ مسكونٍ بالأشباح الدموية، الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة.
وإنها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية، أي بشيءٍ يوجد إجماعٌ على اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً. وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك لأنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون مصدر خطر على مجتمع محدد. لأنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النظم الاجتماعية أقل استعداداً للتسامح معه.

1939
ترجمة بشير السباعي




 

 

المثقف في المعركة

 

 

(مداخلة في الندوة التي أقامتها

 "جماعة المحاولين" يوم 6 أبريل 1939)

الأصدقاء الأعزاء،

على الرغم من أسفي لعدم تمكني من التواجد بينكم هذا المساء، فإنني حريص على أن أوضح بإيجاز بالغ تصوري عن المسألة المهمة بين جميع المسائل، والتي تشكل موضوع نقاشكم. يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً في زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية. على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبي للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبي لعصرنا من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة في الاستمرارية بين الاثنين. فالأدب الرومانسي ينطوي على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها. فكل واحد يستغرق في أحزانه وتمزقاته العميقة. إن أبسط ارتباك أخلاقي وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شيء ولا يتم إنقاذ شيء في ختامها. إن الرومانسية عاطفية وذاتية. فهي عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها في حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التي لا حصر لها، ودون أن تتطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء فيها النظر إلى نفسه، أو لا يرى غير نفسه. وهي ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود – بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها. وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض. والأسوأ من ذلك، أنه يصبح وحيداً دون أرض.

ويبدو اليوم، ومنذ عشر سنوات، وذلك بفضل الدراسات النقدية التي قام بها رجال مثل أندريه بريتون وجاستون باشلار وهربرت ريد، أن الأدب والفن المعاصرين قد نبذا العاطفة لحساب الاشتهاء – الذات لحساب الموضوع. إنهما أدب وفن اشتهائيان وموضوعيان. ويتطلب الاشتهاء إشباعاً فورياً وفائراً. وهذا الإشباع لا يمكن العثور عليه إلا في الموضوع وعن طريق الموضوع. واسمحوا لي بأن أستشهد مرة أخرى بما قاله نيكولاس كالاس: "إن الصوت العاطفي هو من الزاوية الاجتماعية صوت محافظ، لأنه يكيف الإنسان مع الوضع القائم، أما الصوت الاشتهائي فهو وحده الصوت الثوري. إن العاطفة بالقياس إلى الاشتهاء هي انحراف للرغبة لكن هدفنا لا يتمثل في حرف الرغبة بل في تحويل المجتمع من أجل تكييفه لرغبتنا ... إن الفن ليس عاطفياً البتة، ليس أخلاقياً البتة، إنه ضد النظام القائم، ضد الطبقة السائدة، ضد كل اتباعية، ضد الكهنة من كل نوع ومن كل حدب وصوب، والبارثينون (هيكل الربة أثينا في مدينة أثينا) يثبت ذلك: إن الفن معمل بارود".

ويجري عموماً اتهام الكتاب والفنانين المعاصرين بالكلبية وبانعدام الأخلاق وذلك لمجرد أن الغالبية من بينهم  يمارسون ويوصون بالبحث المنهجي عن اللذة وأنه تنبثق من أعمالهم بوقاحة أخلاق لا علاقة لها البتة بالأعراف المجازة تحت هذا الإسم – هي أخلاق الرغبة. إن الإنسان، والفنانين بشكل أدق، يخلقون لأنفسهم في كل لحظة موضوعات جديدة للإشباع. وحتى من الزاوية الأكثر محدودية، الزاوية التجارية، يمكننا رصد تكاثر مريع لعدد الأشياء المطروحة للاستخدام اليومي من جانب الإنسان. وفي باريس، وفي نيويورك، وفي لندن، نظمت معارض لا تضم غير أشياء مصنفة فنياً تحت ما لا حصر له من العناوين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاندفاع الفني نحو الموضوع، الغني بالاشتهاءات وبالاكتشافات، إنما يتم في اتجاه غير نفعي. إلا أنه يدل كذلك على اتجاه مشترك لدى جميع ممثلي الفكر الحديث تقريباً. وهو اتجاه عودة إلى الواقع ليس بوصفه شيئاً ناجزاً وجامداً بل بوصفه، على العكس من ذلك، شيئاً دينامياً قابلاً للتغيير وقابلاً للتحسين. ودون إدراك بالغ، فإن المثقف والفنان يجدان نفسيهما بذلك وسط معركة اجتماعية سافرة. فالمسألة التي تطرحها الحياة عليهما هي تحويل جميع مصادر البؤس إلى مصادر للمباهج. ولم يعد بوسعهما صرف النظر عن ذلك. فمن الآن فصاعداً، عن طريق الراديو والسينما والصحف – وهي وسائل للاتصال البشري رائعة وغير متوقعة – تصل إليهما فوراً أبعد علامات الشقاء ويصبح عليهما الرد عليها. وفي كتابه "الأمل"، فإن أندريه مالرو، وهو يتحدث عن ملحمة مدريد، يوضح لأحد شخصياته: "لقد عاش هؤلاء الناس على الأقل يوماً وفقاً لقلبهم". إن التعارض الشائخ والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من اللازم. وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر دائماً حق الحياة وفقاً لقلبهم.

ترجمة بشير السباعي






من أجل وعيٍ مُنْتَهِكٍ للمُحَرَّمات
هل أنت واقعي؟ هل أنت مستعد لأن تصبح واقعياً؟ في حالة الإجابة بالإيجاب، سوف يعتنون بأمرك. وسوف يتكرم المستقبل بالابتسام لك. وأياً كان ما تفعل وفي أية روح تفعله، سوف يبقى لك دائماً وجه احتياطي، بوابة يمكن اجتيازها لا تزال، كلمات بارعة أو بطولية للنجاة في حالة التعرض للغرق، إمكانيات جدية – إن كان غشك على مستوى طموحك! – لأن تضع يدك يوماً ما على واحدة من خزائن المصير الثلاث: المجد والملكية والسلطة. أو على الخزائن الثلاث مجتمعة إن كنت من الدهاء بما يكفي لكي تبدو وكأنك لا تولي أهمية لأية من أدوات السيطرة الرهيبة هذه. وهذا هو ما يفعله في الواقع بعض كبار الزهاد في زماننا والذين لا يصمدون، عندما يكونون متأكدين من أنهم قد أقنعوا الجميع بنزاهتهم الأخلاقية السامية، لشهوة إضافة زخرفة بسيطة هنا أو زركشة ضخمة هناك. لاحظوا أن واقعيَّ الزهد، حتى عندما يُضبط متلبساً بارتكاب جريمة زخرفة صارخة، سوف يعطي لفعله ألفاً من المبررات المعقولة، المعقولة بقدر ما أنها توجَدُ تحديداً على مستوىً من أكثر المستويات خصوصية، مستوى المنفعة المباشرة، مستوى المصلحة التاكتيكية. والقوة، القوة الضخمة للواقعيين، إنما تتصل بكونهم لا يعرفون الجريمة الصارخة. وما هو التأثير الذي يمكن أن يكون للمرء على أناس جد غارقين في ما يسمونه بالواقعي، بحيث إن أي برهان لا يمكن أن يكون كافياً لإفحامهم...؟
وإذا كنت، في الحالة المقابلة، لا تنوي الاستسلام للإغراء الثلاثي، الذي يمارسه المجد والملكية والسلطة لحساب الواقعية السياسية، فلابد من إعدادك لأن ينظر إليك على أنك رجّاج لا يكل للتجريدات (كالعامل المكلف برج زجاجات الشمبانيا كل يوم. – المترجم). إنك، في رأي الجميع، منبت الصلة بالحياة، لا تعرف مسرات وعذابات البشر، منقطع لملكوت الايديولوجية العقيم. وفي عالمٍ دارجٍ من الآن فصاعداً على الاتجار بحميةٍ واحدةٍ في القيم الروحية والمنتجات المصنعة، فإن ظل احتقار متزايد يلازم مصطلح الإيديولوجية نفسه. وعلى الفور، تجد نفسك في موقف الدفاع. ويتعين عليك البدء بالبرهنة على أنك لست عديم القلب ولا عديم المشاعر، أمام أناس حرفتهم تنظيم مشاعر الآخرين. وبعد تقديم البرهان، فإنك تظل مشبوهاً كما كنت من قبل، لأنك لا تستجيب لآلات جلبتهم الموسيقية النحاسية. وما أن تكتمل حضارة الابتزاز والتزييف، فإن أية إيديولوجية جديرة بهذا الاسم، تبدو كما لو كانت تحدياً لا يُحتمل للتساهل الروحي عند البعض، وللطاقة البهلوانية عند البعض الآخر. وإنه لمن موجبات العبرة في هذا الصدد أن نجد الناجين من إحدى الأرثوذكسيات الذين كانوا، في بداياتها، يُبدون استعراضاً لصرامة بوليسية أكثر مما هي فكرية، يتآخون اليوم مع هواة الذرائع والتحايلات ومحترفي الارتجال السياسي، في كره مشتِرَكٍ لكل نشاط نقدي ذهني، ناهيك حتى عن كل إخلاص لشيء جد عبثي كالمبادئ.
ومن الأرثوذكسية الأكثر شراسة إلى التلاعبات السياسية الأقل احتراماً، يبدو الطريق السريع سهل الانفتاح. ولكن إذا كانت الأرثوذكسية قد تسنَّى لها أن تؤدي، في الصراع اليومي، إلى ممارسات جد زائفة، ألا يعني ذلك أن بعض الضمائر المتحزبة لها، في استعاضتها عن ثقافة الأفكار بعبادتها لا أكثر ولا أقل، أي في استعاضتها عنها بطقسٍ يستحيلُ إلى هذا الحد أو ذاك على مناهج العقل السوية إدراك كنهه، قد تعلمت التملص بسعر زهيد، أولاً من كل نزاع يتعلق بالتفسير، ثم من كل تساؤل ضار فيما يتعلق بخيار العمل الذي يجب الاضطلاع به، والموقف الذي يجب اتخاذه؟ إن أحد المدافعين عن هذا النوع من الأرثوذكسيات، جد السريعة في الهبوط إلى الوحل، قد لخص لي بلغة آسرة، أجد نفسي مدفوعاً إلى نقلها هنا، القاعدة الذهبية لسلوكه. لقد قال لي: "إننا، تحديداً لأن لدينا مبادئ جد راسخة، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بكل شيء!". فلنأخذ حذرنا من ذلك. هذا ليس مزحة يمكننا التخلص منها بهزة كتفٍ. إنه التعبير الأمين والرائق عن حالة ذهنية جد عامة قوامها تحويل القيم الحية والمحرِّكَة إلى قيم رمزية، إلى تكريس إخلاص طقسي لها وإلى اعتبارها غير قابلة لأن تُلوَّثَ بالملوثات "الواقعية" الآنية، فهي تحلق فوقها على مسافة جد عالية.
فيا له من مشروعٍ فريدٍ يستبسل في إنقاذ مثل أعلى بمنحه أجنحة من الوحل! إن أي إنسان مدفوع إلى التمسك بهذا المفهوم عن الحياة السياسية يجب عليه أن يرتب لنفسه ضميرين متمايزين وغير متصلين، الأول مهمته أن يحافظ على المبادئ الدائمة وصورة الهدف النهائي في نقائها المزعوم، والثاني يشمل برعايته المتسامحة الشرمطات اليومية الهينة. أما أن هذا الفصل المستمر، هذا الطلاق الأبدي بين النشاطات المباشرة وعالم المبادئ السامية، يمكن علاوة على ذلك أن يعد التعبير الأخير عن الذهنية التركيبية، فذلك هو ما يسمح بقياس احتمالات التضليل التي يعتبر الذكاء متواطئاً فيها وضحية لها في آن واحد.
الاحتقار – الذي يوحي به عن علم في البداية، ثم العفوي وشبه الإجماعي – تجاه كل ايديولوجية مهتمة بالبحث عن شيء آخر غير فرص إلغاء الذات أو فرص الاغتراب، إخضاع كل فكر لأول واقع قادم، الاختزال التعسفي  إلى مضمون واحد لمفاهيم يصعب تركيبها الواحدة مع الأخرى كالدوجماتية والايديولوجية، الأرثوذكسية والديماجوجية: تلك هي علامات التشوش المريع الذي لا يتوقف عن التفاقم والتعقد مفقداً البشر رشدهم حتى يتسنى له على نحو أفضل إقناعهم بأن يُسَلِّمُوا أنفسهم بأنفسهم، عن طيب خاطر، بابتسامة، بوصفهم مواطنين حقيقيين، لواحدٍ ما من أشكال الاستبداد الرائجة.
ومن فرط الاعتداء على الكلمات، من فرط التلاعب بمرونة اللغة، أمكن الوصول إلى حالة الانحطاط الحالي حيث يصل الشخص أو الفكرة إلى أن تكون في آن واحد أو بالتتابع نفسها ونقيضها. لقد كُرِّرَتْ مراراً كلمة هذا المساعد لهتلر الذي كان يلوح بمسدسه عندما يسمع حديثاً عن الثقافة أوالذكاء. فيا للحسرة! لماذا يجب للكلمات الأخرى التي تهم معجم البشر السياسي والاجتماعي ألاَّ تتمتع البتة بدلالات لها مثل هذه الحدة؟ فما من كلمة ولا حتى كلمة "السلم"، لكونها كفت منذ زمن طويل عن أن تكون مُطَمْئِنَة، إلا وتستتبع خلفها ما لا ندري أية أهوال سرية، ما لا ندري أي عفن من عفن الكوارث. وإلى أن تتشكل، وفقاً لنصيحة دوني دو روجمون، "وزارة لمعنى الكلمات"، فمن المهم أن نعطي من جديد جوهراً واضحاً ومحدداً للمصطلحات الأكثر تعرضاً للإفساد، الأكثر تعرضاً للامتهان من جانب استخدام أعمى.
الايديولوجية ليست عقيدة. إنها نواة أفكار موجِّهَة، حافزة، تُوَجِّهُ الذهن لكنها بشكل خاص تحفزه إلى التفكير، إلى أن يعي حريتهُ – عبر التطوير المثمر لعناصر الانطلاق هذه .
الايديولوجية تبلغ الفكر برسالة معينة، لكنها بعيداً عن أن تلجم حركته الطبيعية، لا تفسد للحظة واحدة استقلاله الثمين. وكل رسالة متممة هي مؤاتية. وكل مساهمة أصيلة للفكر المكتسب، تكفل التوثب الضروري والمتواصل للرسالة الايديولوجية. إن الفكرة يجب أن تكون محل تفكير من الجميع، وليس من فرد واحد. وهنا يجب للنضال ضد الأفكار الجاهزة – ضد التبني الخانع من جانب ملايين الرعايا المدجنين لصيغٍ موضوعةٍ سلفاً – أن يرتفع إلى ذروته. هنا يجب على المشاركة الواعية لكل فرد في تطوير القيم الايديولوجية أن تقف في وجه سلب حرية الاختيار الفردية عن طريق حيل الإيحاء العديدة أو تهديدات عنف الدولة العديدة. وإذا كنا نأسف لنوع الهجر والتلف الذي سقطت فيه ايديولوجيات العصر، فذلك بالتحديد لأننا نرى في ذلك تراجعاً جسيماً للحرية في شكلها الأسمى، الأكثر إبداعاً. إن مجتمعاً لا يوجد فيه غير موردين للأفكار – بعدد محدود وبخدمة محكومة – ومستهلكين للأفكار-  في حالة سلبية شبه تنويمية، - مجتمعاً تؤول فيه التبادلات الثقافية إلى تحضيرات معملية، من جانب، وإلى تبديات طقسية للولاء وللحماس الاستفتائي، من الجانب الآخر، إن مجتمعاً كهذا المجتمع لن يكون، تحت مظاهر ربما تكون أكثر رحمة، لا أكثر ولا أقل بشاعة من التنظيم الهتلري للعبودية.
وخلافاً للمذاهب، والتي يتمثل هدفها في بلورة – ومن ثم تثبيت – رأي عام حول تعاليمها، وهي نفسها جامدة وعظام فاقدة للحياة، فإن كل ايديولوجية إتما تتسع بدعوة ضمنية إلى تجاوزها هي نفسها. وليس هناك في هذا الصدد من تدريب أفضل للذهن غير ذلك الذي يتألف من الهجوم العنيف على القناعات – الحدود، من التوسع الذي لا يكل لمجالها البصري. وعلى مدار مئات ومئات السنين، جرب الذهن الحاجة المشؤومة إلى الاحتماء خلف سلاسل لا نهاية لها من الخطوط المحصَّنَة والتي شَكَّلَ كل خط منها، في زمانه، خط الجهل الأعظم. لقد عاشت البشرية حتى الآن بشكل وحيد تقريباً في ظل امبراطورية المعتقدات اللاعقلانية أي ممتثلة. وفي كل مرة كان يحدث فيها فتح من فتوح العقل الرامية إلى إكساب الإنسان حصة متزايدة من الحرية، فإن قوى التقهقر، المرتبكة للحظة، لم تكن تتأخر عن استعادة الساحة الضائعة أو عن تسريح الحماسات التحريرية، أو عن إقامة هياكل عبادة جديدة أو عن تحديث الأوثان القديمة، بكلمة واحدة، عن حبس منجزات العبقرية الإنسانية في منظومة انضباط شعائري حيث لا تفعل غير أن تكرس يهيبتها العودة المتصلة إلى القهر، وهكذا ينشأ بين الإنسان والحرية عذاب لقاء قريب تارة بعيد تارة أخرى. وهو عذاب حقيقي تتوارى فيه الحرية في اللحظة عينها التي يتبارى فيها كل شيء على تحقيق انتصارها فتُخْلي المكان لبنيان استبدادي ما يلمعُ اسمها على مدخله مع ذلك كماركة مزيفة على سلعة مهربة.
إن النضال المعادي للايديولوجية لا ينزع إلاَّ إلى نزع سلاح الذكاء، إلى تجريده من وظيفته التساؤلية، إلى تعويده على احترام حقائق مرتبة بشكل هرمي وصالحة حتى للنظام الجديد. وبدعوى التخلص من التأملات المجردة، نتحرك صوب عقائد جامدة بدائية، صوب تعاليم اجتماعية مرعبة حيث تأفل الكلمات الأكثر إثارة للحماسة تحت ضربات المطرقة.
سوف يكون المثل الأعلى للواقعيين هو تحويل الذكاء إلى نوع من "صحيفة رسمية". فهل يناقش المرء "الصحيفة الرسمية"؟ إن المرء يعرف عن طريقها مراسيم اليوم. بينما في الشوارع وفي الساحات العامة، سوف تتكفل أُلهيات مختارة بالحفاظ على شعور الاستثارة المؤاتي لدى الجماهير. ومن الذي يمكنه أن يجادل في أن الاستعراضات في الساحة الحمراء مسؤولة عن جانب كبير من رسوخ النظام الستاليني؟ هكذا يخدم الواقعيون القلب والذهن بتقديم أعلاف متكافئة لهما. ويوم يهجر البشر الاستعراضات والأضرحة، سوف يتهمهم الواقعيون دون ريب بأنهم فقدوا قلبهم، في حين أنهم لن يكونوا قد فعلوا شيئاً غير الحفاظ على نبضاته لاستخدامها استخداماً أفضل.
إن الواقعية السياسية إنما تتأسس على صيغتين لا يوجد تكامل بينهما إلاَّ من الناحية الظاهرية. يقول لنا الواقعيون: "كل الوسائل حسنة". ويضيفون فور ذلك: "يجب تعلم التكيف مع الظروف". إن التنافر الذي يجعل هاتين الحكمتين غير قابلتين للارتباط فيما بينهما، لن ينجح في شد انتباه الواقعيين طويلاً. فالواقع أنه لا توجد بالنسبة لهؤلاء تنافرات نهائية، مثلما لا توجد بالنسبة لهم تناحرات عصية على التوافق فيما بينها. والشيء الوحيد المهم بالنسبة لهم هو القيام انطلاقاً من جوامع الكلم باستحداث فلسفة تمويه مخصَّصَة لتوفير أنسب حرية مناورة لهم. وعند اللزوم سوف يتخيل المرء أنهم يقولون: "كل الوسائل حسنة لتكييف الظروف". لكن تكييف الظروف، بدلاً من مجرد التكيف معها، إنما ينطوي على رغبة في تغيير الواقع والضغط على العقبة لا الانجرار إلى التشكل وفق نموذجها.
إن الواقعيين يخافون المجهول. ودورهم ليس هو تغيير الواقع، بل مراعاة جانبه. وإلاَّ فأين سوف يكونون أكثر ارتياحاً إن لم يكن في واقع ودي ومألوف يكافئهم بنجاحات من كل نوع، عن الاستقرار الذي يدين به لهم؟ وفي النهاية قد لا يكون من الأسهل أن نميز من، الواقع أم الواقعي، هو الذي قام بتطويع الآخر. إلاَّ أنه إذا ما فرض تغيرٌ جذريٌّ ما نفسهُ، فإن كل شيءٍ يصبحُ من جديد واضحاً تماماً. فعندئذٍ تكون "كل الوسائلِ حسنةً" من أجل إرجاء هذا التغير، من أجل إثبات عدم جدواه، وفي التحليل الأخير، من أجل سحق أنصاره. إن تفويض الأمر إلى الواقعي للاهتمام بتغيير الأوضاع، هو كتكليف صبي يخدم في سيرك بشق طريق في الغابة.
كلا، ليست الوسائل حسنة جميعها! فهناك بعض الوسائل، خاصة تلك التي يلتمسها الواقعيون أكثر مما عداها، التي لا تعتبر حسنة إلاَّ لحرف مسار التداعي الطبيعي للأحداث ولإدخال انحراف على خطط العمل المرسومة بشكل يكفي معه هذا الانحراف عموماً لشل حركة قوى النهوض التي تندفع دون طائل إلى مفترق الطرق. وشأنها في ذلك شأن تلك الجراح العصية على الالتئام، فإن الزوايا التي تفتحها "الانحرافات الواقعية" تصبح، عند محيد معين، عصية على الالتقاء من جديد. وذلك بقدر ما أن الواقعية تتألف من الإقامة في الانحراف واعتباره لا حالة وسيطة بل حالة نهائية، وضعاً في ذاته، وهو وضع سوف يتعين على اللاواقعيين العزم على بتره، بالأسلوب الوحشي إلى حد ما الذي كان يعاقبة عام 93 (17) يبترون به الرؤوس.
وعندما يتحدث السياسيون، الذين لا يحيون إلاَّ بالتحايل عن السماح بالانطلاق الحر للإرادة الشعبية، فلنكن واثقين من أن هذا اللجوء إلى الشعب لا يشكل غير تحايل إضافي في لعبتهم، والقاعدة الدائمة من جهة أخرى هي أن هؤلاء السياسيين لا يلجأون إلى الشعب إلاَّ عندما يتعرضون لخطر إزاحتهم على أيدي عصابة منافسة، أكثر براعة وأكثر ثراء في التحايلات. وغالباً ما طرحت مسألة ما إذا كانت للجماهير مصلحة في التجاوب مع نداءات ظرفية ونفعية من هذا النوع. ففي صفوف الكادحين، يوجد عدد من أساتذة الواقعية يكاد يكون قريباً من عدد أقرانهم في المعسكر المناوئ. ومن الغريب أن نرى هؤلاء الماكيافيللات ذوي الكاسكيتات وهم يتولون بخفة عقد التحالفات الأكثر خطورة، والتصالحات الأكثر مدعاة للحزن والأواصر السياسية الأقل استحقاقاً. ومن عام 1935 إلى عام 1939، فإن هذه التقاربات المضادة لطبائع الأمور بين الشعب والصالونات، بين المصنع والكنيسة، قد أسهمت إسهاماً بالغاً في تفسيخ العناصر التي كانت ما تزال سليمة وصدامية في قارة أوروبية لم تكن محتلة بعد وإن كانت ناضجة بالفعل للاحتلال. وفي هذا السباق على الزنا السياسي، يبدأ المرء بخيانة مثله الأعلى مع الجار المقابل له، ثم ينتهي إلى اقتسام أي سرير مع أي شريك.
إن الشعب يملك في نفسه موارده الخاصة، بشره الخاصين، أدوات نضاله الخاصة، مفهومه الخاص عن السلطة. وهو ليس بحاجة إلى أن يستأجر من الباطن محترفين مستهلكين بالفعل في خدمة الآخر، لكي ينجزوا له مهمته الخاصة. كما أنه ليس بحاجة إلى أن يسلم طاقاته وراياته لمشاريع إنقاذ السياسيين والأحزاب الذين والتي طالهم وطالها الفساد على حد سواء، الأوائل من جراء الممارسة غير المحدودة للدسائس والأخيرة من جراء الممارسة غير المحدودة للمساومات.
وعندما تجد الجماهير نفسها مدعوة إلى الفعل من جانب شخصيات أو جماعات لا تدين ببقائها إلاَّ لانعدام فعل الجماهير، فإن من حق هذه الأخيرة تماماً أن تنزعج. فالمسألة كما هو واضح لا يمكن أن تكون غير مسألة فعل معين موجه إلى اتجاه معين. وقد نجح السياسيون حتى الآن مرات كثيرة في تأطير فعل الجماهير، ولم تنجح الجماهير قط في تأطير فعل السياسيين. وأولئك الذين يحثون الجماهير على الانقياد لذلك الرجل العظيم أو ذاك – "القائد الممكن الوحيد" – أو لهذا الحزب أو ذاك الحزب المسارع إلى الانحطاط إلى حزب وحيد، والحُرَّيْن ، الأول والآخر، في التصرف على هواهما في الرغبات الشعبية، أولئك الذين يزعمون أنه سوف يسمح للشعب، من فرط الإخلاص بالرغم من كل شيء، بالتأثير على قرارات القائد أو الحزب، أولئك هم في الحقيقة ناصحون غرباء، يمكن للمرء تماماً أن يتعلم من أفواههم فن تزوير التاريخ.
إلاَّ أنه من غير الوارد، بسبب الخوف من استمالة الحماسات الشعبية واستثمارها من جانب عملاء الرجعية، الارتداد إلى مأزق الاستنكاف. فالجماهير لها دور كبير، دور فائق، عليها لعبه. لكنه دور مستقل. وفي كل مرة يلزم فيها مغازلتها من فوق منبر، يجري الحديث عن ثقلها في ميدان القوى السياسية. وهذا الثقل حقيقي. والمسألة الجوهرية هي معرفة ما الذي يحركه.
إن فعل الجماهير المستقل مع ما يلزمه من الرومانسية من أجل استعادة الوحدة الأخلاقية بين الغاية والوسائل، تلك الوحدة التي فصم عراها السياسيون الواقعيون، - هذا الفعل المستقل يجب أن يتمكن من أن يسوي بالأرض الركامَ المريع من التحايلات والحيل الذي نجازف، على المدى الطويل، بأن نُدْفَنَ تحته دفن البلهاء.
يقال إن السلطة مفسدة. هذا صحيح إلى حد معين. لكن الخوف من السلطة مفسدة أكبر. إن هذا الخوف من السلطة، من سلطة لا يدينون بها تحديداً إلاَّ إلى فعل الجماهير المستقل، قد اجتاح على مدار سنوات أبرز ممثلي اليسار الأوروبي وألقى بهم شيئاً فشيئاً في معسكر الواقعيين والمحتالين. فما أكثر الفرص التي لا تعوض والتي أهدرت لمجرد أن هؤلاء التعساء الذين استولى عليهم الذعر قد لوحوا للجماهير بتشخيصهم المفضل: "إن الوضع لم ينضج بعد!". وهو ما يعني في كل تسع من عشر مرات أنه يجب تركه ينضج لحساب العدو!
إن المرء لا يشفى بسهولة من الخوف. لكنه قابل للشفاء ممن يروجونه. ولابد من إخراج الدياليكتيكيين البواسل من حالة الهلع. وهو ما يعني أن التكليفات الصادرة إليهم يجب، مع كل أشكال المراعاة الممكنة وقبل أن تنضج أوضاع، أن تعفيهم من مسؤولياتهم.
بين زعماء الأحزاب الشعبية وزعماء الأحزاب الرجعية لا يوجد غير فاصل طفيف مصدره أن خوف كل طرف منهما لا يستهدف هدفاً واحداً عاماً. فعلى اليمين، هناك الخوف من المبادئ لذاتها. وعلى اليسار، هناك الخوف من تطبيقها.
الخوف من السلطة، الخوف من الأوضاع جد الناضجة ومن الوسائل جد المستقيمة، الخوف من الإفصاح عن الذات، الخوف من الرفض، - إن كوارث السنوات العشرين الأخيرة هذه قد ترتبت على تراكم جميع هذه الحقارات. والآن يجب الخروج من الليل، وذلك هو الشيء الأصعب. فمثلما تعتاد العيون على الظلمة، يعتاد الذهن على الجهل، يعتاد العقل على تقدم عبادة الأوثان، يعتاد الإنسان الحر على الكوابح التي يصوغها سادته تحت الاسم اللطيف: "الانضباط المقبول دون إكراه".
يجب الخروج من الليل، والحال أنه لا بلاغة الخطباء ولا بطولة الشهداء بوسعهما مساعدتنا في ذلك. ففي الرد على ادعاء الأحزاب الكبرى امتلاك مرجعية دوجماتية مطلقة، في رد هذه الأجهزة المتضخمة، المسلَّمة بلا ضابط إلى حفنة من أمناء السر "الواقعيين" إلى حجم الإنسان، في تحويل الممارسة الفردية للقدرات النقدية لا إلى عنصر اتهام في محاكمات عبثية للتخريب والخيانة، بل إلى شرط ضروري لوضوح اجتماعي كامل لم يسبق نيله قط، في هذا الاتجاه وبهذا الثمن سوف يكون بالإمكان ارتسام خلاصٍ أول.
لا بلاغة الخطباء، ولا بطولة الشهداء، بل امتلاك زمام وعي حر ومنتهك للمحرمات من جانب بشر ليسوا بحاجة بعد إلى شفعاء أمام القدر.
القاهرة، أواخر يوليو 1944


الملحق -1
إن تشوش اللغات هو، في السياسة، واقع معلوم تماماً. ومنذ سنوات عديدة، قامت السياسة بإخضاع اللغة لنظام مجنون ومخبول. وبرج بابل هذا لايرجع تاريخه إلى اليوم. لقد تركت السياسة نفسها عرضة للإصابة بفيروسٍ معروفٍ في تاريخ الفلسفة بمسمى الاسمية. وقد تم اكتشاف الاسمية من جانب الرواقيين الذين برهنوا على أن غالبية الأفكار والتعميمات التي غذت النقاش الفلسفي في زمانهم ليست غير كلمات. والحال أن فترة الاسمية السياسية لزماننا فيما بعد الحرب (العالمية الأولى) قد نجحت في إغراق البشرية في دوامة من المشكلات الزائفة التي يجري التعبير عنها بمصطلحات ملتبسة ومنحطة. إن جميع الأحزاب المتنازعة على السلطة مسؤولة – كل فيما يخصه – عن هذا الوضع، ولكن أولاً وأساساً الحزاب الفاشية المنبثقة من الحرب. وهكذا فإن الناس قد وجدوا أنفسهم محولين عن حاجاتهم الفعلية ومجرورين إلى تيه من المرايا المشوهة. وعلى سبيل المثال، فإنه إذا ما تشكل حزب لمحاربة الاشتراكية ولحماية مصالح الملاك، فمن الواضح أنه سوف يرتدي قناع حزب "اجتماعي"، ديمقراطي"، أو حتى "اشتراكي". وإذا ما وصف حزب ما نفسه بأنه "راديكالي" (جذري)، فمما لا جدال فيه أن المراد هو حزب بالغ الاعتدال. وإذا ما نشأ حزب جديد عن انقسام وقع في حزب قائم، فإنه سوف يسمي نفسه "حزب الوحدة". وإذا ما حصل حزب على تعليمات ودعم من الخارج، فبوسعك أن تكون واثقاً من أنه سوف يتظاهر في جميع المناسبات بأنه المدافع عن الاستقلال الوطني.
إن هذه الاسمية السياسية غالباً ما تعرض سخرية كئيبة على المسرح المعاصر. فعندما يجري إرسال قوات إلى بلد صديق لمجرد المساعدة على استمرار الحرب الأهلية فيه، فإن هذه العملية الصغيرة تسمى، وأنتم لا تجهلون ذلك، "عدم تدخل". وعندما يجري إلقاء خصومٍ سياسيين، مصيرهم "الضرب بالنار عند محاولة الفرار"، في السجن، فإن ذلك دائماً هم من أجل تأمين حمايتهم. والمحاكم السياسية التي لا هدف لها إلاَّ إرهاب الرأي العام، تسمى "محاكم شعبية"، وبرامج التسلح تُبَرَّرُ في كل مكان بذريعة أن واجبها هو العمل على صون السلم. وإذا ما خنت تعهداتك، فلا تكاد توجد حاجة إلى توضيح أن ذلك إنما يحدث "لإنقاذ شرفك".
إجنازيو سيلوني
("مدرسة الديكتاتوريين"، 1939، لندن، ص 164 – 165)
الملحق – 2
ألا تعجبون لجميع هذه التماثيل التي تقام في كل مكان. لكل هذه الاحتفالات والمناسبات التي يجري الاحتفال بها في كل لحظة، لأسماء الشوارع هذه التي يجري تغييرها دون أن يتمكن المرء تماماً من معرفة السبب، لعدد المعبودين من كل نوع والذين يجري تقديمهم لتأمين عبادة الشعب لهم؟
إن في كل هذه الحاجة إلى التبجيل والتي يجري إشباعها بلا توقف، تفاهة ما، وضاعة ما...
بول لوتو
(نوفيل ريفي فرانسيز، أول ديسمبر 1928)


الملحق – 3
أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية لا يمكن أن توهب لأحد، بل يتوجب فقط على الجميع انتزاعها، ولا أنها "تتعارض مع الضعف"، كما قال فوفنارج، أي تتعارض مع الأنانية والتفاهة وذهنية التحايل، والوصولية والانتهازية والهرب من المسؤوليات، والبلاهة المزهوة وكسل الفكر، واحترام المال، والنبرة المتشدقة، والخداع وتكلف العواطف التي تصنع كل ديماجوجية، وعبادة النجاح السهل والذي تجيء به الصدف، والخوف من الضربات، والخوف من الكلمات الواضحة، - باختصار، كل ما يميز الأخلاق السياسية لديموقراطياتنا المزعومة وأمزجة "جمهورها العظيم" التي ترعاها وتستغلها السينما والكتب الرديئة التي تطبع منها آلاف وآلاف من النسخ، والدعاية، أولئك الذين لم يدركوا بعدُ أن الحرية تتعارض مع هذا كله، أولئك الذين لا يعرفون البرهنة على أنهم قد فهموا ذلك – أولئك لا يستحقون شيئاً أفضل من هتلر.
دوني دو روجمون
("حصة الشيطان"، مونتريال، 1942، ص 174)

ترجمة بشير السباعي





 [ الصورة المقفلة والصورة المفتوحة ]

حتى يتسنى لنا، كما يشدد على ذلك رامبو، أن نكون في المقدمة، حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آنٍ واحد ما له صورة وما ليست له صورة، يجب بشكلٍ واضحٍ وفي المقام الأول أن نتخلى عن كل ما يتعارض، في الأطر القديمة للشعر وللتعبير الشعري، بل ولأسلوب عمل الذهن، مع هذا السير نحو المجهول، مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة. وإذا كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها، أفلا يرجع ذلك ببساطة إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها، بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء، قد فرضت تداعيات جديدة لصور توسَّع إحداها الأخرى على مدى البصر، لصور مفتوحة، لصورٍ نوافذ؟
هنا، من حقكم أن تتساءلوا: ما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و"الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من الأمثلة السريعة أن يسهم في إيقافنا على هذا الأمر.
كنموذج للصور المقفلة، أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من لامارتين:
المساءُ يعيد الصمت
جالساً على هذه الصخور المهجورة،
أجد نفسي في موجة الفضاء
مركبة الليل التي تتقدم
فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة: "مركبة الليل التي تتقدم"؟ لا شيء سوى ما هو مُجازٌ ومعترفٌ به بالفعل. زحف الظلمات الرهيب على الأرض، حيث المركبة، في الشفرة الشعرية، هي الأداة التي ترتبط بشكلٍ عاديٍّ تماماً مع فكرة المهابة. لكن ذلك لا ينشئ أية علاقة جديدة بيننا وبين الليل. والحق أننا لسنا بإزاء صورة بقدر ما أننا بإزاء تذكير. وهو تذكير ملون بإشارة جد عمومية لا يتوجب بعدُ أن يوجد مجال للعودة إليها. وهذه الصورة تنتقل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريره منذ زمن بعيد. وهو مقرر إلى حد بعيد بحيث إننا لا نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه، مع الشاعر، حيث لا يمكننا أن ننتظر – لا نحن ولا الليل – شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبرراتٍ عتيقة للنظر، لا شك أن مراعاتها لا طائل من ورائها.
وفي هذه الحالة المحددة، تتقدم مركبة الليل ما شاءت أن تتقدم، بلا طائل، أمَّا الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء، يتراجع بشكلٍ لا علاج له.
لننظر الآن في فلاح باريس، حيث تنتشر في باقاتٍ من الكريستال العبقرية الشعرية لأراجون الذي نحبه، والذي لم تكن قد أفسدته بعدُ تقلبات حياته وزوجته وحزبه. فما الذي نقرأه هناك؟ "على مدار عامٍ كامل، شددتُ بنواجذي على شعور من السرخس. عرفت شعوراً من الراتنج وشعوراً من الزبرجد، وشعوراً من الهستريا. شقراء كالهستريا، شقراء كالسماء، شقراء كالتعب، شقراء كالقبلة... كم هو أشقر صخب المطر، كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة، من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط، من اللدغة إلى الأغنية، ما أكثر الشقرات، ما أكثر الجنون... ."

هاكم إذاً، أليس الأمر كذلك؟ ، موجة من الصور المفتوحة، المفتوحة على ما لا نهاية له من العلاقات الجديدة – بين الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة، في الطبيعة، في الحب. إن كل صورة من هذه الصور إنما تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها. وخبرة المرء الشخصية، بقدر ما لا يكون المرء جثةً بالفعل، سرعان ما تتخذ مظهراً جديداً من جراء ذلك.  ثم إنها بدورها، تحوز فرصاً لإنماء، أي لإثراء الرؤية الأولى التي تدين لها بزخمها. والحال أن أراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا، في صفحةٍ أخرى من فلاح باريس هذا نفسه، عن فضيلة الصورة المفتوحة التي، إذ تصل إلى أقصى انفتاحٍ لها، تصبح الصورة السريالية: "إن الرذيلة المسماة بالسريالية هي عبارة عن الاستخدام الخارج عن الأعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة، أو بالأحرى للاستفزاز المنفلت للصورة لأجله في حد ذاته ولأجل ما يستتبعه في مجال تمثيل الانقلابات التي يصعب التنبؤ بها والتحولات الغريبة: لأن كل صورة، في كل لحظة، إنما ترغمكم على مواجهة الكون برمته."

1945
ترجمة بشير السباعي





من هو السيد أراجون؟
نحيا أزمنةً غريبة. أزمنة يتسنى فيها لتموجات كبرى على السطح أن تظهر بمظهر تحولات حقيقية في الأعماق. حيث يتلهى البعض دون طائل بالفكرة التي تتحدث عن حدوث تحولاتٍ هامة في الرأي في حين أن الشيء الوحيد الذي يتحول، وفي اتجاه الانحطاط والخذلان هذه المرة، هو الصرامة القديمة للمبادئ واليقظة القديمة للمدافعين عنها. ويهنئ المرء نفسه على أن جمهوراً جديداً يتبنى بهذه الدرجة أو تلك من الإجماع مثلاً أعلى كان حتى ذلك الحين غير مبالٍ به أو معادياً له. إلاَّ أنه إذا كان الأمر يتعلق بجمهورٍ هو هو، فهل نحن على ثقة من أن الأمر يتعلق بالمثل الأعلى نفسه...؟
سوف يقال إن الناس يتغيرون. بالتأكيد، بل إنهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ما أن تتاح لهم إمكانية الظهور بمظهر من يتغيرون. فالواقع أن وهم التغير يجنب كثيرين من بينهم التمزقات الكورنيوية بين مصالحهم وقناعاتهم. وشأنها في ذلك تماماً شأن تلك السياحات التي يقوم بها المرء دون أن يبرح مقعده، بالاقتصار على ترك صور الديوراما المتحركة تتعاقب أمام بصره، فإن بعض تبنيات المواقف التي لا نشهد منها اليوم سوى الكثير، إنما تحدث أمام صحيفة حيث يصبح "إشعاع الشرق العظيم" السابق قابلاً لأن يترجم أخيراً إلى سعرٍ في البورصة أو إلى صلواتٍ ورعةٍ مملة. فيا له من مشروع "عشاء" سياسي "أخير" جميل يمكن اقتراحه على رسامٍ مواكبٍ لعصره!
إن عدداً من إيماءات "التضامن" التي كان من شأنها، قبل وقتٍ غير بعيد، أن تستثير العجب، تنتشر الآن بسخاءٍ تحت كل التسميات الخيرية حيث يتدافع عالمٌ لم يكن سخاؤه بهذه الدرجة من العفوية قط. ويعلن أولئك الذين يتعارفون خلال ذلك، الأشخاص العليمون جداً بالفعل، العليمون بشكلٍ يفوق المألوف: "إنها مجرد أقساط تأمين" . ولمَ لا؟ ولماذا لا تؤتي مثل هذه التأمينات، هي أيضاً، ثمارها وترضي آمال وتوقعات طالبي التأمين الأسخياء؟ ومن الذي قال أن مندوب التأمينات لن يكون، في نهاية الأمر، الشخصية الأكثر تمثيلاً للعصر؟ إن الحاجة إلى أمانٍ معنويٍّ "قياسيٍّ" وإلى سلامةٍ "قياسيةٍ" وإلى خطٍ سياسيٍّ "قياسيٍّ"، لن تتأخر في أن تجعل منه البطل المتواضع ولكن الحقيقي للأزمنة الجديدة.
ففي أي شيءٍ يمكن لهذا الكلام أن يخص السيد أراجون؟
في كلِّ شيء
فقراءةُ السيد أراجون، والدفاع عن قضيته سريعة الفوز، وتوزيع كتبه سريعة الرواج، كلُّ ذلك هو أيضاً شكلٌ من أشكال التأمين.

تأمينٌ ضد الجهل بالشعر.
تأمينٌ ضد انعدام القلب.
تأمينٌ ضد إفراط المرء في الولاء لـ "حماقات شبابه" الخاصة.



الشعر؟
من كلِّ حدبٍ وصوب – أو من كلِّ حدبٍ وصوبٍ تقريباً – يسود الاتفاق على تأكيد أن السيد أراجون يقدم لنا الكلمة الأخيرة في الشعر – أو الكلمة الأخيرة تقريباً. والحال أنه، بالرغم من كلِّ شيء، قد تحدَّث عن السوريالية بشكلٍ زائدٍ عن الحد، وكما لو كان من أساتذتها! حتى لا يكلف المرء نفسه في آنٍ واحدٍ مشقةَ ورجفةَ التصدي للشعر الحديث في شخص ذلك الذي عرف السوريالية، ومارسها ثم تجاوزها بالطريقة التي يروق بها اليوم للمرء تجاوز الأشياء، أي بخيانتها. ومن بين المتحمسين الحاليين للسيد أراجون، نادرون جداً أولئك الذين يملكون نزاهةً روحية تسمح لهم بالعودة إلى عملٍ ما من أعماله الأولى، ولو لمجرد التمكن على نحوٍ أفضل من قياس المسافة التي تبعده عن " الحسرات" و "الألزات" الأخرى الرائجة. نادرون هم أولئك الذين يعرفون وجود "فلاح باريس" و "بحثٍ حول الأسلوب"، اللذين يعتبران عملين متفجرين وناجزين تتأكد فيهما لا تزال، بعد عشرين عاماً من التقهقر، عبقريةٌ شعريةٌ هازئةٌ إلى أبعد حدٍ بكلِّ وصاية وبكلِّ قيدٍ خارجيٍّ على زخمها الخاص، على تحققها الطبيعي. ومن هذا الماضي المتقد، لم تعد هناك غير عباراتٍ غائمة ونائية، كما لو كانت ذنباً يجري التكفير عنه إلى حدٍ بعيد من خلال حسن السلوك و"آفات"* التائب العديدة. إن عودته إلى القافية، وإذعانه للقواعد المقررة، ودفاعه عن أكثر الحيل الشعرية ذبولاً وأقلها مؤاتاة للوثوب الحر للإلهام هي أيضاً "جواز مرور"، هي أيضاً ذرائع للعب دور "الولد الشقي" ولتأمين فوزه بالاستحسان وبالتدليل بهذه الصفة وحدها.
إن الذين يجعلون من "حسرة" كتابهم المفضل لا يجهلون وحسب أعمال شباب أراجون هذا نفسه، أو بتعبيرٍ  أدق أراجون الآخر، بل إنهم يجهلون أيضاً في أغلب الأحيان عمل جيوم أبوللينير الرئيسي الذي، بما يتميز به من غزارة ونضارة، كان بوسعه أن يعفيهم من التشقلب افتتاناً بثرثرات معبودهم الجديد المجهدة والعديمة البهجة.
وبالنسبة لأولئك الذين راعوا دائماً الاستهانة بالحفاظ على الاتصال بالشعر، فإن أراجون الرائج يتخذ شكل مدرب – سريع. فلا أهمية تذكر لمن سبقوه، ولا أهمية تذكر لذلك الجزء من نفسه الذي يجحده وينفر منه اليوم، فقد أصبحت كلمته قرص الشفاء الشعري بامتياز. إن أراجون، "على حد القبلات..."، موعودٌ بجميع أمارات الود، بجميع أمارات العطف. إنه يحيطُ المرءَ علماً بما يجري، ويريحه، وهو يملك كلمة غزل للنساء ومداعبة للصغار. فلتسيروا في أثر الدليل!

القلب؟
المراد، أكثر من ذي قبل، هو ألاّ يكون المرء عديم القلب. والحال إنه يبدو بشكلٍ محدد أن أراجون قد أنسن الشعر الحديث. ولابد بالفعل للشعر الحديث أن يكون الشعر المقروء أقل من سواه عموماً حتى يتسنى لأسطورةٍ على هذه الدرجة من البلاهة أن تكون جديرة بالاعتبار. ألا يمرُّ كلُّ (عمل) أبوللينير، وأفضل ما عند إيلوار وكل (عمل) أندريه بريتون وكلُّ (عمل) جوليان جراك، ألا يمرُّ قطُّ بالقلب، وبقلبٍ أكثر نقاءً وخصوبةً من قلب أراجون؟
إن ما ينتصر عند أراجون ليس هو القلب، بل الزغردة. وحتى حيثما يظن أن عليه التحرك بلمساتٍ حذرة، فإن أراجون لا يستطيع الإمساك عن أن يكون مبالغاً وعن الإشارة إشارةً واضحةً إلى ما كان يجب الاكتفاء بتركه  في ضبابٍ إيحائيّ وعن التذكير في كل لحظة بوضعه كمحدث نعمة. محدث نعمة في الاندفاعات العاطفية الكبيرة، مجدث نعمة في زفرات النحيب المتكلفة وجد المؤثرة، محدث نعمة في ارتعاشات الشفاه وخفقات الرموش: إن أراجون قياساً إلى شعراء القلب الصادقين هو كالندابات قياساً إلى التعبير الصادق عن ضياع الأمل. ونجاحه، وهو في المقام الأول نجاح استسهال ومجاملة للذات، إنما يرجع إلى الخمول الذهني لأولئك الذين، بالنسبة لهم، يصبح فيون منسياً ونيرفال مجهولاً تماماً وأبوللينير غير جدير بقراءة ولو سريعة. والحق أنه لا "أنشودة هولميير الجميلة" ولا "ال ديسديكادو"، ولا "أغنية المحبوب الذي أشقاه الحب"، قد تمتعت قط بالتعبئة الدعائية الموضوعة في خدمة أراجون. ولا مراء في أن ذلك إنما يرجع إلى أن "النبرة الإنسانية العميقة التي تنبثق من عمل أراجون" هي، قبل كلِّ شيء، نبرة متكلفة، نبرة يتحمل هو مهمة رعايتها ويتحمل وكلاء دعايته مشقة كبيرة في إثبات صدقها... نبرة متكلفة؟ إن قصيدة جديدة تماماً عنوانها "الوردة والخزامى" نشرتها صحيفة "لامارسييز" في عددها الصادر في 2 سبتمبر 1944، طبعة القاهرة، إنما تقدم في هذا االصدد برهاناً غير متوقع. إن القصيدة التي تبدأ بهذه الأبيات:
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما هاما بالجميلة
أسيرة الجنود...
لا جدال في أنها لا تدعي غير تصوير، ذي شكلٍ غنائيٍّ إلى هذا الحد أو ذاك، للخط السياسي للحزب الذي يرتبط به الكاتب، أي الحزب الشيوعي الفرنسي. وكل نقدٍ للقيمة الخاصة بهذا النص تصبح عديمة الجدوى، ما أن يقارنه المرء ببعض الأبيات التي كتبها أراجون في عام 1931، والتي كتبت، هي أيضاً، لكي تكون مسايرةً للخط. ويبدو أن هذه المقارنة البسيطة لابد لها من أن تكون كافيةً لحسم مسألة الصدق.
إلاَّ أنه ليس بالإمكان إنهاء هذا الفصل الخاص بالقلب دون أن نعيد إلى الأذهان هنا أن أراجون لم يتردد قط في استخدام قلبه ضد أصدقائه الأعز، كلما سمح له ذلك بارتقاء درجة في هيراريكية الوصولية.
فعندما سافر في نوفمبر 1930 لتمثيل الحركة السوريالية في مؤتمر خاركوف، كتب من هناك إلى صديقه أندريه بريتون: : إننا نعتمد على ثقتك في كل شيء، على ثقتك أنت بالتحديد، للتحدث باسمنا في خاركوف". وبعد ذلك بأيامٍ قلائل، أعلنت برقيةٌ مشرقة: "هنا، النجاح تام، أراجون". وبعد ذلك بأيامٍ قلائل أيضاً وقَّع أراجون، مع جورج سادول، وثيقةً علنية أعلنا فيها تنصلهما من كلِّ الأعمال "السوريالية" وبالأخص من "البيان الثاني للسوريالية" الذي كتبه أندريه بريتون. وهكذا فإن أراجون، ممارساً بخفة متساوية خيانةَ الثقة الممنوحة له والشهادة الزور، قد وصل إلى انتزاع مكانة مختارة في إدارة حزبه. ومن عام 1937 إلى عام 1939، عمل رئيساً لتحرير الصحيفة اليومية الكبرى "سوسوار". وأقل ما يمكن للمرء قوله عن هذا الرجل المتعدد القلوب هو أنه قد تميز دائماً بالجحود المؤدي إلى المغانم.

حماقات الشباب؟
إن أراجون، بالنسبة لكثيرين ممن يملكون فكرةً عمومية عن مساره الأخلاقي والسياسي، دون أن يكونوا على علمٍ بتفاصيل انفلاتاته المتعاقبة، إنما يصور أفضل من أي أحد آخر ما هو أبدي ومؤسف "من الخير أن ينقضي الشباب"! ففي مجتمع، ثم في حزب، مكرسين بكاملهما لتدجين ولضبط سلوك أعضائهما، تعتبر وظيفة المثقف المستأنس واحدة من الوظائف التي تتميز مكانتها وعائدها المادي باستقرارهما الرائع. خاصةً عندما يجعل المثقف، على غرار أراجون، من استئناسه هو قيمة خطابية في مؤتمرٍ للكتاب. ألم يصرخ أراجون في الواقع باعتزاز في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب للدفاع عن الثقافة، في باريس في 16 يوليو 1937: "لقد بخست صداقات شبابي!". لقد كان من الجميل قول ذلك، على لسان المرتد نفسه، بمصطلحاتٍ تجارية. نعم أيها السيد أراجون، إن لك الحق مائة مرة في التعبير عن نفسك بهذه الطريقة، إنك، شأنك في ذلك شأن من هم على شاكلتك، قد قمت بتجارة مربحة. لكنك خلافاً لذلك، كنت سافلاً سفالةً لا تغتفر، عندما اجترأت، فور هذا الاعتراف، على وضع نفسك على مستوىً واحد مع رامبو، لقد اجترأت على الهتاف: "لك يا رامبو أقول : إنني أعرف اليوم، كما كنت تقول، كيف أحيي الجمال".
إن أراجون، شأنه في ذلك شأن من هم على شاكلته في الفن، في الشعر، في السياسة، يستشعر الحاجة إلى تدنيس شيءٍ عظيم ما في سقوطه. وفي هذا الوقت الذي نشهد فيه جميع الحيل الرائجة، فإن المغامرة الرامبوية تنحط بالنسبة للمثقفين البورجوازيين الصغار إلى تمرين مريح في صالات تحرير صحافة اليسار. ومنذ تلك اللحظة، وفاقداً لكل حس قياس ولكل وعي، فإن أحقر هؤلاء الموظفين، في أثر رئيسه، سوف يسمح لنفسه برفع الكلفة مع رامبو.
إن أراجون، في اللحظة الراهنة، لا يشد اهتمامنا لا كشاعر ولا كمناضل بل أساساً كظاهرة اجتماعية. فأراجون يرمز إلى أوج الخديعة المعاصرة، الاحتيال العاطفي الكبير الذي يكسب كل يوم أرضاً ثمينة على حساب صدق القلب واستقلال الحكم النقدي في آن واحد. إنه مستعرض للحب:

أحبكِ يا إلزا، آه يا مصدر شجني،
آه يا مصدر عذابي

ومستعرض للحمية الوطنية:

أحييك يا فرنساي لأجل راسين ولأجل ديدرو،
لن نذهب بعدُ إلى الأحراج و موريس شوفالييه...

ومستعرض للأمل أو للكراهية، لا فرق، لكنه متواجدٌ دائماً لكي يستر الأضاليل والإفلاسات والخيانات بطلاءٍ من المؤثرات العاطفية. لأنه لا يجب أن ننسى بشكلٍ خاص أن خطب ونصوص أراجون قد لعبت، منذ أربعة عشر عاماً، دور تأكيدٍ غنائيٍّ لبياناتٍ كالبيان التالي: " قبل عدة أسابيع، في منافسةٍ دوليةٍ رياضية، هُزم الفريق الفرنسي هزيمة محزنة. وقد عمَّ الاستياءُ كثيرين من الفرنسيين. إن الشيوعيين الفرنسيين يشاطرونهم شعورهم " (كلمة موريس توريز في قاعة واجرام، نقلتها صحيفة لومانيتيه في عددها الصادر في 13 أكتوبر 1935)، أي دور تأكيدٍ غنائي لجميع تحركات وانقلابات مبادئ حزب حريص، هو أيضاً، على أن يدفن إلى الأبد "حماقات شبابه"!
 إن عدوى "الحسرات" و"عيون إلزا" – إن لم نتحدث عن مصنوعات الأدب البطولية أو الغرامية المصنفة في ظل الكريملين – إنما تؤكد لنا الضرورة المُلحة، الضرورة الفورية، لنهوضٍ نقديّ، لانتفاضٍ فكريٍّ يكبحُ أخيراً هذا "التراجع الروسيّ" الجسيم الذي تضيع فيه أفضل طموحات زماننا.
وفي هذه النهاية لعام 1944، في هذا الفجر للانتصار الديموقراطي، هل سيكون كثيراً على البشر أن ندعوهم إلى التفكير بأنفسهم، إلى التمرد على البشاعات الدعائية التي تخطب ودهم، إلى احترام قناعاتهم بعيداً عن الصورة التي يعرضها عليهم المزورون، شعراء كانوا أم غير شعراء، وإلى أن يجعلوا من استقلال رأيهم السلاح الفعال لصعودهم التحريري... !
فليغفر لنا القارئ رفعنا المناقشة فوق شخص أراجون وكل ما يزعم أنه يمثله.
إننا نعتقد أن الساعة قد حانت لرفع كل نقاش إلى منتهاه، إلى تجاوزه في فعلٍ قاسٍ  وصافٍ لا يعود نفياً لكل تفكيرٍ تمهيديٍّ بل بالأحرى تتويجاً له في عالم الواقع.


* لعبٌ على الكلمات، فالآف سلامٌ ملائكي وعنوان قصيدة لأراجون في الوقت نفسه. – م.



ملاحق

"أيُّ آراجون يجبُ أن نصدق؟ ذلك الذي أوصانا، في "الإباحية" بالهرب من صفوف الجيش فوراً؛ ذلك الذي، في "بحثٍ حول الأسلوب"، "تغوط على الجيش الفرنسيّ بأسره"؛ أم ستالينيُّ "النار على ليون بلوم" و"مرحى للأورال"؛ البورنوجرافي اللوذعيُّ الذي كتب " كُ ... إيرين"، أم الديروليدي الجديد لأعوام 1936 – 1938، ذلك الذي تباكى على جان دارك وعلى قبعة موريس شوفالييه القش؛ ذلك الذي قرر أن "الواقعية الاشتراكية" يجب أن تكون أولاً "واقعية فرنسية"، لأن تلك كانت آنذاك سياسة ستالين في فرنسا ...؟ الفوضوي أم اليسوعي، السوريالي أم الكادرالحزبي المنضبط، أيهما الأصدق؟"

إيتيامبل (لتر فرانسيز، أول أبريل 1944)

أراجون ضد أراجون

الوردة والخُزامى
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما هاما بالجميلة
أسيرة الجنود
الذي صعد إلى المعراج
والذي راقب من تحت
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
ما أهمية اسم
هذا النور الذي يضيء
الخطوات
ما أهمية أن الأول كان
من الكنيسة
بينما تجنبها الآخر
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
كلاهما كانا مخلصين
شفاهاً وقلباً وسواعد
وكلاهما قالا إنها
حية ومن سيحيا سيرى
ذلك الذي آمن بالسماء
وذلك الذي ما آمن بها
عندما تكون السنابل تحت البَرَد
أحمقٌ من يتشدد
أحمقٌ من يفكر في منازعاته
في قلب المعركة المشتركة...
(إلخ، إلخ...)

لوي أراجون
لامارسييز 2-9-1944


إن أجمل نصبٍ تذكاريًّ يمكن إقامته في ساحة، والتمثال الأكثر إدهاشاً بين جميع التماثيل، والعمود الأكثر جسارةً والأكثر رشاقة، والقوس الذي يضاهي طيفَ المطر اللوني ذاتَه، لا تُساوي الركام الرائع والعشوائي – حاولوا لتروا – الذي يحققه المرء بسهولةٍ بالجمع بين كنيسة والديناميت.

لوي أراجون
(الجبهة الحمراء، 1931)


مونسنيور كُ... دولافيلرابيل، كبير أساقفة روان، مونسنيور دو مي دو دو لافيلرابيل، أسقف آنسي، مونسنيور باريت من بلايموث، السيد ميتاييه (المُخَابر) العمدة والسيد ديمار، مسئول الوضاعات الحقيرة، والجنرال شاربي (المهترئ) يستقبلون الكاردينال بورن، كبير أساقفة وستمنستر، سفير البابا، الذي بعد تَعَبُّدٍ قصير في دورة المياه، يظهر من جديد في قاعة تناول الطعام حيث يجري انتظار الكهنة من الأبرشية.

لوي أراجون
(مضطهِد مضطهَد، 1929)

أراجون ضد أراجون
ما أقرب الموسيقى البعيدة
إلى قلبي
إنها الصدى المُضَاعَفُ
لمُضَرَّج الأمس
حيث يختلج قلب جان دارك
لدى سماع أصواتٍ جديدة
وفي أعين الشعب
أرى اليوم من جديد
زانتراي الذي غسل وجهه
بماء النبع

أصبحت الكلماتُ المُثمِلةُ غريبة
ليس اللسان اللاتيني الذي يعلمونه في المدرسة
إنه الطنبورة التي مازالت تهدر على جسر آركول
إنه بارا، إنه كليبير وهذه الصيحة الهادرة
هذه الصيحة المقَدَّسة: الوطن في خطر.

لوي أراجون
(اسمعي يا فرنسا، فونتين، العدد29)


ما هذه الكلمة التي تُذَكِّرُنا
بأنه لا يجب إسكاتُ شعبٍ
بأنه لا يجب إخراسه
بسيف الجلاَّد المقوَّس
ين – باي
إليكم أيها الأخوة الصُفر هذا القَسَم
لقاء كل قطرة سالت من حياتكم سوف يسيل دمُ فارانيٍّ

اسمعوا صرخة السوريين المقتولين
بضربات قذائف
طياري الجمهورية الثالثة
اسمعوا صيحات المغاربة الذين قُتلوا
من دون ذكر عمرهم أو جنسهم.

لوي أراجون
(الجبهة الحمراء، 1931)

أراجون ضد أراجون
أحييكِ يا فرنساي، لأجل هذا الضوء في عينيكِ اللتين رأتا سقوط الباستيل، أحييكِ لأجل هاتين العينين القادمتين من قلب العصور ولأجل الأغنيات الرقيقة التي تحرك صدرك الذي من الحنطة واللبن، لأجل أغنية إنها تمطر أيتها الراعية [جان دارك] ولأجل الكارمانيول، لأجل راسين ولأجل ديدرو، لأجل أغنية لن نذهب بعدُ إلى الأحراج وموريس شوفالييه. أحييكِ يا فرنساي لأجل جان [دارك] واللورين الجميلة وبابيف الذي مات هو الآخر لأن قلبه كان عظيماً جداً.

 لوي أراجون
"كلمة في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب من أجل الدفاع عن الثقافة، باريس، 16 يولو 1937 (في كومين، العدد 48)"


إنني أعتبر كُلَّ مُعْجَبٍ بأناتول فرانس كائناً منحطاً. وإنه ليطيب لي أن المشتغل بالأدب الذي يحييه اليوم في آنٍ واحد التلميذُ مورَّا وموسكو البلهاء قد كتب، من أجل سكِّ عُملةِ غريرةٍ دنيئةٍ تماماً، مقدمةً من أكثر المقدمات خزياً لحكايةٍ لصاد، الذي قضى عمره في السجن، لكي ينال في النهاية ركلة من هذا الحمار الرسمي... لابد لبهلوان الروح الحقير هذا أن يدفع ثمن العار الفرنسي، لأن هذا الشعب الوضيع كان سعيداً إلى هذا الحد بمنح اسمه له.

لوي أراجون
(هل صفعتم بالفعل ميتاً، من كراس جثة، الصادر عند موت أناتول فرانس)



أراجون دائماً وأبداً
ذات يومٍ جميل، أُدرك أنني ربيتُ في داخلي هذا الشيطان: الحاجة إلى الخيانة.

لوي أراجون
(الإباحية ، 1924)

لقد بَخَسْتُ صداقاتِ شبابي.
لوي أراجون
(كلمة في المؤتمر الدولي الثاني للكُتَّاب، باريس، 17 يوليو 1937).

ترجمة بشير السباعي وهدى حسين


إشارات
لوي أراجون: شاعر وروائي فرنسي (1897-1982)، ولد في باريس. كان أحد مؤسسي السوريالية ثم تخلى عنها.
جيوم أبوللينير: شاعر فرنسي (1880-1918)، ولد في روما. وجه الشعر الرمزي في طرق جديدة استشرفت السوريالية.
بيير كورنيّ: شاعر وكاتب مسرحي فرنسي (1606-1684). ولد في روان
جيرار دونيرفال: كاتب فرنسي (1808-1855)، ولد في باريس. شاعر متأثر يالرومانسية الألمانية.
أرتور رامبو: شاعر فرنسي شهير (1854-1891)، توقف مبكراً عن كتابة الشعر وتحول إلى مغامر.
فرانسوا فيون: شاعر فرنسي (1431 – نحو 1463)، ولد في باريس. عاش حياةً مغامرة وتعرض لحبل المشنقة أكثر من مرة. أول شاعر غنائي فرنسي كبير في العصر الحديث.
جان راسين: شاعر تراجيدي وكاتب مسرحي فرنسي (1639-1699).
أندريه بريتون: شاعر وكاتب فرنسي (1896-1966)، مؤسس السوريالية.
بول ديروليد: شاعر وسياسي فرنسي (1846-1914)، ولد في باريس، رئيس عصبة الوطنيين، مؤلف "أغنيات الجنود".
موريس شوفالييه: مطرب منوعات وفنان سينيمائي فرنسي (1888-1972)، ولد في باريس.
دوني ديدرو: فيلسوف تنويري فرنسي (1713-1784).
أناتول فرانس: أديب فرنسي (1844-1924).
موريس توريز: زعيم ستالينيٌّ فرنسي (1900-1964).
جان دارك: رمز من رموز الوطنية الفرنسية (1412-1431).
زانتري: رفيق جان دارك (؟-1461).
جوزيف بارا: رمز من رموز البسالة خلال حروب الثورة الفرنسية (1779-1793).
جان – باتيست كليبير: جنرال فرنسي (1753-1800). اغتيل في القاهرة على يد سليمان الحلبي.
جراشوس بابيف: ثوري فرنسي (1760-1797)، شيوعي طوباوي.
إيتيامبل: ناقد فرنسي.
المركيز دو صاد: روائي فرنسي (1740-1814).
ليون بلوم: سياسيٌّ اشتراكي – ديموقراطي فرنسي (1872-1950)




هيبة الرعب
أن ينتهي والأغلال في قدميه، ذلك كان غاية حياة. لكن هذا قفص ذو قضبان. دون مبالاة، بشكل متسلط، دون حياء، تسللت ضجة الناس وعاودت التسلل عبر الشبيكة؛ في الحقيقة، كان المُحتجَزُ حُراًّ؛ كان بوسعه المشاركة في كل شيء، لم يغب عنه شيء في الخارج؛ بل كان بوسعه الهرب من القفص؛ كانت القضبان متباعدة على اتساع متر؛ بل إنه لم يكن مقبوضاً عليه.
فرانتس كافكا
الثامن من أغسطس 1945
ليس هذا بحثاً. فالبحث لا يكتب عن سبق عمد وإصرار وبكافة الاحتياطات الأدبية المتعارف عليها وحسب، بل هو يستلزم بالإضافة إلى ذلك حشداً للمراجع وللمعطيات، ذات الطابع الإحصائي إلى هذا الحد أو ذاك، وهو ما لا يسعني أن أضحي في سبيله بجيشان السخط والغضب الذي أملى عليَّ هذا النص. ناهيك عن أن جمهور الأبحاث القديم، وقد خان كل تفكير مليّ، إنما يجد لذته اليوم في قراءة العديد من "المختصرات" الرائجة وفي أخبار الدسائس المثيرة للمشاعر المبتذلة، سواء كانت دسائس ديبلوماسية أم بوليسية، والتي تقدمها له كل صباح، مع وجبة الإفطار، صحافة مرتبطة بجميع الحقارات.
ليس هذا بحثاً. وهو لا يقنع بأن يكون أقل من احتجاج. إنه شيءٌ طموح. شيءٌ يهدف إلى استفزاز الناس الغارقين في الأكذوبة، إلى إضفاء معنى وغاية وأهمية متواصلة على تقزز عابر، على شعور وقتي بالغثيان. فالقيم التي تحكم مفهومنا للحياة والتي تحفظ لنا، هنا وهناك، جزراً من الأمل وفسحات من الكرامة، يجري تخريبها بشكل منهجي عن طريق أحداث يدعوننا، علاوة على ذلك، إلى أن نرى فيها انتصارنا، وإلى أن نرحب فيها بالتدمير الأبدي الذي يمارسه تنين لا يكف البتة عن النهوض من موته. إلاَّ أنه بقدر ما يتكرر المشهد، ألا يذهلنكم التحول الذي يحدث في السمات المميزة للبطل؟
غير أن من اليسير عليكم أن تلاحظوا أن مارجرجس، عند كل جولة صراع جديدة، يتحول دون توقف أكثر فأكثر إلى اكتساب خصائص التنين. وسرعان ما يكف مار جرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين. وسرعان أيضاً ما يحاول التنين المقَنَّعُ إقناعنا، بضربة حربة، بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!
إن الثامن من أغسطس سوف يظل في نظر البعض تاريخاً لا يغتفر. أحد مواعيد العار الكبرى التي ضربها التاريخ. إن الصحف تتحدث بتلذذ عن آثار القنبلة الذرية، أداة السجال في المستقبل بين شعب وشعب. وتعلن نشرات الأخبار الإذاعية المسائية دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضد أشلاء وخرائب اليابان. هذان حدثان، يتفاوت ثقلهما دون ريب، لكنهما يشتركان في الفظاعة ذاتها.
قبل عشر سنوات، وقف الرأي العام العالمي وقد انتابه الهلع كي يعبر عن احتجاجه على استخدام غاز الخردل من جانب الطيارين الفاشيين الذين أُطلِقوا على أثيوبيا. وكان قصف قرية جرنيكا، التي سوتها الأسراب الألمانية بالتراب في إسبانيا، كافياً لأن يُعبِّئ - في عالم كان لا يزال فخوراً بحريته – ملايين الضمائر الحية. وعندما مزقت القنابل الفاشية لندن، بدورها، كان واضحاً على أي جانب من الحريق تقع القيم التي يتوجب الدفاع عنها. ثم رووا لنا كيف اكتوت هامبورج بالنار نفسها التي اكتوت بها لندن، وشرحوا لنا مآثر تقنية جديدة للقصف تدعى بـ "القصف الإشباعي" والتي وُعِدَت بفضله مناطق حضرية ضخمة بأن تسوى تسوية مؤكدة بالتراب. وليس في هذه الأساليب المتقنة، هذه التحديثات الفائقة في مجال القتل، ما يمكنه الإعلاء من شأن قضية الحرية، انعتاق الإنسان. ولقد كنا أكثر ميلاً من غيرنا، هنا، وفي بريطانيا العظمى، وفي أمريكا، إلى اعتبارها بشعة بشاعة مختلف أشكال الويل التي ابتدعها النازيون. ففي يوم من الأيام، يكون "التنظيف" عن طريق غارة من غارات الرعب من نصيب مدينة بأكملها. وفي اليوم التالي، يكون شلل الموت من نصيب محطة سكك حديدية يتكدس فيها آلاف اللاجئين، وذلك بفضل جهاز تصويب علمي متفوق. وهذه الألعاب اللا إنسانية تبدو فجأة مثيرة للسخرية، مع دخول القنبلة الذرية ميدان الخدمة ومع قيام القاذفات الديموقراطية بإذاقة الشعب الياباني فضائلها جرعة واحدة! إذ ما الأهمية التي يتميز بها في الواقع اغتيال عدة عشرات من الآلاف، أو عدة مئات من الآلاف من المدنيين اليابانيين، عن سبق عمد وإصرار. إن الجميع يعرفون أن اليابانيين صُفر وبمزيد من الوقاحة، صفر أشرار – حيث يُعتبر الصينيون صُفراً "أخياراً". ألم تعلن شخصية ليست من "مجرمي الحرب"، بل هو الأميرال ويليام هالساي: "إننا بسبيلنا إلى حرق وتمشيط هذه القردة اليابانية البهيمية عبر كل منطقة المحيط الهادئ، وإننا لنشعر بفرحة لدى حرقهم تفوق تماماً لذة إغراقهم". إن هذه الكلمات الحماسية والتأكيدية فيما يتعلق بالفكرة التي يود القادة العسكريون تكوينها عن الكرامة الإنسانية، هذه الكلمات قد قيلت أمام أحد معدي أحداث الساعة...
إن مارجرجس يتطاول تطاولاً زائداً عن الحد. وهو يبدأ في الظهور أمامنا بمظهر أدعى للتقزز من مظهر التنين.
*
وعند المرحلة التي ساقتنا إليها التطورات السياسية والحربية الأخيرة، فمما لا غنى عنه التأكيد على أن مشروعية أية قضية يجب أن تتحدد بشكل أساسي، وبالدرجة الأولى، من زاوية الوسائل التي تستخدمها. مما لا غنى عنه، حرصاً على القضايا التي لا تزال تغامر بالتذرع بخير الإنسان، تحديد جدول بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة. إن اللجوء إلى النميمة في مواجهة ضرورة عابرة، إنما يترجم نفسه، في وقت قصير، إلى إدارة للنميمة. وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين، طبع نميمي، - ولدى الفريق الآخر، وسواس نميمي. ولو أردتم تحويل المناقشة صوب الغايات النهائية التي يزعم كل واحد أنه يسعى إليها فإن المرء سوف يستيقظ، وسوف يفتش البسطة ومظهر السُّلَّم. وسوف يغلق الباب بعد ذلك مرتين ولن يعبر عن نفسه إلاَّ بعبارات محسوبة ووفقاً لحالة روحية أصبحت أكاديمية بصورة مفاجئة. إن الوسيلة تنتقل إلى حالة المؤسسة. إنها تشطر حياة أمة، وحياة كل إنسان إلى شطرين. والشيء نفسه يحدث فيما يتعلق بالوسائل الأخرى المخصصة للعدو بهدف التغلب عليه وتدميره إلى أقصى حد ولكن التي يتبين - عند الانتصار – أنها قد رُفعت إلى مصاف تشوهات قومية، عاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية ضد تمردات العقل المحتملة. وهكذا فإن عبادة صوابية الزعيم، والتعزز الجنوني للمراتبيات الزائفة، والتسلط على جميع مصادر المعلومات وجميع وسائل النشر والتنظيم المسعور لأكاذيب الدولة طوال ساعات النهار والليل، والإرهاب البوليسي المنفلت ضد المواطنين المحتفظين بيقظة وعيهم النسبية – كل ذلك يصبح أشكالاً معترفاً بها اعترافاً هاماً للتقدم السياسي والاجتماعي!. وإنه لعلى وجه التحديد ضد إجماع قوي كهذا على استمرارية الضلالات يجب أن نكرر على أنفسنا، بلا هوادة، الحقيقة الواضحة التالية:
إن البروليتاريا لا يمكنها أن تحلم بالصعود باللجوء إلى الوسائل التي ينحدر أعداؤها باللجوء إليها. إن نوعاً من الاشتراكية يدين بقيامه لمعجزات الدس، والنميمة، والابتزاز السياسي والاحتيال الايديولوجي، سوف ينخر السوس في أساسه بسبب وسائل انتصاره ذاتها، وسوف يكون الإنسان والشعوب مفرطة في حسن النية لو انتظرت منه شيئاً غير تغيير للدياجير.
في الثامن من أغسطس 1945، بينما كان لا يزال ينزف الجرح المفتوح في هيروشيما، المدينة – الشهيدة التي وقع عليها الاختيار لتفجير القنبلة الذرية الأولى، وجهت روسيا ستالين إلى اليابان طعنة الخنجر الشهيرة في الظهر والتي تعود براءة اختراعها إلى موسوليني. ولا بد أن هذا الأخير قد عذبه التقلب في قبره وهو يرى في رقاده مصير حقوق المؤلف. ذلك أنهم لم يكتفوا بانتحال مفاخره المأثورة، بل أرادوا إضافة مساهمتهم التاريخية الخاصة. إن نص إعلان الحرب السوفييتي يحيطنا علماً في الواقع بأن هذا الدخول في الحرب من جانب الاتحاد السوفييتي لا يهدف إلاَّ إلى "إنهاء الحرب في أقرب وقت" و"المحافظة على الأرواح البشرية"! دعوا جانباً الوسائل الحقيرة، - هاكم إذاً غاية في حد ذاتها، غاية لا يمكن لأحد أن يجادل في أن من الصعب أن نجد لنبلها مثيلاً. وعلى مدى قرون قادمة، سوف يجد الشعراء الغنائيون الستالينيون في منغوليا الخارجية متسعاً للإسهاب في الحديث عن الطابع السلمي والإنساني لقرار المعلم.
إن الثامن من أغسطس 1945 هو أحد أحط التواريخ في المسيرة الإنسانية.
عن الحروب العادلة وخطر كسبها
قبل أن يُدفع العالم إلى النضال ضد الفاشية بعدة سنوات، استعر أوار مناقشات حادة في صفوف الحركات اليسارية بين أتباع المسالمة المبدئية والمناضلين الداعين إلى نضال حتى الموت ضد الطغيان. وكان من بين الموضوعات التي تعاود الظهور دائماً في هذا التبادل الطويل للأفكار والحجج، موضوع "الحروب العادلة". وقد اجتهد المسالمون المبدئيون، بمهارة لم تكن شريفة دائماً، في إثبات أنه لا توجد حروب عادلة. وقد ذهبوا إلى الادعاء بأن مكافحة الطغيان عن طريق الحرب إنما تعني الاستسلام بملء الإرادة لطغيان جهاز عسكري يستحيل كبح جماحه، ولقوانين استثنائية لا تعرف الرحمة، ولسياسيين حائزين لأكثر السلطات تعسفاً ومعفيين بهذه الدرجة أو تلك من تقديم حساب عنها. ويقول لنا منظرو المسالمة المبدئية، دون أن ينجحوا في إقناعنا، إن الحروب بصفتها هذه وفي حد ذاتها إنما تشكل طغياناً لا يقل عسفاً عما تعرضون تقويضه باللجوء إليها.
إنهم مخطئون، فهناك حروب عادلة. لكن ما يميز الحروب العادلة أنها لا تظل عادلة لوقت طويل.
لا ننسين أن الحروب "العادلة"، إن كانت تنتج أشخاصاً من طراز هوش ومن طراز مارسو، فإنها تنتج أيضاً أشخاصاً من طراز بونابرت، وهو ما يعد، بالنسبة لها، طريقة شيطانية بوجه خاص للكف عن أن تكون عادلة. لكن الحرب "العادلة"، من جهة أخرى – وفي غياب كل بونابرت عن الأفق – إنما تتميز بحملات قطع طريق عادية، من حيث أنها تفرض على من يتحملون مسؤوليتها إيقاعاً ومقتضيات يصعب عليهم احتمالها. وللإبقاء على يقظة مشروع قائم على الحماسة الشعبية، لا بد أن تكون لدى القيادات المسؤولة عن مسار الحرب الجرأة الواضحة على أن تترك للقوى المُحرِّكة التي تعتمد عليها طابعها المميز لجماهير متحرقة، - لجماهير في صيرورة سافرة وواعية بمعنى زخمها. لكن القاعدة الملحة عند قادة الشعوب – بل غالباً عند أولئك الذين يبدو  أنهم قد جاءوا مباشرة من خط النار أو من اجتماع في مصنع – هي استخدام ثقلهم المراتبي في إعادة القوى المُحرِّكة التي تفوض أمرها إليهم إلى الأطر التقليدية لبلد في حالة حرب. وعندما أقول "الأطر التقليدية"، فإنني أعني تجزئة الحقيقة، تجزئة الحماسة، تجزئة المثل الأعلى. إنني أعني الضبط المتعسف للقوى المُحرِّكة للأمة، بناء على أمر من أولئك الذين يخافون في "حركة" اليوم من "انقلاب" الغد. وهذه الأطر التقليدية – الأقنعة البسيطة التي توضع على وجه هذه الحرب أو تلك لإخفاء مظهرها الأصيل ولجعلها مماثلة لجميع الحروب الأخرى – يمكن استعارتها من أرشيفات المتحف الحربي تارة، ومن ممارسات العدو تارة أخرى. وهذا يسمى: في الحالة الأولى "استلهام عبر الماضي"، وفي الحالة الأخيرة "الاستفادة مما يعلمك إياه خصمك".
والحال أن هذا التشويه الجاري للقيم الحية، والذي يتوافر الاستعداد دائماً لتغليفه في صيغ طقسية عتيقة كما في كفن، هذا النقل لأساليب العدو وعاداته الذهنية إلى معسكر العدالة، لا يقدم لنا سياقُ الحربِ ضد الفاشية غير المزيد من الأمثلة له. وإنني لأتذكر بوضوح أن البلاغ العسكري السوفييتي الأول قد اختتم بالإشارة إلى جندي ألماني، أشير إليه باسمه، لجأ إلى موقع روسي معلناً أنه لا يريد حمل السلاح ضد دولة بروليتارية. والحال أن هذه العبارة وحدها في البلاغ قد دوت، أمام التاريخ، دوياً أقوى من دوي مآثر العتاد الحربي التي سبقتها أو التي تلتها. فقد دلت، فوق قصف المعارك، على أن إخاء الكادحين يعلو ويجب أن يعلو على انقسام الناس إلى جماعات عرقية وقومية. وفي ذلك يكمن الخير الذي يجب صونه بين الجميع، - الفضيلة القادرة على كسر الأطر المسوسة للحرب بين الأمم. إلاَّ أنه أعيد جر وغواية الكادحين، مرة أخرى، صوب الأطر التقليدية. فبدلاً من الإشادة بالبطال الشعبيين الروس والألمان الذين تلاقوا عبر التاريخ في نضالات تحريرية واحدة، نجد أن أجهزة الدعاية السوفييتية سرعان ما تجد لذة في هوس شنيع لا تنبثق منه غير رموز من أسوأ الرموز في تاريخ روسيا. فقد عرف الأمير ألكسندر نيفسكي من جديد كل هالات المجد لأنه كان من حسن حظه أن يتمكن في عام 1242 من إلحاق الهزيمة بفرسان الأخوية التيوتونية. وفي مقابل ذلك، جرى التقليل من شأن ذكرى بوجاتشيف وستينكا رازين – المدافعين الأسطوريين عن القضية الفلاحية – لأنه قد رؤي أن هاتين الشخصيتين قد أذاقا سلطات زمانهما الكثير من الهوان. وهكذا، فعندما تحدث ستالين في السابع من نوفمبر 1941 إلى جنود الجيش الأحمر، نجد أنه قد ضرب لهم أمثلة سابقة غريبة لاستثارة حميتهم. لقد قال لهم: " فلتستلهموا مثل البواسل من أجدادكم: ألكسندر نيفسكي، ديمتري دونسكوي، كوزما مينين، ديمتري بوجارسكي، ألكسندر سوفوروف، ميخائيل كوتوزوف".(1)
والحال أن بطولة الأسلاف لم يكن لها، في أي جيش، تأثير كبير على معنويات الجنود. إلاَّ أنه فيما يتعلق بالأسلاف الذين حولهم ستالين إلى أيقونات والذين قُدِّموا إلى الجماهير لكي تحتضنهم في ورع، فإنه لم يوجد بينهم سلف واحد لم يلعب دوراً رجعياً ومقيتاً بالقياس إلى نضالات الشعب الروسي من أجل التخلص من تعاسته. أَمَّا أن يوجد حرص على حرف المخيلة البطولية للمدافعين عن الاتحاد السوفييتي صوب أسماء كهذه، فذلك هو ما يصيب بمرض الشيخوخة حرباً ينتظر البعض منها تحسين أحوال العالم.
وكان لا بد للتتمة من أن تكون على مستوى هذه البداية. فقد جر بعث ألكسندر نيفسكي إلى تعديل تاريخ ثمانية قرون من التاريخ الأوروبي. وعندما لجأ ستالين إلى الاستعارة من العدو بعد أن استعار من الماضي، فإنه قد طرح في مواجهة النظرية الهتلرية الخاصة بتعبئة أوروبا ضد الزحف الآسيوي عودة خالصة وبسيطة إلى أسخف صور الجامعة السلافية. والحال أن مناقشات مختلف مؤتمرات الجامعة السلافية التي نظمت خلال هذه الحرب، بمبادرة من موسكو، لم تثر غير نفور الذكاء شأنها في ذلك شأن إذاعات راديو برلين.
إن تطور أوروبا الطويل ما عاد يبدو غير ستار لانقسامات عنصرية، - موضوعاً لنزاع متجدد أبداً بين السلاف والجيرمان. وقد كرس مؤتمر الجامعة السلافية الأخير (صوفيا، فبراير 1945) وجود كتلة سلافية وارثة لاتحاد تأكد عبر قرون من المعارك ويرجع انتصار جرونفالد (1410) الذي أحرزته الجيوش السلافية الموحدة ضد الجيرمان. وهكذا انتهينا إلى انقضاض كتلة ضد كتلة، جنس ضد جنس، جنون ضد جنون! وهكذا فإن الحروب "العادلة" لا تصمد طويلاً أمام العدوى الشائنة للأفكار التي كان يرجى منها أن تستأصل شأفتها.(2)
إنني أقول إننا نشهد الآن تغلغلاً للسلوك السياسي الهتلري في صفوف الديموقراطية. وهذا التغلغل لا يثير استنكار أحد تقريباً. إن كثيرين من الناس يجدون فيه منفعتهم المادية وراحتهم الأدبية. وهذا التغلغل ينتشر في جميع الصحف، وفي جميع الأخبار التي تصلنا عن المصير الذي يستعدون لرسمه للعالم. وعلى سبيل المثال، فإن ضم الأراضي دون موافقة السكان المسبقة كان يُعتبر بشكل عام عدواناً على القانون، ينبع من الجنون الإمبريالي المسيطر على أمثال هتلر. والحال أننا نرى اليوم أن الموضوع يثار بشكل مختلف تماماً ومن زاوية المنفعة القومية وحدها، إذ تعلن قوة من القوى: إن هذا الميناء نافع لي تماماً وأودُّ أن يكون من نصيبي، - وإذا ما اعتُرِض عليها بأن هذا الميناء كان على الدوام جزءاً من وحدة قومية أخرى، فإنها سوف ترد بأن ذلك محتمل، لكنها تحتاج إليه احتياجاً شديداً وأن انتصارها يمنحها الحق في هذا الاختلاس الصغير.  والحال أن الأمر لا يخص من الآن فصاعداً ميناء أو مدينة معزولة، بل مجموعات شاسعة من الأراضي التي أصبحت متحركة وجاهزة تماماً لتغيير المالك بين عشية وضحاها.
أما نقل السكان فقد كان هو الآخر عملية وحشية لا تسمح لنفسها باللجوء إليها سوى أنظمة العنف. والحال أنه يجري النظر اليوم في هذه التحويلات على نطاق ليس أدنى من نطاق حملات النازية السوداء، وهنا، أدع الكلام للويس كلير، أحد المراسلين الرئيسيين لمجلة "بوليتيكس" الأمريكية والذي تساعدنا قوة غضبه على الشعور بأننا لا نزال أحياء:
"يجري الآن نقل الشعوب كالماشية. إذا ما أعطيتموني 500,000 من الألمان – السوديت، فسوف أكون مستعداً لأن أعيد لكم عدداً مساوياً من سكان التيرول، ربما أمكن لنا مبادلة عدد من الألمان بآلات ومعدات. لقد أطلق هتلر، هنا أيضاً، آلية بسبيلها إلى أن تكتسب أبعاداً مقلقة... إن التهور الذي تتنازع به القوى المنتصرة على السلعة الوحيدة التي لا تزال، رغم تحسينات التقنية، السلعة المطلوبة أكثر مما في أي وقت مضى – عمل العبد – هو شيء فاجر حقاً"(3)
لقد تم كسب حرب. ولكن هل من المؤكد بالمثل أن هتلر قد خسر حربه؟
"عدم وجود الأفضل..."
عندما يتساءل المرء عن الأسباب التي تميل إلى تحويل حرب "عادلة" إلى حرب عادية، إلى مجرد حرب، وبشكل أعم، عندما يتساءل عن الأسباب التي تحرم الجماهير من الإمساك بزمام القضايا السامية التي يكرس نفسها لها، فإنه سرعان ما يجد نفسه حبيساً في حلقة جنونية. فالواقع، من ناحية، أن اتساع وتركز الحياة الاقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب، ومن كل نقابة، ومن كل إدارة، أجهزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي ولا ترجع البتة إلى الخلايا الفردية التي تتشكل منها. وهذه الأحزاب، وهذه النقابات، وهذه الإدارات الدولانية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة. فهذه الأبنية المخيبة تعمل بفضل إنسانية من نوع خاص تماماً، إنسانية مؤلفة من الملقنين. وحتى يسمح للمرء بتقديم اقتراح في ختام مؤتمر حزبي لحزب من أحزاب اليسار يسمح بدرجة ما من درجات تبادل الآراء، لابد من سنة من المناورات الحرجة للغاية عبر متاهة من الأمانات ومن اللجان التي تُذَكِّرُ على نحو يثير الالتباس بألغاز المحكمة التي يصعب الوصول إليها حيث يسمح كافكا – في "القضية" – بارتجاف صورة عذابنا المنعكسة أبداً. وإذا ما أمكن التغلب بشكل مؤات على هذه المحن التجريبية، إذا لم تتوصل أية خطوة زائفة إلى معارضة طرح الاقتراح، فمما لاشك فيه أن هدفه سوف يُطمَس طمساً كافياً بحيث يكف عن استثارة ما هو أكثر من اهتمام استرجاعي وما يشبه الرثاء لأولئك الذين غامروا بتأييده.
ومن ناحية أخرى، فإن المواطنين الأذكياء والنشطاء، وبدرجة أفضل، الأفراد الذين يتمتعون بمكانة ثقافية معينة، والذين سوف يحاولون التدخل بهدف تصحيح تَوَجُّهْ حزب، أو نقابة أوحكومة، يدركون جيداً أن هذه الأجهزة المختلفة لديها الوسائل لكي تنسج حولهم شركاً قاتلاً – شركاً من الصمت الذي لن يتأخر عن عزلهم عن الحياة العامة برمتها. وشرك الصمت هذا مضروب دوماً على عدد من أروع عقول المجتمع السوفييتي، - من الكتاب، والعلماء والصحافيين والمناضلين، وهو يحاصر بشكل متزايد، في أوروبا وأمريكا، عقولاً أخرى، مقاومة ونقية، عاشقة دونما حد للحرية...
وهناك ما هو أسوأ بالنسبة للإنسان المتحضر من أن يفقد سيطرته على الأجهزة التي تمثله وتتصرف باسمه. ذلك هو الاستسلام لهذا الفقد. وهو استسلام تبينه لنا علامات لا حصر لها وصارخة. استسلام نميزه - في الحرب كما في السلم – في الموقف السائد لأشخاص موهوبين، مثقفين ومدفوعين إلى الفعل، - ومن ثم مستغرقين في هزيمتهم الخاصة. هذا الاستسلام يعبر عن نفسه بثلاث كلمات: "عدم وجود الأفضل..."
فإذا ما انضم المرء إلى الحزب الشيوعي (أو أي حزب آخر...) دون أن يكون متأكداً تماماً من سياسته الحالية وسياسته في المستقبل، فإن ذلك بسبب "عدم وجود الأفضل"... وإذا ما انتهى المرء بالتكيف مع إعادة اقتسام المناطق، والتي يعترف بأنها لن تجلب المسرة ولا الرخاء للشعوب، فمرجع ذلك هو "عدم وجود الأفضل"... وإذا ما صوت المرء لصالح مرشح يثير جانبه الأخلاقي التقزز وتبدو صلابته السياسية مشكوكاً فيها، فمرجع ذلك هو "عدم وجود للأفضل". وإذا ما اشترك المرء في صحيفة تضحي بحرصها على الحقيقة من أجل اعتبارات إعلانية أو تجارية، فمرجع ذلك هو "عدم وجود للأفضل"...
وتلك المرأة التي يقبلها المرء منقبضاً وهو يغمغم بإيماءات أبدية: "عدم وجود للأفضل". وتلك السينما التي يغرق المرء فيها مطأطأ الرأس، لخصم ساعة من الوجود على ظهر الأرض: "عدم وجود للأفضل". وذلك الكتاب الذي يركز عليه المرء لأنه نال جائزة، بينما يدعوك كل داع إلى استفراغ محتواه: "عدم وجود للأفضل". وذلك الرئيس الجليل الذي يهرع المرء إلى عبادته متأوهاً وقد تشبع ببرنامج جلاله الفني "عدم وجود للأفضل"...
إن "عدم وجود الأفضل" يصبح استثماراً، فلسفة، حالة أهلية، سيداً، نزوة، دليل براءة مسبقاً من ارتكاب جريمة، صلاة، سلاحاً، مومساً، شهقة أو زفرة، قاعة انتظار، فريرة، فن تصدق على الذات، بوصلة للمراوحة في المكان، شاهد قبر، 8 أغسطس 1945.
إن شخصين، متجاورين فكرياً، يسعهما من ثم أن يتهادما، فبما أن لديهما مفهوماً واضحاً عن "الأفضل"، وهذا "الأفضل" ينقصهما، فإنهما يرتدان إلى طريقتين متلاقيتين في الوجود التعويضي، إلى نسقين من المعتقدات والإيماءات المتلاقية عن "الأفضل" المشترك، وإن لم تكن متلاقية من الجهة نفسها.
وهكذا، فمن مقاربات إلى مقاربات، ومن استعاضات إلى استعاضات، يجد المرء نفسه مدفوعاً، دون أن يشعر، وبأدب، نحو ما لا يدري المرء أي ركن حقير تنمو فيه البراغيث... إن المرء يفزع، ولكن من بابا السهو. ليس ذلك سجناً، إنه منزل... والدنيا أكثر من ليلة واحدة... وعلى البعد، تصفر قطارات مؤذنة بالرحيل... ويجب على المرء أن يصيح وأن يستنفر حراساً وهميين... وغداً صباحاً، أين سيكون المرء بالنسبة إلى نفسه؟ هل ستسمحون له بمجرد المرور؟ نعم، بلا شك، سوف يسمحون لكم بالهرب، بأن تبنوا لكم في الكونغو حياة ثانية... حياة مبنية على أوتاد فوق المستنقعات بينما يوجد، في الظل، السرطان الظافر نفسه حيث تتصالح قوى الملل والهلع المريع من الحرية...
حق الرعب
إن كل شيء يجري، منذ قرنين، وكأن كل تذرع بالحرية، كل انتفاضة مميزة باسمها، تؤول إلى أن تترجم نفسها – عبر الأجهزة السياسية والدولانية المنبثقة أكثر قوة من هذه الانتقاضات – إلى تزايد في القواعد الكابحة التي يدين لها الإنسان باكماش تدريجي للحياة. إن جيلاً جديداً من الموسوعيين منطلقاً من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق، سوف يُعتبر، اليوم، خارجاً على القانون أو أنه، على الأقل، سوف يجبر بسرعة على التسول.
كل شيء يجري وكأن الإنسان لم يبحث، في هذه السلسلة الطويلة من الطموحات سيئة الحظ، إلاَّ عن شكل معين للأمن في الرعب. ويبين لنا عمل إيريك فروم اللاذع والقاسي – "الخوف من الحرية" – إلى أية درجة يخشى الإنسان مواجهة الحرية، إلى أية درجة يترقب بفارغ الصبر التهرب من المسؤوليات التي تفرضها عليه، إلى أية درجة – في الظروف الحالية للفوضى – تعد الرمادية، والعتامية وعدم تسمية الأشياء بأسمائها ملاذات مشتهاة ضد إغراء الحرية.
وإلى هذا الاستعداد الفردي للكائن الذي حيره تعقيد العالم الذي يراوده، تقدم الأجهزة الجماعية الضخمة مساهمة حاسمة. لقد حددت، بالصرامة المطلوبة، هذا الحد الأدنى البائس من المواقف الإنسانية التي لا يسمح بتخطيها إلا بمخاطرات وأعباء الانتهاك.
وبوسع المواطن الصالح أن يشتري نوماً عميقاً مادامت القنبلة الذرية تحميه...
إن علامات الرعب المتصاعدة واضحة. وأولها حدة هو المحو التدريجي لحق اللجوء السياسي. إنها لفكرة سيئة أن يكون المرء لاجئاً سياسياً، من جراء هذه الأزمنة التي تقتل! ومنذ عام 1930، طورد ليون تروتسكي، كما لو كان خنزيراً برياً، عبر كل القارة الأوروبية، من تركيا إلى النرويج عبر باريس. ثم جاءت "فيشي" التي قامت دون أسف بتسليم بيترو نينني إلى إيطاليا، وبرايتشايلد إلى ألمانيا وكامبانيس إلى إسبانيا. لقد اختفت "فيشي" ولكن دون أن يختفي هذا الكره المتأصل لدى السلطات – ديموقراطية أو غير ديموقراطية – للاَّجئ السياسي، الأثر الأخير والجميل للتمرد الإنساني.
ومن علامات الرعب أيضاً، الترحيل المنظم للكادحين والذي لاشك في أنه يبلغ النهاية مع هزيمة النازية. ويتكفل الاقتصاديون بحساب المردود المتزايد للقطيع المقدم لهم كمادة تجريبية. والمؤشرات الدولية بحاجة إلى رسوم بيانية تتصاعد خطوطها! ومن علامات الرعب ابتلاع آلاف البشر في ليلة لا ينكشف فيها شيء. لقد رحلوا دون أن يتركوا عنواناً. لأن هناك غابة يتعين قطع أشجارها على ضفاف البحر الأبيض. ليحذر الهواة!
ومن دواعي الأسف الأخيرة أن المرء يشهد، في المجال الذي تَمَكَّنَ دائماً من الإفلات من ضغوط النظام المتعسفة في الماضي، في مجال الفكر الصدامي، مجال الفكر السياسي، الذي كان لا يزال حتى البارحة رسولاً للأمل، تكيفاً غريباً مع الانضباط الوحشي والباطل الذي يرتسم تحت بصرنا. ويشهد على ذلك الجبن المحرَج لمجلة مثل "لابنسيه" والتي كانت تعبر، قبل الحرب، عن حب مثير للمعرفة بكافة أشكال الصيرورة العلمية والاجتماعية، وكانت تثير بِنَفَسٍ متسائلٍ مشكلات جوهرية كانت قد طرحتها بالفعل الشيخوخةُ العامةُ لمجتمعٍ لا يتسامح بالمرة مع ممانعة الناس في الوصول إلى الشيخوخة معه. إن الأسماء الكبيرة التي ترعى "لابنسيه" لم تعد ترعى، في عام 1945، غير توافق صيغ استاتيكية ومحاكمات عقلية محبطة. إن المرء يجد نفسه في حضرة مجلة يبدو أن مهمتها هي أن تقول لنا إن الفكر الماركسي قد وصل إلى الركود، فهو يتحول اليوم إلى قوة، بدلاً من أن تتغلب على الكابوس المعاصر، وبدلاً من أن ترسم دروبها المضيئة الهادية، تدع هذا الكابوس يترسب في قارورة أمان معملية،  حيث لا يجب الخوف في الوقت الحاضر من أي انفصال متفجر بين القابل للحياة وغير القابل للحياة،  بين ما هو مُحَرِّكٌ وماهو مثبط، بين ما يتميز بالحالية وما فقد الأهلية. ومن ناحية أخرى، ألا نرى أن أراجون يلح، في مقالٍ مدوٍ، على سحب كتب السيد شارل مورا من مكتبات فرنسا؟ يبدو أن صاحب دعوة كهذه لا يأخذ بعين الاعتبار أنه يرتكب بذلك عملاً من أعمال الانهزامية قياساً إلى ما يجب أن تكون عليه قوة جاذبية رسالته السياسية هو. ويجب علينا أن نؤمن أن مورا وهو نفسه يحتلان موقعين يناظر أحدهما الآخر، ولما كانا قد تخليا عن الانفصال أحدهما عن الآخر بالاحتكام إلى العقل، فإنهما قد وضعا نفسيهما، الواحد بعد الآخر، رهن تحكيم رجال الشرطة الذي لا يليق. وهكذا فإن الرعب عندما لا يعمل جهاراً، فإنه يظل على الدوام كامناً، على سطح الجدل، مستعداً لتلبية الدعاء الأول، النداء الأول لأحد رعاياه المخلصين.
أما فيما يتعلق بالأفراد الفريدين – خاصة بعض فئات المثقفين والكتاب – الذين لا يزالون غير مستعدين لقبول العيش وفق المسار السائد – فإنهم، هم أيضاً، تتخطفهم رياح الرعب. إن أملهم الوحيد هو قلب مسار هذه الرياح، أي أن يمارسوا، هم، الرعب. إن من يستولي على مخيلتهم ليس جيد أو بريتون، بل لورانس الجزيرة العربية ومالرو الفترة الصينية. وبالنسبة لمعظمهم، فإنهم قد أحبوا هذه الحرب لأنها قد سمحت لهم بالتصرف حسب الأصول مع أنفسهم عن طريق قلب قطار، أو نسف جسر قبل العودة إلى بيوتهم، إلى عشيقاتهم المنهكات وإلى روتينهم اليومي الأمين والذي يتمثل في ترديد حكايات مؤثرة. إن المثقف المعاصر لا يطلب، من حيث الجوهر، بقشيشاً آخر، من عالم لم يعد لديه شرف لرفضه، غير أن يمثل، ولو في فصل واحد، دور مغامر على هامش الكل، غير أن يستعيد بهذه الخدعة المتجاوبة مع نداء باطني جانباً من الزخم الذي حرمته منه الحياة الاجتماعية.
القيد
في هذا الانزلاق الجماعي صوب حالة أمن في الرعب، من الذي سوف يكسر القيد؟ من الذي سوف يحكم بالعدل على ذلك الذي اعتاد الناس اعتباره حقاً لهم في الرعب وشيئاً يكاد يكون تتويجاً طبيعياً لطموحاتهم القديمة في الحرية؟
من المؤكد أنه ليس حزباً سياسياً، ولا أية منظمة من المنظمات الشمولية المكلفة بحراسة الإنسان، ليس حزباً، ولكن ربما فصيلة جديدة من الأنصار المقاومين الذين سوف يهجرون طرق التحريض الكلاسيكية ويلجأون إلى اجتراح مآثر اضطراب مثالية إلى أعلى درجة. لقد تمنى الكثيرون أن تتمكن حركة المقاومة في أوروبا من أن تحدث أخيراً ثغرة في المأزق السياسي والاجتماعي لعصرنا. وكانت الأحزاب الجماهيرية الكبيرة هي أول من تحسس هذا الخطر. ماذا، هل يستعدون للاستغناء عن خدماتها؟ هل تتجرأ الإرادة الشعبية الآن على الاستغناء عن الوسيط؟ كان الإنذار قصير الأجل. ومثلما جرى على وجه السرعة دمج القوى العسكرية للمقاومة في الأطر الدائمة للجيش، - فإن قواها السياسية لن تتأخر، مع امتزاج الغزل بالدس، عن العودة إلى فخ الأحزاب الكبيرة. إن الحدث – كدت أقول الحادثة – قد اكتمل. لكن شيئاً آخر يصبح ممكناً، بل يصبح الشيء الممكن الوحيد، إن عصر حرب المقاومة السياسية يبدأ ونحوها يجب أن تتجه أرصدتنا من الثقة والحماسة.
ومما لاشك فيه أنه ليس من السهل إعلان الشكل الذي سوف تتخذه حرب المقاومة هذه والمآثر التي لا مفر من أن تميزها. على أن بوسع المرء أن يعتبر الموقف المستقل استقلالاً شجاعاً والذي يتخذه كامي – وعلى أصعدة أخرى، بريتون، كالاس، روجمون – مؤشراً بالنسبة للمستقبل. إن جهاز الرعب لا يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن الانشطارات. ولذا فعندما يكون هذا الجهاز أكثر تهديداً – وبقدر تهديداته المتجددة – يجب أن تهب كل روح الرفض لدينا، كل ما في العالم، في لحظة معينة، من بَشَرٍ في حالة رفض، وأن يحدث ذلك بشكل مدو! وأن يرتسم ذلك على شكل أمثلة مثيرة للقلق في وجدان الجماهير! وأن ينتقل ذلك وينتشر عبر السهب البشري الواسع، من خلال آثار عظمة معدية!
عند هذه النقطة، أسمع انفجار الاستهزاءات القاتلة: "ما خطبك! إنك تسعى إلى الإساءة إلى الأحزاب السياسية، إلى تقويض هيبتها، إلى التشهير بعملها، - ومن ثم فإنك تواصل العمل الخبيث لفاشيي ما قبل وما بعد الفاشية هؤلاء، الذين يثيرون الشبهات حول كل أدوات الخلاص والتقدم!". والواقع أنني لا أواصل شيئاً، ولا أرغب في مواصلة شيء غير منطق معين للحرية. إن الظاهرة الفاشية، منظوراً إليها من زاوية تطور الأحزاب، لم تساعد إلاَّ على أن تعجل بشكل حاسم تطور الجذام المعنوي والمادي الذي يصيب المؤسسات "اليسارية" القوية التي يضيع فيها صوت الجماهير بالسهولة نفسها تقريباً التي يضيع فيها صوت الأفراد. إن الهدف الأخير لحرب المقاومة الدائرة الآن ليس هو القضاء على الأحزاب لحساب نسق جديد ما لممارسة الحياة السياسية، بل هو تجريد الأحزاب من احتكار الفكر الاجتماعي الذي يهمد في لجانها الدراسية، إنه تجريدها في المجال الايديولوجي، من حق المبادرة الذي تتمسك به خاصة وأنها عازمة تماماً على ألاَّ تستفيد به إلاَّ الاستفادة الأكثر خسة، الأكثر خبثاً. إن المسألة هي، لتدارك المشكلة قدر الإمكان، اختزال الأحزاب إلى حالة متفتحة خالصة فيما يتعلق ببلورة الأفكار وبحركتها العامة، وحالة إدارية خالصة فيما يتعلق بتنفيذ هذه الأفكار. وباختصار، المسألة هي دفع الأحزاب إلى الاعتراف بالبؤر الايديولوجية التي تنشأ خارجها وإلى أن توجه نحو الفعل العملي كل شيء صالح ينبثق من الجيشان الذي يحاط بالرعاية على هذا النحو. على أنه لابد من الحذر: فالحالة الموضوعية للأحزاب قد تغيرت تغيراً ملحوظاً منذ عشرين سنة. إنها تميل كلها إلى أن تصبح أجهزة شبه دولانية، ملحقات للدولة. وعين فكرة - ووظيفة – الحزب المعارض تتأثر تأثراً قاتلاً بهذا التغير. ففي انجلترا، وفي الولايات المتحدة، وفي فرنسا، وفي بلجيكا، غالباً ما تكون المعارضة متضامنة مع السلطات، بحيث أنها لا تشكل عدواً لها. ولابد أن تتطابق مع هذه القاعدة الجديدة للأحزاب التزامات أكثر وضوحاً على الدوام بالنسبة إلى فدائيي الفكر. وأول هذه الالتزامات هو تحويل الأنشطة الايديولوجية إلى بؤر غريبة عن تقلبات الأحزاب وعن إدراجها التدريجي في أطر الدولة. لكن الشيء الأهم هو أن حرب المقاومة هذه لن يكون لها تأثير متواصل إلاَّ بقدر ما تتمكن من أن تشجع، في نضالها ضد البراجماتية والبيروقراطية للأحزاب، سباحة في تيارات اليوتوبيا الزكية، وتجديداً للتأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح.
لقد كان بوسعنا، قبل عشر سنوات من ذلك، أن نأخذ كشعار لحشد القوى كلماتٍ ككلمات نيكولاي بوخارين، المفكر قبل الأخير بين مفكري الاشتراكية الكبار:
"إن تحليلاً لمجريات الأمور الواقعية يدفعنا إلى أن نستشف، ليس موت المجتمع. بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقالاً حتمياً إلى المجتمع الاشتراكي، انتقالاً بدأ بالفعل، انتقالاً نحو هيكل اجتماعي أرقى، ولا يتعلق الأمر بمجرد انتقال إلى أسلوب أرقى للحياة، وإنما أرقى على وجه التحديد من الأسلوب الذي هو اليوم أسلوبها. فهل يمكن الكلام عن هذا الشكل الاجتماعي الأرقى بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك صوب الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا المجال؟ إننا نعتقد ذلك. ففي المجال المادي يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل الاجتماعي وفي تطور هذا المردود، لأن ذلك يحدد مقدار العمل الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية. وفي مجال العلاقات الإنسانية المباشرة، يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال انتقاء المواهب الإبداعية. وعلى وجه التحديد، فعندما يكون مردود الانتقاء واسعاً جداً، سوف يتحدد الحد الأقصى من إثراء الحياة الداخلي لدى أكثر عدد من الناس، ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً، وإنما بوصفهم كلاً حياً، جماعة اجتماعية."(4)
واليوم لا يسعنا إلاَّ أن نتساءل أين ذلك "الإثراء الداخلي للحياة لدى أكثر عدد من الناس"؟ مما يؤسف له أنه لاشك في أن الطريق الذي اجتيز منذ أبريل 1936، أي منذ أن ألهمتنا هذه الكلمات الأمل، لم يؤدِّ إلاَّ إلى إبعادنا عن هذه المنظورات البوخارينية، لم يؤدِّ إلاَّ إلى التمكين، خطوة خطوة،  لانبثاق اتباعية صارمة تختزل "الحياة الداخلية" إلى تعبيرها الأكثر وضاعة والأكثر جبناً.
ولاشك أنه قد جرت الاستعاضة عن هذا المعيار الخاص بـ "الإثراء الداخلي" بالمعيار المعاكس، ولن نكون بحاجة لذلك إلاَّ إلى دليل واحد بين آلاف الأدلة، ليس أبلغها سوى "تصفية" بوخارين نفسه والتهوين من شأن هذه "التصفية" في معسكر الاشتراكية وفي معسكر الفكر.
وفي مواجهة هذه الاتباعية التي تعيث فساداً في جميع المجالات، باستثناء مجالات التفننات الإرهابية حيث يجد هؤلاء السادة لذة دائماً في التجديد، لا يمكن أن توضع، تحديداً، غير القوى الأكثر عرضة للتحقير من جانبها: أحلام إيكاروس، روح التوقع المحمومة لدى ليوناردو، استبصارات الاشتراكيين الطوباويين، رؤى بول لافارج السخية والتي تتخللها الدعابة! إن "الاشتراكية العلمية" تتردى بحيث تكف عن أن تكون بالنسبة إلى اتباعها شيئاً أكثر من أداءٍ طنان لتسميع المحفوظات. وهناك حاجة ماسة إلى إشباع البيئة والفكرة الاجتماعيتين بالهواء، إذا كان يراد توفير مستقبل للإنسان لا يكون جافاً مقدماً ولا يدمر لحساب ضوابط غير مبررة حقه في المجادلة المستمرة.
وضد اجتماع الاتباعية والرعب المقيت، ضد ديكتاتورية "الوسائل" التي لا تتذكر الغايات التي تتذرع بها، تستطيع جوكندة اليوتوبيا، لا أن تفوز، بل أن ترسل من جديد ابتسامتها وتهب الناس الشرارة البروميثيوسية التي يتعرفون فيها على حريتهم المستعادة.
إن الزمن ليس غير زمن الإعلاء مرة أخرى من شأن الأحلام المستحيلة...
القاهرة، السابع عشر من أغسطس 1945




 
(1) والتر كولارز: ستالين وروسيا الخالدة، ص 87 (لندساي أند دروموند، لندن).
(2) يتساءل أندريه بريتون: "عندما تجبرنا الضرورة، ضد مرادنا، على القيام كل يوم بسلسلة من الأعمال المشابهة من جميع النواحي لأعمال العدو، كيف يمكننا أن نتجنب الوصول معه إلى حد مشترك؟ إننا يجب أن نحذر من ذلك: فبحكم أننا مضطرون إلى انتهاج أساليبه، نجد أننا نغامر بأن تصيبنا عدوى ذلك الذي نعتقد أننا ننتصر بالاعتماد عليه... "
(النور الأسود، بقلم أندريه بريتون، أنظر "لارش" العدد السابع.)
(3) موجز الأخبار الأوروبية بقلم لويس كلير، أنظر "بوليتكس"، يونيو 1945.
(4) نيكولاي بوخارين: المشكلات الأساسية للثقافة المعاصرة ("وثائق روسيا الجديدة"، باريس، 1936).

ترجمة بشير السباعي









يوليانوس المرتد أو التبجح الميتافيزيقي



"يولد الناس ولهم ميول متباينة، وميلي، منذ طفولتي، هو اقتناء الكتب".
(يوليانوس: رسالة إلى إكديكيوس، والي مصر)

مع يوليانوس، يظهر في التاريخ للمرة الأولى على شكل إرادة وقوة سياسية مالم يكن حتى ذلك الحين غير ظل (ولكن ربما أيضاً بؤرة ) للروح: الحنين إلى الماضي.
لا ننسين أنه بالنسبة للمسيحيين الأوائل، كانت إسرائيل هي مناط الحنين الممكن الوحيد، وكان هذا الحنين ألماً مشدوداً على نفسه حتى الضنى، يستبعد أيضاً كل توسط: سماء مرصصة لا تتحالف إلاّ مع الصاعقة. وبالنسبة لرومانيٍّ، فإن مناط الحنين هو اليونان، التي يصعب اختزالها إلى فكرة واحدة، ولكن التي يمكن مع ذلك اعتبارها مرتبطة بالصيغ الأكثر إنارة للعقل وبممارسة معينة للحياة لا يمكن استلابها إلاّ عبر العبودية وليس عبر الخطيئة. والحال أن شيئاً من هذا الحنين إلى الماضي يتسرب بالفعل إلى الصلاة الاستهلالية لقصيدة لوكريتيوس:
"يا أم الرومان
يا فينوس الجميلة
يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة
يا من تنشرين الحياة تحت السماء
حيث تسبح النجوم
وفي البحر الذي يحمل السفائن
وعلى الأرض الفياضة بالزرع،
فمنك يولد كل كائن حي
ويُدعى إلى رؤية نور الشمس،
لك أصلي
أيتها الربة!"
في هذه الصلاة نجد علامات الوفرة وعلامات الشهوة المتكاملة فيما بينها: "يا من تفيضين باللذات على البشر والآلهة". وفي الأسطورة المسيحية، يهبط ابن الرب على الأرض ليحمل عن البشر آلامهم. وهي، بشكل ما، تربط الرب بهذه الآلام ومن ثم تجعل عبء الإنسان محتملاً. أما العملية المقابلة فهي ما يمكننا رصده في الوثنية الهللينية حيث يتعلق الأمر بدلاً من ذلك بربط الإنسان بوسط الآلهة. إن أي طريق للصليب لا يقود إلى الأوليمب! والإنسان الهلليني لا يستحي من الحياة التي لم ينخ عليها بعد كلكل الفداء.
والحال أن المسيحيين يجسدون كلمة رامبو المملة، قبل أوانها: "يجب أن نكون حديثين بصورة مطلقة!." فهم ليسوا على حافة العصر الحديث وحسب، بل إنهم يمنحون الحداثة أعصابها المفرطة الهستيرية والتي تسبح في النزاع مثلما تسبح في الوسط الديني الأكثر إشباعاً. إنهم يدخلون نبض الزمن القاتل في قلب حياة مسطحة، كانت تعاش حتى ذلك الحين من زاوية الانسجام لا من زاوية المحنة.
ويتشكل على خطى المسيح ضمير جديد لا يعود ضمير حاضر متجانس يتتابع صعوداً بلا توقف إلى مستوى الإنسان، بل يفسح على العكس من ذلك مجالاً للمستقبل، لذلك "التجاوز" بالغ الشهرة الذي سوف يصبح إيلدورادو مغامرات الروح والذي سوف تخور قوى نيتشة إزاءه ويتشبث بتلابيبه. إن "الصخرة العالية الأزلية الخرساء، القدر" ما عادت تخيف البشر الزاحفين صوب قوة باطنية غراراة لا يملكون سوى ظن وجودها، ولا يجدون أحياناً غير غوايتها، وإن كانوا لا يملكون البتة مفتاحها. وعندئذ يطالب التاريخ بأن ينظر إليه وفقاً لمنظور اشتهائي. أما الجنس الذي يظل دائماً في العشرين من عمره فهو يتلاشى كجزيرة يطويها سديم شمسي وينبثق بشر يشددون على إركاع الزمن أمام نير مفاجئ: استمرارية درامية ذات معنى. وفي مقابل الإنسان الحديث، في مقابل التجديد المسيحي، يضع يوليانوس الإنسان غير المستسلم لحاضره، والذي يتمثل الإحساس بالحضور على الأرض بالنسبة له في وحدة عيار الحياة.
لقد آمن يوليانوس بشفافية العقل غير المحدودة. وبالنسبة له، لا ينفصل النظام الديني عن فكرة القانون والذي تحدده بدوره عمارة معينة منسجمة للعالم. وهو يجل في اليونان القانون الذي لا يحتاج إلى أن يحمل اسماً لأنه، بادئ ذي بدء، انسجام وتناغم. وهو يحترم في روما القانون الذي إذ يسمي نفسه إنما يساعد على صد فوضى الأقوام الأجنبية والخطر الأبدي المحدق بكل جمال. لكنه، في المقابل، لا يرضى بالعدوى المسيحية التي تعمل في الواقع ليس وفقاً للفهم وإنما وفقاً للتشنج. ويبدو أنه قد رصد تحولاً غامضاً ومزعجاً. والواقع أنه عندما اختفى يوليانوس، وقد هزمه سوء حظ الغرب، فإن صدمة الصليب تبدأ بالكاد في اختراق لحم البشر. وقد استشعر يوليانوس أن شيئاً عبثياً بشكل عجيب آخذ في الحدوث، إن نداء عبث باطنياً حقيقياً يعلن عن نفسه بين البشر وإنه سوف يجرهم إلى هذا الشكل الأرقى للجور والذي يتمثل في مكابدتهم في الرب مرة أخرى ما كابدوه بالفعل مرة أولى في الإنسان.
أثر آخر للانتصار المسيحي: إن الوشائج تنقطع بين الأخلاق والسعي الجمالي. ذلك أن مفهوم الحياة الخلاب، والذي كان مفهوم الإغريق ويظل مفهوم يوليانوس، إنما يجتاحه ذلك التدفق العضوي المندفع مع رياح القطيع. وكيف يمكن لأولئك الذين يهدرون أن "الأزمة قد جاءت"  أن يهتموا بتجميل الحياة؟ لقد تطلب الأمر قروناً لإعادة اكتشاف الغندرة – تلك الردهة المفضية إلى السعي الجمالي، - تطلب قروناً لابتعاث رخام التماثيل التي كانت الوقاحة قد بلغت بها حد تصوير بشر صحتهم جيدة (بين زمن قسطنطين وزمن الرينيسانس، يبدو نحت تماثيل ذات خدود بشرية هزيلة أشبه ما يكون بثأر الشاكين من سوء التغذية). لكن أية عودة إلى الوراء – ولا حتى عودة غنادير القرن التاسع عشر والذين بذلوا مع ذلك كل ما في وسعهم لكي يكونوا "وكأن شيئاً لم يكن" – ماكان بوسعها أن ترد إلى السعي الجمالي الهيمنة على سلوك الفرد.
لم يُذكر بما يكفي أن الانتقال من الوثنية إلى المسيحية قد ترافق مع تطور مفاجئ في جوانب الجمال الجسماني – وثبة ضلال مفاجئة، - مثلما ترافق، من جهة أخرى، مع مفهوم مفاجئ عن تجارة البشر. إن انقباض الملامح (الذي لا يمت بصلة إلى التكشير الجامد والمدروس لأقنعة التراجيديا الإغريقية) إنما ينبثق كما لو أن المراد من ورائه هو تشويش جماليات الوجوه دون صخب. حتى يحمل الإنسان نفسه شهادته هو على العذاب. حتى يحمل وجهُهُ الشهادة. وهذا الهتك لسر المحنة المترتب على أشكال عدوى خرقاء - إنما يجعل من اليأس شأناً عاماًّ. وفي أعقاب صور السلطة والنبالة، تجيء صورة الكائن المغلوب، صريع التعاسات الدنيوية، الحريص على أن يهين في نفسه رشوة الحياة المتمثلة في الجمال.
وبالنسبة ليوليانوس، فليس هناك ما هو أكثر فظاعة من مشهد رب ملطخ بالوحل وبروث البهائم، ومصلوب بين لصين مصلوبين. (1) فهو رى أن من المستبعد أن يقبل رب حقيقي أن يظهر في مثل هذه الصحبة. لقد قدمنا، منذ عشرين قرناً، الإتاوة جد السخية إلى المألوفات الشعبية (أعني في مجال الروح) بحيث لا يسعنا – عن حق – الترفق بهذا التبجح الميتافيزيقي الحقيقي. إننا نستشعر أن الألوهية، في نظر يوليانوس، هي مسألة سلوك راق. وكيف يمكن له الارتياح إلى اغتصاب المعرفة من جانب بعض أهل الحرف العاطلين - صيادي السمك أو الإسكافيين الذين يتبجحون بنبذ تعاليم الفلاسفة؟ إن شعار يوليانوس، إن كان قد اهتم بأن يكون له شعار، إنما يتسامح مع تلخيصه في هذه الكلمات: "إن الالهة تأخذ ولا تُلزم نفسها". إن هناك شيئاً مؤثراً في إصرار يوليانوس – إذا ما نظرنا إليه نظرة فاحصة – على بعث "تنوير" في عصر وعالم مشرقيين ومرضيين، تهيمن عليه تحرقات خبيثة.
*
إن جويتز، الفارس الألماني المرتزق عند سارتر، يجرح راحتي يديه ليرى الجمهور ندوباً زائفة. وهذه الحركة، إذا ما راعينا كل الأمور، ليست غير نصف خديعة. فسواء كانت الندوب حقيقية أم زائفة، فإنها تظل منتمية إلى مجال المبالغة. إنها تشهد على عدم اندمال الكائن، بل إنها تشهد في الحقيقة على عبادة الجرح الأول، الذي لا يمكننا قبوله إلاَّ إذا أدى بالتئامه إلى تحرير الإنسان من أسطورته الشرهة. ولذا فإن يوليانوس لا يخطئ عندما يفهم المسيحية على أنها انشقاق مغروز في الحياة رأساً، على أنها تعويض عما لا يمكن تعويضه. إن المسيحية، من حيث كونها انشقاقاً وشقاقاً، مبالغة والتباساً، إنما تخترع الحشمة لكي تتحول بعد ذلك في تقلبات قديسيها الانتشائية إلى فريسة لـ "الزوج الجدير بالعبادة". إنها تخترع النعمة، لكنها تسارع إلى اطلاق اختها التوءم على العالم: المحنة. وليس محظوراً أن نتساءل عما إذا كان البوح الكبير بالإحسان والذي تبالغ المسيحية في إبراز نفسها من خلاله لا يتجاوب مع الحق في إنهاء العالم. لابد من إرهابيٍّ للروح، كيركجارد مثلاً، لتبني موقف مماثل باعتباره الشيء الأكثر إراحة في العالم.
وأخيراً، وهذا في حد ذاته موضوع كاف للذعر، فإن المسيحية تتبرأ من الجريمة لكنها تلثم جبين القاتل. والمسألة لا تعود مسألة افتداء بعيد ولا نعمة افتراضية، بل هي مسألة خلط الحابل بالنابل. وعندئذ فإننا ندخل دون صعوبة إلى ما أسميه بدوامة المهانة المُمَجَّدة. وأنا أعتقد أنه في ذلك ومن خلال هذا الجانب المحدد تظهر المسيحية ليوليانوس بوصفها عصبة من الأشرار. فمهما كانت الجريمة التي يرتكبها الكائن الإنساني، فإن الجريمة ستجد من الان فصاعداً، دائماً وأبداً، من يفتديها.
والواقع أنه يبدو أن ما يطلبه البشر هو ألاَّ يعودوا بحاجة إلى الرد وحدهم على أقدارهم. ولكن، هل فعلت المسيحية، في التحليل الأخير، شيئاً آخر غير أن تزيد على مدى البصر وحدتهم الأولى، أليست قاصرة على الإنعام على البشر بوحدة كتلك التي يصورها كيريكو حيث لا نلحظ غير ظل البراءة بينما يتردد، في المقابل، في كل مكان، صدى جريمة هي منذ ذلك الحين فصاعداً لا مرتكب لها؟
وفي مثل هذه الظروف، فإن ارتكاب الخطيئة يصبح وسيلة لأن يكوِّن المرء لنفسه علاقات. ذلكم في الواقع بُعد جديد للسلوك، سرعان ما تتلوه من جهة أخرى تمزقات يحافظ عليها المسيحيون – لعجزهم عن التغلب عليها – حفاظهم على زهور في دفيئة زجاجية. إن لكل فعل طابعاً رمزياً. وهو يعبر عن فاعله بأكثر مما يمكن للمغفرة أن تغيره. ومنذ ذلك الحين، هل يمكن للمرء أن يتخلى دون عقاب عن ملكية فعله (انظروا راسكولنيكوف)؟ هل يمكن للمرء أن يتخلى عن محنته (انظروا كافكا) أو أن يقتسم لدغتها؟
إن الشيء المؤكد هو أن المسيحية قد أضفت مذاقاً، ملتبساً ومُبَلِّراً في آن واحد، على كل ما يحدث بعد الفعل. فهناك "بَعدٌ" مسيحيٌّ بشكلٍ خاص لا يشبه أي "بَعد" آخر, وسواء أكان هذا البَعد هو بَعد الحب أو بَعد الجريمة، فإن الضمير ينسحب من الفعل بسهولة غير عادية، لكنه يساعد في الوقت نفسه على استحالة أن يكون المذنب شيئاً آخر غير المجرم - الذي – ربح الخلاص أو الزاني – التائب – الراكع – تحت – قدمي – المسيح. فهل يتوجب التأكد من أن إنساناً حلت به السكينة لأن عيوبه قد جرى حمل المسؤولية عنها هو شيء أكثر من شبح إنسان حر. أو كذلك -جنباً للحديث عن الحرية – يحتفظ بحقوقه في المزاح سليمة. وإلى أي حد يظل من ربح الخلاص سيداً لضحكته؟
*
لقد قلت إن يوليانوس، بعد ثلاث سنوات من الحكم، قد هزمه سوء حظ الغرب. ويبدو لي أن من خصائص المسيحية الاستفادة من هذه المحن المبتورة حيث يختفي الخصم في الوقت المناسب. إلاّ أنه تبقى الإشارة إلى مَعلم آخر، هو الأكثر أهمية، المعلم الذي يضع كلاً من المسيحية ويوليانوس في مواجهة أحدهما الآخر كخصمين لدودين. إن موعد المسيحية الكبير يقع بعد الشر (لابد من حدوث الفضيحة). أما موعد يوليانوس فهو يقع قبل ذلك (ليست هناك فضيحة).
إن هدف يوليانوس المثير للشجن والمتمثل في استعادة، استرداد ولاء – وفاء ضائع إنما يجعل منه عين نموذج مصحح التاريخ. إن يوليانوس هو ذلك الذي لا يقبلُ حكماً يصدره العائثون فساداً بانسجام الآفاق، - إنه ذلك الذي يرفع ولاءات – وفاءات الروح إلى مرتبة فوران نبيل. ويبدو لي أنه ينطبق عليه بشكل مباشر كلام جان جرينييه المؤثر: "ربما كان من المناسب أن يتغير الإنسان لكي يتكيف، ولكن دون إفراط مع ذلك، وأما شرفه فإنه يتمثل غالباً في ولاء، حتى وإن كان بلا أمل".

ترجمة بشير السباعي










 
(1) ".... سوف نوضح أن إلهه الجليلي الجديد، الذي تمنحه حكاياته الخلود، يُعَدُّ في الواقع، بحكم عار موته ورمسه، مستبعداً من الألوهية التي يخترعها ديودور له".
(يوليانوس: رسالة إلى بلوتينوس)
وأيضاً:
"أيها الجليليون، إن يسوع هذا الذي تدعون إليه كان أحد رعايا قيصر".
يوليانوس المرتد – فلافيوس كلاوديوس يوليانوس، امبراطور رومانيّ، ولد في القسطنطينية في عام 331 ومات في بلاد الرافدين في عام 363، فيلسوف، ترك كتابات عديدة من بينها بحث معاد للمسيحية . – المترجم.






حول مستقبل الشعر

اقترح منظمو بينالي الشعر الذي انعقد في كنوك – لو – زوت، من 3 إلى 6 سبتمبر 1959، اقترحوا، كموضوع لتأملات الكُتاب الملتقين لهذه المناسبة، تيمة يبدو أنها، شأنها شأن تلك المدينة الصغيرة الجميلة، إنما تنفتح هي نفسها على المحيط: "الشعر وإنسان الغد". وبالنسبة لكثيرين، كان هذا الموضوع الاستشرافي ذريعة لجلد الذات وإماتتها. فالواقع أن طرح المسألة بهذا الشكل الفضفاض إنما يؤول إلى التساؤل عما إذا كان الشعر سوف يستمر موجوداً في الغد أيضاً. وهذا يدفع إلى النظر في مآل الضمير الشقي في حضارة سعادة. وأياً كانت المقدمات والمبادئ الأيديولوجية لمجتمع الغد، فإننا نعرف أن السعادة الإجبارية سوف تكون شرعته ودستوره. لقد قال سان – جوست إن السعادة فكرة جديدة. وما هو جديد هو نشدان السعادة في أعمال الدولة. وهكذا، عبر وسائل ميكانيكية، يجري نصب فخ الهناء الموضوعي للإنسان. فالعلم يحقق إحلام البشر والشعر يحلم بأن يحلم. إن الهيمنة على الملكوت الشاسع، ربما كانت تعني أن اكتشاف اللانهائي ليس أكثر من مصيدة.
بالرؤيا وبالصورة، يعتبر الشعر انتجاعاً (ارتياداً للزاد حيث يكون) أما بالكلمة، فهو يعتبر ركيزة وأساساً. ويتعين عليه بحكم هذه الحركة المزدوجة أن يضع نفسه بالضرورة في أماكن أخرى غير تلك التي ينصب الإنسان نفسه فيها حاسباً لما هو واقعي. وبانكبابه على البحث المهموم عن "المكان الآخر"، فإنه لا يمكث كلياً البتة في الالتقاء القسري للـ"هنا" و"الآن".
وإذا ما قبل إنسان الغد أن يتلاشى في مصير جماعي، فسوف يكون الشعر عندئذ بالنسبة للبعض فرصة للوحدة. والحال أن الشعر إنما يتميز عن المذاهب الكبرى بميزة عدم الوعد بالخلاص. إنه صوت في الليل، والانتقال الذي يوحي به يتقاطع مع كل الدروب لكنه لا يختلط بأي منها. إنه خروج الروح – الدياسبورا الخلاقة التي لا نتحسسها بعد كتَشَتُّت، بل كسطوة. إن المرء لا يتحد مع الشاعر؛ إنه يصبح بمفرده عند الاتصال به.
هناك أيضاً هذا الأمر، وهو أن الشعر ينقي اللغة ويسمح لها، على نحو ما، بأن تحفظ سر الكائن. والمحكوم عليه بالإعدام يعرف، غريزياً، أنه لو أمكن أن يحكي حكاية للجلاد، أي لو نجح في شد اهتمامه إلى سره، فلربما أمكن له إثارة قلقه أو إرخاء قبضة يده. ومن عالم "ألف ليلة وليلة" الغزير إلى قضية كارل تشيسمان، نعرف أن الكلام يملك أحياناً قوة إحباط الفعل ونزع سلاح الجلادين.
لا يجب أن نطري أنفسنا كثيراً على تقدماتنا التي لا تعدو أن تكون تقدمات سيمياء تعوزها النزعة الإنسانية.  ما الذي يقرأه الميكانيكيون من تبديات دوارانا؟ عن طيب خاطر يقرأون "كوميديات" بأكثر من قرائتهم "أزهار الشر". وعند اللزوم، لن يستنكفوا عن تحويل "أزهار الشر" إلى "كوميديا". وقياساً إلى مثقفي الرينيسانس، فإننا لسنا إلاَّ منحرفين ريفيين صغاراً. لقد كانت هناك رغبة في اقتسام المعرفة. وفي ختام الاقتسام، نكتشف أن ما ترتب عليه هو شراكة في الجهل، هو حلف كلام فارغ. وضد هذه السعادة التي تنحصر في تنازل متواصل للأسوأ، ما الذي يمكن للشعر عمله؟ لا شيء على ما يبدو؛ أو بالأحرى مع ذلك – إذلال المظاهر لحساب وحدة مستعادة.
سوف يكون المستقبل بحاجة إلى ميناء حر للذكاء. إن أناساً قادمين من كل حدب وصوب سوف يتولون هناك، على راحتهم، إدانة الفكر المكتسب اكتساباً مشبوهاً. وسوف تنبثق كلمات جديدة، في نفي شجاع للمنفعة. سوف يكون الشعر قوة أولئك الذين لا يتقاسمون شيئاً البتة من الحقائق الرائجة.
مارس 1960
ترجمة بشير السباعي





الرجل الضخم والسيدة الضئيلة

لا يتراجع الراديو تليفزيون الفرنسي أمام أية تضحية لكي يحول الوجبات العائلية إلى جلسات جياشة للتلقين الثقافي. إن برامج مصاغة بأكبر حرص على التفاصيل البيوجرافية سوف يتعين عليها السماح لكتاب أحياء بأن يقدموا للجمهور بعض أعلام الأدب الراحلين. فرانسواز ساجان سوف تقدم ستاندال، فرانسوا مورياك سوف يتكفل بشاتوبريان، وسوف يتكفل روجيه فايان بفلوبير، وسيمينون ببلزاك، وسيسيل سان- لوران بألكسندر دوما الأب. هكذا سوف يكون هناك ما يمكنه زيادة علم أناس لا يشغلهم إلاَّ التبقيق في حسائهم.
إن فرانسواز ساجان، التي اعتادت النظر إلى الأشياء من قمة قصرها في السويد، لا تخفي قلة إعجابها بعمل ستاندال. فهذا الرجل الضخم، عديم اللياقة في المجتمع، المنكب على وظائف قنصلية متواضعة، ليس مؤهلاً لإثارة حماسها بشكل زائد عن الحد. وهي تود بالفعل أن تهدي له ضربة التليفزيون، لكن ذلك سوف يكون ستربتيزاً رخواً. وإذ نسمعها تعبر عن نفسها، فإننا نتصور أنها تقاوم بصعوبة إغراء تصويره في صورة الكاتب الفاشل. فهي تعلن أنها تعتبر فابريس ديل دونجو كاوبوياً. وفي المنظور الحديث الذي هو منظورها، فإن هذه الكلمة تنطوي على كل ما تنطوي عليه المجاملة. أليس الكاوبوي هو الشكل الأسطوري لمدمري الأساطير؟ إنه أوديسا المتخلفين عقلياً الذين يصوغون عالماً دون ماض. وهو الفولكلور الذي يلوح بمسدسه لسلب السيدات الجميلات. ومن حيث الجوهر، فإن ما تفتقر إليه فرانسواز ساجان أكثر من سواه هو أن يتم اختطافها من قلب الجبل وأن يتم حملها، وهي ساخنة تماماً، إلى مغارة قطاع الطرق. وبالشكل نفسه الذي قد يحتاج به سارتر إلى عيد أنيق أو إلى حماقة ما من حماقات فينيسيا، فإن ساجان تكتب لكي تنسى ما لم يصلها قط.
تقول لنا ساجان أن ستاندال يضع شخصياته في كل اليسر الذي افتقر إليه. ويبدو أن هذا التعليق يشكل نقداً، لا نعرف تماماً استناداً إلى أي موجب. وفي حالة ساجان، بالمقابل، فإن الشخصيات يبدو أنها تتصرف كأشباه العملاء المزدوجين، إذ لا تخوض حياتها الخاصة إلاَّ لكي تستشير فجأة ساعتها وتنهي سردها لأن لديها موعداً مع الكاتب. إنها كائنات مستسلمة لأزمة الرغبة، مثلما هي مستسلمة لأزمة الحرية. وكان يجب أن تكون مصدر تبرمه. إذ ليست بسالتها الزائفة غير الاستسلام لحياة تنفشها تحديات صغيرة جد شبيهة بعلامات تعجب ماري – شانتال. والكاتب لا يملك ألواناً للخدود. إن الأدب المعاصر لم يعد له تقريباً من موضوع منذ تخلى عن الحلم. وعند ستاندال، هناك شيء واضح: ليست هناك أزمة في الرغبة. وهذا هو كل الفرق بين الرجل الضخم والسيدة الضئيلة. إن أحداً لن يقوى على تثبيط همة فابريس بأن يصرخ في وجهه: أو. كي. دونجو.
وبمعنى معين، لم يكن سيئاً اختيار فرانسواز ساجان لاستحضار ستاندال على شاشة التليفزيون المحمومة. إنها تجسد محنة حديثة بشكل خاص. فهي تنتمي إلى ذلك الصنف الذي لم يندحر لأنه لا يحارب، الذي يفهم لكنه لا يستوعب، الذي يستوعب أحياناً لكنه لا يتذكر، الذي يتكلم، أخيراً، خوفاً من اللغز. لقد كان بوسع ستاندال أن يتخذها خادمة غير وفية.

مارس 1960
ترجمة بشير السباعي






ابن عربي

هناك طريقة لفهم كاتب من الكتاب تتلخص في ترسم مسيرته الروحية. هكذا يتصور المرء أنه يخطو بكلمات "الآخر"، لكن المرء، سواءٌ أكان يلمس الأرض أم تزل به القدم، إنما يحتفظ مع ذلك الذي يترسم خطاه بعلاقة "عهد نزيه" سوف تبدو من الخارج حميمية وجد وثيقة في حين أنها تحمل في طياتها صدعاً غير مرئي، ومآلها، هو أيضاً، إنما هو مأساة الشريكين، هو التعاسة الختامية التي لا يعود معناها واحداً بالفعل بالنسبة لطرفيها. ففي الوقت الذي يتعين فيه توافر كابح في الوقت الأنسب – أي في لحظة الارتباط المختارة المثلى – تتواصل حركة الكائنات، أي يتواصل انزلاق الحقيقة الأبدي. إن نقطة ضوء على حافة الأفق قد تعني الفجر كما قد تعني الشفق سواءً بسواء. ولابد من القدرة على سلب زمن الآخر، لابد من اشتمال هذا الحرمان الفَرِح. لكن ذلك غير ممكن بالمرة. ولا مفر للمرء من الاكتفاء – عبر ذكاء أمثل أو عبر النشوة – بتقويم انحرافه هو، كما يفعل الطيارون في سمائهم النفعية. إن حج الضمير ليس اندراجاً في طريق يجري النظر إليه بوصفه نداء؛ إنه، في واقع الأمر، تجربة مختلفة اختلافاً يدعو إلى الأسى عن التجربة التي تؤدي إلى انفتاح هذا الطريق. ومازال يجري البحث، كما لو عن سر ضائع، عن ذلك الشيء الذي يفصل الشرق عن الغرب، وعندما نحسب كل ما يخص طابع كل منهما، سوف يبقى ذلك الفاصل الطبيعي الذي لا يكون أكثر إزعاجاً إلاَّ في لقاءات الحب والذي يحركنا كلنا في منظور غير إقليدي، يجد البعض عند أطرافه اليأس ويبتدع البعض الآخر المسرة.
من بين جميع الفلاسفة العرب، فإن محيي الدين ابن عربي، هو الذي يؤرق، الآن، الضمير الغربي، أعمق الأرق. فمنذ بضع سنوات، أدى مقتطفٌ قصيرٌ تُرجم ونُشر تحت عنوان "حلية الأبدال" (دار نشر شاكورناك، باريس) إلى إثارة الأذهان بما يفيض منه من نور غير عادي. ومنذ ذلك الحين، شهدنا ظهور عملين يتميزان بأهمية نادرة: "حكمة الأنبياء" (دار نشر آلبان ميشيل) لابن عربي، وفي ربيع 1958، دراسة الأستاذ هنري كوربان الرائعة، "الخيال الإبداعي في تصوف ابن عربي" (دار نشر فلاماريون). وحول هذا الكتاب الأخير، لدينا أخيراً، العمل رفيع المستوى لشارل دويت (الذي ظهر في عدد يناير 1960 من مجلة "كريتيك") والذي دون أن يهتم بالتأويل، يتجه مباشرة إلى المعرفة. إن ابن عربي، الذي عاش بين عامي 1165 و 1240، لم يهتم بتعاليم ابن رشد إلاَّ لكي يطور، بسرعة بالغة، ما يسميه كوربان بـ "استقلال"ـه "الروحي" هو. ولا مجال هنا للإحاطة بعمل ابن عربي، ولا بشخصيته. فالاثنان يتميزان على حد سواء بالتعقيد وبالشفافية، وبالعذوبة وبالحسم. وأقصى ما يمكننا هو السعي إلى بيان إلى أي مدى يعتبر ابن عربي حديثا، وأنه حديث، تحديدا، لأنه يمكث في الانفصال دون أن يفك، مع ذلك، الارتباط. وحول تيمة الاتحاد الصوفي هذه، يزيدنا ابن عربي علماً بهذه الكلمات المدهشة: "لا تبحث عني فيك، فسوف تكابد بلا طائل. لكن لا تبحث عني مع ذلك خارجك، فلن تصل إلى مرادك. لا تجهر بالبحث عني، فسوف تكون شقياً". والحال أن شارل دويت محق تماماً في تشديده على هذا الطابع المميز لميتافيزيقا ابن عربي وفي استنتاجه: "إن التمييز هو من ثم ضروري، وابن عربي، بعيداً عن أن يلغي المظهر، إنما يحتفظ به". إن الانفصال لا "يتعالى"، كما تزعم ذلك أخلاق التبجح الخالص؛ إنه ليس ذلك الاختزال للذات الذي يجب، من ثم، إيجاد عزاء له عبر إرهاب جماعي ما. إنه يطرح نفسه على الذكاء الذي يجعل منه مبدأه الخاص بإعادة البناء الممكنة في اتجاه الواحد، نوره لا حجابه.
إن تأملات ابن عربي الفلسفية ليست نظرية يحاكمها المرء باستسهال. إننا معتادون على حركية الأفكار وليس ذلك هو ما سوف يربكنا. لكن الأمر، عند ابن عربي، إنما يتعلق بشكل من أشكال الأسطورة المجسدة، هو شكل أسطورة إنسانية تنزاح، وبانزياحها المتواصل، تستولي على الروح وتجرها إلى اكتشاف ذلك الذي قد لا يُعطى لها أبداً. إن ابن عربي لا يتجاوز الفكرة. إنه يدفعها إلى الارتداد باتجاه الحياة التي هي عبارة عن تناقض، وحيث يملك الإنسان أيضاً حق اختيار الخطأ، - حق الامتناع عن إغاثة الروح المرشدة. إننا نؤيد شارل دويت إذ يسجل، على رأس بحثه، تلك الجملة لمفكر عربي آخر:
"أيتها الحقيقة، إننا لم نجدك،
ولهذا، برقصنا، نخبط الأرض"
أبريل 1960
ترجمة بشير السباعي





العدالة الإشعاعية

 

على مدار اثني عشر عاماً، ترقب كاريل تشيسمان موتاً كان لوقت طويل تصورياً قبل أن يصبح عضوياً، وهو نوع من الموت له فوائد مركبة ومتطلباته أكثر بما لا حدّ له من متطلبات الموت العادي، وقد مر، خلال فترة الحضانة الغريبة هذه، بجميع حالات التمرد الممكنة، دون أن يكف لحظة واحدة عن أن يكون وشيكاً ويقظاً. لقد سهر حارس العبث على حراسة هذا الرجل الذي حصنه سم بطيء ضد سم الأمل. ولابد من دفنه إلى جوار ضحية من ضحايا هيروشيما هؤلاء، الذين يواصلون الموت سهواً تقريباً، بإمهال لم يكن مسموحاً للحياة أن تقوم مقامه.

لم يتمنّ أحد موت كاريل تشيسمان. إلاَّ أن أحداً، بالمقابل، لم يؤازره في الصعود على مَدْرَج نيل العفو. وعند تقاطع هذين الرفضين، يحدث إعدام إنسان. وهذا يعني أن المواطن الحديث يختفي خلف تنظيم المدينة، مثلما يختفي المخترع خلف الآلات الذكية التي اخترعها والتي يمكنها سحق من تريد عن طريق مرورها. إن الشيء الذي يحظى بالاحترام والمراعاة اليوم ليس هو الفكر ولا الكائن الإنساني، بل ذلك الذي يشتغل، إنه كفالة دوران عجلة الأشياء.

وبين مدرجة الكريات والضمير، سوف تختار غالبية عظمى مدرجة الكريات. إننا نشهد انتقالاً عاماً للنفوذ يدفع المرء إلى أن يطيع بشكل طبيعي تماماً جهازاً يتعطل فجأة لكنه لا يطيع حكمة ذلك الفرد، الذي لا يملك، له، ضمانة ما يتصور أنه التقدم. ومن جهة أخرى، فليس هناك ما هو أسهل من اكتساب خبرته. إن السائق سوف يقبل التوقف أمام إشارة ضوء حمراء عاطلة وقتاً أطول بكثير من توقفه أمام شرطي يعطي أولوية المرور للسيارات القادمة من اتجاه آخر. وهذا الضوء الأحمر الذي نجده مراراً وتكراراً عند كل منعطفات الحياة الحديثة، وحتى في غرفة عذاب موت كاريل تشيسمان المحرقة، لا نعرف بعد جيداً بالفعل، لا سبب إضاءته ولا باسم أي شيء آخر ينطفئ. كما لا نعرف بالأخص "ما سوف يحدث" عندما يتوتر جهاز العدالة أو عندما تمارس تروس عجلة الاقتصاد فعل التقطيع في لحومنا، ولا عندما يؤدي ارتخاء المؤسسات المفاجئ إلى نشوء أزمات تنذر فيها الصواريخ بأن تنطلق من تلقاء نفسها. إن النظم التي نصوغها، إذ تنتج النشاط، إنما توقف فعل الإنسان وتؤول به إلى حياد مؤذ أمام الأشياء والأوامر والقوانين. هكذا يتساقط الإشعاع النووي والشلل الموقوت. وكما في ليلة هجر، فإن المرء ينكب على البحث عن أحد في الظلمة، على سؤال الفراغ، على الصراخ أملاً في العثور على رد.

من المفهوم أن الرد فينا. والعالم هو الذي يعاند في التجاوب معه. إن الأخلاق تجد نفسها في أجازة، بالرغم من أن أحداً لا يتولى تسريحها ورفتها. وحول هذه المسألة، يجب لكل منا أن يكون بالغ الوضوح. إن الأخلاق ليست ضرباً من ضروب الحنان والرقة، وهي لا تنطوي على التخلي عن العنف بأكثر مما على محبة الجار. فهذه العاطفية المبتذلة النادبة على غرار عاطفية لانثا ديل باستو إنما تعد جد رائجة بحيث إنه لا موجب لاشتهاء توسع جديد لها، إنها لاتنتشل الإنسان من وضعه كمحايد، بل تجعل منه نادباً محايداً، وهو ما لا يعد ارتقاءً بل اختزالاً.

كثيراً ما يتحدثون عن الحد الأدنى المعيشي. لكنهم لا يتحدثون البتة عن الحد الأدنى الأخلاقي. والحال أن من الواضح أن بوسع المرء أن يشبع مع مكوثه، مع ذلك، في الخزي والعار. ها هو ذا، أخيراً، العصب حياً. إن القرن العشرين إنما يتميز بنفور، لا يمكن كبته، من كل فكرة عن الشرف. ولسنا محتاجين إلى فهم أن الشيء المهم ليس هو الإبقاء على عقوبة الموت أو نسخها، بل هو الاتجاه صوب الموت في ظروف لا تكون مهينة للإنسان. إن الإنسان الذي لا يذعن للأشياء إنما يخرج من حياده ويشرع بالاختيار. وعند الحاجة، فإنه يختار خصمه، مثلما يختار القواعد التي يريد التمسك بها ومثلما يختار نوعية موته هو. إننا نبكي على ساعي البريد الذي عاقبته الإدارة ظلماً. لكننا، والحمد لله، لا نذرف دمعة واحدة على الطيارين الانتحاريين اليابانيين ولا على الفوضويين الإسبان الذين ألقوا بأنفسهم على فوهات المدافع وهم يهتفون: "عاش الموت"!. أولئك هم شرف عصرنا الاقتصادي.

مايو 1960

ترجمة بشير السباعي





آنياس، إنهم ينظرون إليكِ

عالمٌ برمته في حال تمثيل، كلنا رسلٌ ومبعوثون مطلقو الصلاحيات. عندما أرسل ملك الملوك فيلاً إلى لويس الرابع عشر، لم يكن هذا الإرسال ينطوي على أي دلالة أيديولوجية. لكن الحال مختلفة تماماً في أيامنا. إن مشاهير الخياطين وصانعي التحف الترفية، والفرق الرياضية، ومعارض أدوات المائدة، تنتقل من عاصمة إلى أخرى، ليس لمجرد بيان ما يمكن للمرء إنجازه في هذه المجالات المختلفة، وإنما أيضاً لكي تكون ضروباً من إعلانات المبادئ المتجولة. إن طرازاً جديداً من الثلاجات إنما يصبح أداةً للإقناع. سوق يقال إننا يجب أن نهنيء أنفسنا على هذا المثال من أمثلة التنافس السلمي. نعم، ولكن ما الذي يمكن أن يحدث حين تكفُّ الأداة عن الإقناع؟ لا بد، مرةً أخرى، من تحويل مصانع الثلاجات إلى مصانع للأسلحة.
على المستوى الفردي، يشارك البشر أيضاً في هذا الهياج الذي يؤدي إلى التشوّه. ففي كلّ مكان، جرى إلغاء المرايا وإحلال كاميرات التصوير محلها. إن مجهولين يصورون مجهولين، على مدى البصر، في الشارع وفي المطعم وعند الخروج من المسرح وفي محطات الطيران. وتجري دراسة الإنسان السوفييتي باهتمامٍ خاص. إنهم يأخذون مقاساته كما لو كانوا سيرسلونها إلى الخياط. ثم يرصدون أن المذهب الذي أفرز هذا الإنسان إنما يتبلور في سمات شخصية وفي أنماط الكلام والتعبير. وإذا كان إنسان غير مسجل بعد، فمن المناسب أن توضح كل عينة إنسانية معزولة في المختبر أفضل ما فيها للصانع.
أتذكر نصاً قصيراً، لكنه آسر، لأرسكين كالدويل، عنوانه "آنياس، إنهم ينظرون إليكِ". هناك نجد فتاة اسمها آنياس تركت نفسها، دون حرص، لمسرات الجسد، وبعد المغامرات المؤلمة التي تنتظر الفتيات العابثات، ترجع إلى أسرتها. وهناك تستفيد من تسامحٍ يتميز بالرياء، إلاَّ أنه، خلال تناول الوجبات، تتركز كل الأعين عليها كما لو أن وجودها ينطوي على شهادةٍ حاسمةٍ (ضدها). إنهم، إذ ينظرون إلى آنياس، إنما ينظرون إلى الخطيئة. وهكذا يجري اختزال شخصها برمته بحيث ينحصر في هذا المعنى الذي تمليه النظرة.
نحن، بطريقتنا، أشبه ما نكون بهذه البائسة. إنهم يراقبون فينا شيئاً ليس هو نحن، وهذا الشيء نرتضي تمثيله. وعملية الاندراج هذه عن طريق التمثل غير المباشر ذي المقولات الضرورية، إنما تنتهي إلى ممارسة فعلها بشكلٍ تلقائي. وعند الضرورة – ولكي نتجنب التورط في تمرداتٍ فادحة الثمن – فإننا نتصنع ما يزعمون رصده فينا. ربما كانت تقنيات تصريف الطاقة المكبوتة تستمدُّ مبرراً من لاوعينا. لكن ضرورات أخرى قد حتمت تكوين زنازين بشرية حقيقية. ونحن نملك، أحياناً، أن نختار بين الاختفاء فيها من تلقاء أنفسنا بالكامل، أو أن لا نترك فيها غير شخصيتنا. وهذا هو السبب في أننا مجبولون على الابتسام عندما يدور حديث عن السعادة من جراء اجتماع أناس بسطاء من جميع البلدان لكي يسووا، في حوارٍ صريحٍ ووديّ، المشكلات التي تمزق العالم. ومن المفهوم أن الناس البسطاء سوف يبذلون أقصى مالديهم من جهد لكي يتخيلوا الموقف الذي يمكن لسادتهم اتخاذه في حالٍ كهذه، وأنهم سوف يسايرونه بحذافيره. فما دام الإنسان البسيط ليس غير نتاج فرعي للإنسان المركب، فمن واجبه الرجوع دوماً إلى هذا الأخير. وإذا وضعنا أربعة كتاب أو أربعة باعة في المحال التجارية أو أربعة من سائقي القطارات في موضع أربعة من السادة في مؤتمر للقمة، فإن مشكلات العالم لن تحل مع ذلك. فكلّ واحد من هؤلاء الجلساء المتفاوضين، ذوي الجدارة بهذه الدرجة أو تلك، سوف ينظر إلى الثلاثة الآخرين نظرة أفراد عائلة محترمة إلى آنياس.

مايو 1960
ترجمة بشير السباعي




حالية العام ألف [ نهاية العالم ]

مآل كلمات معينة هو مفتاح لفهم عدد من الظواهر المزعجة. ففي جزء بأكمله من العالم، أصبحت كلمة النقد الذاتي ذات استخدام شائع. وهذه الكلمة تزعم أن تتمتها هي كلمة أخرى، لكنها، في الواقع، إنما تأخذ مكانها. فالنقد الذاتي يحل محل النقد. وضمور هذا الأخير هو شرط نجاح البديل الذي يحل محله. والحال أن الشكل الغريب لذلك النشاط الذي يعرف نفسه بهذا اللفظ إنما يهم، بدرجات مختلفة، الأدب وسيكولوجية السلوك. إنه يحقق مزيجاً جذاباً: هو مزيج الروح المسيحية للعام ألف مع التعبئة الحديثة للضمائر.
إن العام ألف هو فترة إرهابات عظمى مجهولة الاسم. فالإنسان يدع نفسه أسيراً لهاجس تهديد غير مرئي وهو يقنع نفسه بأن مرسوماً مبهماً بالدمار الشامل هو على وشك الصدور، ووضعه محزن بحيث إنه يعتبر نفسه بشكل عفوي مذنباً باقتراف نوع من الجرم العمومي وغير المحدد، يتوجب السعي إلى الإجابة عنه قبل أن تنهار داره. والمسألة ليست مسألة حكم على جاره. فهذا الأخير جد منشغل بالفعل بصوغ تفاصيل ذنبه الخاص. بل هي مسألة الانتماء إلى الذنب، والذي يطرح نفسه فجأة وبشكل مفارق، في عالم مغلق، بوصفه إمكانية الخلاص، فالمرء إذ يضفي على الذنب طابعاً شخصياً، إنما يمنحه محيطاً وبيتاً وسقفاً. ولا يعود الشر هو ذلك الجساس الذي تحول خطواته دون مجيء النعاس. فالمرء يبدأ بأن يكون انعكاساً له. وفي لحظة معينة، يتعرف عليه المرء بوصفه قريباً له. إنه لا يعود غريباً. وهكذا يمكن للمرء أخيراً أن ينام قليلاً.
والعام ألف له سائطوه وزاعقوه. لا صحافة ولا إذاعة. بشر يقرأون نهاية العالم في ندوبهم هم؛ يتجولون في الأرياف طالبين من كل واحد أن يتهيأ للمحنة العظمى. وزماننا يعرف أيضاً المتاعب والمحنة والخطوات الجساسة في الليل. وقد ظهرت أنظمة تريد تحويل اتجاه المتاعب والتغلب على المحنة. وفي سعيها إلى خلق تضامن، فإنها تستخدم سهاد الضمير، الأكثر إيغالاً في القدم، وتدشن من جديد شوط الذنب. ليست تلك هي نهاية العالم، والجميع يعرف ذلك. إنها مجرد الحساب قبل الأخير، لكن هذا المنظور أمام الضمائر التي فقدت قدسيتها إنما يكفي لدفع الفرد إلى الانقلاب على نفسه. والحال أن ذلك إنما يتم، من جهة أخرى، بقدر كبير من اليسر، وذلك بقدر ما أن قرناً من السيكولوجية الربوية شايلوكية الطراز قد سمح للكائن الإنساني بأن يقطع نفسه شرائح رقيقة، وبأن يغربل ذاته، وبأن يحلل ما لم يقترفه بقدر من الصرامة أكبر بكثير من صرامة تحليله لأفعاله الفعلية، وبكلمة واحدة، بأن يتدرب تحسباً لجلسة تعرية سوف يفصح فيها هو نفسه عما هو أهل له، مستبقاً بذلك التحليل الذي سوف يجري له من الخارج. والحق أن عين مبدأ إمعان النظر في الذات إنما يعد هنا فاسداً فساداً جليلاً. لأن النقد الذاتي، منذ البداية، لا يمكن الاضطلاع به إلا بشرط اعتبار المرء نفسه مذنباً، مادام المرء لا يتعرف على براءته الخاصة. وهذه البراءة، لا تسمح لنفسها بتأكيد نفسها، لأن المرء إذا كان بريئاً، فما ذلك إلاَّ لأن أحداً آخر مذنب، وهو مالم يجر إعداد المرء لإثباته وللتدليل عليه. ولكي نتوقف عن ممارسة  النقد الذاتي، يجب أن نمارس النقد، لا أكثر.
حول هذا الموضوع الذي لا ينفد، من المهم أن نقرأ – أو أن نعيد قراءة – " القضية" لكافكا، و"الصفر واللانهائي" لكيستلر و"الاستبيان" لإرنست فون سالومون. فبالرغم من الكآبة التي ترسمها هذه الكتب لصورة عصرنا، إلاَّ أنها تسمح، مع ذلك، بأمل طائش. إذ يوجد دائماً شخص ما مهمته توضيح تقنيات الإيحاء المرضية – تمزيق سحرها القاتل. ولابد أيضاً من الزعم بأن أسطورة النقد الذاتي الضالة إنما تمثل تحية غير مباشرة ومنحرفة مُقَدَّمة إلى هيبة النقد الحقيقي. ولأن المرء لا يمكنه وقف فعل الذكاء، فإنه يجتهد في تحويل اتجاه مساره ويحرضه على إغراق نفسه. والحال أن مشروع العام ألف هذا الموحى به لا يملك فرصاً كثيرة للنجاح. إن الغرق لن يحدث.
مايو 1960
ترجمة بشير السباعي

0 التعليقات: