كيف تنبأ تروتسكي ببلقنة أوروبا



نيكولا بونال(1)
كيف تنبأ تروتسكي ببلقنة أوروبا
ترجمة: بشير السباعي

ذات مرة، قال ماركس، في عبارة شهيرة، أن التاريخ يمكن أن يكرِّر نفسه على شكل مهزلة. غير أن التاريخ يمكنه أيضًا أن يتحمل قليلاً! ويمكن للأقلية الأكثر ذكاءً أن يُحكم عليها بأن تكابد إلى ما لا نهاية قسوة الزمن الغبية!
انظروا في خضوع أوروبا لأميركا. لقد بدأ في عام 1919، مع معاهدة فرساي، التي رسمت مستقبلنا الأوطى. فمنذ هذا التاريخ الأساسي، رَضَخنا في أوروبا الغربية للإرادة الأميركية.
في يوليو/ تموز 1924، يلقي تروتسكي، وهو آنذاك في قمة مشواره، خطابًا رائعًا عن "آفاق التطور العالمي" وخضوع أوروبا، منقسمةً آنذاك ومدينةً ومُفْقَرَة، لرأس المال الأميركي.
نحن ساعتها في زمن خطة دوز(2)، عندما كان سابقو جولدمان ساكس(3) يملون (بالفعل) إرادتهم الكالحة على ألمانيا طالها الخراب وعلى فرنسا بائسة؛ وبما أن تروتسكي كان قد تنبأ بالقيود التي فرضتها الديكتاتورية البيروقراطية الأوروبية على نفسها، فإنه يصف الوضع على النحو التالي:
"الرأسمالية الأميركية تُصدر الآن أوامرَ، مُصْدِرَةً تعليمات إلى ديبلوماسييها. وبالشكل نفسه بالضبط، تُعِدُّ ، وهي مستعدة لإصدارِ، تعليمات إلى البنوك والتروستات الأوروبية، إلى البورجوازية الأوروبية ككل... هذا هو هدفها. إنها سوف تُقَسِّمُ حصص الأسواق؛ سوف تتحكم في نشاط الماليين والصناعيين الأوروبيين. وإذا رغبنا في تقديم إجابة واضحة ومحدَّدة عن سؤال ما الذي تريده الإمبريالية الأميركية، فلا بد من أن نقول: إنها تريد إخضاع أوروبا الرأسمالية لنظام الجراية".
ويشدِّد تروتسكي على الحقائق التالية: إن أوروبا قوةٌ آفلة، بلا إرادة (ستكون النازية آخر ثورة مضادة مُمَوَّلة، الثورة المضادة الأكثر عدمية بين كل الثورات المضادة)، مدينة بشكلٍ عميق وكل واحد مدين لكل واحد ببعض المال. والرأسمالية الألمانية لا تزال جد عدوانية (التجارة الألمانية أثقلت دومًا كاهل أوروبا)، وأوروبا خاضعة للإرادة الأميركية: إنها مُبَلْقَنَة:
"هذا يعني أنها سوف تُحَدِّدُ كم طنًّا ولترًا وكيلوجرامًا وما المواد التي يحق لأوروبا شراؤها وبيعها. وقد كتبنا في أطروحات المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن أن أوروبا تجري بَلْقَنَتُها. وهذا الاتجاه يجري تعزيزه أكثر... إن أوروبا المُبَلْقَنَة إنما تجد نفسها في وضعٍ واحدٍ حيال الولايات المتحدة و، جزئيًّا، حيال بريطانيا العظمى".
عندئذٍ نفهم الدوافع العميقة لحروب كوسوفا وتدمير صربيا، الدولة الحرة الأخيرة في أوروبا. لقد مَكَّنَت النيتو، هذا المُصَمِّمُ للوحدة الأوروبية الزائفة، من إضعاف أوروبا الشرقية وروسيا ثم من الإخضاع الكامل للهياكلِ الجبانةِ للأمم الباقية والآخذة بالتحلل لإرادته. ويضيف تروتسكي أن المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن كان قد أشار بالفعل إلى أن أوروبا كانت تجري بلقَنَتُها.
ذات مرة، زعم الجنرال ديجول أن روسيا الشيوعية قد خانت جنسها. إلاَّ أنه بالنسبة لتروتسكي، في عام 1924، فإن أميركا وبَنْكِيِّي وول ستريت، المحاطين بالمملكة الحيوانية للإنسانيين الطرطوفيين [النصابين]، هم الذين يخونون مصالح العشائر البيضاء، وبينها العشيرة البريطانية!
"إن أميركا، وقد بدأت الحربَ مع إنجلترا، سوف تدعو مئات الملايين من الهنود إلى أن يهبُّوا دفاعًا عن حقوقهم القومية الثابتة. الدعوات نفسها سوف يتم توجيهها إلى مصر وآيرلنده – ليس هناك نقصًا في من يمكن دعوتهم إلى تحرير أنفسهم من نير الرأسمالية الإنجليزية. وكما أن أميركا لكي تسحب سائل الحياة من أوروبا تتصدرُ المسرح مستترةً برداء حب السلم، فإنها في الحرب مع إنجلترا سوف تتصدر المسرح في صورة المحرر العظيم للشعوب الكولونيالية".
هذا هو كيف ولماذا، اليوم، تُنتِجُ هذه البزنسات والوكالات حربًا ليبية (وقتلَ قائدٍ من دون إجراءات قانونية، واغتيالَ سفراءٍ... لا أحد يوقفُ غبيًّا!) وحربًا أهلية سورية، واستبدادًا ديموقراطيًّا في مصر! لكن هذا هو العالم الجديد القادم، كما حلمت به مجلة الإيكونومست! مُولٌ عالميٌّ فوضويٌّ يدير ويغطي كوكبًا مٌقَزِّزًا كان أزرق!
ثم يعرض تروتسكي المصالح الخفية للكوندومنيوم الإنجليزي – الأميركي، وهو يتنبأ بالواقع الإمبراطوري للعالم الناطق بالإنجليزية اليوم الذي يديره الغيلان ونظام إشيلون الجاسوسي(4):
"إذا كانت الولايات المتحدة، في الوقت الحاضر، تربط كندا وأستراليا بها عبر شعار الدفاع عن الجنس الأبيض ضد الجنس الأصفر – وتبرر بهذا الشكل حقها في التفوق البحري – ففي المرحلة القادمة، التي قد تأتي عاجلاً جدًّا، قد يعلن هؤلاء الكهنوتيون أصحاب الفضيلة أن الشعوب صفراء البشرة هي، في التحليل الأخير، مخلوقةٌ أيضًا على صورة الرب وترتيبًا على ذلك فإن لها الحق في أن تستبدل بحكم إنجلترا الكولونيالي سيطرةَ أميركا الاقتصادية".
والمال بالطبع لا لون له ولا رائحة. وقد جرى منذ ذلك الحين نقل كل شيء من أوروبا أو أميركا إلى الصين لتحقيق الأماني التي تخامر السادة! هناك ثلاثون ألفًا من ذوي الياقات البيضاء يعملون لحساب شركة آبل في الصين! فأميركا، بفضل نظامها التعليمي، لا يمكن أن تزوِّد بهذه القوة العاملة ستيف جوبز (الذي شرح هذه الحقيقة الكالحة لأوباما، انظر السيرة التي كتبها إيزاكسون).
أخيرًا وليس آخرًا: وفقًا لتروتسكي، المحق تمامًا، فإن أفضل حلفاء المصالح الأميركية هم الاشتراكيون – الديموقراطيون واليسار في أوروبا، المصاب تقليديًّا برُهاب روسيا؛ وبما أن الاشتراكية – الديموقراطية كانت قد باعت بالفعل روحها للرأسمالية:
"لو تذكرنا – والأمر لا يكاد يحتاج إلى تذكر – أن الاشتراكية–الديموقراطية هي وكيل البورجوازية، فسوف يصبح واضحًا أن الاشتراكية-الديموقراطية، بحكم منطق انحطاطها السياسي، مآلها أن تصبح وكيل البورجوازية الأقوى والأشد جبروتًا، بورجوازية البورجوازيات. إنها البورجوازية الأميركية، بقدر ما أن الرأسمالية الأميركية تضطلع بمهمة "توحيد" أوروبا و"تحقيق سلم" أوروبا و"تعليم" أوروبا كيف تواجه مسائل التعويضات والتعويضات عن خسائر الحرب، وهلم جرًّا...".
وقد تم اليوم تعليمنا وتحقيق سلمنا بفضل ديوننا ومؤتمراتنا التي لا حصر لها حول السلم في سوريا وآثار الاحتباس الحراري في نيبال و الديموقراطية الشكلية في المجر أو حقوق الكس في روسيا! شكرًا، عزيزي ليف دافيدوفيتش، على توضيحك وضعنا المهين! أتركُ لك اختتام هذا الخطاب الرائع بحيوية وإتقان: "إن الحقيقة المستقرة الوحيدة في أوروبا الآن هي البطالة!".
مازلنا في يوليو/ تموز 1924!

إشارات
(1)    نيكولا بونال: كاتبٌ فرنسي وُلد في عام 1960 في تونس العاصمة.
(2)    تشارلز جيتس دوز: بنكيّ وسياسيّ أميركي، وُلد في عام 1865 ومات في عام 1951، وهو واضع خطة تعويضات الحرب العالمية الأولى.
(3)    جولدمان ساكس: بنكٌ استثماريّ أميركي متعدد الجنسيات، مارس تلاعبات خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
(4)    نظام إشيلون الجاسوسيّ: نظامٌ معروف في الفضاء الإلكتروني.

0 التعليقات: