ماركس ودستويفسكي







بشير السباعي


على الرغم من أننا لن نعثر لدى ماركس على إشارة واحدة إلى دستويفسكي وعلى الرغم من احتمال ألا نجد عند الأخير إشارة واحدة إلى الأول، فإن من الطبيعي أن نتوقع مساحة ما – بل مساحات عديدة – يتحركان عليها، كلٌ بالشكل الذي يراه مناسبًا.

والمساحة التي يتحدث عنها ألبرتو مورافيا في مقالته "المبارزة بين ماركس ودستويفسكي" ("إبداع"، ديسمبر 1919) هي مساحة "الأخلاق" من حيث شاغل فلسفي محوري. أما حركة كل من ماركس ودستويفسكي على هذه المساحة فهي، في رأي مورافيا، حركة متنافرة. فالاتجاه الذي يسير فيه ماركس هو عكس الاتجاه الذي يسير فيه دستويفسكي. وما ذلك إلا لأن نقطة انطلاق الأول ليست نقطة انطلاق الأخير.

كيف؟

نحن نعرف أن ماركس يرد الأخلاق إلى شروط إنسانية تاريخية ملموسة، وهو، بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون مسيحيًّا، خلافًا لدستويفسكي، الذي يعتبر الأوامر الأخلاقية سرمدية ومنفصلة عن الشروط التاريخية للحياة الإنسانية، فهي أوامر إلزامية أيًّا كانت هذه الشروط. إن دستويفسكي يمكن في - مجال الأخلاق – أن يكون كانطيًّا، وهو ما لا يمكن أن يكونه ماركس.

وإذا انتقلنا من مستوى الأخلاق الفلسفي العام إلى مستوى خاص محدد كمستوى "الشر"، فسوف نجد أن ماركس يرد الشر، أساسًا، إلى الشروط الإنسانية التي يحيا فيها البشر وأن التخلص من الشر يتوقف أساسًا على التخلص من تلك الشروط. فهل يرى المسيحي دستويفسكي رأيًا آخر؟

يزعم مورافيا أن دستويفسكي كان يعتبر الشر حقيقة متأصلة في قلب كل إنسان، ومن ثم فإن من المستحيل التخلص من الشر في هذا العالم. فالتخلص من الشر لا يمكن أن يتحقق إلا بوصول الخلاص المسيحي إلى غايته، أي بعد أن نفارق هذا العالم: إن " الأخوَّة الحقيقية" مستحيلة في هذا العالم.

هنا بالتحديد يتمثل افتراء مورافيا على دستويفسكي. فالأديب الروسي الكبير الذي كتب رواية "الأبله" كان يرى أن "الأخوة الحقيقية" بين البشر هدف يجب السعي إلى تحقيقه في هذا العالم، لأنه هدف ممكن. وبعبارة أخرى، إن الشر ليس حقيقة متأصلة في قلب كل إنسان! وأيًّا كان الافتراق بين ماركس ودستويفسكي فيما يتعلق بسبل تحقيق هذه "الأخوة الحقيقية" بين البشر، فإن كلاًّ من الرجلين لم يتنكر لهدف تحقيقها في هذا العالم.

وبعد الافتراء على دستويفسكي يجيء الافتراء على ماركس. فأخلاق ماركس – وفق مورافيا – هي الأخلاق عينها التي قادت راسكولنيكوف (الشخصية الرئيسية في رواية دستويفسكي: "الجريمة والعقاب") إلى ارتكاب جريمته.

ودون أن نتوقف عند مقارنات مورافيا السخيفة بين دعوة ماركس إلى مصادرة البورجوازية وقتل راسكولنيكوف للمرابية العجوز، نتوقف أمام السؤال التالي:

ما الأخلاق التي قادت إلى تلك الجريمة؟ لن نجد صعوبة في إدراك كنهها إذا ما تتبعنا رؤى راسكولنيكوف عن "الإنسان غير العادي" و"الناس العاديين"، وبالمناسبة، فإن هذه الرؤى قد تشكلت تحت تأثير كتاب نابوليون الثالث (1808 – 1873) "تاريخ يوليوس قيصر" (1865) والذي أثار نقاشًا حادًّا بين صفوف المثقفين الروس فور صدوره. وليس من المصادفات أن أحداث "الجريمة والعقاب" تدور في عام 1865، كما ذكر ذلك دستويفسكي، وهو العام نفسه الذي صدر فيه كتاب إمبراطور فرنسا.

إن أخلاق راسكولنيكوف هي، باختصار، أخلاق تأكيد الصوت الخاص "غير العادي" على حساب أصوات الآخرين "العاديين"، بل وعلى حساب أرواحهم.

ويقدم راسكولنيكوف نفسه لنا نموذجًا لهذا الصوت "غير العادي"، هو صوت نابوليون بونابرت (1769 – 1821). فهذا الأخير "يدمر طولون ويرتكب مذبحة في باريس وينسى الجيش في مصر". وهذه الأحداث كلها، كما نعرف، ليست على مستوى أخلاقي واحد من الزاوية التاريخية، ولا حتى من زاوية وعي بونابرت نفسه، خلال كل حدث منها، بدلالاتها. فالهجوم على طولون في ليل 17 ديسمبر 1793 والذي تكلل بالانتصار في مساء اليوم التالي، كان مأثرة ثورية انتهت بتمريغ علم البوربون الملكي في الوحل وإنقاذ الثورة من تهديد جسيم. أما المذبحة التي ارتكبت في باريس في 13 أكتوبر 1795، فهي إن كانت قد أدت إلى الإجهاز على عصيان الملكيين، الذي شجع عليه التحول إلى اليمين بعد انقلاب 9 ثيرميدور على اليعاقبة، إلا أنها أفسحت السبيل أمام تشجيع الميول البونابرتية. وأمّا نسيان الجيش في مصر في عام 1799 فهو لم يكن إلا بهدف احتكار السطة في باريس.

إن ما يعجب راسكولنيكوف في بونابرت ليس أيًّا من هذه الأدوار المختلفة التي لعبها الأخير، بل بالتحديد، عزم بونابرت على تأكيد الصوت الخاص "غير العادي" على حساب الأصوات الأخرى. ويتذكر راسكولنيكوف أن بونابرت لم ينس الجيش في مصر وحسب، بل أنه بدد أرواح مئات الآلاف من الناس في الحملة على موسكو!

فما الذي يجمع بين هذه الأخلاق والأخلاق الماركسية؟ لاشيء، لاشيء البتة!

إننا لسنا بحاجة للتشديد أكثر من اللازم على ما يعرفه كل مثقف نزيه: إن الأخلاق الماركسية لا تعترف بإهدار أصوات الآخرين "العاديين" لحساب الصوت الفريد "غير العادي". ومن السخف أن يتصور المرء أن ماركس قد تثقف على يدي الإمبراطور الذي كتب سيرة يوليوس قيصر!

وإذا كان ماركس ليس تلميذًا للويس بونابرت، فمن السخف بالمثل اعتباره أستاذًا ليوسف ستالين الذي هو بالمناسبة، بونابرت آخر!

يزعم مورافيا أن الشر الذي اندفع كالسيل من باب الستالينية قد دخل أولاً من نافذة الماركسية: نحن إذًا أمام تعبير جديد عن زعم عتيق: لقد انبثقت الستالينية من الماركسية!

أين الدليل؟ ما من دليل. اللهم إلاَّ إذا اعتبرنا الثيرميدور الستاليني إنجازًا لمُثِل ثورة أكتوبر!

لكن الثيرميدور الستاليني هو، بحكم التعريف، حافر قبر تلك الثورة: إن "انبثاق" الستالينية من الماركسية هو انبثاق النفي لا الإثبات.

وبهذا المعنى، يصبح كبت ستالين لإبداع دستويفسكي أمرًا مفهومًا: إنه جزر من كبت الماركسية والثورة، على الرغم من أن إبداع دستويفسكي والماركسية والثورة ليست شيئًا واحدًا.

والأمر كذلك لأن كبت إبداع ديستويفسكي ليس أكثر من تكريس للفقر الروحي. فإثراء الروح يحتاج إلى هذا الإبداع. وعلى الأقل، كان هذا هو رأي تروتسكي – الماركسي الذي اغتيل على يد عميل ستاليني:

"إن ما سوف ينهله العامل من ... دستويفسكي سوف يكون فكرة أكثر تركيبًا عن الشخصية الإنسانية، عن عواطفها ومشاعرها، فهمًا أعمق وأبعد غورًا لقواها النفسية ولدور الوعي الباطن، إلخ. في التحليل الأخير، سوف يصبح العامل أكثر ثراء".

وبالمناسبة، فقد كُتب هذا الكلام في عام 1923، عام تفجر النزاع بين الماركسية والستالينية!

مجلة "الثقافة الجديدة"، القاهرة، مارس 1992.

السوريالية مرة أخرى

بشير السباعي

من المؤسف أن ما اعتبره سمير غريب ... ردًا ... على ملاحظاتي النقدية على كتابه "السيريالية في مصر" والتي نشرتها هذه المجلة في عدد يونيو الماضي – لم يشكل مساهمة إيجابية في إثراء الحوار حول واحدة من أهم الظواهر الثقافية في فترة ما بين الحربين العالميتين، تلك الفترة التي سميت... عصر السوريالية.

وأود أن أسجل أن سمير غريب قد تورط في سوء فهم لست مسئولاً عنه. فأنا لم أتهمه بتزوير التاريخ بل وجهت هذا الاتهام بشكل محدد إلى "تلاميذ المرحوم هنري كورييل ومن يمشون في ركابهم عن علم أو عن جهل". ولا أعتقد أن سمير غريب واحد من هؤلاء التلاميذ.

أمَّا هو فقد اتهمته بالكسل وبالتسرع وبنسيان عدد من الحقائق التاريخية المهمة وبالتخبط. وقد ضاعف "الرد" من تمسكي بهذه الاتهامات!

السورياليون المصريون والسوريالية التاريخية

يرتبط تاريخ الحركة السوريالية المصرية ارتباطًا وثيقًا باسم الشاعر والناقد الكبير جورج حنين (1914-1973). ويذكر موريس نادو أن انتماء جورج حنين إلى التجمع السوريالي الذي قاده أندريه بريتون (1896-1966) يعود إلى عام 1936. وقد استمر ارتباط جورج حنين بهذا التجمع حتى عام 1948. وطوال تلك الفترة، كان هذا التجمع هو مصدر إلهام السورياليين المصريين. ومن هذه الزاوية، فإن النظر في مواقف هذا التجمع لا يمكن اعتباره مهمة تالية لمهمة الكتابة عن الحركة السوريالية المصرية كما يتصور سمير غريب، بل هو مهمة تفترضها مثل هذه الكتابة إذا كانت تريد التوصل إلى استنتاجات يمكن الركون إليها.

وقد تشكلت الحركة السوريالية المصرية في الوقت الذي كان فيه التجمع السوريالي الباريسي يمر بأزمة حادة فشل خلالها هذا التجمع في حلها عن طريق ارتباط سياسي بالماركسية الثورية وأخذ يتوحد أكثر فأكثر مع رؤى الاشتراكية الرومانتيكية [شارل فورييه (1772-1837)] والفوضوية التي لم تتوقف الحركة السوريالية عن رؤية نفسها في "مرآتها السوداء" كما ذكر بريتون نفسه.

والحال أن كتابات السورياليين المصريين خلال الفترة الممتدة من عام 1939 إلى عام 1948 تكشف عن مثل هذا التوحد. وقد دعا جورج حنين في كراس "هيبة الرعب" الصادر في القاهرة باللغة الفرنسية في عام 1945، إلى "سباحة في تيارات اليوتوبيا الزكية" وإلى "الإعلاء من شأن الأوهام المستحيلة".

ويذكر هنري بيهار وميشيل كاراسو أن "الدعوة إلى تأسيس أسطورة جديدة، والتي كانت ماثلة على الدوام في السوريالية، قد أصبحت أكثر إلحاحًا بعد عام 1939"، أي بعد نشوب الحرب العالمية الثانية. وطبيعي أن دعوة كهذه كان من المستحيل أن تساعد على حل أزمة الحركة السوريالية أو على حدوث تقارب سياسي ذي شأن مع التروتسكية.


السوريالية والسياسة

لم أزعم قط أن السوريالية "تنظيم سياسي" ولم أعتبر التجمع الذي التف حول أندريه بريتون "تنظيمًا سياسيًّا". ولا أدري كيف استنتج سمير غريب أنني قد زعمت زعمًا كهذا، خاصة وأنني قد أعددت برنامجًا عن جورج حنين أذاعه "البرنامج الثاني" بالإذاعة المصرية في 30 يونيو 1987 ذكرت فيه أن جورج حنين لم يرتبط بأي تنظيم سياسي، في مصر أو في فرنسا، وهو ما يعني ضمنيًّا أن التجمع السوريالي الباريسي الذي ارتبط به لم يكن تنظيمًا سياسيًّا.

وعلى الرغم من ذلك، فإن واقع أن السوريالية "ليست تنظيمًا سياسيًّا"، ليس من شأنه أن يجعل السوريالية بلا فكر سياسي أو بلا مواقف سياسية يمكن أن تقارن مع المواقف السياسية لتيارات أخرى كما فعلت في ملاحظاتي النقدية الموجزة.

لقد ذكر أندريه بريتون في "بيان السوريالية الثاني" (1930) أن المشكلة التي تتصدى السوريالية لحلها هي مشكلة التعبير الإنساني بكافة صوره وأن مشكلة الفعل الاجتماعي تعد إحدى صور هذه المشكلة الأكثر عمومية.

والحال أن سمير غريب لم يرصد في "الرد" المبدأ الرئيسي للسوريالية رصدًا صحيحًا. فهذا المبدأ ليس هو "حرية الفنان.." كما يزعم بل هو "حرية الإنسان" المفهومة فهمًا فوضويًّا.

ومنذ عام 1929، رصد الناقد والفيلسوف الألماني الكبير فالتر بنيامين (1892-1940) هذا المبدأ وتحدث بنبرة احتفاء عن إحياء السورياليين مفهوم الفوضويين عن الحرية وامتدح "عدمية" أندريه بريتون "الثورية".

ويشير الناقد المعروف روجر شاتوك إلى أن "السورياليين قد شكلوا أول تجمع مهم للفنانين منذ الرومانتيكيين يحاول ممارسة الفعل السياسي من أجل تحسين المجتمع ..".

وبالإضافة إلى المواقف السياسية التي أشرت إليها في ملاحظاتي على كتاب سمير غريب يمكن الإشارة إلى تقارب بريتون مع الاتحاد الفوضوي الفرنسي وتعاون السورياليين الفرنسيين مع صحيفة "لو ليبيرتير"، لسان حال الاتحاد الفوضوي الفرنسي، من أكتوبر 1951 إلى يناير 1953 وتأييد مجلة "لارشيبرا" لانتفاضة مايو 1968 في فرنسا، إلخ.

وإنها لسذاجة مفرطة أن يتصور سمير غريب أن السوريالية مجرد اتجاه فني وأدبي. ومن السذاجة الأفدح أن يتصور أنها لم تنشئ تنظيمًا سياسيًّا لهذا السبب.

لقد اعتبرت السوريالية نفسها مشروعًا لتغيير العالم ومزجت مشكلة الفن بمشكلة الوجود الإنساني. أما عزوفها عن إنشاء تنظيم سياسي – رغم انخراطها في السياسة فكرًا وفعلاً – فقد نشأ عن خوفها من طغيان الوسائل، وهو خوف تفسره أسباب فلسفية وتاريخية في آن واحد. وقد عبر جورج حنين عن هذا الخوف منذ وقت مبكر حين قال: "إن الأطر التنظيمية للسعي الإنساني، وكل ما يجرنا إلى اختزال الواقعي أوالمتصور، يقرر، حين ينجح، اختزالنا نحن. أما الإنسان المتفجر فهو وحده الذي لا يمكننا اختزاله إلى شحنته الأصلية". فهل فَهِمَ سمير غريب شيئًا!

بريتون – تروتسكي

يشير سمير غريب إلى الرسالة التي أرسلها تروتسكي إلى أندريه بريتون والمؤرخة في 22 ديسمبر 1938 والتي يحيِّى فيها الأول والأخير على مبادرته مع الرسام المكسيكي دييجو ريبيرا (1886-1957) والخاصة بتأسيس "الاتحاد الأممي للفن الثوري الحر". ويتصور سمير غريب أن الإشارة إلى هذه الرسالة يمكن أن تبدل معالم الصورة والتي حاولت رسمها في ملاحظاتي على كتابه والخاصة بالعلاقة بين بريتون وتروتسكي. وهو يحيلني، بالمناسبة، إلى كتاب آرتورو شفارتز. حسنًا.

إن هذه الرسالة – أيضًا – لا تقدم أية تنازلات للسوريالية. فهي تقتصر على الترحيب بمبادرة كان تروتسكي نفسه أحد أطرافها من الناحية الفعلية وعلى التأكيد على فكرة "أن النضال من أجل الأفكار الثورية في الفن يجب أن يبدأ مرة أخرى بالنضال من أجل الصدق الفني، ليس من زاوية أية مدرسة منفردة، بل من زاوية إيمان الفنان الذي لا يتبدل بذاته العميقة نفسها". ولعل في هذا الكلام – الذي اختار سمير غريب ألا يشير إليه – ما يبين أن تروتسكي لم يكم متحيزًا للسوريالية بشكل خاص.

ومن ناحية أخرى، أود أن أذكر سمير غريب الذي يتحدث عن "الأشهر الثلاثة" التي "قضاها" بريتون مع تروتسكي في المكسيك، بأن بريتون كان قد ذهب إلى المكسيك أصلاً لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول حالة الشعر وفن التصوير في أوروبا وبأن الاجتماعات التي جرت بين تروتسكي وبريتون لم تزد عن عشرة اجتماعات، وكان السبب الرئيسي وراء عدم اختصارها إلى أقل من ذلك هو تكاسل بريتون في إعداد مسودة بيان "نحو فن ثوري حر" وهو تكاسل أثار استياء تروتسكي وهو استياء رصده جان فان هجينورت، الذي تابع اجتماعاتهما.

خلال المناقشات الأولى التي دارت بين تروتسكي وبريتون، انزعج تروتسكي من دفاع بريتون عن الروائي والفيلسوف الفرنسي، المركيز دو ساد (1740 - 1814) الذي كان بريتون يعتبره "سورياليًّا في السادية" وعن الشاعر الفرنسي، الكونت دو لوتريامون (1846 – 1870)، كما انتقد فكرة "الصدفة الموضوعية" ذات الأهمية المحورية في "الفلسفة" السوريالية وأخذ على بريتون أنه يريد الاحتفاظ بـ "نافذة تشرف على ما وراء العالم"!

وليسمح لي سمير غريب – بعد ذلك – بأن أصحح له عنوان كتاب أ. شفارتز الذي يحيلني إليه. فهذا الكتاب ليس عنوانه: "بريتون – تروتسكي" بل عنوانه: "أندريه بريتون، تروتسكي والفوضى". ولعل السبب في إسقاط سمير غريب لكلمة "الفوضى" من عنوان الكتاب يكون قد اتضح الآن!

السوريالية الخالدة والسوريالية التاريخية

لم يكن هناك مبرر لاستفاضة سمير غريب في الحديث عن الجماعات السوريالية الموجودة الآن، فأنا لم أزعم أن السوريالية قد اختفت بل زعمت – ومازلت أزعم – أن الحركة السوريالية التاريخية قد اختفت.

ومن المعروف أن أندريه بريتون هو الذي ميز بين ما وصفه بـ "السوريالية الخالدة" – الموجودة في جميع الثقافات وفي جميع الأزمنة والتي لن تكف عن الوجود مادام الإنسان موجودًا – وما وصفه بـ "السوريالية التاريخية"، أي الحركة المحددة التي أسسها – مع آخرين – في عام 1924 واستمرت قائمة حتى عام 1969، أي بعد ثلاث سنوات من موت أندريه بريتون. ففي ذلك العام حل التجمع السوريالي التاريخي نفسه وتوقفت عن الصدور مجلته ... لارشيبرا، التي لم تكن لسان حال تجمع جديد كما يزعم سمير غريب!

وعندما يدور الحديث عن السوريالية التاريخية فإنه يدور عن مواقف وإسهامات هذا التجمع بوجه خاص.

أما الجماعات السوريالية التي يتحدث عنها الصحافي الشاب فهي تنتمي إلى ما يصفه بريتون بـ "السوريالية الخالدة".

وإذا كان الناقد المعروف روجر شاتوك قد رأى أن السوريالية التاريخية قد اختفت غداة المعرض السوريالي الدولي الناجح في عام 1938، وأن الذي استمر من السوريالية بعد ذلك التاريخ هو "شبحها"، فإن هنري بيهار، أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة السوربون الجديدة، ورئيس الجامعة ومدير تحرير "ميلوسين"، كراسات مركز الأبحاث الخاصة بالسوريالية، يختلف مع روجر شاتوك ويؤكد أن السوريالية التاريخية قد اختفت في عام 1969.

وبمناسبة التواريخ والتاريخ، لا أملك إلاَّ أن أسجل دهشتي إزاء تقليل الصحافي الشاب من شأن كتاب "أحاديث" لأندريه بريتون واستبعاده هذا الكتاب التأريخي لمجرد أن الكتاب عبارة عن مجموعة أحاديث إذاعية وصحفية!

على أن ما يثير قدرًا أكبر من الدهشة هو ادعاء سمير غريب أن أندريه بريتون أدلى بالأحاديث التي يتضمنها كتابه "فيما بين 1913 و 1952". وهو ما يعني أن بريتون بدأ يدلي بأحاديث إذاعية وصحافية منذ أن كان في السابعة عشرة من العمر وقبل ست سنوات من صدور أول كتاب له!

وواضح أن صاحبنا لم يقرأ الكتاب الذي يتحدث عنه واكتفى بقراءة صفحة العنوان الداخلية التي تقول: (أحاديث "1913-1952"). والحال أن 1913 ليس تاريخ حديث أدلى به بريتون، بل هو تاريخ العام الذي بدأ من عنده بريتون سرد سيرته الواعية لأندريه بارينو في عام 1952! أما الأحاديث الأخرى التي تضمنها الكتاب – والتي لا تؤلف غير أكثر قليلاً من ربع صفحاته – فإن أقدم حديث بينها يعود إلى عام 1941!

ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من أنني لم أقل أن كتاب "أحاديث" هو كتاب "كتبه" بريتون، إلاَّ أن بريتون، كما يؤكد ذلك رينيه بيرتليه في تقديمه للكتاب، قد أعاد كتابة نصوص الأحاديث الإذاعية الستة عشرة التي أدلى بها لأندريه بارينو بعد إفراغ الشرائط على الورق!

أنور كامل

يتبنى سمير غريب "منهجًا" شاذًّا في تحديد الهوية الفكرية والسياسية لعدد من الشخصيات التي تركت بصمات واضحة على تاريخنا الثقافي والسياسي. وشرط تطبيق هذا "المنهج" الشاذ هو أن تكون الشخصية محل البحث قيد الحياة بحيث يمكنها أن تكون "حَكَمًا" بين الباحثين، وإلاَّ فإن تحديد هويتها الفكرية والسياسية سوف يظل لغزًا إلى أبد الآبدين!

والحال أن تحديد هوية أنور كامل (ولد عام 1913) الفكرية والسياسية لا يتوقف على "شهادة" يدلي بها أنور كامل: فكتاباته موجودة بين أيدينا وتاريخه السياسي ليس سرًّا بل هو ملك لجميع الباحثين.

لقد كتب أنور كامل بين عامي 1936 و1948 ستة كتب، عدا المقالات التي نشرت له في عدد من المجلات والصحف المصرية. وكل هذه الكتابات تكشف عن شخصية ذات ميول مركبة يصعب تصنيفها بالأسلوب الساذج الذي اعتمده سمير غريب في الحديث عن أنور كامل في كتابه.

ومن ناحية أخرى، إذا كان لابد من شهادة أنور كامل، فلماذا لم يبحث عنها سمير غريب خاصة وأن الرجل قد أدلى بها بالفعل في "أحاديث" مع الباحثة الأمريكية س. بوتمان – على مدار ساعات – في عام 1980؟

لقد نفى أنور كامل في هذه الأحاديث أنه كان تروتسكيًّا في أي يوم من الأيام، سواء كان ذلك عند إصدار مجلة "التطور" (1940) أم بعد ذلك!

سمير غريب مترجمًا

يزعم سمير غريب أن الترجمات الخاطئة التي يحفل بها كتابه ليست أكثر من "أخطاء مطبعية" (يالها من شماعة!) ويدلل على ذلك بأن "أي قارئ ولو متسرع للكتاب يدرك على الفور أن من ترجم نصًّا في منتهى الصعوبة مثل "ملاحظات على زهد هستيري" وغيره من النصوص لا يعجز عن معرفة الفرق بين النمسا واستراليا".

وإذا لم يكن هذا القارئ متسرعًا؟!

لن أتوقف عند حشد الترجمات الخاطئة التي تورط فيها سمير غريب في كتابه وفي "الرد" الذي نشرته له هذه المجلة ( في ذلك الرد ترجم صاحبنا اسم جدانوف (بتعطيش الجيم) إلى "زادانوف"!) والتي ليست أخطاء مطبعية بحال من الأحوال. يكفي أن آخذ جملة أو جملتين من ترجمته التي يفاخر بها لنص جورج حنين ورمسيس يونان "ملاحظات على زهد هستيري" حتى نرى حجم الكوارث التي تترتب عادة على ترجمته:

يقول جورج حنين "هذا العالم الذي لم يعد ينجح أبدًا إلاَّ حين يولد من حركةٍ زائفة، يهمنا أن نعمل على أن يظل بلا حراك. إن شيئًا في داخلنا ينبهنا إلى أننا لو أعدنا له انطلاقه، فسوف نسمح له بذلك بأن ينتظم ضدنا".

ويترجم سمير غريب هذا النص ترجمةً تجعل منه نصًّا مضادًّا للنص الأصلي فيقول: "نعمل على بقائه ساكنًا هذا العالم الذي لا ينجح أبدًا إلا حينما يولد من حركة مزيفة. ثمة شيء داخلنا يحثنا على أن نعيد له حريته، أن نسمح له بأن ينتظم ضدنا" (ص183 من كتاب سمير غريب)!

أغرب من غريب

حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لم ينشر غريب تكذيبًا لادعاء مختار العطار في مجلة "المصور" الأسبوعية – عدد 17 يوليو 1987 – أن سمير غريب هو مترجم قصائد جورج حنين الخمس المنشورة ضمن ملاحق كتاب "السيريالية في مصر"، على الرغم من أن سمير غريب نفسه لم يزعم ذلك في تقديمه لهذه القصائد بل أشار إلى المصادر التي نقل عنها هذه القصائد المترجمة. والحال أن سكوت سمير غريب على الرد على ادعاء مختار العطار هو الوجه الآخر – والمتمم ... لـ "الرد" على ملاحظاتي النقدية. وأعتقد أن هذا الواقع وحده يكفي لإظهار جانب من "الأمراض المتفشية في الوسط الثقافي عندنا" والتي يتحدث عنها سمير غريب – يتحدث وحسب – كثيرًا!

سمير غريب منتحلاً

عندما كتبت ملاحظاتي النقدية الموجزة التي نشرتها هذه المجلة في عدد يونيو الماضي لم أكن قد قرأت بعد كتاب ساران أليكسندريان عن جورج حنين. وعندما وصلتني نسخة من الكتاب فوجئت عند الاطلاع عليها بأن سمير غريب قد استولى على شرائح لا بأس بها من كتاب أليكسندريان وأعاد تسكينها – من خلال عملية مونتاج مكشوفة – ضمن كتابه الذي لا يتجاوز متنه الرئيسي 115 صفحة!

وجلي أن إشارة سمير غريب، بين الحين والآخر، إلى كتاب أليكسندريان لا تلعب غير دور ثانوي: دور ذر الرماد في عيون القراء بينما يجري التستر على مصدر الكلام في أغلب الحالات.

ويجد القارئ مع هذه الملاحظات صورتين كاشفتين للمهزلة، التي لا يتحمل المسئولية عنها سوى سمير غريب وحده!.

[ يجد القارئ هاتين الصورتين في الصفحة 50 من كتابي "مرايا الإنتلجنتسيا" الصادر بالإسكندرية عن دار النيل عام 1995.]

مجلة "القاهرة"، القاهرة، ديسمبر 1987

سورياليون أم تروتسكيون؟

بشير السباعي







يتناول كتاب "السيريالية في مصر" للصحافي الشاب سمير غريب جانبًا مهمًّا من جوانب تاريخنا الفكري والأدبي والفني المعاصر، ذلك الجانب الخاص بالمساهمة التي قدمتها الحركة السوريالية المصرية إلى حياتنا الثقافية في ثلاثينيات وأربعينيات هذا القرن، فترة نشاط هذه الحركة.

ويتتبع الكاتب المسيرة الإبداعية للرموز البارزة للحركة السوريالية المصرية، مع تركيز خاص على دور الشاعر والناقد السوريالي الكبير جورج حنين (1914-1973) – قائد هذه الحركة وأحد الممثلين البارزين للحركة السوريالية العالمية – ودور الرسام والناقد المصري المعروف رمسيس يونان (1913-1966).

وخلال هذا التتبع، تتكشف ملامح رئيسية تميزت بها السوريالية منذ البداية. فالسوريالية – حسب تعبير أندريه بريتون (1896-1966) – هي "حركة آلية نفسية خالصة، يمكن عن طريقها التعبير مشافهة أو كتابة، أو بأي شكل آخر، عن الحركة الفعلية للتفكير. فهي حركة يمليها التفكير، في غياب أي سيطرة يمارسها العقل، بعيدًا عن أي شاغل جمالي أو أخلاقي". (أندريه بريتون، "بيان السوريالية الأول"، 1924).

ويتألف جانب كبير من كتاب "السيريالية في مصر" من نماذج من أعمال السورياليين المصريين – خاصة في مجالات النقد التشكيلي والرسم والشعر. كما يتضمن الكتاب عددًا من الرسائل المتبادلة بين السورياليين تساعد على إلقاء الضوء على نوع الشواغل التي استأثرت باهتمامهم.

وطبيعي أن كتابًا كهذا كان لابد وأن يثير الاهتمام الذي أثاره بين صفوف المثقفين المصريين المهتمين بتاريخ الحركات الفكرية والأدبية والفنية المعاصرة في مصر. فهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها كتاب مكرس لتاريخ الحركة السوريالية المصرية – وإن كان قد صدر قبل ذلك كتابان على الأقل عن جورج حنين. وهي المرة الأولى التي يجتمع فيها بين دفتي كتاب واحد كل هذا العدد من الوثائق والنصوص السوريالية المصرية التي لم يسبق نشر جانب منها والتي لم يعد الجانب الآخر الذي سبق نشره منها متاحًا لجمهور القراء منذ وقت بعيد. وهي المرة الأولى التي يجري فيها تقديم تاريخ الحركة السوريالية المصرية ووثائقها في مصر الثمانينيات بهدف أن يكون – حسب تعبير مؤلف الكتاب – "طعنًا في الحاضر وشقًّا للمستقبل".

على أن محاولة المؤلف – من حيث أحد افتراضاتها الرئيسية على الأقل – ليست محاولة جديدة تمامًا، فقد عاد الكاتب – مثل آخرين كثيرين سبقوه (د. رؤوف عباس، د. رفعت السعيد، عبد القادر ياسين، إلخ) – إلى الحديث عن "تروتسكية" السورياليين المصريين المزعومة.

مبررات غير ذكية

والحال أن الذين يحاولون إسناد السوريالية إلى التروتسكية يحرثون في البحر.

إنهم يتذكرون عددًا من الأمور التي ليس من شأنها – بحال من الأحوال – أن تقود إلى تأييد مثل هذا الإسناد الذي دأب عليه الكورييليون.

يتذكرون – مثلاً – أن السورياليين والتروتسكيين قد اتخذوا موقف الاستنكار تجاه محاكمات موسكو الشهيرة في أعوام 36 – 37 – 38، تلك المحاكمات التي قادت إلى التخلص من معظم قادة الثورة البُلشفية الرئيسيين: غير أن هذا الموقف لم يكن قاصرًا على السورياليين والتروتسكيين، فقد اتخذه - ساعتها – آخرون كثيرون، خاصة بين صفوف اليسار الثوري، مثل أوتو رول، قائد انتفاضة ساكسونيا في نوفمبر 1918، وفيندلين توماس، قائد تمرد فيلهيلمشافن في نوفمبر 1918، وكارلو تريسكا، الزعيم السينديكالي الثوري الذي سبق له التنديد بمحاكمة ساكو و فانزيتي في الولايات المتحدة الأمريكية، إلخ. كما أن موقف الاستنكار هذا يكاد يكون الآن موقفًا جماعيًّا حيث لا يدافع عن هذه المحاكمات غير أتباع الدكتاتور الألباني الراحل أنور خوجه ومن لف لفهم من مخلفات زمن ما قبل الحرب العالمية الثانية.

ويتذكرون كذلك أن أندريه بريتون، مؤسس الحركة السوريالية، وليون تروتسكي (1879-1940)، قائد المعارضة اليسارية ضد الستالينية (1923-1933)، ومؤسس الحركة من أجل الأممية الرابعة (1933-1938) ومؤسس الأممية الرابعة (1938) قد كتبا سويًّا في عام 1938 بيان "نحو فن ثوري حر" والذي صدر موقعًا من جانب كل من أندريه بريتون والرسام المكسيكي المعروف دييجو ريبيرا، لكنهم ينسون أن هذا البيان لم يأتِ على ذكر السوريالية، بل اقتصر على الدعوة التي يشير إليها عنوانه وعلى الدعوة إلى إنشاء اتحاد أممي للفن الثوري الحر، علاوة على أن امتناع تروتسكي عن التوقيع على البيان يدل على أنه كان يريد تجنب سوء الفهم ذاته الذي وقع فيه كُتَّاب مثل كُتَّابنا. (بهذه المناسبة، ربما جاز لنا أن نتكهن بأن "جماعة الفن والحرية" التي تكونت في مصر في يناير 1939، بعد أشهر قليلة من صدور البيان المذكور، ربما كانت محاولة مصرية للإسهام في إنشاء ذلك الاتحاد الأممي المقترح، والذي لم ير النور عمليًّا – وإن كان أندريه بريتون قد أنشأ شعبة فرنسية لذلك الاتحاد أصدرت نشرة شهرية، وأصدرت عدداً من البيانات ضد النازية ودفاعًا عن الحريات – أو، على الأقل، ربما كان اختيارها للاسم الذي حملته صدى للدعوة التي أطلقها البيان والتي تضمنها عنوانه).

ويتذكرون كذلك أن أندريه بريتون وجورج حنين وآخرين من السورياليين كانوا يكنون احترامًا عميقًا لشخصية تروتسكي، وأنهم قد أفرطوا في التعبير عن إعجابهم بهذه الشخصية إلى حد أن أندريه بريتون، مثلاً، قد كتب إلى تروتسكي في 9 أغسطس 1938 يقول: "إنني بحاجة إلى عملية طويلة للتكيف حتى أقنع نفسي بأنك لست بعيداً عن منالي" وقد قال له في رسالته هذه أنه يشعر بعقدة كورديليانية (نسبة إلى كورديليا، إبنة الملك لير، في مسرحية شكسبير الشهيرة) تسيطر عليه كلما لقيه وجهًا لوجه.

والحال أن كثيرين قد وقعوا في مثل هذا الإطراء المسرف، والمسرف بالدرجة الأولى في نظر تروتسكي. وقد كتب الأخير إلى بريتون في 31 أغسطس 1938 ليقول له أن مدائحه قد بلغت من الإفراط حدا أصبح يشعر معه بعدم الارتياح! وعلى أية حال، لم يكن المعجبون بشخصية تروتسكي بين الأدباء والفنانين يأتون من بين السوريالين دون غيرهم، فقد كان أندريه مالرو، الروائي الفرنسي الشهير، مثلاً، رغم خلافاته مع تروتسكي، يكن له احترامًا عميقًا. وقد زاره في أغسطس 1933 خلال إقامته في فرنسا. ورغم كل شيء، فقد زعم بريتون – شريك تروتسكي في كتابة بيان 1938 – زعم في عام 1952، بعد تراجع مشاعر الإعجاب والانبهار، أن فهم تروتسكي لمشكلة الفن كان فهمًا متوسط المستوى إلى حد بعيد، وهو رأي لا يتفق معه فيه نقاد جادون كثيرون من طراز بول سايجل وكليف سلوغتر.

السورياليون والتروتسكيون في فرنسا

إن الذين يحاولون – مثل سمير غريب – إسناد السوريالية إلى التروتسكية ينسون تاريخ النزاع المرير بين السورياليين والتروتسكيين في فرنسا، هذا النزاع الذي وصفه إسحق دويتشر بأنه قد وصل إلى حد إمساك كل فريق بخناق الآخر. وهذا النسيان غريب فعلاً، بالنظر إلى أن تاريخ هذا النزاع معروف منذ أواخر العشرينيات، وبالنظر إلى أن أندريه بريتون قد روى جانباً منه منذ 34 سنة في كتابه التأريخي الرئيسي "أحاديث".

والحال أن بيير نافيل، أحد وجوه الحركة السوريالية الفرنسية، قد خرج عليها في عام 1926، ناشرًا كراسه "الثورة والمثقفون" الذي دعا فيه السورياليين إلى الاختيار بين الميتافيزيقا والدياليكتيك، إذ أن هناك تناحرًا بين اتجاهي كل منهما. وقد رد بريتون على كراس نافيل في سبتمبر 1926، مؤكدًا على رفضه التخلي عن الشواغل المحددة للحركة السوريالية وواضعًا إصبعه على الاتهام الرئيسي الذي وجهه نافيل إليها: التذبذب بين الفوضى والماركسية. وقد أنهى نافيل تذبذبه الخاص وانتقل بشكل حاسم إلى مواقع التروتسكية.

وقد ذكر بريتون في "الأحاديث" التي سبقت الإشارة إليها أن بيير نافيل قد بذل كل ما في وسعه، عندما كان واحدًا من قادة الشعبة الفرنسية لحركة الأممية الرابعة بين عامي 1930 و1939، للحيلولة دون حدوث تقارب مع السورياليين (لنتذكر أن أندريه بريتون كان بين عامي 1927 و1933 عضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي، ولنتذكر كذلك أن مشروع بريتون الرامي إلى التوفيق بين السوريالية والماركسية – وهو المشروع الذي كان وراء هذا الانتماء إلى الحزب الشيوعي الفرنسي – كان نتيجة لسوء فهم كما قال الكاتب الوجودي ألبير كامي في كتابه "الإنسان المتمرد"، وقد انتهى إلى الفشل كما قال الفيلسوف الوجودي الشهير جان بول سارتر في "ما الأدب؟"، وكما أدرك ذلك قبلهما بيير نافيل!).

كما أشار بريتون إلى أن نافيل حاول منعه من المشاركة في الاجتماع الذي انعقد في سبتمبر 1936، الذي نظمه التروتسكيون الفرنسيون، تحت عنوان "الحقيقة حول محاكمات موسكو" وأن نافيل لم يتراجع عن هذا الموقف إلاَّ مراعاة لتوسط فيكتور سيرج، الروائي والثوري المعروف، الذي كان قد أفلت لتوه من السجن في روسيا ورحل إلى بلجيكا.

مفهومان للحرية

بينما كان ليون تروتسكي، باعتباره ماركسيًا منسجمًا، يفهم الحرية على أنها "وعي الضرورة"، كانت السوريالية تتبنى مفهومًا فوضويًّا عن الحرية. والواقع أن تصريح إقبال العلايلي (بولا حنين، أرملة جورج حنين) والذي قالت فيه – في معرض نفيها للقصة الغريبة التي أطلقها عبد القادر ياسين وسارع رفعت السعيد إلى تبنيها والتي زعمت أن جورج حنين كان عضوًا فيما سمته القصة بـ "سكرتارية باريس – إحدى انشقاقات الأممية الرابعة" – أن جورج حنين كان أكثر ميلاً للفوضوية، لا يمكن أخذه على أنه صحيح بالنسبة للفترة الأخيرة من حياة جورج حنين فقط. فالواقع أن فكرة "التمرد المطلق" الفوضوية فكرة جوهرية بالنسبة إلى الموقف السوريالي، وقد قال أندريه بريتون في "بيان السوريالية الثاني" (1930) أن "من المعروف أن السوريالية لم تخش من أن تجعل من التمرد التام المطلق، ومن عدم الخضوع التام، ومن التخريب المنهجي عقيدة لها، وأنها لا تنتظر شيئًا إلا من العنف. فالفعل السوريالي الأبسط يتألف من النزول إلى الشارع، بالمسدسات في الأيدي، وإطلاق الرصاص دون تمييز، قدر الإمكان، على الناس"! وواضح أننا هنا أمام عدمية فوضوية، تصل إلى حد تبرير القتل على حد تعبير هنري بيهار وميشيل كاراسو. وقد فسر سارتر التمرد السوريالي بأنه "تمرد ضد الأب"، أما كامي فقد اعتبر العدمية السوريالية "عدمية صالونات أدبية". وقد برر السورياليون عدميتهم ودعوتهم إلى التمرد المطلق بحرصهم على الأخلاق، فالتمرد ليس هدفًا في حد ذاته وقد سبق لبريتون أن قال في عام 1924 أن "الأخلاق هي العزاء الأكبر".

والواقع أن فلسفة بريتون الأخلاقية هي التي جرته إلى نبذ المفهوم الماركسي للحرية. وقد انتقد كراس تروتسكي "أخلاقهم وأخلاقنا" الذي قال أن تروتسكي قد دافع فيه عن مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو المبدأ الذي اعتبره امتدادًا طبيعيًّا لمفهوم إنجلز عن الحرية. وترتيبًا على ذلك، دعا بريتون من وصفهم بالمثقفين الأحرار إلى مواجهة ذلك المبدأ مواجهة تتميز بالرفض الأكثر حسمًا والأكثر فعالية، وقال أن التأكيد الفعال الحقيقي للحرية يكمن في هذا الرفض (لو ليتيرير، 5 أكتوبر 1946).

ومن ناحية أخرى، فإن تروتسكي، في مقال "الفن والثورة" الذي كتبه في عام 1938، قد اعتبر السوريالية شكلاً من أشكال البوهيمية، المفتقرة إلى أساس اجتماعي والمتبنية لمفهوم فوضوي عن الحرية.

موقفان متعارضان خلال الحرب الأهلية الأسبانية

بينما انحاز السورياليون – دون قيد أو شرط – إلى صف الحزب العمالي للتوحيد الماركسي والاتحاد الفوضوي الإيبيري خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) وكانوا – كما قال بريتون نفسه في "الأحاديث" التي سبقت الإشارة إليها – "يترقبون كل يوم فرصتهما في إنجاز ثورة تكون ثالثة الثورات الكبرى في الأزمنة الحديثة وتكون الأولى – من يدري – التي لا تعرف ردة"، نجد أن تروتسكي لم يكف عن انتقاد هذين التنظيمين ولم يترقب أن ينجزا – بسبب نهجهما الذي اعتبره انتهازيًّا – ثورة كهذه.

وفيما يتعلق بالحزب العمالي للتوحيد الماركسي، فقد قال تروتسكي في 24 أغسطس 1937 أن هذا الحزب "لايستطيع أن يقود بروليتاريا كاتالونيا إلى الهجوم الثوري لأن – وفقط لأن – كل سياسته السابقة قد جعلته عاجزًا عن اتخاذ مبادرة كهذه"، كما قال في 22 أكتوبر 1937 أن سياسة هذا الحزب كانت سياسة منشفية لا بُلشفية.

أما فيما يتعلق بالاتحاد الفوضوي الإيبيري، فقد كتب تروتسكي في 4 مارس 1939 يقول أن قادته قد تصرفوا خلال الحرب الأهلية بوصفهم "خدمًا للبورجوازية". وقد تهكم على الفوضوية التي وصفها بأنها معطف واق من المطر لكنه مليء بالثقوب. فهو لا يصلح خاصة عند سقوط المطر!

فما أوسع الهوة بين توقعات بريتون ورفاقه السورياليين، من ناحية، وتوقعات وتشخيصات تروتسكي، من ناحية أخرى!

مصيران

رغم حديث سمير غريب المنبهر عن "نشاط الجماعات السوريالية الجديدة"، فإن من المعروف للجميع – جميع المهتمين بأمر السوريالية – أن السوريالية التاريخية قد اختفت في عام 1969. ومن الأمور التي لها دلالتها أن الجماعة قد حلت نفسها (في أكتوبر 1969) – كما يقول هنري بيهار وميشيل كاراسو – "رغم تجدد ملحوظ للفكر وللفعل الثوريين بعد أحداث مايو 1968" في فرنسا، بعبارة أخرى، لم يكن من شأن المد الثوري في فرنسا – وطن السوريالية الأم – أن يساعد السوريالية على تذليل العثرات التي كانت تواجهها. ويذكر جان شوستر أن حل الجماعة لنفسها قد "قررته ظروف ذاتية غير ملائمة (آثار اختفاء بريتون)".

ومن ناحية أخرى، نجد أن الأممية الرابعة لم تختف من الوجود بسبب اختفاء مؤسسها، بل نجد أنها في العام ذاته الذي حل السورياليون فيه جماعتهم، قد عقدت مؤتمرها العالمي التاسع، وهو أهم مؤتمر لها في مجمل تاريخها حتى الآن، حيث جاء مستفيدًا من التجدد الملحوظ الذي حدث للفكر وللفعل الثوريين بعد أحداث مايو 1968 في فرنسا بالذات. وقد شهدت في عام 1969 اتساعًا ملحوظًا لفعالياتها.

غرائب من كل لون

طبيعي أن الأمثلة التي قدمتها على النزاع بين السورياليين والتروتسكيين ليست بديلاً عن استعراض شامل – ليس هذا المقال مقامه – لتاريخ هذا النزاع. فأنا لم أقصد بما ذكرته فيما سلف غير لفت انتباه مؤرخينا وصحافيينا الذين يكتبون حول هذه الأمور إلى وجوب احترام الحقيقة التاريخية وإلى ضرورة التعامل الجاد مع الموضوع بدلاً من تزوير التاريخ لاعتبارات عملية قصيرة النظر مثلما يفعل تلاميذ المرحوم هنري كورييل ومن يمشون في ركابهم عن علم أو عن جهل، وبدلاً من الركون إلى ذكريات مشوشة تفتقر إلى التحري الصارم للحقيقة التاريخية مثلما فعل الدكتور لويس عوض في الندوة التي نظمها أتلييه القاهرة في 15 نوفمبر 1986 لمناقشة كتاب سمير غريب، فقد زعم الدكتور – مثلاً – أن تروتسكي، قائد سوفييت سان بطرسبرج في ثورة 1905، وقائد سوفييت بتروجراد عشية ثورة أكتوبر، وأحد أبرز قادة الثورة البُلشفية، وباني الجيش الأحمر وقائده إلى الانتصارفي الحرب الأهلية على جيوش الثورة المضادة الداخلية وجيوش 14 دولة، والذي تحدى ستالين أن يطلب تسليمه للاتحاد السوفييتي للمثول أمام القضاء، زعم أن تروتسكي هذا قد "هرب" من الاتحاد السوفييتي. والصحيح أن تروتسكي قد نُفيَ مجبرًا. وقد أُبلغ رسميًّا بقرار النفي الإجباري في 20 يناير 1929، وكتب على إقرار تسلم القرار بخط يده أنه قرار "إجرامي في جوهره وغير شرعي من حيث الشكل".

كما زعم الدكتور أن تروتسكي، الماركسي والقائد الجماهيري، كان مع الفرد، وليس مع المجموع، فما أوسع علم الأستاذ!!

أما سمير غريب نفسه، فهو يتسرع في كتابه إلى حد كسر الركبة والرقبة معًا. فقد زعم أن تروتسكي قد نُفي إلى أستراليا بعد سحق الثورة الروسية الأولى، والحال أن تروتسكي لم يذهب إلى أستراليا قط (كم هي بعيدة عن روسيا!) بل ذهب إلى النمسا حيث أصدر صحيفة "برافدا". ويبدو أن صاحبنا قد قرأ في نص إنجليزي ما أن تروتسكي قد نُفي إلى أوستريا (النمسا) فترجمها (أستراليا)، لتصبح المصيبة مصيبتين!

ومن غرائب سمير غريب أنه قد تعامل مع اسم مارسيل بياجيني على أنه اسم رجل، بينما الحقيقة أن مارسيل بياجيني كانت فتاة (يقال أنها لم تكن جميلة، نعم، غير أننا لم نسمع قط أنها قد أجرت عملية جراحية لكي تتحول إلى رجل!).

وعندما يأتي سمير غريب على ذكر كتاب "أفيون الشعب" يقول أن أنور كامل قد كتبه "عندما كان تروتسكيًّا"! والحال أن أنور كامل يستند في هذا الكتاب إلى كراس ج. مونيس: "الثوريون تجاه روسيا والستالينية العالمية" والذي عبر فيه عن آراء تتعارض على طول الخط مع آراء تروتسكي حول البيروقراطية السوفييتية. فبينما اعتبر تروتسكي هذه البيروقراطية ورمًا خبيثًا على جسم ديكتاتورية البروليتاريا، رأى ج. مونيس – مواصلاً في ذلك خط المثقف اليساري برونو ريزي – أن هذه البيروقراطية تمثل "طبقة حاكمة جديدة"، وهو الرأي نفسه الذي تبناه أنور كامل في كتاب "أفيون الشعب". والحال أن بيير فرانك، أحد قادة الأممية الرابعة، قد فند كراس ج. مونيس غداة صدوره مدافعًا عن تشخيص تروتسكي الأصلي للبيروقراطية السوفييتية الذي كان قد عرضه في كتاب "الثورة المغدورة".

ومن غرائب سمير غريب كذلك (حقًّا ما أكثر غرائبه؟!) أنه يقول أن "ع. سعيد" اسم رمزي في حين أن "ع. سعيد" هذا هو عبد المغني سعيد، أحد الذين كتبوا في الأعداد الأولى لمجلة "التطور"، ولو كان سمير غريب قد قرأ مذكرات عبد المغني سعيد السياسية، التي صدرت قبل كتابه بنحو سنة، لأدرك ذلك، ولكن ماذا نفعل مع التسرع والكسل؟! ولم يكن عبد المغني سعيد سورياليًّا ولا تروتسكيًّا، بل كان واحدًا من الملتفين حول محمود حسني العرابي بعد عودة الأخير من ألمانيا، وكانت مجموعة العرابي وسعيد هي المجموعة التي عقدت صلات مع عبد اللطيف البغدادي وغيره من الضباط الشبان.

ولا يلاحظ سمير غريب وهو يذكر أن جورج حنين قد فوجئ بنشوب الحرب العالمية الثانية أن هذا يعد دليلاً على أن الكاتب والناقد السوريالي الكبير لم يكن متابعًا جيدًا لكتابات تروتسكي في الثلاثينيات حول المضاعفات المحتملة لوصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا في عام 1933. والواقع أن تروتسكي قد ذكر في نوفمبر 1931، قبل نحو سنتين من وصول هتلر إلى الحكم وقبل عشر سنوات من معركة موسكو، أن "انتصار الفاشية في ألمانيا سوف يعني حتمية الحرب ضد الاتحاد السوفييتي". ولم تفاجئ الحرب العالمية الثانية تروتسكي ولا أنصاره بل إنهم قد حددوا مهماتهم نحو هذه الحرب عشية نشوبها في الوثيقة التأسيسية للأممية الرابعة والتي وافقوا عليها في مؤتمرهم المنعقد في سبتمبر 1938، فهل هناك دليل أبلغ من هذا على أن جورج حنين، الذي فوجئ بنشوب الحرب العالمية الثانية، لم يكن تروتسكيًّا؟!

وبهذه المناسبة، يجب الإشارة إلى أنه بينما اختار بريتون ترك فرنسا – بعد أن سقطت في أيدي الهتلريين – ليرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التروتسكيين الفرنسيين لم يرحلوا، وقد مات زعيمهم مارسيل هيك في معتقل دورا، بعد أن وقع في أيدي الجستابو في عام 1943.

لقد بات من حقنا أن نتساءل: متى سيكف مؤرخونا وصحفيونا عن خزعبلاتهم؟ متى سيحترمون عقولهم وعقولنا؟ أم أنهم عازمون على موصلة تخبطهم الذي ليس من شأنه إلا أن يجعل أي محاولة جادة لفهم تاريخ الحركات الفكرية والأدبية والفنية في مصر المعاصرة من قبيل المستحيلات؟

مجلة "القاهرة" ، القاهرة، يونيو 1987.