روتشتاين ولينين والمسألة المصرية



بشير السباعي






يعجب المرء أشد العجب عندما يقرأ عدداً من المؤلفات التي صدرت خلال السنوات الأخيرة لباحثين مصريين عن تاريخ الحركة الاجتماعية – السياسية الحديثة والمعاصرة في مصر.



ومصدر هذا العجب هو ذلك الافتقار الملحوظ الذي تشكو منه هذه المؤلفات إلى جانب كبير من المادة الواقعية التاريخية المعروفة، من جهة، وإلى القدرة على التناول العلمي المنسجم والدقيق لموضوعاتها، من جهة أخرى.



ويكفيني الآن أن أشير تأكيداً لهذه الحقيقة، إلى مؤلفات الدكتور رفعت السعيد. فإذا ما توقفنا، مثلاً، أمام الجزء الأول من "تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر"، الذي صار رسالة دكتوراه (ولا أود الآن الحديث عن الترجمة الإنجليزية المقدمة لنيل الدرجة العلمية)، فسوف نجد أنه يفتقر افتقاراً شنيعاً إلى جانبٍ كبيرٍ من المادة الواقعية التاريخية المعروفة، ودليلنا على ذلك أن الكاتب قد أغفل تماماً استخدام كتابات على درجة كبيرة من الخطورة لعدد من القادة الشيوعيين مثل أنطون مارون وروبرت جولدنبرج، حفل بها عدد من الجرائد والمجلات المصرية التي كانت تصدر باللعة الفرنسية في مصر في الربع الأول من هذا القرن، إلى جانب أنه لم يستخدم المادة الموجودة في كتاب أ. شامي: (الحزب الشيوعي المصري)، الصادر باللغة الروسية في موسكو سنة 1929.



والواقع أن المادة الواقعية التاريخية التي تشتمل عليها هذه المصادر من شأنها، لو استخدمت، أن تكشف عن جوانب أساسية في تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر. وطبيعي أن إغفال هذه المادة لابد وأن ينعكس انعكاساً سلبياً على التحليل العلمي.



وقد تسبب إغفال رفعت السعيد لهذه المادة في توريطه توريطاً شديداً. وعلى سبيل المثال، فإن ما ينشره على أنه نص رسالة جوزيف روزنتال إلى الجرائد المصرية، ليس غير جزء فقط من الرسالة، والتي نشر نصها الكامل باللغة الفرنسية في صحيفة (لابورص إيجيبسيين) التي كانت تصدر في الإسكندرية.



كما تفتقر دراسة رفعت السعيد إلى التناول العلمي المنسجم والدقيق. والمسؤول عن ذلك إلى حد بعيد هو رفعت السعيد نفسه، الذي لا يعرف كيف يميز الماركسية من الإصلاحية، ويكفي دليلاً على ذلك اعتباره مصطفى حسنين المنصوري ماركسياً، في حين أن كتابات الرجل نفسها تثبت أنه كان من أتباع هنري جورج الذي انتقده ماركس وإنجلز ولينين انتقاداً شديداً، إلى جانب أن عدداً من المستشرقين المرموقين قد بينوا افتراق (اشتراكية) المنصوري الواضح عن الماركسية، وأذكر من بين هؤلاء المستشرقين، المستشرق السوفييتي زلمان إساكوفيتش ليفين، والمستشرق الألماني الشرقي جيرهارد هيوب.



على أية حال، أنا لا أنوي إخضاع كتابات رفعت السعيد التاريخية لنقدٍ شامل في هذا المقال. فكل ما في الأمر أنني أردت أن أسوق مثالاً لعدد من الدراسات التاريخية المعيبة بمناسبة المقال الذي نشره الدكتور سيد عشماوي في الجزء الأول من مختارات "الثقافة الوطنية".



وأنا لن أعلق على كل ما كتبه الدكتور عشماوي في مقاله، بل سأكتفي بتناول أمرين: أولهما ما ذكره عن ف. أ. روتشتاين (وليس روذستين كما اعتاد مترجمونا ومؤرخونا الكتابة) وثانيهما: ما ذكره عن عرض لينين مساعدة ثورة 1919.
بالنسبة إلى الأمر الأول، أجد أن ما أورده الدكتور عن روتشتاين غير كافٍ، من ناحية، وغير دقيق في جانب منه، من ناحية أخرى. غير كافٍ، لأنه يغفل الإشارة إلى جوانب من نشاط روتشتاين لها صلتها الوثيقة بموقف البلاشفة – اللينينيين من المسألة المصرية، ومن الحركة القومية – التحررية المصرية، ومن مختلف طبقات وفئات المجتمع المصري غداة ثورة 1919.



ومعظم ما أورده الدكتور عن روتشتاين مأخوذ عن مقدمة الترجمة العربية الأولى لكتاب (خراب مصر)، الذي كان قد نشره روتشتاين باللغة الإنجليزية في لندن في سنة 1910. ومن هذه الزاوية، فإن الدكتور عشماوي قد كرر ما فعله من قبله عشرات المؤرخين والكتاب المصريين دون أن يورد جديداً.



وما أود أن ألفت الانتباه إليه وأنا أتحدث عن جوانب من نشاط روتشتاين يغفلها مؤرخونا وكتابنا هو ذلك الجهد العلمي والدعائي الذي قام به روتشتاين بعد عودته إلى روسيا سنة 1920 ، حيث واصل متابعته للمسألة المصرية وأثمرت هذه المتابعة إضافة فصول جديدة إلى كتاب (خراب مصر) والذي صدرت طبعته الروسية الأولى في موسكو سنة 1925 تحت عنوان "انتزاع واستعباد مصر"، وإصدار كتاب جديد في موسكو في السنة نفسها تحت عنوان (الإنجليز في مصر) ومن المحزن أن معظم مؤرخينا لا يعرفون شيئاً عن هذه الفصول الجديدة، التي يواصل فيها روتشتاين تحليله للمسألة المصرية حتى منتصف العشرينيات ولا عن الكتاب الأخير.



ومن ناحية أخرى، فإنني أعتبر ما أورده الدكتور عن روتشتاين غير دقيق، في جانب منه. فليس صحيحاً، مثلاً، أن روتشتاين قد هاجر إلى لندن سنة 1893، بل سنة 1890، كما أنه لم يكن سكرتيراً خاصاً للينين، إذ عمل الرجل غداة عودته إلى روسيا، تحديداً منذ سنة 1921 وحتى سنة 1930، في السلك الدبلوماسي السوفييتي. وعلى أية حال، فإن بالإمكان الرجوع إلى دراسة ن. أ. بروفييف عن روتشتاين، المنشورة في موسكو سنة 1960، بعد سبع سنوات من وفاة روتشتاين، في مجموعة (الإمبريالية وكفاح الطبقة العاملة. إحياءً لذكرى الأكاديمي ف. أ. روتشتاين) إذا كنا نريد الوقوف على المعلومات الأساسية والدقيقة عن الرجل.



أما بالنسبة إلى الأمر الثاني والخاص بما ذكره الدكتور عشماوي عن موقف البلاشفة – اللينينيين من ثورة 1919، فإن من الواضح أن لينين وتروتسكي والقادة البلاشفة الآخرين قد أيدوا الحركات التحررية للأمم والشعوب المضطهدة ضد مختلف القوى الإمبريالية ومن أجل حق تقرير المصير. وبهذا المعنى، يكون صحيحاً تماماً أن يقال أن لينين قد أيد ثورة 1919 وانتفاضة 1921.



لكن ما نختلف مع الدكتور عشماوي فيه هو ما يذهب إليه من أن لينين قد (عرض على الوفد المساعدة وتدعيم نضال حركته).



فأولاً: لا توجد وثيقة لينينية واحدة بين أعمال لينين الكاملة التي اكتمل صدور طبعتها الروسية الخامسة منذ سنوات في 55 مجلداً، ولا في أجزاء (المجموعة اللينينة) التي صدرت حتى الآن منذ اكتمال نشر الطبعة الروسية الخامسة لأعمال لينين الكاملة، وهي مخصصة لنشر كتابات لينين التي لم يسبق لها النشر، تشهد على أن لينين قد قدم مثل هذا العرض.
وثانياً: لا توجد في كتب المذكرات الروسية، ولا في الكتابات التاريخية السوفييتية عن لينين، أو عن الكومنترن، أو عن الحركات القومية – التحررية في الشرق، إشارة واحدة إلى أن لينين قد قدم مثل هذا العرض.



وثالثاً: فقد ذكر لي المستشرق السوفييتي شرباتوف سنة 1969 أنه لا توجد أي وثائق لينينية تفيد أن لينين قد قدم عرضاً كهذا. وقال لي بالحرف الواحد ( إذا كان لدى المؤرخين المصريين وثائق تفيد ذلك، فلماذا لا يقومون بإعلانها؟).
ورابعاً: فإن الدكتور عشماوي يناقض نفسه، فهو يقول أن لينين قد قدم هذا العرض سنة 1919، ثم يعود بعد ذلك إلى الاستشهاد بأقوال علي إسماعيل الذي يقول أن هذا العرض قد وصل إلى سعد زغلول في جبل طارق، أي سنة 1922.
وخامساً: وهذا هو الأهم، فإننا نستبعد تماماً أن يكون لينين قد عرض ... على الوفد مساعدة وتدعيم نضال حركته، وذلك لسبب جد بسيط: ألا وهو أن لينين لم يكن على استعداد لتدعيم نضال حركة حزب كحزب الوفد.



إن هدف اقتراب الشيوعيين الثوريين من بروليتاريا وشعوب الشرق، لم يكن من الممكن، في تصور لينين، التوصل إليه عن طريق تدعيم نضال حركة القوميين الليبراليين في الشرق. وقد حدد جوليان، مقرر لجنة المسألة الشرقية، أمام المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن سنة 1921، قبل أشهر قليلة فقط من نفي سعد زغلول إلى سيشل ثم إلى جبل طارق، موقف الكومنترن من هؤلاء القوميين، حيث أعلن أن الشيوعيين لن يتمكنوا من الاقتراب من شعوب وبروليتاريا الشرق إلا إذا حققوا القطيعة مع الطبقات القوموية. وقد دعا إلى كشف القوميين وإلى البدء في اللحظة اللازمة بتحقيق قيادة شيوعية للحركة التحررية في تزاحم مع القادة القوميين وضد هؤلاء القادة. (انظر: المؤتمر العالمي الثالث للأممية الشيوعية، بتروجراد، 1922، صفحة 479). والمعروف أن لينين، الذي شارك في أعمال المؤتمر الثالث للكومنترن، لم يعترض على تقرير جوليان. ومن ناحية أخرى، فإننا نتساءل: كيف يمكن للكومنترن الذي أجاز تقريراً كهذا أن يرسل مندوبه إلى جبل طارق لبحث دعم حركة الوفد؟.



بقيت نقطة أخيرة: ليس هناك ما يدعو إلى استسهال التأمين على كل كلمة يقولها مارسيل إسرائيل، مثلما يفعل الدكتور رفعت السعيد. فليس صحيحاً، مثلاً، أن لينين كان يرسل كل رسائله إلى الحزب البلشفي عن طريق مصر(!)، لأن طرق اتصال لينين مع الحزب كانت عديدة، بل إن طريق الإسكندرية كان واحداً من طرق عديدة لوصول الإيسكرا إلى روسيا. وهذه الطرق العديدة مبينة على الخرائط المنشورة في الكتب الروسية عن جريدة الإيسكرا وعن تاريخ الحزب البُلشفي.



(مجلة "الثقافة الوطنية"، القاهرة، فبراير 1989)

إجابات وتعليقات موجزة على أسئلة واتهامات غاضبة





بشير السباعي



أحمد صادق سعد





بادئ ذي بدء، أرجو من القارئ الكريم إعفائي من "الرد" على مهاترات وشتائم الدكتور رفعت السعيد التي أعاد شحذ نصالها في عدد أبريل 1989 من هذه المجلة.



والواقع أنني كنت قد قصدت من وراء نبرة ردي – الهادئة – على مقاله الذي نشره في عدد مارس 1989 أن تكون رسالة غير مباشرة إليه تدعوه إلى تجنب الانجرار إلى المهاترات والشتائم، خاصةً وأن المعارك الفكرية لا يمكن كسبها عن طريق مثل هذه الوسائل. ولكن يبدو أن رسالتي إلى الدكتور لم تصل، وأنا لا أملك سوى الأسف لذلك.



* * *



إجابة على تساؤلات:



يتساءل الدكتور رفعت السعيد: أين ومتى وكيف كان ستالين طرفاً في مناظرة حول أشكال ومراحل تطور التنظيم الاجتماعي؟



وجوابي على هذا التساؤل هو أن ستالين قد تحدث عن أشكال ومراحل تطور التنظيم الاجتماعي في كراسه الشهير:


"المادية الجدلية والمادية التاريخية" في عام 1938 والذي يشكل الجزء الثاني من الفصل الرابع من كتاب: "تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي/ البلاشفة". وفي هذا الكراس يحدد ستالين خمسة أنماط أساسية للتنظيم الاجتماعي ولا يشير إلى النمط الآسيوي للإنتاج(1).



أما المناظرة الستالينية ضد أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج فقد بدأت على نطاق محدود في عام 1929 ثم اتسعت في عامي 1930 و1931. وكان أبرز فرسان هذه الحملة هم ج. دوبروفسكي و ي. يولك و م.جوديس. وقد اتهموا ماركس بقصور المعلومات وبعدم فهم النمط الإقطاعي للإنتاج (ج. دوبروفسكي) وبعدم فهم تعاليمه هو! (ي. يولك) ويمكن للدكتور الرجوع إلى كتاب ج. دوبروفسكي: "حول مسألة جوهر النمط الآسيوي للإنتاج"، موسكو، 1929، بالروسية، وإلى مداخلة ي. يولك المنشورة في كتاب: "مناقشة حول النمط الآسيوي للإنتاج"، موسكو- لينينجراد، 1931، بالروسية، وإلى مداخلة م. جوديس في هذا الكتاب الأخير. كما أن الباحث الاقتصادي السوفييتي الشهير ي. فارجا قد قدم عرضاً جيداً لهذه المناظرة في كتاب: "دراسات حول مشكلات الاقتصاد السياسي للرأسمالية"، موسكو، 1964، بالروسية. ونحيل الدكتور إلى الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب (ص ص 230-351)، والمنشورة في موسكو في عام 1968 تحت عنوان: "المشكلات السياسية – الاقتصادية للرأسمالية" (2).



ويتساءل الدكتور رفعت السعيد: ما هو المقصود بالقول بأن مراحل التطور الخمس (المشاعية البدائية – العبودية – الإقطاع – الرأسمالية – الشيوعية) مراحل "ضرورية"؟



وجوابي على هذه التساؤل هو أن المقصود بهذا القول هو أن المراحل الخمس مراحل لابد لأي مجتمع بشري من المرور بالمراحل الأربع الأولى منها كلها قبل أن يصل إلى المرحلة الشيوعية، وهو قول استنكره ماركس بشدة في عام 1877 (3)، كما أنه يتعارض مع الواقع التاريخي.



ويتساءل الدكتور رفعت السعيد: بأي حق سمح كاتب هذه السطور لنفسه تصنيف المستشرقين السوفييت إلى ثلاث مجموعات متمايزة في المناظرة حول مشكلات التطور التاريخي لبلدان الشرق وتحديد أسماء ممثلين بارزين لهذه المجموعات؟



وجوابي على هذا التساؤل هو أن هذا التصنيف وهذا التحديد ليسا من عندي – رغم أنهما من حقي ومن حق كل متابع للاستشراق السوفييتي في مصادره الاصلية! - بل هما من عند المستشرق السوفييتي ل. ب. آلايف والذي قام بهما في مقال يمكن للدكتور الرجوع إليه في مجلة "شعوب آسيا وأفريقيا" الروسية، العدد 4، عام 1977، ص ص 67 - 79!.
ويتساءل الدكتور رفعت السعيد أخيراً – وأعتذر للقارئ الكريم إذ أورد هذا التساؤل (!) وإذ أجيب عليه: إذا كان بشير السباعي يضع توراييف في الدرجة العاشرة، ففي أية درجة يضع بشير السباعي نفسه؟



وجوابي على هذا التساؤل هو أنني أضع نفسي في الدرجة التي يضع نفسه فيها أي إنسان عادي بسيط يحترم الحقيقة التاريخية ويدافع عنها في وجه أي مزور لها، حتى ولو كان هذا المزور عضواً في معهد الاستشراق!



المادية التاريخية:



يعلن الدكتور رفعت السعيد نقطتين يدعو إلى وجوب التوقف عندهما:



1- أن المادية التاريخية ركن أساسي من أركان الماركسية.
2- أن المادية التاريخية تقوم على أساس أطروحة مراحل التطور الخمس وأن هذه الأطروحة تشكل جوهر المادية التاريخية.



بالنسبة للنقطة الأولى، لا أدري بالتحديد ضد من يعلنها الدكتور، فأي ملم بالماركسية سواء كان ماركسياً أم لم يكن، لا يمكن أن ينكر هذه الحقيقة.



وبالنسبة للنقطة الثانية، يكرر الدكتور ما سبق أن قاله في عدد مارس 1989 من هذه المجلة وما سبق أن رددنا عليه في عدد أبريل 1989. وللمرة الثانية يعجز الدكتور، الذي يزعم أن ماركس وإنجلز ولينين يؤيدون هذا الزعم، عن إيراد استشهاد واحد من ماركس أو إنجلز أو لينين لتأييد زعمه، وبدلاً من ذلك، يحيلنا الدكتور إلى: السيد غليزرمان الذي لا تعلو درجته كثيراً عن درجة السيد توراييف!



وحسماً لهذه النقطة، أود أن ألفت انتباه الدكتور إلى أن ما ذكره كاتب هذه السطور في عدد أبريل 1989 من هذه المجلة عن جوهر المادية التاريخية لم يكن أكثر من إعادة طرح لما ذكره إنجلز عن هذا الموضوع في رسالته إلى ج. بلوخ بتاريخ 21-22 سبتمبر 1890 وفي مقدمته للطبعة الإنجليزية لكراس: "الاشتراكية: الطوباوية والعلمية"، الصادرة في عام 1892 – وأرجو من الدكتور ألا يتصور أنني كنت أزرع "لغماً" تروتسكياً في طريقه، فالرسالة والمقدمة مشهورتان إلى حدٍ بعيد!



نمط مستقل أم حالة خاصة لنمط آخر؟



يشير الدكتور رفعت السعيد إلى أن ماركس وإنجلز لم يعتبرا النمط الآسيوي للإنتاج نمطاً مستقلاً، ويحاول الإيحاء بأن ماركس وإنجلز كانا يعتبران هذا النمط حالة خاصة من حالات العبودية أوالإقطاع!



وعلاوة على أن الدكتور لا يثبت صحة هذه الإشارة ولا مشروعية هذا الإيحاء، فإنه عندما يورد جملة ماركس الشهيرة في مقدمة كتاب: "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" والتي يتحدث فيها ماركس عن أنماط إنتاج متميزة، يحذف عمداً إشارة ماركس إلى النمط الآسيوي للإنتاج والتي ترد قبل إشارة ماركس إلى الأنماط الأخرى: القديم والإقطاعي والبورجوازي الحديث!



وللاطلاع على تفنيد تفصيلي لمثل هذه الإشارة وهذا الإيحاء، نحيل القارئ إلى كتاب الباحث السوفييتي ي. فارجا الذي سبقت الإشارة إليه.



ابتكار:



ويستخدم الدكتور رفعت السعيد مصطلحاً جديداً من ابتكاره، هو مصطلح "التشكيلة الخماسية"!



وتعليقاً على هذا الابتكار، نُذَكِّرُ الدكتور بأن من الممكن الحديث عن "تشكيلات اجتماعية – اقتصادية" وعن مخطط لهذه التشكيلات، أما الحديث عن "تشكيلة خماسية" فهو لغز من الألغاز، لا أكثر ولا أقل!



"تأميم" أحمد صادق سعد لحساب "التروتسكية"!



يتصور الدكتور رفعت السعيد أن هناك مؤامرة لـ "تأميم" أحمد صادق سعد لحساب "التروتسكية". وهذا التصور لا يستند إلى أي أساس. فمعركة أحمد صادق سعد مع الستالينية معركة جزئية، وتبني أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج ليس علامة فارقة من علامات "التروتسكية" التي يحلو للكثيرين عندنا الحديث عنها وإصدار أحكام بشأنها وبشأن علاقتها بالماركسية دون أن يكونوا قد اطلعوا على كتابات تروتسكي!



المسألة باختصار، هي أن "التروتسكية" تعتبر أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج أطروحة ماركسية وأن البحث التاريخي هو وحده الذي يمكن أن يسمح بالتحقق من مدى صحة هذه الأطروحة وأن حذف هذه الأطروحة ليس غير تزييف لآراء ماركس عن أنماط الإنتاج وأن الستالينية قد تورطت في مثل هذا التزييف!



فما الذي يثير الدهشة في هذا الكلام؟!



وما هو "المنطق" الذي يجيز اعتبار هذا الكلام عداءً للماركسية أو دليلاً على الإنتقائية؟!



الحواشي:



(1) انظر، "تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي (البلاشفة)"، موسكو، 1943، ص 123، بالإنجليزية.
(2) يعتبر ي. فارجا (1879-1964) من أبرز الباحثين الاقتصاديين السوفييت، وهو من أصل مجري. وقد عارض جوانب من الستالينية خلال أواخر الأربعينيات، الأمر الذي قاد إلى التنكيل به. ولم يجر رد الاعتبار إليه إلا بعد موت ستالين.
(3) انظر، رسالة ماركس إلى هيئة تحرير مجلة "المذكرات الوطنية" الروسية، والمنشورة في ك. ماركس و ف. إنجلز: "المراسلات المختارة"، موسكو، 1965، ص ص 311-313، بالإنجليزية. وفي هذه الرسالة المهمة، يسخر ماركس من ميخائيلوفسكي على النحو التالي: "إنه يشعر أنه يجب عليه وجوباً مطلقاً أن يمسخ مخططي التاريخي لأصل الرأسمالية في أوروبا الغربية وأن يحوله إلى نظرية تاريخية – فلسفية عن الطريق العام الذي كتب على كل شعب أن يسلكه، أيًا كانت الظروف التاريخية التي يجد نفسه فيها، حتى يتسنى له أن يصل في نهاية الأمر إلى شكل الاقتصاد الذي يكفل أكمل تطور للإنسان، إلى جانب أكبر اتساع للقوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي. لكنني أطلب عفوه"، وقد وصف ماركس مثل هذه النظرية التاريخية – الفلسفية بأنها "مفارقة للتاريخ"!



ومن الواضح أن كلام ماركس هذا يتعارض على طول الخط مع مخطط المراحل الخمس الضرورية الذي عرضه ستالين في كراس "المادية الجدلية والمادية التاريخية" والذي خلق مشاكل عسيرة للمؤرخين السوفييت الذين استسلموا لاستئصال ستالين أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج وأخذوا يجهدون أنفسهم في البحث عن تعاقب المراحل الأربع الأولى في تاريخ كل شعب وفي محاولة اكتشاف عبودية أو إقطاع في تاريخ شعوب لم تعرف قط عبودية أو إقطاعاً، الأمر الذي قاد إلى تزييف تاريخ شعوب بأكملها وإلى تخلف الدراسات التاريخية السوفييتية على مدار عقود. ولم يكن هذا التزييف وهذا التخلف غير نتيجة منطقية للانطلاق من "نظرية تاريخية – فلسفية عن الطريق العام الذي كتب على كل شعب أن يسلكه".




مجلة "أدب ونقد"، القاهرة، سبتمبر – أكتوبر 1989




(ملحق)
(رسالة إلى رئيس تحرير مجلة "مجلة أدب ونقد")



السيدة / فريدة النقاش، رئيس تحرير مجلة "أدب ونقد"
تحية صافية



إذا كان من الواضح أننا ليس لدينا اعتراض على قراركم بوقف النقاش الذي بدأه الدكتور رفعت السعيد ضدنا – ذلك النقاش الذي لم نفرضه أصلاً بل فرضه الدكتور علينا دون أن ينجح في إثرائه (1) – فلابد أنه من الواضح أيضاً أن ذلك لا يعني التخلي عن حقنا في الرد على المزاعم والافتراءات التي وجهها الدكتور ضدنا في رسالته إليكم والمنشورة في عدد نوفمبر 1989 والتي لا دخل لها بموضوع النقاش الذي بدأه.



فأولاً، يتهمنا الدكتور بأننا نعتقد دون أية رغبة في التسامح أننا نمتلك ناصية الحقيقة المطلقة، وهو اعتقاد لا ندري مبرراته، خاصة وأننا كنا قد طالبناه بأن يؤكد مزاعمه التي ينسب فيها مخطط المراحل الخمس إلى ماركس ولينين ولو بإيراد استشهاد واحد فقط من ماركس أو من لينين، وهو ما يعني أننا قد أبدينا استعدادنا سلفاً للتخلي عن تصوراتنا في هذا الصدد إذا ما جاء الدكتور بمثل هذا الاستشهاد، وهو ما عجز عنه في جميع مداخلاته، بينما أوردنا نحن استشهاداً واضحاً من ماركس يؤكد زيف زعمه!



وثانياً، يزعم الدكتور أن اتهامنا له بالستالينية – ما يسميه باستخدام "أوصاف غير مبررة"! – في الموضوع المثار – ليس له ما يبرره. ونحن لا ندري كيف يكون هذا الاتهام غير مبرر في الوقت الذي لم يبرر فيه الدكتور كيف تختلف الفكرة التي يدافع عنها عن الفكرة التي دافع عنها ستالين (1879-1953) في كراس "المادية الجدلية والمادية التاريخية"، والتي لم يوافق عليها ماركس أو لينين. ومن الواضح أن تنصل الدكتور – اللفظي والمتأخر – من الستالينية – في هذا الوقت بالذات – ليس غير مظهر من مظاهر الرعب أمام انهيار الستالينية المدوي الذي يشاهده العالم بأسره الآن! (2)



وثالثاً، يزعم الدكتور أن ردنا الأخير عليه كان حافلاً بمجموعة من الاقتباسات كلها بالروسية، في حين أن الرد المذكور، رغم إشارته إلى مراجع روسية، لم يورد غير اقتباس واحد من رسالة ماركس إلى هيئة تحرير مجلة "المذكرات الوطنية"، أشرنا إلى مصدره في ترجمته الإنجليزية وأوردناه مترجماً إلى العربية في الهامش!



وأخيراً يتهمنا الدكتور – من الناحية الفعلية – بالاحتيال إذ نشير إلى مراجع روسية، فهو يذكر أنه يعتقد أننا – مثله – لا نعرف الروسية، وذلك دون أن يورد مبررًا واحدًا لهذا "الاعتقاد"! ومن الواضح أننا إذ نثير هذه النقطة لا نهدف إلى تذكير أحد بترجماتنا لعدد من الدراسات الاستشراقية الروسية والتي أشارت مجلة "أدب ونقد" بالفعل إلى إحداها في صدر عدد فبراير 1989، فما نهدف إليه هو مجرد الإشارة إلى أن موضوعات هذه الدراسات كلها تندرج ضمن إطار الموضوعات التي يزعم الدكتور الاهتمام بها!



بشير السباعي
27-11-1989



(1) الواقع إننا إزاء عجز الدكتور البين عن إثراء المناقشة كنا قد بادرنا بإبلاغ السيد سكرتير تحرير المجلة – بعد نشر ردنا الأخير – أننا نكتفي بما قلناه!
(2) ومن هول الصدمة، يبدو أن الدكتور فقد توازنه تماماً، فهو يتحدث في رسالته عن "التروتسكية"، مؤكدًا – جادًا لا مازحًا! – أنها قد أصبحت الآن "مرفوضة أكثر من ذي قبل"! وذلك دون أن يوضح لأحد صلة هذا "الاعتقاد" (!) بموضوع المناقشة!




[ لم تشأ "أدب ونقد" نشر هذه الرسالة ونشرت، بدلاً من ذلك، كلاماً فارغاً تحت عنوان "توضيح من بشير السباعي"، وكأن توضيحي الوارد بالرسالة المنشورة أعلاه ليس واضحاً ! ]

ماركسية أم ستالينية؟



بشير السباعي



في عدد مارس 1989 من مجلة "أدب ونقد" اتهمني الدكتور رفعت السعيد بـ "مهاجمة الماركسية بحجة مهاجمة الستالينية" وباتهامات أخرى تندرج، بطبيعة الحال، تحت هذا الاتهام الرئيسي.



"والجريمة" التي ارتكبتها تتلخص في أنني كنت قد ذكرت في مقال موجز لي في عدد فبراير 1989 من مجلة "أدب ونقد" أن محاولة أحمد صادق سعد (1919-1988) تقديم رؤية جديدة للتاريخ المصري تستند إلى أطروحة كارل ماركس (1818-1883) المعروفة عن النمط الآسيوي للإنتاج قد دلت على نفوره المتزايد من الأطروحة الستالينية عن مراحل التطور الخمس الضرورية وأن كتابات أحمد صادق سعد الأخيرة تشهد على التوتر الذي أخذ يتزايد احتداداً في تفكيره بين العقائد الستالينية الجامدة ونتائج البحث الماركسي الجديد في تاريخ وحاضر العالم الثالث، خاصة مصر والعالم الإسلامي.



هذه هي "الجريمة" التي ارتكبتها، إذ أن الدكتور رفعت السعيد يعتبر الأطروحة الخاصة بمراحل التطور الخمس أطروحةً ماركسية ولينينية وأنها تشكل جوهر المادية التاريخية، في حين أنني أعتبر هذه الأطروحة أطروحة ستالينية وأن جوهر المادية التاريخية يقع في مجال آخر غير مجال "مراحل" التطور، بصرف النظر عن عدد هذه "المراحل" !
والحال أن أطروحة مراحل التطور الخمس الضرورية تستبعد النمط الآسيوي للإنتاج الذي لم يستبعده لا ماركس ولا إنجلز (1820-1895) ولا لينين (1870-1924). ورغم أن إنجلز لا يشير إلى النمط الآسيوي للإنتاج في كتابه: "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" (زيورخ، 1884) ، إلا أن لينين الذي استشهد في كتابه: "من هم أصدقاء الشعب وكيف يحاربون الاشتراكيين – الديموقراطيين؟" (1894) بإشارة ماركس إلى النمط الآسيوي للإنتاج قد اعتمد في كتابه المذكور نفسه على كتاب إنجلز، ورغم ذلك فإنه – كما يذكر الكاتب السوفييتي ن. ب. تير – آكوبيان – لم يعتبر كتاب إنجلز متعارضاً مع مخطط ماركس عن التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية! (1).



وعلى أية حال، فقد سخر ماركس نفسه في نوفمبر 1877 من محاولة ن. ك. ميخائيلوفسكي (1842 – 1904)، الشعبي الروسي، تصوير أطروحته عن مسار التطور الذي قاد إلى ظهور الرأسمالية في أوروبا الغربية على أنها أطروحة عن مراحل تطور جميع المجتمعات البشرية بوجه عام. والحال أن ي. ف. ستالين (1879-1953) قد تورط في مثل هذه المحاولة خلال الثلاثينيات (3). ولهذا السبب فقد سميت أطروحة "مراحل التطور الخمس الضرورية" أطروحة ستالينية وغير ماركسية، لأن الستالينيين قد عمموا هذه الأطروحة على مجمل التاريخ البشري العالمي واستبعدوا أطروحة ماركس عن النمط الآسيوي للإنتاج على مدار عقود لم تحدث خلالها مناقشة واحدة في صفوف أي حزب ستاليني بشأنها إلا بعد سنوات من رحيل ستالين ! (4).



ومن ناحية أخرى، فإن جوهر المادية التاريخية يقع في مجال آخر غير مجال مراحل التطور التي ميزت المسيرة التاريخية لهذا المجتمع المحدد أو ذاك. فهذا الجوهر يتمثل في الكشف عن التفاعل الجدلي بين العناصر الموضوعية والذاتية للتطور التاريخي للمجتمعات البشرية مع إيلاء الأولوية في عملية تحديد المسيرة التاريخية لعناصر موضوعية على رأسها تبدل أنماط الإنتاج والتبادل، وانقسام المجتمع – الناشئ عن ذلك – إلى طبقات متمايزة ونضالات هذه الطبقات الواحدة ضد الأخرى.



وأخيراً، فإن من حق الدكتور رفعت السعيد أن يختلف مع أحمد صادق سعد – ومع ماركس نفسه – في مشروعية تطبيق أطروحة النمط الآسيوي للإنتاج على التاريخ المصري، إلا أن ما ليس من حق الدكتور هو الإيحاء بأن هذه الأطروحة غير ماركسية أو معادية للماركسية، فالدكتور – باختصار – لا يمكن أن يكون ماركسياً أكثر من ماركس!!



الحواشي:



(1) ن. ب. تير – آكوبيان: "آراء ماركس وإنجلز حول النمط الآسيوي للإنتاج والمشترك القروي" في كتاب: "من تاريخ الماركسية والحركة العمالية الدولية" موسكو، 1973، ص ص 170 – 171، بالروسية.



(2) ك. ماركس و ف. إنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 19، ص 120، بالروسية، أو ك. ماركس وف. إنجلز، المراسلات المختارة، موسكو، 1965، ص 313، بالإنجليزية.



(3) ج. ستالين، مسائل اللينينية، بكين، 1977، ص 877، بالفرنسية.



(4) حين وجد الدكتور رفعت السعيد نفسه عاجزاً عن إيراد استشهاد واحد من ماركس أو إنجلز أو لينين يفيد أن ماركس قد اعتبر "المراحل الخمس" ضرورية لتطور جميع المجتمعات، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، لجأ إلى الاستشهاد بكاتب ستاليني من الدرجة العاشرة، متصوراً أن هذا الكاتب يعبر عن رأي جماعي موحد للمستشرقين السوفييت!.



والحال أن هناك ثلاثة اتجاهات في الاستشراق السوفييتي:



1- اتجاه ف. ن. نيكيفوروف ورفاقه الذين يرون أن الشرق قد مر بذات مراحل التطور التي مر بها الغرب الأوروبي؛
2- اتجاه ل. س. فاسيليف ورفاقه الذين يرفضون الأطروحة الستالينية عن مراحل التطور الخمس ويرون أن الشرق قد سلك في تطوره مساراً يختلف جذرياً – على مدار نحو ألفي سنة – عن مسار تطور الغرب الأوروبي، يتميز بسيادة النمط الآسيوي للإنتاج على ما عداه من أنماط؛
3- اتجاه ثالث يتخذ موقف التوفيق بين الاتجاهين السابقين.



ومن الناحية التاريخية، فإن اتجاه ف. ن. نيكيفوروف ورفاقه ليس غير امتداد لاتجاه الاستشراق الستاليني الذي يرجع إلى الثلاثينيات، أما الاتجاه الثاني فقد ظهر في أواسط الستينيات، بينما ظهر الاتجاه الثالث في أواخر الستينيات.
وللوقوف على معالم الاتجاه الأول، نحيل القارئ إلى كتاب ف. ن. نيكيفوروف: "الشرق والتاريخ العالمي"، موسكو، 1975، بالروسية.



وللوقوف على معالم الاتجاه الثاني، نحيل القارئ إلى مقال ل. س. فاسيليف: "العام والخاص في التطور التاريخي لبلدان الشرق" في مجلة (شعوب آسيا وأفر يقيا)، 1965، العدد رقم 6، بالروسية.



وللوقوف على معالم الاتجاه الثالث، نحيل القارئ إلى "مقدمة" و"خاتمة" كتاب: "تاريخ الهند في العصور الوسطى"، موسكو، 1968، بالروسية.



(5) يشير ن. ب. تير – آكوبيان في دراسته التي سلفت الإشارة إليها في الحاشية رقم (1) إلى أن ماركس وإنجلز "نظرا إلى المجتمع الشرقي (مصر والهند تحديداً) بوصفه شكلاً خاصاً من أشكال التنظيم الاجتماعي، يتميز عن الأشكال (أو المراحل) الأخرى لتطور المجتمع البشري" (ص181). وفيما يتعلق بمصر تحديداً، أشار الكاتب إلى مقال لماركس يرجع إلى يناير 1849، أي ما قبل عشر سنوات من طرح المصطلح.



وبهذه المناسبة ، أود أن أشير إلى أن أحمد صادق سعد كان قد حث كاتب هذه السطور، خلال حديث دار بينهما، على ترجمة دراسة ن. ب. تير – آكوبيان. ويبدو أنه قد آن الأوان لإنجاز هذه المهمة.



مجلة "أدب ونقد"، القاهرة، سبتمبر – أكتوبر 1989

اليهود والحركة الشيوعية المصرية

ردٌ على طارق البشري

بشير السباعي




شكلت الخلفية اليهودية لعدد من قادة الحركة الشيوعية المصرية بين عامي 1918 و 1958 – ومن بين هؤلاء القادة أحمد صادق سعد (1919-1988) – مبرراً من مبررات الهجوم الإيديولوجي على هذه الحركة من جانب ممثلي التيارات القومية الشوفينية على اختلافها. وقد ساعد على اتساع نفوذ هذا الهجوم واقع أنه قد تستر بادعاء الدفاع عن المصالح القومية العربية وواقع أن قيادات الحركة الشيوعية المصرية قد أظهرت تقصيراً ملحوظاً في مجال الدفاع عن هذه المصالح في فلسطين خلال عامي 1947 و 1948.

ومن ناحية أخرى فقد شارك في هذا الهجوم الإيديولوجي في السنوات الأخيرة عدد من الكتاب البارزين، على رأسهم المستشار طارق البشري، الذي كان أحمد صادق سعد يكن له تقديراً خاصاً فيما يتعلق بجانب من تناوله لتاريخ الحركات التلقائية الشعبية في مصر، من ناحية، ولا يخفي الإعراب عن عدم ارتياحه لكثير من استنتاجاته، من ناحية أخرى.

ويمكننا الادعاء بأن أحمد صادق سعد ما كان ليقبل، بشكل خاص، استنتاجات المستشار طارق البشري بشأن مسألة "اليهود والحركة الشيوعية المصرية" والتي عاد الأخير إلى عرضها في عدد أبريل 1988 من مجلة "الهلال" القاهرية بعد أن كان قد سبق له أن فعل ذلك بشكل تفصيلي في كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" (القاهرة، 1981).

* * *

يمكن تلخيص الاستنتاجات التي توصل إليها طارق البشري فيما يلي:

1- أن الحركة الشيوعية المصرية قد عرفت اليهود مؤسسين لها أو مندوبين للأممية الشيوعية أو مسؤولين في هيئات الأممية المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. 2- أن الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني. 3- أن التوجه اليهودي الأجنبي إلى الحركة الشيوعية المصرية، بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية، كان جزءاً من سعي الجاليات الأجنبية في مصر إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية. 4- أن جانباً من الصراع السياسي داخل الحركة الشيوعية المصرية يجد تفسيره في سعي العناصر اليهودية الأجنبية داخل الحركة إلى استبقاء هيمنتها على الحركة في مواجهة الكوادر المصرية.

وقد استند طارق البشري، في التوصل إلى هذه الاستنتاجات، إلى كتب رفعت السعيد عن "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية"، وإلى كتاب الأستاذ محمد سيد أحمد: "مستقبل النظام الحزبي في مصر" (القاهرة، 1985).

ومن بين هؤلاء الكتاب الثلاثة، فإن رفعت السعيد كان الوحيد الذي اعترض على تفسير طارق البشري لما كتبه حول دور اليهود في الحركة الشيوعية المصرية (رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1940 إلى 1950، شركة الأمل، القاهرة، 1988، ص6)، إلا أنه لم يناقش الاستنتاجات التي توصل إليها طارق البشري، وكأنها لا تستحق المناقشة، رغم أن رفعت السعيد يقرر أن الأخير اتخذ من كتاباته – كتابات رفعت السعيد – "مادة للدعاية المضادة لليسار" (المصدر السابق، ص5). ويبدو أن رفعت السعيد لا يقدر هذه الدعاية على نحو ما يجب، خاصة عندما يبادر بها مؤرخ واسع النفوذ مثل طارق البشري.

وسوف نحاول في السطور التالية مناقشة استنتاجات طارق البشري والتي أوحت بها إليه كتابات المذكورين.

* * *

1- عرفت الحركة الشيوعية المصرية اليهود الأجانب مؤسسين لها أو مندوبين للأممية الشيوعية أو مسؤولين في هيئات الأممية المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. هذا صحيح. فعلى سبيل المثال، كان جوزيف روزنتال واحداً من مؤسسي الخلايا الشيوعية في مصر بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، وكان روبرت جولدنبرج سكرتيراً للجنة القاهرة للحزب الشيوعي المصري الأول، وكان أ. أفيجدور و أ. ن. تيبير (الشهير تحت الاسم الحركي أ. شامي) (1893-1942)، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني من عام 1922 وعضو الحزب الشيوعي السوري في عامي 1925 و 1926 ومندوب اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في عامي 1927 و 1928 والأستاذ بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق حتى عام 1929، مندوبين للجنة التفيذية للأممية الشيوعية لدى الحزب الشيوعي المصري الأول، وكان فولف ب. آفيربوخ (الشهير تحت الاسمين الحركيين أبو زيام وحيدر) (1893-1941)، عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني اعتباراً من عام 1922 والسكرتير العام للحزب المذكور بين عامي 1923 و 1930 وأحد مسؤولي الأممية الشيوعية بين عامي 1931 و 1935، مسؤولاً عن القسم العربي بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق خلال أوائل الثلاثينيات، وكان ف. أ. روتشتاين (1871-1953)، مؤلف كتاب "خراب مصر" (1910)، وكتاب "الإنجليز في مصر" (1925)، من كبار الكتاب الروس الذين وجهت تحليلاتهم جانباً من مواقف الكومنترن تجاه مصر.

هؤلاء جميعاً كانوا يهوداً، وكان هناك يهود آخرون لعبوا أدوراً أقل شأناً.

على أن الحركة الشيوعية المصرية قد عرفت كذلك – وهو ما لا يمكن أن يجهله طارق البشري – الشوام المسيحيين واليونانيين والقبارصة والأرمن والإيطاليين والسويسريين، بل واليابانيين والبلغاريين مؤسسين لها أو مندوبين للجنة التنفيذية للأممية الشيةعية أو مسؤولين في هيئات الأممية - المؤقتة و الدائمة- المسؤولة عن النشاط الشيوعي في الشرق الأوسط. ومن المؤكد أن طارق البشري يعرف أن اللبناني المسيحي أنطون مارون (1885-1925)، المحامي والصحفي اللامع، كان أحد منظمي النقابات العمالية المصرية وأحد مؤسسي وقادة الحزب الشيوعي المصري الأول، وأن الياباني "سين كاتاياما"، كان رئيس لجنة المسألة المصرية التي أعدت مشروع قرار المؤتمر العالمي الرابع للأممية الشيوعية (نوفمبر – ديسمبر 1922) بشأن الحزب الاشتراكي المصري، وأن البلغاري جيورجي ديمتروف (1882-1949) كان أحد راسمي توجيهات الكومنترن إلى الشيوعيين المصريين في عام 1935، إلخ، إلخ.

المسألة إذاً ليست مسألة يهود بشكل محدد. بل مسألة طبيعة الحركة الشيوعية بوصفها حركة غير قومية توحد في صفوفها مناضلين من مختلف الجنسيات، دون تمييز بين يهودي أجنبي أو مصري أصيل أو لبناني مهاجر أو يوناني وافد، إلخ.

والحال أن وجود عناصر تنتمي إلى أقليات مختلفة، أجنبية أو محلية، في حركة سياسية كالحركة الشيوعية، ليس ظاهرة استثنائية في التاريخ العربي أو غير العربي.ذلك أن الحركة القومية – التنويرية العربية في الإمبراطورية العثمانية في الشطر الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثلاً، قد عرفت المسيحيين الشوام قادة ومفكرين ومؤسسين لجماعات تنويرية ومناضلين ضد الاستبداد التركي وداعين إلى أفكار القومية العربية، كما عرفت الحركة القومية – التنويرية المصرية في الفترة ذاتها اليهود والشوام المسيحيين قوميين ومنوِّرين.

وقد وجد هذا الواقع التاريخي تفسيراً له في كتابات عدد من المستشرقين، نذكر من بينهم زلمان إيساكوفيتش ليفين وأ. جورافسكي.

وعندما نتحدث عن وجود عناصر من الجاليات الأجنبية في الحركة الشيوعية المصرية خلال الفترة من عام 1918 إلى عام 1958 فإننا نتحدث عن عناصر طليعية من المثقفين وأشباه المثقفين والعمال المنتمين إلى مثل هذه الجاليات لا عن الجماهير الغفيرة للأخيرة. فالواقع أن هذه الجماهير، لأسباب اجتماعية – سياسية تاريخية محددة، قد ظلت خارج الحركة الشيوعية المصرية، بل واتخذت منها موقفاً عدائياً من خلال اندراجها – على الأغلب – في حركات قومية مناوئة للشيوعية. وكانت نسبة المناضلين المنتمين إلى الجاليات الأجنبية في الحركة الشيوعية المصرية إلى المناضلين المصريين أقل من نسبة إجمالي أفراد الجاليات الأجنبية إلى عدد السكان المصريين. وكان هؤلاء المناضلون الأجانب يمثلون نسبة لا تكاد تذكر من أفراد الجاليات الأجنبية التي ينتمون إليها.

وعندما بدأ تكوين الخلايا الشيوعية الأولى في مصر عام 1918 كان العدد الإجمالي لأفراد الجاليات الأجنبية نحو 330 ألف نسمة في بلد يبلغ تعداد سكانه 13 مليون نسمة. وكان من الطبيعي أن تندرج أعداد من أفراد هذه الجاليات في صفوف الحركة الشيوعية، مثلما اندرجت أعداد أخرى – بدرجة أعلى بكثير – في حركات سياسية أخرى كالحركة القومية الأرمنية أو الحركة الفاشية الإيطالية أو الحركة الصهيونية اليهودية.

والواقع أن وجود اليهود في الحركة الشيوعية، خاصة في بداياتها، ليس قاصراً على الحركة الشيوعية المصرية. فقد عرفت الحركات الشيوعية في العديد من البلدان التي توجد بها أقليات يهودية محلية أو يهود أجانب ظاهرة اندراج مثقفين وأشباه مثقفين وعمال متقدمين في صفوفها. وقد أشار ليون تروتسكي (1879 – 1940) إلى هذا الواقع في عام 1939 حيث أوضح أن اليهود في مثل تلك البلدان "يشكلون أشباه أجانب، غير مستوعبين بالكامل، منفصلين عن الموروثات القومية للشعوب التي يحيون بينها، وينتمون إلى كل اتجاه انتقادي جديد، ثوري أو شبه ثوري، في السياسة، والفن، والأدب، إلخ".

باختصار، لا يجب التوقف عند واقع وجود عناصر يهودية أجنبية في الحركة الشيوعية المصرية، خاصة في بداياتها، بل يجب الانتقال من رصد هذا الواقع إلى محاولة تفسيره، وهذا يجرنا إلى ثاني استنتاجات طارق البشري.

2- في تجاهل تام لتفسير كذلك الذي قدمناه، يزعم طارق البشري أن "الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني في منطقة المشرق العربي".

هذا إذاً هو تفسيره، أو أحد تفسيراته، للوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية.

يستند طارق البشري في هذا التفسير إلى واقع رئيسي: تأييد أغلب الكوادر اليهودية داخل الحركة الشيوعية المصرية، خاصة في عامي 1947 و 1948 لقرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين.

ولابد من التساؤل: هل كان هذا التأييد صادراً عن عقيدة صهيونية لدى هذه الكوادر أم كان صادراً عن ذيلية هذه الكوادر السياسية تجاه البيروقراطية السوفييتية التي أيدت هذا القرار؟

لقد أيدت أحزاب ستالينية عديدة، ليست تحت سيطرة كوادر يهودية، هذا القرار، وكذلك فعلت كوادر ستالينية مصرية غير يهودية. بينما عارضته – في البداية على الأقل – كوادر ستالينية يهودية في الحركة الشيوعية المصرية. هذا واقع تاريخي.

ورغم أننا لا نستبعد حدوث اختراق صهيوني تخريبي للحركة الشيوعية في عدد من بلدان المشرق العربي ومصر، إلا أننا نعتقد أن تأييد غالبية الكوادر اليهودية لمشروع إنشاء دولة يهودية في فلسطين كان صادراً عن الذيلية السياسية لهذه الكوادر تجاه ستالين، الذي لم يكن، بطبيعة الحال، يهودياً، بل والذي يمكن التأكيد على أنه كان معادياً للسامية.

وحيث أن هذه القيادات لم تكن تتمتع بأية سيطرة ذات وزن على القطاعات الرئيسية للحركة الجماهيرية، فإنها لم تخف من خسارة هذه مثل هذه السيطرة – غير الموجودة – إذا أيدت موقف ستالين، وكان شاغلها الرئيسي هو السيطرة على الحلقات التي كانت تتزعمها والتي ربتها على روح الولاء لخط "الأخ الأكبر".

ومن ناحية أخرى فإن الكوادر اليهودية داخل الحركة التروتسكية العالمية، وعلى رأسها أرنست ماندل وييجال جلوكشتاين (الشهير تحت اسم توني كليف) قد اتخذت موقفاً أممياً عند تفجر النزاع العربي – الصهيوني في عامي 1947 و1948 ووقفت ضد قرار تقسيم فلسطين وشجبت اعتراف ستالين بالدولة الصهيونية.

المسألة إذن ليست مسألة يهود، بل مسألة سياسة. وقد كانت سياسة غالبية الكوادر الستالينية اليهودية تجاه النزاع المذكور سياسة انتهازية غير ماركسية.

3- أما التفسير الثاني الذي يقدمه طارق البشري للوجود اليهودي في الحركة الشيوعية المصرية بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر في عام 1937 فهو أغرب من التفسير الأول.

يزعم طارق البشري أن التوجه اليهودي الأجنبي إلى الحركة الشيوعية المصرية كان جزءاً من سعي الجاليات الأجنبية إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية.

لقد سبق أن أشرنا إلى أن الجماهير الغفيرة للجاليات الأجنبية في مصر قد ظلت خارج الحركة الشيوعية، بل واتخذت منها موقفاً عدائياً، وقد عبرت صحافة هذه الجاليات الصادرة في مصر عن هذا العداء مراراً، كما أن جماهير هذه الجاليات الغفيرة كانت غارقة، بحكم تكوينها الاجتماعي، في حركاتها القومية الخاصة: كان هذا حال الأرمن ولا يزال حالهم إلى اليوم وكان هذا هو حال غالبية أفراد الجالية الإيطالية التي راهنت على موسوليني، خاصة بعد نجاح غزو الحبشة، وكان هذا هو حال جانب غير قليل من اليهود الأجانب الذين راهنوا على اقتراب تحقق المشروع الصهيوني في فلسطين، إلخ.

ومن ناحية أخرى، فإن ميل الجاليات الأجنبية إلى تأمين امتيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية قد فرض على هذه الجاليات تأييد اليدكتاتوريات المصرية التي كانت تقمع كل تحرك جماهيري مضاد للامتياز الاجتماعي – الاقتصادي، سواء كان مصرياً أو أجنبياً. ومن غير المفهوم أن يتوجه الأجانب في مصر إلى الحركة الشيوعية – التي لا تخفي عداءها للامتياز الاجتماعي – الاقتصادي، خاصة الأجنبي – سعياً إلى... تأمين امتيازاتهم.

إن التفسير الذي يقدمه طارق البشري ليس سوى لغز نرجو أن يتمكن من تفسيره.

لقد كان الرهان الرئيسي للجاليات الأجنبية المتميزة في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، مثلما كان قبلها، يتمثل في تأكيد السيطرة البريطانية على البلاد وفي تأييد وجود جيش الاحتلال.

لقد تدفق الأجانب على مصر مع عملية استعمار مصر، خاصة بعد الاحتلال البريطاني في عام 1882 وأخذت الجماهير الغفيرة لهذه الجاليات في النزوح عن مصر بشكل جماعي بعد جلاء الجيش البريطاني في عام 1956.

ذلك واقع تاريخي معروف للجميع، ولا ندري لماذا اختار طارق البشري تجاهل مغزى هذا الواقع وراح يتحدث عن رهان الجاليات الأجنبية على... الحركة الشيوعية.

4- يزعم طارق البشري أن جانباً من الصراع السياسي داخل الحركة الشيوعية المصرية في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يجد تفسيره في سعي العناصر اليهودية الأجنبية داخل الحركة إلى استبقاء هيمنتها على الحركة في مواجة الكوادر المصرية.

هذا الاستنتاج ضروري لتعزيز مجمل استنتاجات طارق البشري السابقة حول أهداف الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية.

ولا ندري لماذا يتحدث طارق البشري عن "الصراع السياسي" داخل الحركة الشيوعية المصرية بينما يعرف الجميع أن صراعات الفصائل الستالينية الداخلية كانت في أغلبها صراعات مبتذلة – ومريرة للأسف – بين حلقات وشيع وتجمعات معزولة عن القطاعات الرئيسية للحركة الجماهيرية؟

إن الصراع على الصدارة، في ظرف كهذا، لا يحتاج تفسيره إلى البحث عن "مذنب" يهودي، فقد كان الجميع "مذنبين"، وكان الجميع غائبين عن دور القائد السياسي الفعلي للطبقة العاملة المصرية.

والحال أن غياب حركة شيوعية ذات نفوذ رئيسي داخل الحركة العمالية هو من الأمور التي تشجع على الصراعات الفصائلية غير المبدئية وغير المسؤولة وعلى ميول كسب الصدارة داخل الحلقات وعلى احتداد الانقسامات وتزايد الانشقاقات اللامبدئية. ولا تتراجع هذه الظواهر السلبية إلا عندما تكون هذه الحركة الشيوعية حركة مسؤولة أمام جماهير عريضة. ولم تكن الحركة الستالينية المصرية حركة مسؤولة أمام جماهير عريضة ولم تكن هذه الجماهير مهتمة بالوقوف على النزاعات الفصائلية داخل صفوف الحركة الستالينية لأنها لم تكن تتحسس خطورة هذه النزاعات على حركتها التي لم ينجح الستالينيون المصريون في تحقيق انغراس مؤثر ومستقر في صفوفها.

وبسبب افتقار غالبية كوادر الحركة الستالينية إلى تربية أممية، فقد كان من السهل على الزعماء المتنازعين إذكاء الشوفينية القومية داخل الحلقات، سعياً إلى كسب الصدارة، وتبادل الاتهامات فيما بينهم، في الوقت نفسه، بخيانة الأممية البروليتارية.

لقد بينا زيف تفسيرات طارق البشري للوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية، ومع سقوط هذه التفسيرات يسقط، كذلك، تفسيره للنزاعات الفصائلية داخل الحركة.

مسائل منهجية:

لا شك أن طارق البشري يدرك جيداً أن التحقق من صدق رواية ما عن موضوع تاريخي ما وصحة نسب وثيقة ما هو من المقومات الأساسية للبحث التأريخي.

ورغم ذلك، فإن طارق البشري لم يهتم بإجراء مثل هذا التحقق في موضوع "اليهود والحركة الشيوعية المصرية". وسوف نكتفي للتدليل على ذلك بإيراد مثالين:

1- ينقل طارق البشري رواية عبد الرحمن فضل – التي أدلى بها الأخير لرفعت السعيد، حسب زعم رفعت السعيد – عن تجربته في موسكو.

وفي هذه الرواية، يتحدث عبد الرحمن فضل عن أبو زيام باعتباره "يهودياً عربياً، كان ينفذ الأغراض الصهيونية". وقد ذكر عبد الرحمن فضل أن أبو زيام قد أبعد عن الكومنترن في عام 1935 ضمن "70 شخصاً صهيونياً"، الأمر الذي اعتبره عبد الرحمن فضل تأكيداً لمخاوف وشكوك الشيوعيين العرب تجاه أولئك الأشخاص.

لا يتحرى رفعت السعيد صدق هذه الرواية. إنه يكتفي بإثباتها دون إثارة أي شكوك حولها. وطارق البشري – للأسف! – يفعل الشيئ نفسه، ويرتب عليها جانباً من استنتاجاته!

والحال أن هذه الرواية زائفة من أساسها.

فأولاً، لم يكن أبو زيام يهودياً عربياً، بل كان يهودياً روسياً. وقد سبق أن أشرنا إلى اسمه الحقيقي.

وثانياً، رغم أن أبو زيام قد أُعدم في عام 1941 بتهمة العمالة للاستعمار والدعوة للصهيونية، إلا أنه قد أنكر هذه التهمة. وجرى رد الاعتبار إليه رسمياً في عام 1957.

2- يسلم طارق البشري بادعاء رفعت السعيد أن الوثيقة التي تحمل عنوان "المشكلة الفلسطينية" ترجع إلى قلم هنري كورييل.

لم يحاول طارق البشري التحقق من صحة نسب الوثيقة المذكورة إلى هنري كورييل، رغم أن ادعاء رفعت السعيد بوجود "دلائل عديدة" على صحة هذا النسب لا يتضمن الإشارة إلى دليل واحد.

بل على العكس، هناك ما يشير إلى عدم صحة هذا النسب.

فأولاً، لا يشير هنري كورييل نفسه في الحديث الذي أجراه معه رفعت السعيد في باريس في 2/4/1973 والذي تحدث فيه الأول عن تطور موقفه تجاه المسألة الفلسطينية، إلى هذه الوثيقة.

وثانياً، لا يشير جيل بيرو، الذي كتب سيرة هنري كورييل وتناول تطور موقفه تجاه المسألة الفلسطينية، إلى هذه الوثيقة، رغم أن جيل بيرو قد اطلع على كامل أرشيف هنري كورييل.

وثالثاً، لا يشير هنري كورييل إلى هذه الوثيقة في الجزء الذي يحمل عنوان: "موقف الحركة المصرية للتحرر الوطني من المشكلة الفلسطينية" من تقريره عن تاريخ الحركة بين عامي 1943 و1948.

ورابعاً، يبدو من الوثيقة أن التحليل الذي تتضمنه للمشكلة الفلسطينية يتوقف عند خريف 1945. وفي تلك الفترة كان كورييل غارقاً حتى أذنيه في التعامل مع مشكلات تنظيمية داخل الحركة المصرية للتحرر الوطني، بشكل كان يتعذر معه عليه التفرغ لإعداد وثيقة عن المشكلة الفلسطينية.

وخامساً، تستند الوثيقة المذكورة إلى مراجع عبرية – ضمن مراجع أخرى – ولم يكن هنري كورييل – في عام 1945 على الأقل إن لم يكن بعد ذلك أيضاً – على إلمام باللغة العبرية.

وسادساً، تتضمن الوثيقة ملاحظات عن كيبوتزات في فلسطين، لا تتوافر إلا لشاهد عيان. والحال أن هنري كورييل لم يكن قد زار فلسطين في الفترة التي ترتبط بها هذه الملاحظات .

وسابعاً، يكشف تحليل بنية الوثيقة أنها لا تمت بصلة لبنية مختلف محررات هنري كورييل. ولو نشرت هذه الوثيقة ضمن مجموعة كتابات هنري كورييل لاكتشف القارئ العادي ذلك.

وثامناً، يعلن هنري كورييل في سيرته الذاتية أنه ورفاقه لم يهتموا بالقضية الفلسطينية خلال الفترة التي من المفترض أن الوثيقة قد كتبت فيها.

وأخيراً، فإن التاريخ الذي ذيلت به الوثيقة تاريخ مزيف، لأن الوثيقة نفسها تستشهد بمراجع صدرت بعد ذلك التاريخ. إننا نكتفي بالمثلين السابقين للتدليل على أن طارق البشري لم يلتزم في موضوع "اليهود والحركة الشيوعية المصرية" بقواعد البحث التأريخي.


مايو 1990







أحمد صادق سعد


(1919-1988)


بشير السباعي


ولد أحمد صادق سعد في يناير 1919 في شبرا باسم إيزيدور سلفادور لأب حرفي يهودي كان قد نزح إلى مصر من تركيا، هو رافاييل سيمون سالتييل، الذي كان أجداده قد نزحوا إلى الامبراطورية العثمانية أثناء طرد اليهود الجماعي من إسبانيا في عام 1492، ولأم بورجوازية صغيرة يهودية ولدت في أوديسا، الميناء الأوكراني الواقع على البحر الأسود، هي صوفي بيرليافسكي، التي عاصرت المذابح المعادية لليهود في أوكرانيا خلال العهد القيصري.


وقد حصل أحمد صادق سعد على تعليمه قبل الجامعي في مدارس فرنسية في مصر ثم تخرج من كلية الهندسة في أوائل الأربعينيات.


وكانت اللغة الفرنسية – حتى تخرجه – هي اللغة الرئيسية التي يتحدث ويقرأ بها. إلا أنه سرعان ما تمكن - في وقت قياسي – من تعلم اللغة العربية والكتابة بها، خلافاً لكثيرين من أقرانه من المثقفين اليهود ذوي الأصول الأجنبية. وهو ما يدل على أن أحمد صادق سعد كان قد قرر – منذ وقت مبكر – البقاء في مصر وربط مصيره بمصير البلد الذي ولد ونشأ فيه.


وقد ارتبط أحمد صادق سعد في صدر شبابه – خاصة عشية الإبادة الهتلرية لليهود في ألمانيا – بعدد من الحركات الشبابية اليهودية المناهضة لمعاداة السامية، مؤكداً بذلك تحرره التام من مؤثرات الصهيونية التي اعتبرت مناهضة معاداة السامية عملاً عبثياً ورأت حل المسألة اليهودية في تجميع يهود الشتات في فلسطين. ويبدو أنه كان يدرك إدراكاً جيداً أن الصهيونية لا تبدأ إلا مع الكف عن النضال ضد معاداة السامية واليأس من إمكانية تطبيع الحياة اليهودية داخل المجتمعات التي يحيا اليهود فيها.


وعندما قرر عدد من المثقفين اليهود الأجانب الرحيل عن مصر إلى فلسطين – ولو مؤقتاً – إثر اقتراب قوات المحور من مصر في عام 1942، قرر أحمد صادق سعد البقاء في مصر. وكان قادراً على إدراك أنه إذا ما قدر لهذه القوات احتلال مصر، فلن يكون هناك ما يحول دون اجتياحها فلسطين. وتنظيم مذبحة جماعية لليهود هناك. ولذا فقد رأى أن الخيار الوحيد المناسب هو الصمود والمقاومة لا الفرار.


وقد ارتبط أحمد صادق سعد في أواخر الثلاثينيات بـ "الرابطة السلمية" التي كان الشيوعي السويسري المعروف بول جاكو ديكومب قد أسسها في مصر إثر مؤتمر أمستردام, إلا أن الرابطة سرعان ما حلت نفسها إثر نشوب الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939.


وغداة حل "الرابطة السلمية"، شارك أحمد صادق سعد في تكوين "جماعة البحوث"، والتي ركزت على إعداد دراسات عن الواقع الاجتماعي المصري المعاصر وعن تاريخ الحركة القومية المصرية.


وفي عام 1941، شارك أحمد صادق سعد في تأسيس "لجنة نشر الثقافة الحديثة" التي ترأسها سعيد خيال، والتي نظمت عدداً من الندوات التي كان يتردد عليها مثقفون يساريون من مختلف الميول.


وفي عام 1942، شارك في تأسيس "جماعة الشباب للثقافة الشعبية" التي مارست النشاط – حتى عام 1945 – بين صفوف العمال في منطقة السبتية بالقاهرة وبين صفوف الفلاحين في منطقة ميت عقبة بالجيزة. وقد حلت هذه الجماعة نفسها في عام 1945 لتحل محلها "لجنة العمال للتحرر القومي – الهيئة التأسيسية للطبقة العاملة" والتي تولت إصدار مجلة "الضمير".


وفي عام 1945، نشر أحمد صادق سعد كراس "مشكلة الفلاح". وقد دعا هذا الكراس إلى تحديد حد أقصى لملكية الأرض الزراعية لا يزيد عن خمسين فداناً، وإلى مصادرة الأراضي التي تزيد عن هذا الحد وتوزيعها على الفلاحين المعدمين وإلى إنشاء تعاونيات زراعية إنتاجية. وقد ربط الكراس إجراء هذه التحولات بتحول جذري في الهيكل الاجتماعي – الاقتصادي للبلاد.


وترى الباحثة السوفييتية إيفانوفا أن كراس "مشكلة الفلاح" هو أول معالجة ماركسية للمسألة الزراعية في مصر. وفي عام 1945، شارك أحمد صادق سعد في إصدار مجلة "الفجر الجديد" وأسهم بالكتابة فيها – بتوقيع "أحمد سعيد" أو "نهاد" – حتى إغلاقها في يوليو 1946 ضمن إطار الحملة المعادية للشيوعية التي شنها إسماعيل صدقي.


وفي عام 1976، أعاد أحمد صادق سعد نشر هذه الإسهامات الصحفية تحت عنوان "صفحات من اليسار المصري" صدَّرَها بتناول انتقادي لتجربة الحركة الشيوعية المصرية.


وفي عام 1946، شارك أحمد صادق سعد في تأسيس منظمة "الطليعة الشعبية للتحرر"، وتولى قيادة هذه المنظمة حتى منتصف عام 1948. وقد غيرت هذه المنظمة اسمها في عام 1951 إلى "طليعة العمال" ثم في عام 1957 إلى "حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري". وعند توحيد الحركة الشيوعية المصرية في عام 1958، جرى استبعاد أحمد صادق سعد من الأجهزة القيادية للحزب الجديد، كجزء من سياسة "تمصيرية" عامة لهذه الأجهزة.


وفي عام 1946، نشر أحمد صادق سعد كتاب "فلسطين بين مخالب الاستعمار"، وهو ثاني كتاب يساري يصدر باللغة العربية في مصر عن الصهيونية، حيث كان أنور كامل قد نشر قبل ذلك بعامين كتاب "الصهيونية". وقد استفاد أحمد صادق سعد في فهم المسألة اليهودية ومضاعفاتها من كتاب أوتو هيلر: "اضمحلال اليهودية"، الذي كان قد صدر بالألمانية في فيينا في عام 1931 والذي اطلع عليه أحمد صادق في ترجمته الفرنسية الصادرة في باريس في عام 1939. وقد تعرض أحمد صادق للاعتقال في عام 1946 ثم في عام 1948.


وعند صدور قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947، عارض أحمد صادق سعد القرار على صفحات نشرة "الهدف" الشيوعية السرية، إلا أنه اضطر إلى التراجع عن هذه المعارضة إثر انتهاء حرب فلسطين، مسايراً بذلك الخط السوفييتي الرسمي تجاه المسألة الفلسطينية.


وعندما بلغت الحملة المعادية للشيوعية ذروتها في عام 1959، تعرض أحمد صادق سعد للاعتقال وظل معتقلاً حتى عام 1964 (1).


وبعد حل المنظمات الشيوعية لنفسها، انصرف أحمد صادق سعد إلى البحث والكتابة وإلى إعادة النظر في تجربة الحركة التي كان أحد مؤسسيها. وتولى في الوقت نفسه مسؤولية إدارة المشروعات بشركات الدلتا الصناعية (إيديال).


وفي عام 1979، نشر أحمد صادق سعد كتابه الرئيسي: "تاريخ مصر الاجتماعي – الاقتصادي"، الذي حاول أن يقدم فيه رؤية جديدة للتاريخ المصري تستند إلى أطروحة ماركس المعروفة عن "النمط الآسيوي للإنتاج"، والتي كانت قد لقيت رواجاً بين صفوف عدد من الباحثين الماركسيين الفرنسيين خلال الستينيات.


وتعتبر محاولة أحمد صادق سعد المحاولة الثانية بعد محاولة إبراهيم عامر في كتابه "الأرض والفلاح" (1957) لتناول تاريخ مصر الاجتماعي – الاقتصادي تناولاً غير تقليدي.


وقد دلت هذه المحاولة من جانب أحمد صادق سعد على نفورة المتزايد من الأطروحة الستالينية عن "مراحل التطور الخمس الضرورية" والتي كان هو نفسه قد ساعد على ترويجها من قبل.


وقد اتبع أحمد صادق سعد هذا الكتاب الرئيسي بعدد من الكتب والدراسات والمقالات التي تشهد كلها على التوتر الذي أخذ يتزايد احتداداً في تفكيره بين العقائد الستالينية الجامدة ونتائج البحث الماركسي الجديد في تاريخ وحاضر العالم الثالث، خاصة مصر والعالم الإسلامي.


* * *


لقد مات أحمد صادق سعد وهو في غمار البحث الدؤوب عن إجابات عن الأسئلة التي تؤرق بال الكثيرين من المثقفين اليساريين المصريين على عتبات القرن الحادي والعشرين بعد أن تكشف لهم أن الجمود الفكري لا يمكن أن يكون مدخلاً إلى تحقيق مجتمع يكون فيه "التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للجميع"، حسب كلمات "البيان الشيوعي". ولا عزاء للمتخشيبين!


مجلة "أدب ونقد"، القاهرة، فبراير 1989


__________


(1) خلال سنوات الاعتقال الطوال، أبدت السيدة دينه حموي منشه، زوجته، الكورسيكية الأصل، صموداً لا يقل عن صمود زوجات الديسمبريين الروس في المنفى السيبيري، وتولت رعاية صغارهما وسط ظروف شديدة القسوة. فتحية لبسالتها ولبسالة كل النساء اللاتي صمدن خلال المحنة. إنهن جديرات بقصيدة من طراز قصيدة نيكراسوف الشهيرة "نساء روسيات"!.

حول ملابسات تكوين جماعة "الفن والحرية"

بشير السباعي


جورج حنين

يشير الأستاذ أنور كامل إلى أن جماعة "الفن والحرية" كانت تعبيراً عن التقاء ثلاثة روافد كانت موجودة في الساحة الثقافية المصرية في الثلاثينيات. وقد اكتفى الأستاذ أنور كامل بهذه الإشارة – الصحيحة – رداً على سؤال لم يكن يسمح بمزيد من التوضيح. على أن السؤال يظل مائلاً: كيف أمكن لهذه الروافد أن تلتقي بهذه السهولة النادرة التي التقت بها لكي يشكل ممثلوها الجماعة، وما هو الظرف المباشر الذي قاد إلى تأسيسها؟


فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال، أعتقد أن سهولة الالتقاء الذي حدث تكمن في توافر درجة عالية من تقارب تلك الروافد في فهم دور الانتلجنتسيا الإبداعية الثورية في تلك الحقبة الرجعية: حقبة الفاشية والنازية وسحق الثورة الإسبانية ومحاكمات موسكو الصورية وتسلط الستالينية على المجتمع السوفييتي وعلى الحركة العمالية العالمية وتزايد نفوذ القوى الشمولية السلفية في الحياة السياسية – الثقافية المصرية، خاصة بعد توقيع معاهدة 1936 وسقوط القومية – الليبرالية في مصر. وقد أدرك ممثلو تلك الروافد أن معطيات حقبة الرجعية هذه تدمر شروط الإبداع الثقافي، ولذا فإن دور الإنتلجنتسيا الإبداعية الثورية يتمثل في نبذ موقف اللامبالاة تجاه معطيات الحقبة المذكورة والتوحد الإيجابي مع الحركة الثورية التي تهدف إلى إعادة تأسيس المجتمع على أسس جديدة. وقد تكشف هذا الإدراك في أعمال جورج حنين ورمسيس يونان وأنور كامل وكامل التلمساني السابقة على تأسيس جماعة "الفن والحرية".


وفيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، أعتقد أن الظرف المباشر الذي قاد إلى تكوين الجماعة في أوائل يناير 1939 يتمثل في صدور بيان بريتون – تروتسكي الذي صدر في يوليو 1938 في المكسيك تحت توقيع بريتون والرسام المكسيكي ديييجو ريبيرا، وهو البيان الذي دعا إلى "فن ثوري حر" وإلى إنشاء "اتحاد أممي للفن الثوري الحر".


ومن المعروف أن جورج حنين هو الذي طرح فكرة إنشاء جماعة "الفن والحرية"، وهو الذي كتب بيان "يحيا الفن المنحط!". الذي صدر قبل وقت قصير من إعلان الجماعة والذي يستعيد أفكاراً رئيسية وردت في بيان بريتون – تروتسكي. ويذكر ساران أليكسندريان أن جورج حنين هو الذي اختار اسم الجماعة، تجاوباً مع بيان مكسيكو الذي صدر تحت عنوان: "نحو فن ثوري حر".


وقد حدثت ثلاثة تجاوبات مع البيان الأخير:


1- في فرنسا، حيث تشكلت في خريف 1938 شعبة فرنسية للاتحاد الأممي للفن الثوري الحر، أصدرت نشرة شهرية اسمها Clé توقفت بعد العدد الثاني (عدد فبراير 1939)، كما أصدرت – حتى نشوب الحرب العالمية الثانية – العديد من البيانات ضد النازية. وقد أصدر الأعضاء السورياليون في الشعبة بياناً تحت عنوان: "لا لحربكم ولا لسلامكم!" (سبتمبر 1938). وتحت هذا العنوان نفسه صدر البيان الذي أشار الأستاذ أنور كامل إلى أن لطف الله سليمان قد حرره بمناسبة تفجر النزاع العربي – الصهيوني في 1947 – 1948.


2- في المكسيك، حيث تشكلت شعبة مكسيكية للاتحاد المذكور، أصدرت نشرة شهرية اسمها Clave (المفتاح)، كما أصدرت عدداً من البيانات.


3- في مصر، حيث تشكلت جماعة "الفن والحرية" التي لم تكن شعبة للاتحاد المذكور، وإن كانت قد توحدت – من الناحية العملية – مع الدعوة إلى تحرير الابداع الثقافي من التسلط الرسمي. وكانت هذه الجماعة هي أطول الجماعات الثلاث عمراً وأوسعها نشاطاً، حيث أن الجماعة الفرنسية قد عصف بها نشوب الحرب العالمية الثانية واحتلال فرنسا من جانب ألمانيا النازية، بينما عصفت الخلافات الداخلية بالجماعة المكسيكية، خاصة بعد تفجر الخلافات بين دييجو ريبيرا وخوسيه فيريل.


وقد اطلع جورج حنين على بيان "نحو فن ثوري حر" في باريس في أوائل خريف 1938. ولابد أن يكون اتجاه بريتون إلى تأسيس الشعبة الفرنسية للاتحاد الأممي للفن الثوري الحر قد شجع جورج حنين على التفكير في تأسيس جماعة "الفن والحرية".


ومن المعروف أن الاتحاد المذكور لم يكن اتحاداً تروتسكياً كما لم تكن عضويته قاصرة على المبدعين السورياليين، إلا أن الاتحاد – مع ذلك – كان محاولة لتوحيد المبدعين الثوريين المعادين للستالينية من منطلقات مختلفة، وقد وحد في صفوفه مبدعين ماركسيين وفوضويين.


وقد بادر جورج حنين بالعمل على إنشاء جماعة "الفن والحرية" فور عودته من باريس في أواخرعام 1938، بعد أن أشرف على صدور ديوانه الأول: "لا مبررات الوجود".


ويتضح من رسالة بعث بها جورج حنين من القاهرة في ديسمبر 1938 إلى الروائي الواقعي الفرنسي هنري كاليه أن اسم الجماعة وخطط عملها على المدى المباشر قد تحددت في ديسمبر 1938، وهو ما يدل على أن مشاورات جورج حنين مع أنور كامل ورمسيس يونان وكامل التلمساني من أجل تأسيس الجماعة لم تأخذ غير أسبوعين أو ثلاثة أسابيع على الأكثر لكي تصل إلى نتيجة موفقة.


والخلاصة أن ملابسات تكوين جماعة "الفن والحرية" كانت ملابسات مصرية وعالمية في آن واحد. وقد التقت هذه الملابسات في لحظة محددة لكي تؤدي إلى انبثاق ما اعتبره أول تجمع واسع للإنتلجنتسيا الإبداعية اليسارية المصرية المعاصرة.


مارس 1988

البيروقراطية السوفييتية والستالينية المصرية

بشير السباعي


ستالين (الأستاذ)



هنري كورييل (التلميذ)




انبثقت الحركة الشيوعية المصرية إلى الوجود تحت تأثير الغليان الثوري الذي اجتاح العالم شرقاً وغرباً بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. وعلى مدار تاريخ الحركة، عبرت مصائرها عن مصائر تلك الثورة. ويتجلى ذلك عبر ثلاث مراحل رئيسية متمايزة.


المرحلة الأولى من علم 1918 إلى عام 1924


شهدت تلك المرحلة ظهور الحلقات الشيوعية الأولى في عدد من مدن مصر الكوزموبوليتية بشكل رئيسي (الإسكندرية، القاهرة، بورسعيد، ...إلخ)، حيث تدافع مثقفون وعمال متقدمون، بينهم نسبة مهمة من الأجانب، إلى تشكيل الحلقات الشيوعية التي تحولت فيما بعد إلى الحزب الشيوعي المصري الأول عبر مسيرة معقدة – وإن كانت قصيرة نسبياً – من الاتحاد مع الإصلاحيين السافرين.


وفي تلك المرحلة، أظهر الحزب الشيوعي المصري الأول تعاطفاً كبيراً مع الثورة البلشفية، وهو تعاطف لم يتحول إلى تمثل عميق لمبادئ الماركسية الثورية أو لخبرة الحزب البلشفي، إذ ظل جانب كبير من كوادر الحزب تحت الهيمنة الفكرية لسنديكالية سوريل ولاجارديل أو لتضامنية نوردو أو لإنسانوية جماعة كلارتيه الفرنسية البورجوازية الصغيرة أو للكوزموبوليتية الماسونية. ولا تدل كتابات الكوادر القيادية للحزب على أنها قد تعلمت شيئاً يذكر من انتقادات قادة الثورة البلشفية لمثل هذه التيارات التي كانت متفشية في صفوف اليسار الفرنسي. وهناك شك أصلاً في أن تكون هذه الكوادر قد اطلعت على هذه الانتقادات.


وعندما نزل القمع البوليسي بهذه الكوادر في عام 1924، تبعثر شمل الحزب الفتي قبل أن تتسنى له فرصة تمثل مبادئ الماركسية الثورية وتحويل تعاطفاته مع مثل الثورة البلشفية إلى اتجاه فكري – سياسي محدد الملامح، وذلك على الرغم من موافقة الحزب – الصورية إلى حد بعيد – على الشروط الـ 21 للالتحاق بالأممية الشيوعية.


وقد ترافق تشتيت شمل الحزب في عام 1924 مع تراجع الحركة العمالية الثورية في الغرب ومع تحييد نفوذ المعارضة اليسارية اللينينية في صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية وتزايد هيمنة الستالينية واستراتيجيتها اليمينية داخل صفوف الحركة الشيوعية العالمية على حساب الماركسية الثورية.


ولم تخلف لنا أدبيات ووثائق الحزب الشيوعي المصري خلال تلك الفترة شيئاً يدل على أن كوادر الحزب كانت على دراية حقيقية بالنزاع الذي نشب منذ عام 1923 داخل صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية بين الستالينية والمعارضة اليسارية حول مسائل تطور الاتحاد السوفييتي والثورة العالمية أو أنها كانت على دراية بالمستوى الذي وصل إليه الانحطاط البيروقراطي للدولة وللحزب في الاتحاد السوفييتي أو بالمغزى الرجعي المضاد للثورة لاستراتيجية ستالين – بوخارين القومية المستترة منذ أكتوبر 1924 تحت ستار بناء الاشتراكية في بلد واحد.


ويمكن تصور أن هذه التطورات الكبرى قد حدثت دون أن تجد صدى يذكر في صفوف الشيوعيين المصريين الذين يبدو أنهم كانوا غارقين بالكامل في المشاكل القومية لحركتهم ومفتقرين لأية منظورات أممية.


المرحلة الثانية من عام 1925 إلى عام 1989


شهدت تلك المرحلة إعادة بناء الحزب الشيوعي المصري في عام 1925 بمبادرة مباشرة من جانب الكومنترن الستاليني وإخضاع الحزب لتسلط الستالينية الفكري والسياسي والتنظيمي. وإذا كان القمع البوليسي الذي نزل بالحزب في عام 1924 قد أجهز على الكوادر القيادية التي ظهرت بين عامي 1918 و1924، فإن ذلك القمع قد ساعد على تسهيل الهيمنة الستالينية على عملية إعادة بناء الحزب، حيث أن الكوادر التي كان يمكن لها أن تدخل، ولو على المدى البعيد، في صدام مع الستالينية حول هذه القضية أو تلك، كانت قد اختفت من مسرح النشاط السياسي.


ومنذ أواسط العشرينيات، جرى إرغام الحزب الشيوعي المصري على تبني السياسيات التي حاولت الستالينية تطبيقها في البلدان المستعمرة وشيه المستعمرة، خاصة الصين، والتي أدت، في عام 1927، إلى هزيمة الثورة الصينية الثانية.


وهكذا، ففي 6 إبريل 1925، أجاز الاجتماع الموسع الخامس للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية قراراً عن الموقف السياسي في الهند وإندونيسيا ومصر، دعا الشيوعيين الهنود إلى مواصلة العمل داخل حزب المؤتمر الهندي البورجوازي ودعا الشيوعيين الإندونيسيين إلى حشد الجماهير العريضة خلف حزب ساريكات راكجات وحدد للشيوعيين المصريين هدف العمل من أجل تأسيس حلف موحد مع حزب الوفد الذي أشار إليه القرار بوصفه حزباً قومياً – ثورياً!


يجب أن نتذكر أن هذا الحزب (القومي – الثوري) لم يبد أية مقاومة تجاه حل البرلمان – ذي الأغلبية الوفدية – المنتخب في أوائل عام 1925، والذي تآمر الملك فؤاد الأول مع الإنجليز على تسريحه بعد عشر ساعات فقط من انعقاده!


والحال أن هذا القرار الذي يتعارض على طول الخط مع توجهات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية (1920) تجاه المسألة القومية والكولونيالية، كان تعبيراً عن سيادة الاستراتيجية المنشفية – الستالينية عن ثورة على مرحلتين: ثورة ديموقراطية بورجوازية من خلال تحالف استراتيجي مع الأحزاب القومية البورجوازية الإصلاحية، ثم ثورة اشتراكية تحدث في مستقبل بعيد.


وغداة وفاة سعد زغلول في عام 1927، أشار الكومنترن الستاليني، في مرثية للزعيم الراحل، إلى أن الموقف والتناقضات في مصر تجعل ديكتاتورية البروليتاريا مدخلاً غير واقعي للتعامل مع مهام الثورة القومية – الديموقراطية، وكأن هذه المهام يمكن أن تنجز من خلال ديكتاتورية ديموقراطية بورجوازية، وهو أمر كان لينين قد استبعده في أبريل 1917 بالنسبة لروسيا ثم أكد على استحالته بوجه عام، في 12 يناير 1918، حيث قال إنه لا يمكن تصور أية ثورة ديموقراطية بشكل منسجم دون ديكتاتورية البروليتاريا.


وخلال فترة الأزمة الاقتصادية – العالمية (1929-1933)، تحولت توجهات الكومنترن الستاليني إلى المغامرة اليسارية، إلى استراتيجية رعناء بشأن ما سمي بالفترة الثالثة التي تجعل شعار دكتاتورية البروليتاريا مدرجًا بشكل فوري – عملي في جدول أعمال جميع الأحزاب الشيوعية، مع نبذ شعار الجبهة العمالية المتحدة واعتبار الاشتراكية – الديموقراطية اشتراكية – فاشية. وقد أدت هذه الاستراتيجية المغامرة إلى تسهيل وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا، أما في مصر فقد أدت إلى ابتعاد الشيوعيين المصريين – المهمشين بما يكفي بالفعل – عن المشاركة في أحداث مايو 1931 الثورية، ثم تخلفوا عن قيادة أي إضراب عمالي خلال الثلاثينيات.


ومع تحول الكومنترن الستاليني إلى اليمين بعد عام 1933- في اتجاه الجبهات الشعبية والجبهات الوطنية – جرى إبلاغ الشيوعيين المصريين مرة أخرى بجوب التحالف مع حزب الوفد. وفي 26 فبراير 1936، دعت أمانة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية الشيوعيين المصريين المبعثرين إلى تأييد حزب الوفد، وذلك قبل ستة أشهر فقط من توقيع زعيم الحزب المذكور على المعاهدة الأنجلو – مصرية!


وإذا كانت صفحة العلاقات التنظيمية بين الشيوعيين المصريين والكومنترن الستاليني قد انطوت بعد فبراير 1936 أو بعد ذلك التاريخ بوقت قصير، وإذا كان الشيوعيون المصريون قد أبدوا في عدد من المناسبات أشكالاً جزئية من عدم التجاوب مع توجهات الكومنترن، إلا أن هيمنة الستالينية على أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية في ميلادها الثاني قد بقيت – بل وتعززت – على المستويين الفكري والسياسي.


وسرعان ما تبدت هذه الهيمنة منذ بدايات الميلاد الثاني. ففي فترة معاهدة عام 1939 بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، سكتت العناصر الستالينية عن توجيه النقد إلى الفاشية وقوبل معارضو المعاهدة المذكورة من السورياليين والماركسيين المؤسسين لجماعة (الفن والحرية) بالتنديد من جانب هذه العناصر. وتعرض أحد نقاد المعاهدة الماركسيين ( لطف الله سليمان ) لردود فعل غوغائية من جانب العناصر الستالينية المحتشدة في النادي الديموقراطي.


وفي فترة الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد يونيو 1941، تبنى الستالينيون المصريون أكذوبة الحرب من أجل الديموقراطية ولم يميزوا بين حرب الاتحاد السوفييتي المشروعة ضد الغزو النازي والطابع الرجعي العام للحرب بين مختلف القوى الإمبريالية. وفي هذا السياق، قوبلت دعايتهم المضللة بالتحبيذ من جانب البريطانيين والقوى السياسية البورجوازية المصرية المتحالفة معهم، وتخلى الستالينيون المصريون عن مساعدة الحركة الجماهيرية القومية العفوية المناوئة للاستعمار البريطاني على اتخاذ التوجهات المناسبة. ومن الناحية العملية، فإن أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية قد أجلت الكفاح المعادي للإنجليز إلى أواخر الحرب، استرشادًا بالاستراتيجية الستالينية خلال فترة الحرب العالمية الثانية والتي مالت إلى اعتبار الحركات القومية – التحررية في المستعمرات وأشباه المستعمرات الإنجليزية حركات مخربة للمجهود الحربي للحلفاء!


وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية واشتد ساعد الحركة القومية – التحررية المصرية حرصت الفصائل الستالينية على التمسك باستراتيجية ستالين المنشفية عن ثورة على مرحلتين، تورطت في مختلف التحالفات مع القوى السياسية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة القومية على أساس منظورات بورجوازية قومية.


وعندما تفجرت المسألة الفلسطينية في 1947 – 1948، بررت أغلب هذه الفصائل مواقف البيروقراطية السوفييتية تجاه النزاع في فلسطين، كما بررت اعتراف الأخيرة بالدولة الصهيونية، الأمر الذي وجه ضربة قاسية إلى مجمل اليسار.


واعتباراً من مؤتمر باندونج وعقد صفقة الأسلحة المصرية – التشيكية في عام 1955، انخرطت فصائل الحركة الستالينية المصرية في مسيرة سياسية معقدة جرتها إلى السير في ذيل الناصرية ثم، في نهاية الأمر، إلى حل هياكلها التنظيمية والاندراج في مهمة تحقيق هيمنة الناصرية الإيديولوجية والسياسية باسم الدفاع عن التطور اللارأسمالي الذي روج له الإيديولوجيون السوفييت.


وعلى مدار الفترة الممتدة من عام 1925 إلى 1965، دافعت أغلب فصائل الحركة الشيوعية المصرية عن التسلط البيروقراطي داخل الاتحاد السوفييتي وصورت تجربة روسيا الستالينية في صورة الاشتراكية وطابقت بين دكتاتورية البيروقراطية ودكتاتورية البروليتاريا وشجبت المعارضة اليسارية في الاتحاد السوفييتي واندرجت في كورس الافتراءات الستالينية ضد البلاشفة الذين أعدموا خلال الثلاثينيات وشجبت الانتفاضات العمالية المضادة للبيروقراطية في ألمانيا الشرقية في عام 1953 وفي بولندا والمجر في عام 1956 بوصفها حركات مضادة للثورة، وبررت التدابير القمعية التي اتخذتها البيروقراطية الستالينية ضد تلك الانتفاضات، ومن هذه الزاوية، ساعدت على تزييف وعي الجماهير.


ومع الميلاد الثالث للحركة الشيوعية المصرية، وعلى الرغم من درجات الاستقلال الذي أبدته فصائل داخل هذه الحركة تجاه البيروقراطية السوفييتية، فإن الفصائل الرئيسية داخل هذه الحركة لم تعلن قط القطيعة مع الستالينية ولم تتحول إلى مواقع الماركسية الثورية ودافعت في أكثر من مناسبة عن سياسيات غادرة عديدة للبيروقراطية السوفييتية ولم تثر الشك ولو مرة واحدة في "اشتراكية" النموذج البيروقراطي.


المرحلة الثالثة من عام 1989


بدأت هذه المرحلة مع تفجر أزمة النموذج البيروقراطي في الاتحاد السوفييتي ومع السقوط المتسارع للدكتاتوريات الستالينية في عدد من دول أوروبا الشرقية.


وحيث أن الستالينيين المصريين لم يكونوا مسلحين بأية أفكار ماركسية عن أزمة الدول المتدهورة بيروقراطياً، فإن هذه المرحلة تعتبر مرحلة صدمة مريرة ذات مقاييس جسيمة.


إن مانشهده الآن بين صفوفهم هو تعبيرات مختلفة عن وصول أزمة الستالينية المصرية إلى ذروتها.


وأول ما نشهده، هو تلك القراءة الزائقة لمجمل تاريخ الماركسية ومصائر ثورة أكتوبر والحركة العمالية العالمية والرأسمالية المعاصرة.


فهناك من يتحدث الآن بشكل سافر عن فوات أوان الماركسية وعن يوتوبية التوقعات الماركسية عن مجتمع المستقبل. وهناك من يتحدث عن قدرات الرأسمالية غير المحدودة على البقاء وعلى توفير الحريات السياسية والحقوق الإنسانية ومستويات معيشية عالية بالنسبة لغالبية السكان.


وهناك من يردد مع جورباتشوف أن البيروسترويكا ليست غير تجديد للاشتراكية، وهناك من يعلن أن ثورة أكتوبر كانت تمرداً إرادياً مغامراً على قوانين التطور الاجتماعي، وهناك من يحاول اختلاق تحليل "ماركسي" لأزمة الدول المتدهورة بيروقراطياً منفصل عن مجمل التراث الماركسي الناقد للديكتاتورية البيروقراطية ومعارض لاستنتاجاته الاستراتيجية والبرنامجية، إلخ.


والحال أن كل هذه المواقف والرؤى ليست أقل من عجز كامل عن استيعاب مغزى الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكبرى المعاصرة، وهو عجز ناشيء عن افتقار الستالينيين المصريين المزمن إلى بوصلة الماركسية الثورية التي حرمتهم من الاهتداء بها تصالحاتهم الجوهرية مع الأمر الواقع والتي جرتهم إلى التكيف مع إيديولوجية وسياسات البيروقراطية السوفييتية.


ومن المؤكد أن الجورباتشوفية لن تكون مخرجاً من الأزمة.


يناير 1991