حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عامي 1938 و 1948


(5)


بشير السباعي

1987

ويعد أنور كامل (ولد عام 1913) واحداً من أولئك المتمردين الذين استلهموا – إلى حد ما – مثال جورج حنين دون أن يكونوا قد سلكوا الدروب المعقدة التي سلكها الأخير. وقد وصف أنور كامل، هو الآخر، دون براهين حقيقية، بأنه "تروتسكي" رغم أن سيرته الفكرية والسياسية لا تشير إلى ذلك ورغم أنه هو نفسه قد نفى هذا الوصف الذي وصفه به كثيرون (انظر، A. Kamel, Interviewed by S. Botman For a Doctoral Dissertation, Harvard).

استهل أنور كامل نشاطاته العامة في أوائل الثلاثينيات حيث ارتبط منذ عام 1932 وحتى أواخر عام 1938 بتجمع من المثقفين كان من أبرز وجوهه أحمد كامل مرسي, وفي صيف عام 1936 أصدر كتابه الأول الذي حمل عنوان "الكتاب المنبوذ"، وهو عبارة عن عشرة حوارات بين رجل وامرأة. وقد دعا الكتاب إلى إنهاء الفصل بين الجنسين وإلى تحقيق الإشباع الجنسي والحرية الجنسية، علاوة على ما تضمنه من سخرية من المطلقات الميتافيزيقية. وقد قرر مجلس الوزراء مصادرة الكتاب وحظر تداوله بعد أقل من أسبوعين من صدوره.

وشارك أنور كامل في تأسيس جماعة "الفن والحرية" في مستهل عام 1939. وقد نفى أنور كامل عن هذه الجماعة صفة "التروتسكية" في حديثه مع س. بوتمان.

وفي يناير 1940، صدر العدد الأول من مجلة "التطور" – لسان حال جماعة "الفن والحرية" – حيث اختير أنور كامل رئيساً لتحريرها. وقد جعلت شعارها "التطور الدائم والتغير المستمر" مما دفع عبد القادر ياسين إلى اعتبارها مجلة تروتسكية. وقد سألت س. بوتمان أنور كامل عما إذا كان قد تأثر بتروتسكي عندما رفع هذا الشعار فأجاب بالنفي: " ... منذ بداية حياتي وأنا أريد تغيير كل شيء حولي. وفي ذلك الوقت لم أكن قد قرأت تروتسكي، أو حتى ماركس" (Ibid).

وعندما أسس مارسيل إسرائيل منظمة "تحرير الشعب" في صيف 1940، كان أنور كامل من بين الأعضاء المؤسسين للمنظمة وقد اختير – بالإجماع – أميناً عاماً لها في اجتماعها التأسيسي. ثم انقطعت صلته بهذه المنظمة بعد اعتقاله هو وأعضائها في عام 1941. واتجه إلى تأسيس جماعة "الخبز والحرية" في العام نفسه بعد خروجه من السجن – وقد استمرت هذه الجماعة قائمة بشكل أو بآخر حتى حملة صدقي باشا في 11 يوليو 1946 ضد اليسار المصري.

وخلال هذه الفترة أصدر أنور كامل ثلاث كراسات تعبرعن مواقف الجماعة التي نفى في حديثه مع س. بوتمان أنها كانت تروتسكية:

1- "مشاكل العمال في مصر" (1941). وقد تناول أنور كامل في هذا الكراس عدداً من مسائل الحركة العمالية المطلبية.

2- "الصهيونية" (1944). وهو عبارة عن تلخيص لكتاب "اللاسامية والمسألة اليهودية" الذي أصدره في لندن عام 1943 الستاليني البريطاني المعروف ريناب (وهو بدوره ليس مساهمة أصيلة، فهو مستمد من مقالات كاوتسكي عن المسألة اليهودية) ورسالة الاشتراكيين الفلسطينيين (التروتسكيين) المفتوحة إلى أعضاء حزب العمال البريطاني (1944). وقد حصل أنور كامل على نسخة من كتاب ريناب من جورج حنين وعلى نسخة من رسالة الاشتراكيين الفلسطينيين من لطف الله سليمان. ولم يكن جورج حنين ولطف الله سليمان عضوين في جماعة "الخبز والحرية" وإن كانا قد آزرا مجهوداتها.

3- "لا طبقات" (1945). وهو كراس ينتقد الإصلاحية ويدعو إلى ثورة اشتراكية من أجل إلغاء المجتمع الطبقي في مصر. وقد اعتقل أنور كامل بسبب هذا الكراس وحبس لمدة شهرين.

لقد أشار عبد القادر ياسين إلى كراس "الصهيونية" (انظر، عبد القادر ياسين: القضية الفلسطينية في فكر اليسار المصري، دار ابن خلدون، بيروت، 1981، ص ص 19-111). والحال أن الدكتور عبد العظيم رمضان قد اختار تجاهله. وتجاهل رفعت السعيد كل كتب أنور كامل باستثناء كتاب "أفيون الشعب" (1948).

وعندما صدر هذا الكتاب الأخير، تعرض أنور كامل لحملة افتراءات من الستالينيين المصريين ومازال يتعرض لها حيث اتهمه رفعت السعيد بإصدار كتابه "بالتعاون التام مع جهات الأمن" (رفعت السعيد: مصدر سبق ذكره، ص 159) ولم يهتم رفعت السعيد بتقديم دليل واحد على هذا الاتهام الخطير، مما يدل بحد ذاته، على تعمد الافتراء.

وقد كتب أنور كامل هذا الكتاب بعد أن توقف عن النشاط السياسي المنظم وبعد أن وافق الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم واعترف بالدولة الصهيونية وبعد أن تجلت له خيانة الحزب الشيوعي (الستاليني) الفرنسي للثورة في الهند الصينية والجزائر وخيانة الحزب الشيوعي (الستاليني) الهولندي للكفاح الوطني التحريري في أندونيسيا، وقد شجب جميع هذه الخيانات وانتقد التسلط الستاليني على الطبقة العاملة السوفييتية وتآمر ستالين ضد قادة الحزب البلشفي وثورة أكتوبر.

ومن جانب آخر، شجب أنور كامل الاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية والرجعية المصرية.

ولم يتورط أنور كامل في تبني مواقف الإيديولوجيين الإمبرياليين خلال فترة الحرب الباردة... ودعا لسياسة مستقلة عن كل من واشنطون وموسكو.

وخلافاً لادعاء رفعت السعيد أن كتاب أنور كامل قد صدر بـ "تعاون تام مع جهات الأمن" فإن هذا الكتاب قد تعرض لمقص الرقيب في مواضع عديدة.

وقد استند أنور كامل في هذا الكتاب إلى كراس كان قد أصدره ج. مونيس في أوائل عام 1947 في باريس تحت عنوان: "الثوريون تجاه روسيا والستالينية العالمية". وكان قد حصل على نسخة من هذا الكتاب من جورج حنين.

والحال أن كراس ج. مونيس كان قد تعرض غداة صدوره لانتقاد حاد من جانب بيير فرانك، أحد قادة الأممية الرابعة البارزين وأحد رفاق تروتسكي المقربين منذ أوائل الثلاثينيات (انظر: P. Frank, Le Stalinisme, F. M., Paris, 1977, pp. 189 - 192)، حيث ركز، بشكل خاص على نقد مفهوم ج. مونيس عن البيروقراطية السوفييتية، وهو عين مفهوم أنور كامل، والذي لا يرتبط من قريب أو بعيد بالمفهوم التروتسكي.

لقد اعتبر أنور كامل البيروقرطية السوفييتية "طبقة حاكمة جديدة" (أنور كامل: أفيون الشعب، مطبعة الرسالة، القاهرة، ديسمبر 1948، ص 36)، بينما اعتبر التروتسكيون هذه البيروقراطية ورماً خبيثاً على جسم دكتاتورية البروليتاريا، شريحة لا تمثل طبقة اجتماعية مستغلة ومستقلة. وقد ساعدت ظروف تخلف روسيا وعزلة الثورة الروسية هذه الشريحة على لعب دور شرطي يستأثر بامتيازات استهلاكية وهو يضبط تحرك طوابير لا مفر من أن تتشكل في ظروف الندرة النسبية دون أن يتمكن هذا الشرطي من تغيير الطبيعة العمالية للدولة المنبثقة عن ثورة أكتوبر وإن تمكن من تشويهها. (انظر، تحليل تروتسكي للبيروقراطية السوفيتية في الجزء الثاني من مختاراته الصادر تحت عنوان: (Sowjet Gesellschaft und Stalinistische: Diktatur, E. V., Kôln, 1974)

ومؤخراً جداً، بدأ تحليل تروتسكي للبيروقراطية السوفييتية يجد صداه بين صفوف السوسيولوجيين السوفييت (انظر، صحيفة "أنباء موسكو"، 1 مارس 1987، ص 13، حديث مع الأكاديمية تاتيانا زاسلافسكايا، رئيسة الرابطة السوسيولوجية السوفييتية).

والحال أن مفهوم أنور كامل عن البيروقراطية السوفييتية بوصفها "طبقة حاكمة جديدة" إذ ينفي عنه صفة التروتسكية، لا يجره – أوتوماتيكياً – إلى معسكر الإمبريالية، مع ذلك. هذا لم يحدث مع سمير أمين أو بول سويزي، أو توني كليف وهو لم يحدث مع أنور كامل.

وعلى الرغم من اختلاف مواقف أنور كامل مع مواقف التروتسكيين فيما يتعلق بعدد من المسائل المهمة – من بينها، بطبيعة الحال، مسألة طبيعة البيروقراطية السوفييتية – فإن من الواضح تماماً أن شجبه لخيانة عدد من الأحزاب الستالينية للحركات القومية التحررية ودعوته إلى الثورة الاشتراكية سبيلاً لحل معضلات التخلف وللقضاء على الاستغلال الطبقي من الأمور التي من الطبيعي أن تخلق التقاء بينه وبين مختلف التيارات اليسارية الثورية، ومن بينها التيار التروتسكي، دون خلط للأعلام مثلما يفعل المؤرخون الستالينيون!


يتبع

حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عامي 1938 و 1948


(4)

بشير السباعي

1987

على أن موضوع ما يسمى بـ "التروتسكية" المصرية بين عامي 1938 و 1948 لا يتوقف عند هذه النقطة. وإذا كان راءول كورييل وريمون أجيون ومارسيل إسرائيل لم يكونوا تروتسكيين بأي حال من الأحوال، على الرغم من إعجاب أجيون بشخصية تروتسكي، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من شبيبة تجمع "اليسار الثوري"، وهو الإعجاب الذي لم يتحول إلى ارتباط بالحركة السياسية التروتسكية ومنظوراتها المنهاجية، فإن السيرة السياسية لكل من جورج حنين وأنور كامل ولطف الله سليمان تتضمن عداءً سافراً للستالينية في حالة الأول منذ وقت مبكر جداً، وعداءً سافراً لها، في حالة الثاني، خصوصاً منذ تأييد الاتحاد السوفييتي قرار تقسيم فلسطين، وعداءاً سافراً لها، ممتزجاً بتعاطفات غائمة مع التروتسكية، في حالة الثالث، خاصة منذ أواخر الحرب العالمية الثانية.

كان جورج حنين (1914 – 1973) [مات جورج حنين في 18 يوليو 1973 وليس في أغسطس 1973] كما ذكر رفعت السعيد (انظر، الصحافة اليسارية في مصر، 1925 – 1948، ص 85) ] واحداً من أبرز المثقفين المصريين المعاصرين. وقد اعتبره أندريه مالرو منذ أواخر عام 1939 "النموذج الأكثر ذكاء في القاهرة" (Grandes Largeurs, No. 2-3, Paris, 1981, P.41) . ومن المؤسف أن المؤرخين المصريين لم يقدموا، حتى الآن، دراسة جادة واحدة عن فكره البالغ التعقيد، مكتفين بالحديث عن "تروتسكيته" المزعومة [انظر، د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، 1940 – 1950، ص 159 والدكتور عبد العظيم رمضان: الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو، ص 52. ومن العجيب أن الدكتور رمضان لا يشير إشارة واحدة إلى تيارات الفكر اليساري التي مثلها حنين، وكامل، وسليمان بينما أسهب في الحديث عن دور تلامذة ديكومب وكورييل وشوارتز، بحيث أن اللوحة التي رسمها تبدو ناقصة، ومن ثم، زائفة]، دون أن يبدو أن أحداً من هؤلاء المؤرخين قد قرأ كراساً واحداً من كراسات جورج حنين والتي وصلت إلى نحو عشرين كراساً!

والحال أن جورج حنين قد اختار تحديد هويته الفكرية تحديداً سلبياً، إذ اعتبر نفسه "مناهضاً للستالينية ومناهضاً للمسيحية" S. Alexandrian, George Henein, Seghers, Paris 1981, P, 53)) وهو لم يزعم قط أنه "تروتسكي" في أي وقت من الأوقات.

لقد كان جورج حنين، بالدرجة الأولى، شاعراً وناقداً سوريالياً. ويقرر موريس نادو، مؤرخ الحركة السوريالية، أن جورج حنين، كان عضواً في التجمع السوريالي منذ عام 1936 (M Nadeau, The History of Surrealism, J. C. London, 1968, P. 340) ولم ينفصل عن هذا التجمع، الملتف حول أندريه بريتون، إلا في عام 1948. والحال أن هذا التجمع، على الرغم من مناهضته القوية للستالينية خلال فترة انتماء حنين له، لم يكن تروتسكياً بأي حال من الأحوال، رغم استنكاره لمحاكمات موسكو المخزية ورغم تأييده لدفاع تروتسكي عن استقلال الفن عن جميع أشكال الحكم. وتاريخ النزاع بين هذا التجمع والتروتسكيين الفرنسيين تاريخ معروف. وقد رواه أندريه بريتون في كتابه "أحاديث" وأشار إليه إسحق دويتشر في الجزء الأخير من ثلاثيته عن تروتسكي.

وطبيعي أن هذا ليس هو المجال المناسب لإعادة استعراض هذا التاريخ. وبوسع القارئ أن يرجع إلى كتاب أندريه بريتون المشار إليه أعلاه. وسوف أكتفي بالإشارة إلى تعارض رؤى جورج حنين فيما يتعلق بمسائل مهمة في فترات مختلفة مع الرؤى التروتسكية.

أواخر عام 1936: اعتبر جورج حنين الحرب العالمية أمراً غير وارد (Grandes Largeurs, op. cit. , P. 13 ) وهو تصور يتعارض على طول الخط مع تصور التروتسكيين الذين توقعوا نشوب الحرب العالمية منذ وقت مبكر. ومن المفهوم أن التصور الأول يستتبع سياسات تختلف إلى حد بعيد عن السياسات التي يستتبعها التصور الأخير.

30 ديسمبر 1937: رحب جورج حنين برواية "الأمل" للروائي الفرنسي أندريه مالرو (Ibid., P. 18) والتي تدور أحداثها حول الأيام الأولى للحرب الأهلية الإسبانية. وكان تروتسكي قد سخر من مالرو في 17 ديسمبر 1937 متهماً إياه بترويج "حكمة عبودية" عن ضرورة وقف نضال البروليتاريا الطبقي في إسبانيا (Leon Trotsky, The Spanish Revolution, P.324)

مارس 1939: رحب جورج حنين بكتاب نيكولا كالاس "مباعث النيران"، وهو دعوة إلى تأسيس يوتوبيا جديدة، الأمر الذي يتعارض مع اتباع سياسة مستمدة من استقراء الاتجاه التاريخي للصراع الطبقي وهو ما حرص التروتسكيون على التقيد به.

صيف 1945: بلور جورج حنين رؤاه اليوتوبية داعياً إلى "سباحة في تيارات اليوتوبيا الزكية، وتجديد التأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح" محدداً مهمة المثقف الثوري في "الإعلاء مرة أخرى من شأن الأوهام المستحيلة" (George Henien, Prestige de la Terreur, Ed. Masses, Le Caire, 1945, P.22) ودعا إلى تشكيل جيريلا (مفرزة أنصار) سياسية، بوصفها "الخيار الوحيد الممكن"، بديلاً عن الحزب اللينيني (Ibid., P. 18). والحال أن هذه الفكرة الأخيرة مستمدة إلى حد ما من الفوضوية وقد تعرضت لانتقاد عنيف من جانب تروتسكي منذ مستهل العشرينيات.

21 يونيو 1947: شارك جورج حنين في إصدار بيان التجمع السوريالي الذي حمل عنوان: "قطيعة مبدئية" والذي خلط الماركسية بالستالينية وقدم تأييداً معنوياً للفوضويين وهو ما يتعارض مع اعتبار التروتسكيين الستالينية خيانة للماركسية ومع شجبهم للفوضوية.

10 يناير 1948: انتقد جورج حنين الأممية الرابعة والتروتسكية الأرثوذكسية وجدد الإعراب عن تعاطفه مع الفوضويين.

16 أغسطس 1949: كتب جورج حنين إلى كالاس ينتقد عدم اجتراء السورياليين على انتقاد منهج الماركسية (سمير غريب: السريالية في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، ص 194).

وعلى الرغم من كل ذلك، فقد زعم عبد القادر ياسين أن جورج حنين "أصبح واحداً من أبرز قادة سكرتارية باريس، إحدى انشقاقات الأممية الرابعة" (شئون فلسطينية، أيار 1975)، دون سند أو دليل، وعلى الرغم من أنه ليس بين انشقاقات الأممية الرابعة انشقاق بهذا الاسم. وقد نفت بولا العلايلي هذا الزعم مشيرة إلى أن زوجها مال أكثر إلى الفوضوية. (سمير غريب: مصدر سبق ذكره، ص 54). وقد تبنى رفعت السعيد زعم عبد القادر ياسين دون تمحيص (د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ص 159).

والحال أن كل ما قيل أعلاه لا يقلل بحال من أهمية الدور الذي لعبه جورج حنين في مسيرة الإنتلجنتسيا الإبداعية المصرية، ولا من أهمية دوره في تشجيع تيارات مناهضة للستالينية الانتهازية في صفوف اليسار المصري.

لقد شارك في حشد أبرز ممثلي الإنتلجنتسيا الإبداعية المصرية وتوحيد حركتهم من خلال تأسيس جماعة "الفن والحرية" في يناير 1939. ولم تكن هذه الجماعة مجرد "امتداد متمصر" لجماعة "المحاولين" مثلما زعم الدكتور رفعت السعيد (مصدر سبق ذكره، ص 154) بل "كانت تعبيراً عن التقاء صفوة من الشباب نمت من خلال انتماءاتها التنظيمية أو التجمعية إلى جانب تربيتها الخاصة وخبرتها الذاتية المتميزة. فمن جماعة "المحاولين" جورج حنين ومن معه. ومن جماعة "الدعاية الفنية" يوسف العفيفي ورمسيس يونان ومع العفيفي مريديه. ومن "المنبوذين" – نسبة إلى "الكتاب المنبوذ" – أنور كامل وكامل التلمساني وفؤاد كامل وأحمد رشدي" (أنور كامل: لكنهم صنعوا المستقبل، مقال في مجلة "صباح الخير" 18/9/1986).

وشارك في إصدار ودعم مجلة "التطور" التي صدرت في يناير 1940. وقد تعرضت هذه المجلة إلى ضغوط قوية من جانب السراي والأزهر والسفارة البريطانية أدت إلى تدخل الرقابة ضدها بشكل متواصل مما قاد إلى احتجاب المجلة عن الصدور بعد العدد السابع – وليس بعد صدور العدد الخامس كما قال رفعت السعيد – وليس بسبب ضغوط مالية زعم رفعت السعيد أن جورج حنين قد مارسها على هيئة تحرير المجلة. (انظر رفعت السعيد: مصدر سبق ذكره، ص ص 204 – 205. وانظر، رد أنور كامل على هذه المزاعم في: أنور كامل: لكنهم صنعوا المستقبل، الأصل الكامل لمقال أنور كامل المنشور في مجلة "صباح الخير" وهو عبارة عن ملزمة مكتوبة على الآلة الكاتبة تحمل تاريخ 20/8/1987، ص ص 11-12).

وكان جورج حنين مصدر إلهام لكثيرين من متمردي جيله الذين بث روح التمرد على الواقع في وجدانهم على نحو ما يظهر من كتاباتهم المنشورة في مجلة "المجلة الجديدة"، وكراساتهم وأعمالهم التشكيلية.

ومثلما استنكر حنين مختلف أشكال الاضطهاد التي تعرض لها الاشتراكيون في أوقات مختلفة في بلدان أوروبية مختلفة، استنكر حملات الأجهزة القمعية المصرية على مختلف ممثلي اليسار المصري خلال الحرب العالمية الثانية وبعد انتهاء الحرب على حد سواء. ولعب دوراً بارزاً في خلق حملة تضامنية قوية مع أولئك المناضلين على اختلاف ميولهم السياسية، دون تمييز بين الستالينيين والمناهضين للستالينية.


يتبع

حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عامي 1938 و 1948


(3)

بشير السباعي

1987


أما ريمون أجيون (ولد عام 1920) فقد قضر جانباً من الثلاثينيات في فرنسا للدراسة وكان، إلى حد ما، هلى يسار راءول كورييل. فهو قد اندمج في تجمع "اليسار الثوري" الذي قاده مارسو بيفير داخل الشعبة الفرنسية للأممية العمالية (الحزب الاشتراكي الفرنسي).

والحال أن مارسو بيفير (1895-1958) كان أحد القادة البارزين لتجمع "المعركة الاشتراكية" داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي، ثم أحد أبرز قادة تجمع "اليسار الثوري" الذي تشكل داخل الحزب المذكور في عام 1935. وعندما أصدرت قيادة الحزب أمراً بحل هذا التجمع في عام 1937، ترك بيفير وأنصاره الحزب الاشتراكي وأسسوا في عام 1938 الحزب العمالي والفلاحي الاشتراكي الذي سارع إلى الانتماء إلى ما يسمى بـ "مكتب لندن للأحزاب الاشتراكية الثورية"، والذي كان عبارة عن اتحاد لا مركزي لأحزاب الوسط الماركسي غير المنتمية لا إلى الأممية الثانية ولا إلى الأممية الثالثة، حيث كانت هذه الأحزاب على يسار كل من الأمميتين خلال الشطر الثاني من الثلاثينيات، وكانت تعارض في الوقت نفسه إنشاء أممية رابعة، خلافاً لموقف الأحزاب والجماعات التروتسكية التي دعت إلى تأسيس أممية رابعة منذ عام 1933، وعندما تأسست الأممية الرابعة بالفعل في عام 1938، تعرضت لهجوم شديد من جانب هذه الأحزاب، وقد قاد الإنجليزي فينر بروكواي (ولد عام 1890)، أمين مكتب لندن، هذا الهجوم مستشعراً الخطر من جراء تأسيس أممية لليسار الماركسي.

وكان من بين الأحزاب المنتمية إلى مكتب لندن الحزب العمالي الاشتراكي الألماني، وحزب العمل المستقل في بريطانيا العظمى، والحزب العمالي للتوحيد الماركسي في إسبانيا، والحزب العمالي والفلاحي الاشتراكي في فرنسا (حزب مارسو بيفير).

وقد تعرضت هذه الأحزاب ومكتب لندن لانتقادات عنيفة من جانب تروتسكي والتروتسكيين. وعندما تفجرت الإضرابات في فرنسا بعد انتصار الجبهة الشعبية الانتخابي، كتب تروتسكي في 5 يونيو 1936: "إن التنظيم الذي لم يجد سنداً في الحركة الإضرابية الجارية، والذي لم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمال في مجرى النضال، غير جدير باسم تنظيم ثوري. وسوف يكون من الأفضل لأعضائه أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان في بيوت المسنين أو في المحاقل الماسونية (برعاية م. بيفير)" (J. J. Marie, op, cit., PP. 301-2).

ويشير بيير فرانك، أحد قادة التروتسكيين الفرنسيين وأحد قادة ومؤرخي الأممية الرابعة، إلى أن النضال ضد حزب مارسو بيفير ومختلف الأحزاب المنتمية إلى مكتب لندن، خلال الثلاثينيات ومستهل الأربعينيات، كان "أحد النضالات الكبرى .. التي هيمنت على نشاط حركتنا الأممية". (P. Frank, La Quatriéme Internationale, F. M., Paris, 1969, P. 38) ومع تيار أحزاب أممية مكتب لندن هذه، لا مع الأممية الرابعة التروتسكية، كانت تعاطفات ريمون أجيون. وكانت فكرة إصدار صحيفة "دون كيشوت" فكرة راءول كورييل وريمون أجيون بالأساس. وقد اختارا هذا الاسم "احتراماً لذكرى جابرييل آلومار، السفير السابق لإسبانيا الجمهورية في القاهرة" (جيل بيرو، مصدر سبق ذكره، ص 74).

وقد استند من تحدثوا عن "تروتسكية" صحيفة "دون كيشوت" إلى واقع أنها قد نشرت في باب السياسة الدولية مقالات تنتقد السياسة السوفيتية انتقاداً حاداً، وكأن انتقاد السياسة السوفيتية خلال الفترة التي ظهرت فيها الصحيفة (ديسمبر 1939 – أبريل 1940) كان شيئاً قاصراً على التروتسكيين ولم تندرج فيه مختلف التيارات الاشتراكية التي استنكرت اتفاق هتلر – ستالين! والحال أن الذي كتب هذه المقالات هو البيفيري ريمون أجيون الذي لم ينتمِ إلى أي تجمع تروتسكي عندما كان في فرنسا!.

أما مارسيل إسرائيل (ولد عام 1914) فقد ارتبط بالستاليني اللبناني المعروف نقولا الشاوي. وقد توطدت عرى الصداقة بينهما عندما زار مارسيل إسرائيل بيروت في أواخر عام 1938. وأثناء تلك الزيارة، رتب الشاوي لقاء مع مادويان، مسئول الكومنترن عن الشرق الأوسط، حيث تبادلا الآراء حول الموقف في مصر. وكان مارسيل إسرائيل آنذاك عضواً في اللجنة القيادية لـ "الرابطة السلمية".

وجليٌّ أنه من قبيل الهذيان الادعاء بأن صداقة سياسية وطيدة كتلك التي نشأت بين إسرائيل والشاوي وتبادلاً للآراء كذلك الذي حدث بين إسرائيل ومادويان يصلحان دليلاً على "تروتسكية" مارسيل إسرائيل!

وعندما انسحب مارسيل إسرائيل من الاتحاد بعد عودته من بيروت في أواخر عام 1938، من "الرابطة السلمية" انهمك مع آخرين، في تأسيس "الاتحاد الديموقراطي" في مستهل عام 1939 واختير أميناً للجنة القيادية للاتحاد. وقد شارك إسرائيل، منذ أوائل يناير 1939، في نشاط جماعة "الفن والحرية". ويبدو أن اشتراك إسرائيل في نشاط هذه الجماعة هو الذي أوحى للدكتور عبد العظيم رمضان بأن الجماعة قد تفرعت عن "الاتحاد الديموقراطي" (انظر، د. عبد العظيم رمضان: الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1981، ص 52) وهو تصور لا يستند إلى أساس لأن اشتراك إسرائيل في نشاط الجماعة ليس معناه "تفرع" الأخيرة عن الاتحاد.

وقد انسحب مارسيل إسرائيل من الاتحاد في أواخر عام 1939 عندما وجد أن هنري كورييل – عضو اللجنة القيادية للاتحاد – قد حول "الاتحاد الديموقراطي" إلى "اتحاد أرستقراطي" بضمه إليه "كل أصدقائه البورجوازيين الكبار" (جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، ص 155).

وقد انهمك إسرائيل بعد ترك "الاتحاد الديموقراطي" في تأسيس منظمة "تحرير الشعب" التي بدأت بعشرة أعضاء مصريين في عام 1940. وكان إسرائيل قد قدم هؤلاء المناضلين إلى طاهر المصري، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي عندما كان يدرس في باريس. وفد حضر المصري الاجتماع التأسيسي الذي عقد سراً في بولاق.

وقد أفاد مناضلو منظمة "تحرير الشعب" من علنية جماعة "الخبز والحرية" وكانوا يحركون جماعة علنية أخرى كانت تعنل وسط الأجانب بشكل رئيسي، حملت اسم "ثقافة وفراغ".

ومع اقتراب قوات روميل من العلمين، رحل إسرائيل عن مصر إلى فلسطين في عام 1942، وناضل في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني ذي النفوذ القوي داخل الأممية الثالثة. ولم يتصل بالتروتسكيين الفلسطينيين الذين كانوا قد أعلنوا في عام 1938 وقوفهم إلى جانب الحركة القومية العربية ودعمهم غير المشروط لوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ووقف شراء اليهود للأراضي وإنشاء سلطة عربية (انظر N. Weinstock, Zionism: False Messiah, Ink Links, London, 1979, P.199)

وقد عاد إسرائيل إلى مصر في أواخر عام 1943، بعد وقت طويل من زوال خطر الهجوم الألماني. وبعد أقل من عامين، اندمجت منظمته مع منظمة "إيسكرا" وقاد غالبية أنصاره إلى الاتحاد في مايو 1947 مع "الحركة المصرية للتحرر الوطني" (حمتو) لتكوين "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني" (حدتو) (المعلومات البيروجرافية الأساسية عن مارسيل إسرائيل مستمدة من جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، صفحات مختلفة).

والحال أن مارسيل إسرائيل قد اشتهر في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بأنه من أبرز دعاة تمصير الحركة، خاصة قيادتها. وكان إسرائيل يتجاوب بهذه الدعوة مع إصرار مادويان – خلال اجتماع بيروت – على شعار "التمصير". ويعد هذا الإصرار، بدوره، امتداداً لدعوة الكومنترن الستاليني إلى "تعريب" قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني والتي سخر منها التروتسكيون الفلسطينيون إذ رأوا أن مجرد إحلال كوادر عربية محل كوادر يهودية – مع إبقاء التوجهات السياسية الانتهازية للحزب – ليس مخرجاً من الأزمة التي يواجهها.

وحتى لو نحينا مجمل سيرة مارسيل إسرائيل السياسية ولم نحتفظ إلا بذلك الجانب الخاص بدعوته التي لا تكل إلى التمصير فسوف نجد أن هذه الدعوة وحدها كافية لاستبعاد أن يكون تروتسكياً: إن الشيء الرئيسي بالنسبة إلى التروتسكيين ليس هو "قومية" قادة الحركة الشيوعية بل توجهاتها. وقد اعترض كاتب تروتسكي على تفسير إخفاقات الحركة الشيوعية المصرية قبل 1952 بالإشارة إلى "لامصرية" قياداتها، وتساءل: "إذا كان الأصل الأجنبي لتلك القيادة هو السبب في إخفاقاتها، فلماذا لم تتمكن القيادة المصرية مائة بالمائة (بعد تنحية الأجانب والمتمصرين) من أن تتجاوز تلك الإخفاقات، وتفتح الطريق نحو بناء حركة شيوعية جماهيرية أصيلة؟" (كميل داغر: "مقدمة الترجمة العربية" لكتاب جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، ص15). وواضح أن هذا الكتاب يشير إلى مسؤولية التوجهات السياسية الستالينية التي سادت الحركة.

أكتفي بهذا رداً على وصف أحمد صادق سعد للعناصر المنشقة على "الرابطة السلمية" بأنها كانت "مجموعة تروتسكية".


يتبع

حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عامي 1938 و 1948

(2)

بشير السباعي

1987

إن حملة الافتراءات التي بدأت ضد تروتسكي منذ العام 1923 قد بلغت ذروتها في محاكمة موسكو الاستعراضية في عام 1938، حيث جرت محاكمة تروتسكي - غيابياً – بتهم من بينها التجسس لحساب الجستابو النازي والنشاط التخريبي. وسرعان ما أصبحت كلمة "تروتسكية" تعني عند الستاليني العادي من طراز ديكومب وتلامذته والكوريليين المصريين – التجسس والنشاط التخريبي. فهي لا تشير إلى اتجاه سياسي داخل الحركة العمالية العالمية بل تشير إلى نشاط مشبوه ضد هذه الحركة، بينما كان ميليوكوف، المؤرخ وقائد حزب الكاديت الروسي، والذي "كان لينين يعتبره سياسياً بارزًا... وكان مؤرخاً كبيرًا لم تفقد مؤلفاته أهميتها العلمية حتى يومنا هذا" (صحيفة "أنباء موسكو"، 8 فبراير 1987، ص 9 وص 14)، والذي كان أول من ابتدع كلمة "تروتسكية" خلال ثورة 1905 – 1907 في روسيا، قد استخدم هذه الكلمة للإشارة إلى المزاج الثوري لبروليتاريا سان بطرسبورج، حيث كان تروتسكي رئيسًا لسوفييت نواب عمال عاصمة الإمبراطورية القيصرية.

والحال أن الصورة التي روجتها محاكمة موسكو في عام 1938 قد رُسمت بهدف استئصال شأفة الماركسية الثورية داخل الحركة العمالية العالمية وإحكام سيطرة البيروقراطية الستالينية على هذه الحركة. وقد قبل ديكومب وتلاميذته هذه الصورة وعملوا على ترويجها. ولم يجد أحمد صادق سعد حرجًا في أن يكتب أن تروتسكي قد تكشف عن مجرد "خائن وعميل للفاشية" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 256). وقد جاء هذا الوصف في مقال بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر الثامنة والعشرين التي كان ستالين قد كتب في ذكراها الأولى أن "كل عمل التنظيم الفعلي للانتفاضة قد تم تحت القيادة المباشرة لرئيس سوفييت بتروجراد، الرفيق تروتسكي" (برافدا، 6 نوفمبر 1918). لكن أحمد صادق سعد كان يردد افتراءات عام 1938 والتي شكلت "تتويجاً " لجهود تزويرية كانت قد بدأت بشكل خجول قبل ذلك بخمسة عشر عاماً.

وعلى الرغم من استبعاد ورثة ستالين لهذه التهمة (انظر، History of the Communist party of the Soviet Union, F. L. P., Moscow, n. d. 1964?, P. 505 )، فإن أحمد صادق سعد، عندما أعاد نشر مقالاته التي كان قد ساهم بها في مجلة "الفجر الجديد"، وجد أن من غير المناسب سحب هذه التهمة عبر تعليقاته على مقالاته بينما وجد أن من المناسب الاعتذار عما وصفه بـ "فجاجة" هجومه في أحد مقالاته على مؤازر الفاشية المصري أحمد حسين! (انظر أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 264). وقد اعتبر د. رفعت السعيد، سخرية أنور كامل من اتهام تروتسكي بالجاسوسية "جرمًا"، وذلك في كتاب أصدره في ذات العام الذي أعاد أحمد صادق سعد نشر مقالاته فيه (انظر د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، 1940-1950، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1976، ص 159)، وهو ما يشير إلى تخلف تلامذة ديكومب وهنري كورييل – على حد سواء – عشرين سنة على الأقل في مدرسة التزييف الستالينية، غير قادرين على استيعاب دروسها الجديدة التي بدأ تلقينها منذ عام 1956. فمنذ ذلك التاريخ، أصبح المتهم بالجاسوسية هو لافرينتي بيريا، الساعد الأيمن لستالين، لا تروتسكي ولا بوخارين ولا توخاتشيفسكي.

والحال أن كل ما حدث هو أن ديكومب قد نقل إلى التربة المصرية ممارسة كانت معتمدة من جانب مجمل الحركة الستالينية العالمية. مثال ذلك أن هذه الحركة قد وصفت حزبًا بأكمله، هو الحزب العمالي للتوحيد الماركسي، في إسبانيا، بأنه حزب تروتسكي، رغم سجالات تروتسكي العنيفة ضد هذا الحزب، وذلك لمجرد أن هذا الحزب لم يكن مستعداً للاندراج في الكورس الستاليني! وقد اغتال الستالينيون أندريه نين، زعيم الحزب المذكور وأحد ألد أعداء الفاشية في إسبانيا. وحتى وقت غير بعيد جداً، كان المؤرخون السوفييت يتعاملون مع هذا الحزب باعتباره حزباً تروتسكياً (انظر: ف. م. إيفانوف، أ. ن. شيميليف: اللينينية والهزيمة الفكرية – السياسية للتروتسكية، لينزدات، لينينجراد، 1970، ص 478 "بالروسية").

وعلاوة على ما سبقت الإشارة إليه فيما يتعلق بموقف تروتسكي من مؤتمر أمستردام وتعارض التوجهات السياسية التروتسكية مع فكرة الروابط من النوع الذي سانده الستالينيون، أعتقد أن من شأن إشارة سريعة إلى سيرة راءول كورييل السياسية أن تكون كافية لإبراز حقيقة أنه لم يكن تروتسكيًا في أي وقت من الأوقات، خلافًا لمزاعم أحمد صادق سعد.

كان راءول كورييل (ولد عام 1913)، بعد عام واحد من فصل تروتسكي من الحزب الشيوعي السوفييتي وقبل أقل من عام على نفيه من الاتحاد السوفييتي، أي منذ عام 1928، منتميًا إلى جماعة أصدقاء الاتحاد السوفييتي. وكانت الجمعيات من هذا النوع عبارة عن شلل لا وزن لها، تضم بين صفوفها، شأنها في ذلك شأن "الرابطة السلمية"، مسالمين بورجوازيين وصحافيين فابيين، مثل الزوجين سيدني وبياتريس ويب، وعناصر ماسونية تنتمي إلى مختلف المحافل... إلخ. وقد شاركت مثل هذه الجمعيات في الافتراء على تروتسكي، القائد البارز لانتفاضة أكتوبر وقائد الجيش الأحمر إلى الانتصار في الحرب الأهلية وحروب التدخل، الذي رد لأبرز ممثليها – ذوي الماضي المعادي لثورة أكتوبر في حالات كثيرة – الصاع صاعين، مركزاً بشكل خاص، على تاريخ الزوجين ويب الأسود.

وقد أمضر راءول كورييل خمس سنوات متواصلة في فرنسا للدراسة بين عامي 1933 و1938 حيث لم يعد إلى مصر إلا في أكتوبر من العام الأخير.

وخلال تلك الفترة، كان منتمياً إلى اتحاد الطلاب الاشتراكيين التابع للشعبة الفرنسية للأممية العمالية (الحزب الاشتراكي الفرنسي). وعندما قرر ليون بلوم (1872 - 1950) زعيم الحزب الاشتراكي، ورئيس وزراء حكومة الجبهة الشعبية – التي كانت قد وصلت إلى الحكم بدعم من الستالينيين – عدم التدخل إلى جانب الجمهوريين الأسبان، بموجب ميثاق عدم التدخل الموقع بين فرنسا والمملكة المتحدة في 15 أغسطس 1936، تقارب راءول كورييل مع الحزب الشيوعي الفرنسي الذي واصل دعم حكومة الجبهة الشعبية بأصوات نوابه في الجمعية الوطنية الفرنسية، رغم خيانة بلوم للجمهوريين الأسبان.

وعندما عاد راءول كورييل إلى مصر في أكتوبر 1938 انضم إلى "الرابطة السلمية" التي سرعان ما استقال منها للأسباب التي سبقت الإشارة إليها (عصبوية ديكومب وتخوفه من توسيع نشاط الرابطة) كي يؤسس، بالاشتراك مع ريمون أجيون، وهنري كورييل، ومارسيل إسرائيل، وجورج بوانتيه (الستاليني السويسري)، وساندرو روكا، وكيبريو، وأحمد الأهواني ومحمد نصر الدين "الاتحاد الديموقراطي"، في مستهل عام 1939.

وقد شكل أغلب المذكورين اللجنة القيادية للاتحاد، وكان مارسيل إسرائيل هو أمين هذه اللجنة. وقد حصلوا على مساعدات مالية سخية من المليونير دانييل نسيم كورييل (والد راءول وهنري) وتمتعوا بتعاطف أحد المحافل الماسونية، مواصلين جانباً من تقاليد "الرابطة السلمية". ولم يكن بين أعضاء اللجنة القيادية للاتحاد تروتسكيٌّ واحدٌ مما يشهد على زيف ادعاء الدكتور عبد العظيم رمضان، استاداً إلى رواية أحمد صادق سعد، أن "الاتحاد الديموقراطي" قد تكوَّن على يد "تروتسكيين منسلخين" من "الرابطة السلمية" (د. عبد العظيم رمضان: مصدر سبق ذكره، ص 21). لقد رحب راءول كورييل وجورج بوانتيه باتفاق هتلر – ستالين الذي وقعه ريبنتروب، وزير خارجية ألمانيا، ومولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، في موسكو في 23 أغسطس 1939، وهو الاتفاق الذي اعتبره التروتسكيون افتتاحاً لـ "صفحة من أسود صفحات سياسة ونشاط الأممية الشيوعية والأحزاب الشيوعية "الستالينية". (Pierre Frank, Histoire de l'international Communiste, 2, Editions la Breche, Paris, 1981.P. 823) . وغداة إعلان المملكة المتحدة وفرنسا الحرب على ألمانيا في 3 سبتمبر 1939، سارع راءول كورييل إلى تسجيل اسمه في القنصلية الفرنسية متطوعاً (فعل أخوه الشيء نفسه) ، رهن إشارة الأركان العامة لجيش فرنسا الإمبريالية، في حرب اعتبرها التروتسكيون حرباً غير عادلة بين دول إمبريالية يتعين على الثوريين تحويلها إلى حرب أهلية. وقد فعل ذلك حتى قبل سقوط باريس وتوقيع بيتان اتفاق الهدنة مع الألمان. ويذكر أحمد صادق سعد أن الاتحاد الديموقراطي "قد أصدر بياناً يؤيد فيه فرنسا وانجلترا ضد ألمانيا" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 42) إلا أن أحمد صادق سعد يزور التاريخ، مرة، حين يحاول الإيحاء بأن هذا الموقف كان موقف تروتسكيين ويزور التاريخ، مرة أخرى، حين يزعم أن موقف الكومنترن خلال تلك الفترة كان "هو الدعوة إلى قلب الحكم الرأسمالي في أوروبا" (أحمد صادق سعد: مصدر سبق ذكره، ص 42). فقد تمثل موقف التروتسكيين في الدعوة إلى الانهزامية الثورية في كل من فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا بينما كان موقف الكومنترن الستاليني، في فترة الاتفاق الروسي الألماني، وقبل الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي، ليس "الدعوة إلى قلب نظام الحكم الرأسمالي في أوروبا" بل الدعوة إلى انهزامية من نوع خاص، لا علاقة لها بالانهزامية الثورية اللينينية، الدعوة إلى انهزامية من جهة واحدة فقط على حساب فرنسا والمملكة المتحدة ولحساب ألمانيا النازية.P. Frank, Op. Cit., P.831))

وقد شارك راءول كورييل، في ديسمبر 1939، في إصدار صحيفة "دون كيشوت" التي أراد لها أن تكون على غرار جريدة "ماريان" الباريسية غير التروتسكية. وعندما أعلنت الهدنة بين فرنسا البيتانية وألمانيا الهتلرية، ذهب إلى أحد الآباء اليسوعيين ليجد لديه العزاء والسلوى: "ليست الهدنة مأساة! إنها العقاب العادل الذي استحقته فرنسا إذ تحالفت مع أمة بروتستانتية" (يقصد انجلترا!) [المعلومات البيوجرافية عن راءول كورسسل مستمدة من جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، صفحات مختلفة].

ومن الجلي أن سيرة سيرة سياسية كهذه لا يجمع بينها وبين السيرة السياسية لأي مناضل تروتسكي في ذلك الوقت أي جامع. ولا يمكن اعتبار راءول كورييل تروتسكياً إلا عبر تشويه مواقف التروتسكية المعروفة تجاه عدد كبير من المسائل المهمة خلال الثلاثينيات ومستهل الأربعينيات، وهو تشويه لا مفر من أن يدمغ من يحاولون تجربته، في أحسن الأحوال، بالحماقة النادرة، لأن مواقف التروتسكية من الحرب خلال فترة 1939-1941 أشهر من نار على علم وقد جسدت في بيان الأممية الرابعة الصادر عن مؤتمر مايو 1940، والذي وصف الحرب الدائرة بين قوى أوروبا الاستعمارية بأنها "حرب إمبريالية"، ذلك أن "السبب المباشر للحرب الدائرة هو التنافس بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين: بريطانيا العظمى وفرنسا واللصين الإمبرياليين المتأخرين: ألمانيا وإيطاليا".

(Jean-Jacques Marie, Trotsky: Textes et Débats, L. G. F., Paris, 1984, PP. 413-14)

وبينما أصر التروتسكيون على اعتبار الحرب حرباً إمبريالية من جانب الأطراف المذكورة كلها، كانت مجلة الكومنترن الستاليني إنترناسيونال كومينيست تعلن في يناير 1940 – وسط الحرب الدائرة – أن "النضال الأممي للطبقة العاملة ضد النظام الإمبريالي العالمي يتطلب تركيز القوى ضد العدو الرئيسي الراهن في ساحة السياسة الدولية... لقد أصبحت الإمبريالية البريطانية... العدو الرئيسي للطبقة العاملة العالمية". وقد ورد هذا الكلام وسط صمت تام عن أهداف الإمبريالية الألمانية. واستمر هذا الموقف حتى اعتداء هتلر على الاتحاد السوفييتي. ففي افتتاحية المجلة المذكورة في أول مايو 1941 لم يرد ولو مرة واحدة أي ذكر لكلمتي النازية أو الفاشية، بل لم يرد أي ذكر لأسماء هتلر أو موسوليني أو حتى فرانكو وذلك في مقال من إحدى عشرة صفحة موجهة إلى الطبقة العاملة في عيد أول مايو! وهو ما يعني أن موقف "الاتحاد الديموقراطي" الذي لا علاقة له من قريب أو من بعيد بموقف التروتسكيين من الحرب ليس أكثر خزياً من موقف الكومنترن الستاليني! ومن الشطط والسخف تسوية حسابات تاريخية بين الديكومبيين والكوريليين على حساب التروتسكية. لكن التاريخ يبين أن مثل هذه الأمور تحدث غالباً عندما تمسك إحدى الشيع العصبوية بخناق شيعة عصبوية أخرى! وهكذا يجري زج اسم تروتسكي في قتال محزن بين شقيقين!


يتبع