(5)
بشير السباعي
1987
ويعد أنور كامل (ولد عام 1913) واحداً من أولئك المتمردين الذين استلهموا – إلى حد ما – مثال جورج حنين دون أن يكونوا قد سلكوا الدروب المعقدة التي سلكها الأخير. وقد وصف أنور كامل، هو الآخر، دون براهين حقيقية، بأنه "تروتسكي" رغم أن سيرته الفكرية والسياسية لا تشير إلى ذلك ورغم أنه هو نفسه قد نفى هذا الوصف الذي وصفه به كثيرون (انظر، A. Kamel, Interviewed by S. Botman For a Doctoral Dissertation, Harvard).
استهل أنور كامل نشاطاته العامة في أوائل الثلاثينيات حيث ارتبط منذ عام 1932 وحتى أواخر عام 1938 بتجمع من المثقفين كان من أبرز وجوهه أحمد كامل مرسي, وفي صيف عام 1936 أصدر كتابه الأول الذي حمل عنوان "الكتاب المنبوذ"، وهو عبارة عن عشرة حوارات بين رجل وامرأة. وقد دعا الكتاب إلى إنهاء الفصل بين الجنسين وإلى تحقيق الإشباع الجنسي والحرية الجنسية، علاوة على ما تضمنه من سخرية من المطلقات الميتافيزيقية. وقد قرر مجلس الوزراء مصادرة الكتاب وحظر تداوله بعد أقل من أسبوعين من صدوره.
وشارك أنور كامل في تأسيس جماعة "الفن والحرية" في مستهل عام 1939. وقد نفى أنور كامل عن هذه الجماعة صفة "التروتسكية" في حديثه مع س. بوتمان.
وفي يناير 1940، صدر العدد الأول من مجلة "التطور" – لسان حال جماعة "الفن والحرية" – حيث اختير أنور كامل رئيساً لتحريرها. وقد جعلت شعارها "التطور الدائم والتغير المستمر" مما دفع عبد القادر ياسين إلى اعتبارها مجلة تروتسكية. وقد سألت س. بوتمان أنور كامل عما إذا كان قد تأثر بتروتسكي عندما رفع هذا الشعار فأجاب بالنفي: " ... منذ بداية حياتي وأنا أريد تغيير كل شيء حولي. وفي ذلك الوقت لم أكن قد قرأت تروتسكي، أو حتى ماركس" (Ibid).
وعندما أسس مارسيل إسرائيل منظمة "تحرير الشعب" في صيف 1940، كان أنور كامل من بين الأعضاء المؤسسين للمنظمة وقد اختير – بالإجماع – أميناً عاماً لها في اجتماعها التأسيسي. ثم انقطعت صلته بهذه المنظمة بعد اعتقاله هو وأعضائها في عام 1941. واتجه إلى تأسيس جماعة "الخبز والحرية" في العام نفسه بعد خروجه من السجن – وقد استمرت هذه الجماعة قائمة بشكل أو بآخر حتى حملة صدقي باشا في 11 يوليو 1946 ضد اليسار المصري.
وخلال هذه الفترة أصدر أنور كامل ثلاث كراسات تعبرعن مواقف الجماعة التي نفى في حديثه مع س. بوتمان أنها كانت تروتسكية:
1- "مشاكل العمال في مصر" (1941). وقد تناول أنور كامل في هذا الكراس عدداً من مسائل الحركة العمالية المطلبية.
2- "الصهيونية" (1944). وهو عبارة عن تلخيص لكتاب "اللاسامية والمسألة اليهودية" الذي أصدره في لندن عام 1943 الستاليني البريطاني المعروف ريناب (وهو بدوره ليس مساهمة أصيلة، فهو مستمد من مقالات كاوتسكي عن المسألة اليهودية) ورسالة الاشتراكيين الفلسطينيين (التروتسكيين) المفتوحة إلى أعضاء حزب العمال البريطاني (1944). وقد حصل أنور كامل على نسخة من كتاب ريناب من جورج حنين وعلى نسخة من رسالة الاشتراكيين الفلسطينيين من لطف الله سليمان. ولم يكن جورج حنين ولطف الله سليمان عضوين في جماعة "الخبز والحرية" وإن كانا قد آزرا مجهوداتها.
3- "لا طبقات" (1945). وهو كراس ينتقد الإصلاحية ويدعو إلى ثورة اشتراكية من أجل إلغاء المجتمع الطبقي في مصر. وقد اعتقل أنور كامل بسبب هذا الكراس وحبس لمدة شهرين.
لقد أشار عبد القادر ياسين إلى كراس "الصهيونية" (انظر، عبد القادر ياسين: القضية الفلسطينية في فكر اليسار المصري، دار ابن خلدون، بيروت، 1981، ص ص 19-111). والحال أن الدكتور عبد العظيم رمضان قد اختار تجاهله. وتجاهل رفعت السعيد كل كتب أنور كامل باستثناء كتاب "أفيون الشعب" (1948).
وعندما صدر هذا الكتاب الأخير، تعرض أنور كامل لحملة افتراءات من الستالينيين المصريين ومازال يتعرض لها حيث اتهمه رفعت السعيد بإصدار كتابه "بالتعاون التام مع جهات الأمن" (رفعت السعيد: مصدر سبق ذكره، ص 159) ولم يهتم رفعت السعيد بتقديم دليل واحد على هذا الاتهام الخطير، مما يدل بحد ذاته، على تعمد الافتراء.
وقد كتب أنور كامل هذا الكتاب بعد أن توقف عن النشاط السياسي المنظم وبعد أن وافق الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم واعترف بالدولة الصهيونية وبعد أن تجلت له خيانة الحزب الشيوعي (الستاليني) الفرنسي للثورة في الهند الصينية والجزائر وخيانة الحزب الشيوعي (الستاليني) الهولندي للكفاح الوطني التحريري في أندونيسيا، وقد شجب جميع هذه الخيانات وانتقد التسلط الستاليني على الطبقة العاملة السوفييتية وتآمر ستالين ضد قادة الحزب البلشفي وثورة أكتوبر.
ومن جانب آخر، شجب أنور كامل الاستعمار البريطاني والإمبريالية الأمريكية والرجعية المصرية.
ولم يتورط أنور كامل في تبني مواقف الإيديولوجيين الإمبرياليين خلال فترة الحرب الباردة... ودعا لسياسة مستقلة عن كل من واشنطون وموسكو.
وخلافاً لادعاء رفعت السعيد أن كتاب أنور كامل قد صدر بـ "تعاون تام مع جهات الأمن" فإن هذا الكتاب قد تعرض لمقص الرقيب في مواضع عديدة.
وقد استند أنور كامل في هذا الكتاب إلى كراس كان قد أصدره ج. مونيس في أوائل عام 1947 في باريس تحت عنوان: "الثوريون تجاه روسيا والستالينية العالمية". وكان قد حصل على نسخة من هذا الكتاب من جورج حنين.
والحال أن كراس ج. مونيس كان قد تعرض غداة صدوره لانتقاد حاد من جانب بيير فرانك، أحد قادة الأممية الرابعة البارزين وأحد رفاق تروتسكي المقربين منذ أوائل الثلاثينيات (انظر: P. Frank, Le Stalinisme, F. M., Paris, 1977, pp. 189 - 192)، حيث ركز، بشكل خاص على نقد مفهوم ج. مونيس عن البيروقراطية السوفييتية، وهو عين مفهوم أنور كامل، والذي لا يرتبط من قريب أو بعيد بالمفهوم التروتسكي.
لقد اعتبر أنور كامل البيروقرطية السوفييتية "طبقة حاكمة جديدة" (أنور كامل: أفيون الشعب، مطبعة الرسالة، القاهرة، ديسمبر 1948، ص 36)، بينما اعتبر التروتسكيون هذه البيروقراطية ورماً خبيثاً على جسم دكتاتورية البروليتاريا، شريحة لا تمثل طبقة اجتماعية مستغلة ومستقلة. وقد ساعدت ظروف تخلف روسيا وعزلة الثورة الروسية هذه الشريحة على لعب دور شرطي يستأثر بامتيازات استهلاكية وهو يضبط تحرك طوابير لا مفر من أن تتشكل في ظروف الندرة النسبية دون أن يتمكن هذا الشرطي من تغيير الطبيعة العمالية للدولة المنبثقة عن ثورة أكتوبر وإن تمكن من تشويهها. (انظر، تحليل تروتسكي للبيروقراطية السوفيتية في الجزء الثاني من مختاراته الصادر تحت عنوان: (Sowjet Gesellschaft und Stalinistische: Diktatur, E. V., Kôln, 1974)
ومؤخراً جداً، بدأ تحليل تروتسكي للبيروقراطية السوفييتية يجد صداه بين صفوف السوسيولوجيين السوفييت (انظر، صحيفة "أنباء موسكو"، 1 مارس 1987، ص 13، حديث مع الأكاديمية تاتيانا زاسلافسكايا، رئيسة الرابطة السوسيولوجية السوفييتية).
والحال أن مفهوم أنور كامل عن البيروقراطية السوفييتية بوصفها "طبقة حاكمة جديدة" إذ ينفي عنه صفة التروتسكية، لا يجره – أوتوماتيكياً – إلى معسكر الإمبريالية، مع ذلك. هذا لم يحدث مع سمير أمين أو بول سويزي، أو توني كليف وهو لم يحدث مع أنور كامل.
وعلى الرغم من اختلاف مواقف أنور كامل مع مواقف التروتسكيين فيما يتعلق بعدد من المسائل المهمة – من بينها، بطبيعة الحال، مسألة طبيعة البيروقراطية السوفييتية – فإن من الواضح تماماً أن شجبه لخيانة عدد من الأحزاب الستالينية للحركات القومية التحررية ودعوته إلى الثورة الاشتراكية سبيلاً لحل معضلات التخلف وللقضاء على الاستغلال الطبقي من الأمور التي من الطبيعي أن تخلق التقاء بينه وبين مختلف التيارات اليسارية الثورية، ومن بينها التيار التروتسكي، دون خلط للأعلام مثلما يفعل المؤرخون الستالينيون!
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق