(3)
بشير السباعي
1987
أما ريمون أجيون (ولد عام 1920) فقد قضر جانباً من الثلاثينيات في فرنسا للدراسة وكان، إلى حد ما، هلى يسار راءول كورييل. فهو قد اندمج في تجمع "اليسار الثوري" الذي قاده مارسو بيفير داخل الشعبة الفرنسية للأممية العمالية (الحزب الاشتراكي الفرنسي).
والحال أن مارسو بيفير (1895-1958) كان أحد القادة البارزين لتجمع "المعركة الاشتراكية" داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي، ثم أحد أبرز قادة تجمع "اليسار الثوري" الذي تشكل داخل الحزب المذكور في عام 1935. وعندما أصدرت قيادة الحزب أمراً بحل هذا التجمع في عام 1937، ترك بيفير وأنصاره الحزب الاشتراكي وأسسوا في عام 1938 الحزب العمالي والفلاحي الاشتراكي الذي سارع إلى الانتماء إلى ما يسمى بـ "مكتب لندن للأحزاب الاشتراكية الثورية"، والذي كان عبارة عن اتحاد لا مركزي لأحزاب الوسط الماركسي غير المنتمية لا إلى الأممية الثانية ولا إلى الأممية الثالثة، حيث كانت هذه الأحزاب على يسار كل من الأمميتين خلال الشطر الثاني من الثلاثينيات، وكانت تعارض في الوقت نفسه إنشاء أممية رابعة، خلافاً لموقف الأحزاب والجماعات التروتسكية التي دعت إلى تأسيس أممية رابعة منذ عام 1933، وعندما تأسست الأممية الرابعة بالفعل في عام 1938، تعرضت لهجوم شديد من جانب هذه الأحزاب، وقد قاد الإنجليزي فينر بروكواي (ولد عام 1890)، أمين مكتب لندن، هذا الهجوم مستشعراً الخطر من جراء تأسيس أممية لليسار الماركسي.
وكان من بين الأحزاب المنتمية إلى مكتب لندن الحزب العمالي الاشتراكي الألماني، وحزب العمل المستقل في بريطانيا العظمى، والحزب العمالي للتوحيد الماركسي في إسبانيا، والحزب العمالي والفلاحي الاشتراكي في فرنسا (حزب مارسو بيفير).
وقد تعرضت هذه الأحزاب ومكتب لندن لانتقادات عنيفة من جانب تروتسكي والتروتسكيين. وعندما تفجرت الإضرابات في فرنسا بعد انتصار الجبهة الشعبية الانتخابي، كتب تروتسكي في 5 يونيو 1936: "إن التنظيم الذي لم يجد سنداً في الحركة الإضرابية الجارية، والذي لم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمال في مجرى النضال، غير جدير باسم تنظيم ثوري. وسوف يكون من الأفضل لأعضائه أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان في بيوت المسنين أو في المحاقل الماسونية (برعاية م. بيفير)" (J. J. Marie, op, cit., PP. 301-2).
ويشير بيير فرانك، أحد قادة التروتسكيين الفرنسيين وأحد قادة ومؤرخي الأممية الرابعة، إلى أن النضال ضد حزب مارسو بيفير ومختلف الأحزاب المنتمية إلى مكتب لندن، خلال الثلاثينيات ومستهل الأربعينيات، كان "أحد النضالات الكبرى .. التي هيمنت على نشاط حركتنا الأممية". (P. Frank, La Quatriéme Internationale, F. M., Paris, 1969, P. 38) ومع تيار أحزاب أممية مكتب لندن هذه، لا مع الأممية الرابعة التروتسكية، كانت تعاطفات ريمون أجيون. وكانت فكرة إصدار صحيفة "دون كيشوت" فكرة راءول كورييل وريمون أجيون بالأساس. وقد اختارا هذا الاسم "احتراماً لذكرى جابرييل آلومار، السفير السابق لإسبانيا الجمهورية في القاهرة" (جيل بيرو، مصدر سبق ذكره، ص 74).
وقد استند من تحدثوا عن "تروتسكية" صحيفة "دون كيشوت" إلى واقع أنها قد نشرت في باب السياسة الدولية مقالات تنتقد السياسة السوفيتية انتقاداً حاداً، وكأن انتقاد السياسة السوفيتية خلال الفترة التي ظهرت فيها الصحيفة (ديسمبر 1939 – أبريل 1940) كان شيئاً قاصراً على التروتسكيين ولم تندرج فيه مختلف التيارات الاشتراكية التي استنكرت اتفاق هتلر – ستالين! والحال أن الذي كتب هذه المقالات هو البيفيري ريمون أجيون الذي لم ينتمِ إلى أي تجمع تروتسكي عندما كان في فرنسا!.
أما مارسيل إسرائيل (ولد عام 1914) فقد ارتبط بالستاليني اللبناني المعروف نقولا الشاوي. وقد توطدت عرى الصداقة بينهما عندما زار مارسيل إسرائيل بيروت في أواخر عام 1938. وأثناء تلك الزيارة، رتب الشاوي لقاء مع مادويان، مسئول الكومنترن عن الشرق الأوسط، حيث تبادلا الآراء حول الموقف في مصر. وكان مارسيل إسرائيل آنذاك عضواً في اللجنة القيادية لـ "الرابطة السلمية".
وجليٌّ أنه من قبيل الهذيان الادعاء بأن صداقة سياسية وطيدة كتلك التي نشأت بين إسرائيل والشاوي وتبادلاً للآراء كذلك الذي حدث بين إسرائيل ومادويان يصلحان دليلاً على "تروتسكية" مارسيل إسرائيل!
وعندما انسحب مارسيل إسرائيل من الاتحاد بعد عودته من بيروت في أواخر عام 1938، من "الرابطة السلمية" انهمك مع آخرين، في تأسيس "الاتحاد الديموقراطي" في مستهل عام 1939 واختير أميناً للجنة القيادية للاتحاد. وقد شارك إسرائيل، منذ أوائل يناير 1939، في نشاط جماعة "الفن والحرية". ويبدو أن اشتراك إسرائيل في نشاط هذه الجماعة هو الذي أوحى للدكتور عبد العظيم رمضان بأن الجماعة قد تفرعت عن "الاتحاد الديموقراطي" (انظر، د. عبد العظيم رمضان: الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1981، ص 52) وهو تصور لا يستند إلى أساس لأن اشتراك إسرائيل في نشاط الجماعة ليس معناه "تفرع" الأخيرة عن الاتحاد.
وقد انسحب مارسيل إسرائيل من الاتحاد في أواخر عام 1939 عندما وجد أن هنري كورييل – عضو اللجنة القيادية للاتحاد – قد حول "الاتحاد الديموقراطي" إلى "اتحاد أرستقراطي" بضمه إليه "كل أصدقائه البورجوازيين الكبار" (جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، ص 155).
وقد انهمك إسرائيل بعد ترك "الاتحاد الديموقراطي" في تأسيس منظمة "تحرير الشعب" التي بدأت بعشرة أعضاء مصريين في عام 1940. وكان إسرائيل قد قدم هؤلاء المناضلين إلى طاهر المصري، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي عندما كان يدرس في باريس. وفد حضر المصري الاجتماع التأسيسي الذي عقد سراً في بولاق.
وقد أفاد مناضلو منظمة "تحرير الشعب" من علنية جماعة "الخبز والحرية" وكانوا يحركون جماعة علنية أخرى كانت تعنل وسط الأجانب بشكل رئيسي، حملت اسم "ثقافة وفراغ".
ومع اقتراب قوات روميل من العلمين، رحل إسرائيل عن مصر إلى فلسطين في عام 1942، وناضل في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني ذي النفوذ القوي داخل الأممية الثالثة. ولم يتصل بالتروتسكيين الفلسطينيين الذين كانوا قد أعلنوا في عام 1938 وقوفهم إلى جانب الحركة القومية العربية ودعمهم غير المشروط لوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ووقف شراء اليهود للأراضي وإنشاء سلطة عربية (انظر N. Weinstock, Zionism: False Messiah, Ink Links, London, 1979, P.199)
وقد عاد إسرائيل إلى مصر في أواخر عام 1943، بعد وقت طويل من زوال خطر الهجوم الألماني. وبعد أقل من عامين، اندمجت منظمته مع منظمة "إيسكرا" وقاد غالبية أنصاره إلى الاتحاد في مايو 1947 مع "الحركة المصرية للتحرر الوطني" (حمتو) لتكوين "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني" (حدتو) (المعلومات البيروجرافية الأساسية عن مارسيل إسرائيل مستمدة من جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، صفحات مختلفة).
والحال أن مارسيل إسرائيل قد اشتهر في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بأنه من أبرز دعاة تمصير الحركة، خاصة قيادتها. وكان إسرائيل يتجاوب بهذه الدعوة مع إصرار مادويان – خلال اجتماع بيروت – على شعار "التمصير". ويعد هذا الإصرار، بدوره، امتداداً لدعوة الكومنترن الستاليني إلى "تعريب" قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني والتي سخر منها التروتسكيون الفلسطينيون إذ رأوا أن مجرد إحلال كوادر عربية محل كوادر يهودية – مع إبقاء التوجهات السياسية الانتهازية للحزب – ليس مخرجاً من الأزمة التي يواجهها.
وحتى لو نحينا مجمل سيرة مارسيل إسرائيل السياسية ولم نحتفظ إلا بذلك الجانب الخاص بدعوته التي لا تكل إلى التمصير فسوف نجد أن هذه الدعوة وحدها كافية لاستبعاد أن يكون تروتسكياً: إن الشيء الرئيسي بالنسبة إلى التروتسكيين ليس هو "قومية" قادة الحركة الشيوعية بل توجهاتها. وقد اعترض كاتب تروتسكي على تفسير إخفاقات الحركة الشيوعية المصرية قبل 1952 بالإشارة إلى "لامصرية" قياداتها، وتساءل: "إذا كان الأصل الأجنبي لتلك القيادة هو السبب في إخفاقاتها، فلماذا لم تتمكن القيادة المصرية مائة بالمائة (بعد تنحية الأجانب والمتمصرين) من أن تتجاوز تلك الإخفاقات، وتفتح الطريق نحو بناء حركة شيوعية جماهيرية أصيلة؟" (كميل داغر: "مقدمة الترجمة العربية" لكتاب جيل بيرو: مصدر سبق ذكره، ص15). وواضح أن هذا الكتاب يشير إلى مسؤولية التوجهات السياسية الستالينية التي سادت الحركة.
أكتفي بهذا رداً على وصف أحمد صادق سعد للعناصر المنشقة على "الرابطة السلمية" بأنها كانت "مجموعة تروتسكية".
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق