(4)
بشير السباعي
1987
على أن موضوع ما يسمى بـ "التروتسكية" المصرية بين عامي 1938 و 1948 لا يتوقف عند هذه النقطة. وإذا كان راءول كورييل وريمون أجيون ومارسيل إسرائيل لم يكونوا تروتسكيين بأي حال من الأحوال، على الرغم من إعجاب أجيون بشخصية تروتسكي، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من شبيبة تجمع "اليسار الثوري"، وهو الإعجاب الذي لم يتحول إلى ارتباط بالحركة السياسية التروتسكية ومنظوراتها المنهاجية، فإن السيرة السياسية لكل من جورج حنين وأنور كامل ولطف الله سليمان تتضمن عداءً سافراً للستالينية في حالة الأول منذ وقت مبكر جداً، وعداءً سافراً لها، في حالة الثاني، خصوصاً منذ تأييد الاتحاد السوفييتي قرار تقسيم فلسطين، وعداءاً سافراً لها، ممتزجاً بتعاطفات غائمة مع التروتسكية، في حالة الثالث، خاصة منذ أواخر الحرب العالمية الثانية.
كان جورج حنين (1914 – 1973) [مات جورج حنين في 18 يوليو 1973 وليس في أغسطس 1973] كما ذكر رفعت السعيد (انظر، الصحافة اليسارية في مصر، 1925 – 1948، ص 85) ] واحداً من أبرز المثقفين المصريين المعاصرين. وقد اعتبره أندريه مالرو منذ أواخر عام 1939 "النموذج الأكثر ذكاء في القاهرة" (Grandes Largeurs, No. 2-3, Paris, 1981, P.41) . ومن المؤسف أن المؤرخين المصريين لم يقدموا، حتى الآن، دراسة جادة واحدة عن فكره البالغ التعقيد، مكتفين بالحديث عن "تروتسكيته" المزعومة [انظر، د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، 1940 – 1950، ص 159 والدكتور عبد العظيم رمضان: الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو، ص 52. ومن العجيب أن الدكتور رمضان لا يشير إشارة واحدة إلى تيارات الفكر اليساري التي مثلها حنين، وكامل، وسليمان بينما أسهب في الحديث عن دور تلامذة ديكومب وكورييل وشوارتز، بحيث أن اللوحة التي رسمها تبدو ناقصة، ومن ثم، زائفة]، دون أن يبدو أن أحداً من هؤلاء المؤرخين قد قرأ كراساً واحداً من كراسات جورج حنين والتي وصلت إلى نحو عشرين كراساً!
والحال أن جورج حنين قد اختار تحديد هويته الفكرية تحديداً سلبياً، إذ اعتبر نفسه "مناهضاً للستالينية ومناهضاً للمسيحية" S. Alexandrian, George Henein, Seghers, Paris 1981, P, 53)) وهو لم يزعم قط أنه "تروتسكي" في أي وقت من الأوقات.
لقد كان جورج حنين، بالدرجة الأولى، شاعراً وناقداً سوريالياً. ويقرر موريس نادو، مؤرخ الحركة السوريالية، أن جورج حنين، كان عضواً في التجمع السوريالي منذ عام 1936 (M Nadeau, The History of Surrealism, J. C. London, 1968, P. 340) ولم ينفصل عن هذا التجمع، الملتف حول أندريه بريتون، إلا في عام 1948. والحال أن هذا التجمع، على الرغم من مناهضته القوية للستالينية خلال فترة انتماء حنين له، لم يكن تروتسكياً بأي حال من الأحوال، رغم استنكاره لمحاكمات موسكو المخزية ورغم تأييده لدفاع تروتسكي عن استقلال الفن عن جميع أشكال الحكم. وتاريخ النزاع بين هذا التجمع والتروتسكيين الفرنسيين تاريخ معروف. وقد رواه أندريه بريتون في كتابه "أحاديث" وأشار إليه إسحق دويتشر في الجزء الأخير من ثلاثيته عن تروتسكي.
وطبيعي أن هذا ليس هو المجال المناسب لإعادة استعراض هذا التاريخ. وبوسع القارئ أن يرجع إلى كتاب أندريه بريتون المشار إليه أعلاه. وسوف أكتفي بالإشارة إلى تعارض رؤى جورج حنين فيما يتعلق بمسائل مهمة في فترات مختلفة مع الرؤى التروتسكية.
أواخر عام 1936: اعتبر جورج حنين الحرب العالمية أمراً غير وارد (Grandes Largeurs, op. cit. , P. 13 ) وهو تصور يتعارض على طول الخط مع تصور التروتسكيين الذين توقعوا نشوب الحرب العالمية منذ وقت مبكر. ومن المفهوم أن التصور الأول يستتبع سياسات تختلف إلى حد بعيد عن السياسات التي يستتبعها التصور الأخير.
30 ديسمبر 1937: رحب جورج حنين برواية "الأمل" للروائي الفرنسي أندريه مالرو (Ibid., P. 18) والتي تدور أحداثها حول الأيام الأولى للحرب الأهلية الإسبانية. وكان تروتسكي قد سخر من مالرو في 17 ديسمبر 1937 متهماً إياه بترويج "حكمة عبودية" عن ضرورة وقف نضال البروليتاريا الطبقي في إسبانيا (Leon Trotsky, The Spanish Revolution, P.324)
مارس 1939: رحب جورج حنين بكتاب نيكولا كالاس "مباعث النيران"، وهو دعوة إلى تأسيس يوتوبيا جديدة، الأمر الذي يتعارض مع اتباع سياسة مستمدة من استقراء الاتجاه التاريخي للصراع الطبقي وهو ما حرص التروتسكيون على التقيد به.
صيف 1945: بلور جورج حنين رؤاه اليوتوبية داعياً إلى "سباحة في تيارات اليوتوبيا الزكية، وتجديد التأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح" محدداً مهمة المثقف الثوري في "الإعلاء مرة أخرى من شأن الأوهام المستحيلة" (George Henien, Prestige de la Terreur, Ed. Masses, Le Caire, 1945, P.22) ودعا إلى تشكيل جيريلا (مفرزة أنصار) سياسية، بوصفها "الخيار الوحيد الممكن"، بديلاً عن الحزب اللينيني (Ibid., P. 18). والحال أن هذه الفكرة الأخيرة مستمدة إلى حد ما من الفوضوية وقد تعرضت لانتقاد عنيف من جانب تروتسكي منذ مستهل العشرينيات.
21 يونيو 1947: شارك جورج حنين في إصدار بيان التجمع السوريالي الذي حمل عنوان: "قطيعة مبدئية" والذي خلط الماركسية بالستالينية وقدم تأييداً معنوياً للفوضويين وهو ما يتعارض مع اعتبار التروتسكيين الستالينية خيانة للماركسية ومع شجبهم للفوضوية.
10 يناير 1948: انتقد جورج حنين الأممية الرابعة والتروتسكية الأرثوذكسية وجدد الإعراب عن تعاطفه مع الفوضويين.
16 أغسطس 1949: كتب جورج حنين إلى كالاس ينتقد عدم اجتراء السورياليين على انتقاد منهج الماركسية (سمير غريب: السريالية في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، ص 194).
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد زعم عبد القادر ياسين أن جورج حنين "أصبح واحداً من أبرز قادة سكرتارية باريس، إحدى انشقاقات الأممية الرابعة" (شئون فلسطينية، أيار 1975)، دون سند أو دليل، وعلى الرغم من أنه ليس بين انشقاقات الأممية الرابعة انشقاق بهذا الاسم. وقد نفت بولا العلايلي هذا الزعم مشيرة إلى أن زوجها مال أكثر إلى الفوضوية. (سمير غريب: مصدر سبق ذكره، ص 54). وقد تبنى رفعت السعيد زعم عبد القادر ياسين دون تمحيص (د. رفعت السعيد: تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ص 159).
والحال أن كل ما قيل أعلاه لا يقلل بحال من أهمية الدور الذي لعبه جورج حنين في مسيرة الإنتلجنتسيا الإبداعية المصرية، ولا من أهمية دوره في تشجيع تيارات مناهضة للستالينية الانتهازية في صفوف اليسار المصري.
لقد شارك في حشد أبرز ممثلي الإنتلجنتسيا الإبداعية المصرية وتوحيد حركتهم من خلال تأسيس جماعة "الفن والحرية" في يناير 1939. ولم تكن هذه الجماعة مجرد "امتداد متمصر" لجماعة "المحاولين" مثلما زعم الدكتور رفعت السعيد (مصدر سبق ذكره، ص 154) بل "كانت تعبيراً عن التقاء صفوة من الشباب نمت من خلال انتماءاتها التنظيمية أو التجمعية إلى جانب تربيتها الخاصة وخبرتها الذاتية المتميزة. فمن جماعة "المحاولين" جورج حنين ومن معه. ومن جماعة "الدعاية الفنية" يوسف العفيفي ورمسيس يونان ومع العفيفي مريديه. ومن "المنبوذين" – نسبة إلى "الكتاب المنبوذ" – أنور كامل وكامل التلمساني وفؤاد كامل وأحمد رشدي" (أنور كامل: لكنهم صنعوا المستقبل، مقال في مجلة "صباح الخير" 18/9/1986).
وشارك في إصدار ودعم مجلة "التطور" التي صدرت في يناير 1940. وقد تعرضت هذه المجلة إلى ضغوط قوية من جانب السراي والأزهر والسفارة البريطانية أدت إلى تدخل الرقابة ضدها بشكل متواصل مما قاد إلى احتجاب المجلة عن الصدور بعد العدد السابع – وليس بعد صدور العدد الخامس كما قال رفعت السعيد – وليس بسبب ضغوط مالية زعم رفعت السعيد أن جورج حنين قد مارسها على هيئة تحرير المجلة. (انظر رفعت السعيد: مصدر سبق ذكره، ص ص 204 – 205. وانظر، رد أنور كامل على هذه المزاعم في: أنور كامل: لكنهم صنعوا المستقبل، الأصل الكامل لمقال أنور كامل المنشور في مجلة "صباح الخير" وهو عبارة عن ملزمة مكتوبة على الآلة الكاتبة تحمل تاريخ 20/8/1987، ص ص 11-12).
وكان جورج حنين مصدر إلهام لكثيرين من متمردي جيله الذين بث روح التمرد على الواقع في وجدانهم على نحو ما يظهر من كتاباتهم المنشورة في مجلة "المجلة الجديدة"، وكراساتهم وأعمالهم التشكيلية.
ومثلما استنكر حنين مختلف أشكال الاضطهاد التي تعرض لها الاشتراكيون في أوقات مختلفة في بلدان أوروبية مختلفة، استنكر حملات الأجهزة القمعية المصرية على مختلف ممثلي اليسار المصري خلال الحرب العالمية الثانية وبعد انتهاء الحرب على حد سواء. ولعب دوراً بارزاً في خلق حملة تضامنية قوية مع أولئك المناضلين على اختلاف ميولهم السياسية، دون تمييز بين الستالينيين والمناهضين للستالينية.
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق