أوباما، فرنسا والإمبريالية الأوريلية الجديدة

نيكولا بونال                                                                                                   ترجمة: بشير السباعي

                                          استيقظي استيقظي وتكلمي بنشيد، قم يا باراك وَاسْبِ سَبْيَكَ يا ابن أبيِينُوعَم.
                                                                                                         "قُضاة، 5 : 12"

لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا تفعل فرنسا في مالي بعد أن انقضَّت بهذه الجسارة على أفغانستان وليبيا وسوريا. يعتقد البعض أننا ننصاع لأجندة أميركية حيث إن باراك أوباما قد قرَّر عدم توسيخ يده في كثير من أماكن هذا العالم الموحلة. وبحسب ويليام إنجدال، فإن فرنسا الآن هي مجرد مرتزق مأجور من الأميركيين. ويعتقد آخرون أننا، مرة أخرى، أداة بيد قطر: إن رئيسنا الذي كان فرنسيًّا يبدو الآن رعيةً قطريةً مُترَفَةً بأكثر مما يبدو مواطنًا فرنسيًّا. إلاَّ أن بالإمكان القول إن قطر ليست راضيةً عن أدائنا في مالي! وقد ذهب أبعدُ المعلقين نظرًا بالفعل إلى أن الإرهابيين الذين يُقاتِلون في مالي هم الإرهابيون الذين ساعدناهم في ليبيا أو نسلحهم وندربهم في سوريا. لذا، كما كان من شأن موليير أن يتساءل، مادورنا في هذه الاشتغالة؟

دعونا نطرح جانبًا الدوافع الحقيقية و الجدية التي من شأنها أن تتمثل في المال والمواد الخام وصدام الحضارات الذي يجمع شمل رجال الأعمال والأمراء والمهرجين – المفوَّضين السياسييِّن في كل هذا العالم الشجاع الجديد.

• في سوريا، من شأن البعض أن يحلموا بخط أنابيب جديد يبتعد عن أعداء أصبحوا الآن كلاسيكيين كروسيا، المورِّدِ المنطقي الذي يمدنا بالغاز، وإيران (التي لم يقصفها أوباما بعد، ولماذا؟). وفي ليبيا، حلم آخرون بشركات نفطٍ مُخَصخَصة. وفي مالي، بحسب الباحث كريستوفر بولين، مناجمُ الذهب المشتهاة التي هي ملكٌ لروتشايلد الذي لا سبيل إلى التهرب منه، والحكومة الفرنسية الخدوم عليها أن تدافع عنها باجتهادٍ ضد نهابين لا يَرحَمون. إلاَّ أن في مالي يورانيومَ أيضًا، وهذه المرة يؤكد المعلق الشهير تييري ميسان أن الحكومة الفرنسية وجنودها العالميين إنما يدافعون أساسًا عن مصالح آريفا، العملاق النووي الفرنسي الآخذ في التداعي والانهيار. ويرى السيد ميسان أن مما يُسعد الحكومة الفرنسية أيضًا تدمير جمهورية الجزائر وربما تقويض المصالح الصينية في أفريقيا (هل حكومتنا على هذه الدرجة من القوة؟). يعتقد آخرون أن حكومتنا "الاشتراكية – الإمبريالية"، إذا استخدمنا مصطلحاتٍ لينينية، كانت بحاجةٍ إلى ترقيص الكلب، كما في فيلم هوليوودي جيد، إلى شن حرب إلهاءٍ كي تُحَوِّلَ أنظار الرأي العام عن المشاكل الداخلية المتزايدة وعن الآثار الجانبية للاحتجاجات المناهِضة لزواج المثليين.

لكنني أعتقد أن كل هؤلاء المعلقين الطيبين جَانَبَهم الصواب: فرنسا ليست بحاجة إلى أن تكون طائرة أوباما المقاتلة، فرنسا لا تخوض الحرب لأجل قطر، بل إن فرنسا لا تريد النفط ولا الغاز ولا اليورانيوم. فرنسا ليست حاذقة إلى هذا الحد لكي تقاتل من أجل ذلك. فرنسا، كبوش الإبن والمفتش كلوزو، تريد محاربة الإرهاب. في أفغانستان، في سوريا، في ليبيا، في مالي، نحارب الإرهاب! هذا هو ما يقوله وزير خارجيتها المهيب، وأنا أزعم أن علينا الإصغاء إليه متواضعين وأن نفهم دوافعه العميقة.

ما الإرهاب؟ إنه مجرد كلمة تُحدِثُ الرعب، ويمكن لهذه الكلمة المرعبة أن تتسبب منذ انتهاء الحرب الباردة في أي نوعٍ من الحروب، حتى لو كان أكثرها عبثيةً وبشاعة. لقد عاش الناس في وقت من الأوقات خائفين من الشيطان، وغوغاء ما بعد - المسيحية يحيون في الخوف من الإرهابيين الذين يلدهم الحاسوب، وهو خوفٌ قامت بتصديره الميديا. ونحن نحارب الإرهابيين في كل مكان ومهما كانت التكاليف. هذا كل ما في الأمر! ذات مرة قال الكاتب العظيم سيلين إن الجنس اللاتيني قد تم تخديره بالكلمات. إنه يعتقد أن العالم كلمة. وهذا القول المأثور هو القول المشروع أكثر من سواه من الأقوال المأثورة. الكلمة تصبح عالمًا. فكروا في استخدام كلمة كالتلوث أو الديموقراطية أو العنصرية...

الحرب الفرنسية التكرارية بشكل كوميدي هي بالطبع حرب يخوضها الأخيار ضد الأشرار.

لكن الوقت قد حان لتشغيل آلة الزمن في اتجاه الماضي. لأن هذه المصطلحات هي مصطلحاتٌ إمبراطوريةٌ بشكلٍ نموذجي وها قد عدنا إلى الأزمنة الإمبراطورية! إن نهاية التاريخ، إذا ما استخدمنا لغةً ماركسية، هي التكرار المسخرة لكثير من كوابيسنا المنسية. والأجندة الفرنسية الجديدة تعمل كالأجندة الأخيرة حين زعم سياسيونا السابقون، وكلهم يساريون بالطبع، والذين كانوا منخرطين في فتوحات القرن التاسع عشر أو مؤخرًا في عمليات التعذيب في الجزائر، إنهم كانوا يقاتلون في سبيل الديموقراطية والتنوير والتسامح ومحبة الإنسانية. ذات مرة صدر تصريح مفضوح عن جول فيري، الذي منح اسمه المهيب لكثير من شوارعنا العظيمة الحزينة والرمادية، قال فيه إن للأجناس الأرقى على الأجناس الأوطى واجب تمدينها. وهذا هو السبب في أننا مستمرون في قتل كل هؤلاء العرب أوالأفارقة: لخيرهم. ولكن طالعوا ما كتبه حول موضوع الإمبريالية البريئة هذا جون هوبسون، الشارح الإنجليزي الرائع للإمبريالية البريطانية في العصر الفيكتوري:

"تُوجَدُ لدى نسبةٍ ملحوظة وإن لم تكن كبيرة من أبناء الأمة البريطانية رغبة صادقة في نشر المسيحية بين الوثنيين، للحدِّ من الوحشية ومن المكابدات الأخرى التي يعتقدون أنها موجودة في البلدان الأقل حظًّا من بلدهم، وللقيام بعمل طيب في العالم لصالح الإنسانية".

ذلك كان الدافع الرئيسي للإمبريالية في نظر هوبسون: ليس الاقتصاد وإنما الأخلاق!

تعتمد جميع الخطابات الإمبريالية على الكلام المعسول والكلام المزدوج والتشويهات اللغوية. إذا قَصَفتَ بغداد أو هيروشيما، فأنت إنسانيّ؛ إذا لم تُرِد محو طهران، فأنتَ خطرٌ على البشرية؛ إذا دَمَّرتَ ليبيا مستخدمًا عصاباتٍ فاشية، فأنت تعمل لصالح الديموقراطية وطليعة إمارات الحرية العالمية... وإذا قضت طائراتك التي من دون طيارين على عائلات في باكستان، فهي تُنَظِّفُ العالم، بل تُطَهِّرُه. بهذا الشكل نحفظ السلم في هذا العالم النيو – إنجيلي، الجدير بسِفرِ القضاة.

كيف تنبأ تروتسكي ببلقنة أوروبا



نيكولا بونال(1)
كيف تنبأ تروتسكي ببلقنة أوروبا
ترجمة: بشير السباعي

ذات مرة، قال ماركس، في عبارة شهيرة، أن التاريخ يمكن أن يكرِّر نفسه على شكل مهزلة. غير أن التاريخ يمكنه أيضًا أن يتحمل قليلاً! ويمكن للأقلية الأكثر ذكاءً أن يُحكم عليها بأن تكابد إلى ما لا نهاية قسوة الزمن الغبية!
انظروا في خضوع أوروبا لأميركا. لقد بدأ في عام 1919، مع معاهدة فرساي، التي رسمت مستقبلنا الأوطى. فمنذ هذا التاريخ الأساسي، رَضَخنا في أوروبا الغربية للإرادة الأميركية.
في يوليو/ تموز 1924، يلقي تروتسكي، وهو آنذاك في قمة مشواره، خطابًا رائعًا عن "آفاق التطور العالمي" وخضوع أوروبا، منقسمةً آنذاك ومدينةً ومُفْقَرَة، لرأس المال الأميركي.
نحن ساعتها في زمن خطة دوز(2)، عندما كان سابقو جولدمان ساكس(3) يملون (بالفعل) إرادتهم الكالحة على ألمانيا طالها الخراب وعلى فرنسا بائسة؛ وبما أن تروتسكي كان قد تنبأ بالقيود التي فرضتها الديكتاتورية البيروقراطية الأوروبية على نفسها، فإنه يصف الوضع على النحو التالي:
"الرأسمالية الأميركية تُصدر الآن أوامرَ، مُصْدِرَةً تعليمات إلى ديبلوماسييها. وبالشكل نفسه بالضبط، تُعِدُّ ، وهي مستعدة لإصدارِ، تعليمات إلى البنوك والتروستات الأوروبية، إلى البورجوازية الأوروبية ككل... هذا هو هدفها. إنها سوف تُقَسِّمُ حصص الأسواق؛ سوف تتحكم في نشاط الماليين والصناعيين الأوروبيين. وإذا رغبنا في تقديم إجابة واضحة ومحدَّدة عن سؤال ما الذي تريده الإمبريالية الأميركية، فلا بد من أن نقول: إنها تريد إخضاع أوروبا الرأسمالية لنظام الجراية".
ويشدِّد تروتسكي على الحقائق التالية: إن أوروبا قوةٌ آفلة، بلا إرادة (ستكون النازية آخر ثورة مضادة مُمَوَّلة، الثورة المضادة الأكثر عدمية بين كل الثورات المضادة)، مدينة بشكلٍ عميق وكل واحد مدين لكل واحد ببعض المال. والرأسمالية الألمانية لا تزال جد عدوانية (التجارة الألمانية أثقلت دومًا كاهل أوروبا)، وأوروبا خاضعة للإرادة الأميركية: إنها مُبَلْقَنَة:
"هذا يعني أنها سوف تُحَدِّدُ كم طنًّا ولترًا وكيلوجرامًا وما المواد التي يحق لأوروبا شراؤها وبيعها. وقد كتبنا في أطروحات المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن أن أوروبا تجري بَلْقَنَتُها. وهذا الاتجاه يجري تعزيزه أكثر... إن أوروبا المُبَلْقَنَة إنما تجد نفسها في وضعٍ واحدٍ حيال الولايات المتحدة و، جزئيًّا، حيال بريطانيا العظمى".
عندئذٍ نفهم الدوافع العميقة لحروب كوسوفا وتدمير صربيا، الدولة الحرة الأخيرة في أوروبا. لقد مَكَّنَت النيتو، هذا المُصَمِّمُ للوحدة الأوروبية الزائفة، من إضعاف أوروبا الشرقية وروسيا ثم من الإخضاع الكامل للهياكلِ الجبانةِ للأمم الباقية والآخذة بالتحلل لإرادته. ويضيف تروتسكي أن المؤتمر العالمي الثالث للكومنترن كان قد أشار بالفعل إلى أن أوروبا كانت تجري بلقَنَتُها.
ذات مرة، زعم الجنرال ديجول أن روسيا الشيوعية قد خانت جنسها. إلاَّ أنه بالنسبة لتروتسكي، في عام 1924، فإن أميركا وبَنْكِيِّي وول ستريت، المحاطين بالمملكة الحيوانية للإنسانيين الطرطوفيين [النصابين]، هم الذين يخونون مصالح العشائر البيضاء، وبينها العشيرة البريطانية!
"إن أميركا، وقد بدأت الحربَ مع إنجلترا، سوف تدعو مئات الملايين من الهنود إلى أن يهبُّوا دفاعًا عن حقوقهم القومية الثابتة. الدعوات نفسها سوف يتم توجيهها إلى مصر وآيرلنده – ليس هناك نقصًا في من يمكن دعوتهم إلى تحرير أنفسهم من نير الرأسمالية الإنجليزية. وكما أن أميركا لكي تسحب سائل الحياة من أوروبا تتصدرُ المسرح مستترةً برداء حب السلم، فإنها في الحرب مع إنجلترا سوف تتصدر المسرح في صورة المحرر العظيم للشعوب الكولونيالية".
هذا هو كيف ولماذا، اليوم، تُنتِجُ هذه البزنسات والوكالات حربًا ليبية (وقتلَ قائدٍ من دون إجراءات قانونية، واغتيالَ سفراءٍ... لا أحد يوقفُ غبيًّا!) وحربًا أهلية سورية، واستبدادًا ديموقراطيًّا في مصر! لكن هذا هو العالم الجديد القادم، كما حلمت به مجلة الإيكونومست! مُولٌ عالميٌّ فوضويٌّ يدير ويغطي كوكبًا مٌقَزِّزًا كان أزرق!
ثم يعرض تروتسكي المصالح الخفية للكوندومنيوم الإنجليزي – الأميركي، وهو يتنبأ بالواقع الإمبراطوري للعالم الناطق بالإنجليزية اليوم الذي يديره الغيلان ونظام إشيلون الجاسوسي(4):
"إذا كانت الولايات المتحدة، في الوقت الحاضر، تربط كندا وأستراليا بها عبر شعار الدفاع عن الجنس الأبيض ضد الجنس الأصفر – وتبرر بهذا الشكل حقها في التفوق البحري – ففي المرحلة القادمة، التي قد تأتي عاجلاً جدًّا، قد يعلن هؤلاء الكهنوتيون أصحاب الفضيلة أن الشعوب صفراء البشرة هي، في التحليل الأخير، مخلوقةٌ أيضًا على صورة الرب وترتيبًا على ذلك فإن لها الحق في أن تستبدل بحكم إنجلترا الكولونيالي سيطرةَ أميركا الاقتصادية".
والمال بالطبع لا لون له ولا رائحة. وقد جرى منذ ذلك الحين نقل كل شيء من أوروبا أو أميركا إلى الصين لتحقيق الأماني التي تخامر السادة! هناك ثلاثون ألفًا من ذوي الياقات البيضاء يعملون لحساب شركة آبل في الصين! فأميركا، بفضل نظامها التعليمي، لا يمكن أن تزوِّد بهذه القوة العاملة ستيف جوبز (الذي شرح هذه الحقيقة الكالحة لأوباما، انظر السيرة التي كتبها إيزاكسون).
أخيرًا وليس آخرًا: وفقًا لتروتسكي، المحق تمامًا، فإن أفضل حلفاء المصالح الأميركية هم الاشتراكيون – الديموقراطيون واليسار في أوروبا، المصاب تقليديًّا برُهاب روسيا؛ وبما أن الاشتراكية – الديموقراطية كانت قد باعت بالفعل روحها للرأسمالية:
"لو تذكرنا – والأمر لا يكاد يحتاج إلى تذكر – أن الاشتراكية–الديموقراطية هي وكيل البورجوازية، فسوف يصبح واضحًا أن الاشتراكية-الديموقراطية، بحكم منطق انحطاطها السياسي، مآلها أن تصبح وكيل البورجوازية الأقوى والأشد جبروتًا، بورجوازية البورجوازيات. إنها البورجوازية الأميركية، بقدر ما أن الرأسمالية الأميركية تضطلع بمهمة "توحيد" أوروبا و"تحقيق سلم" أوروبا و"تعليم" أوروبا كيف تواجه مسائل التعويضات والتعويضات عن خسائر الحرب، وهلم جرًّا...".
وقد تم اليوم تعليمنا وتحقيق سلمنا بفضل ديوننا ومؤتمراتنا التي لا حصر لها حول السلم في سوريا وآثار الاحتباس الحراري في نيبال و الديموقراطية الشكلية في المجر أو حقوق الكس في روسيا! شكرًا، عزيزي ليف دافيدوفيتش، على توضيحك وضعنا المهين! أتركُ لك اختتام هذا الخطاب الرائع بحيوية وإتقان: "إن الحقيقة المستقرة الوحيدة في أوروبا الآن هي البطالة!".
مازلنا في يوليو/ تموز 1924!

إشارات
(1)    نيكولا بونال: كاتبٌ فرنسي وُلد في عام 1960 في تونس العاصمة.
(2)    تشارلز جيتس دوز: بنكيّ وسياسيّ أميركي، وُلد في عام 1865 ومات في عام 1951، وهو واضع خطة تعويضات الحرب العالمية الأولى.
(3)    جولدمان ساكس: بنكٌ استثماريّ أميركي متعدد الجنسيات، مارس تلاعبات خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
(4)    نظام إشيلون الجاسوسيّ: نظامٌ معروف في الفضاء الإلكتروني.