حرية

التلميذة التي بلون مريلتها الدَّمُّور
يتأرج وجهها بابتسامةٍ سخية
إذ تجيبُ عن استفسارها عن الوقت
تستديرُ
وتلوحُ لك بيدٍ ممتنةٍ
كأنك منحتها متسعاً للحرية
قبل أن تتخشَّب
على المنضدة المدرسية


فبراير 1996

من ديوان "مبدأ الأمل"

من أعمال بشير السباعي



تأليف:



ـ مرايا الانتلجنتسيا، دار النيل، الإسكندرية، 1995. 


- فوق الأرصفة المنسية ، الحوار المتمدن، 2012.


ترجمة:

ـ ز. أ. ليڤين: الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسوريا ومصر، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.
ط2 تحت عنوان: الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام، دار شرقيات، القاهرة، 1997.
. باجرات سيرانيان: الوفد والإخوان المسلمون، مكتبة مدبولي، القاهرة – دار آزال، بيروت، 1986.
ـ ز. أ. ليڤين: التنوير والقومية. تطور الفكر الاجتماعي العربي الحديث، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1987.
ـ تيموثي ميتشل، استعمار مصر، سينا للنشر، القاهرة، 1990 (بالاشتراك مع أحمد حسان).
ـ ك. پ. كاڤافي: قصائد، دار إلياس، القاهرة، 1991.
ط2 (مزيدة) تحت عنوان: آه يا لون بشرة من ياسمين! ، العلاقات الثقافية الخارجية، القاهرة، 2011.
ـ تيموثي ميتشل، مصر في الخطاب الأميركي، مؤسسة عيبال، نيقوسيا، 1991.
ـ تزڤيتان تودوروڤ، فتح أمريكا، مسألة الآخر، سينا للنشر، القاهرة، 1992.
ط2، دار العالم الثالث، القاهرة، 2003.
ـ روبير مانتران (إشراف): تاريخ الدولة العثمانية، جزءان، دار الفكر، القاهرة، 1993.
ـ فيليب فارج ويوسف كرباچ: المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي، سينا للنشر، القاهرة، 1994.
ط2 ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013.
ـ إدواردو جاليانو: الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية. تاريخ مضاد، دار النيل، الإسكندرية، 1994 (بالاشتراك مع أحمد حسان).
ـ توماش ماستناك: الإسلام وخلق الهوية الأوروبية، دار النيل، الإسكندرية، 1995.
ط2، الملتقى، مراكش، 3، 1999.
ـ هنري لورنس وآخرون: الحملة الفرنسية في مصر: بونابرت والإسلام، سينا للنشر، القاهرة، 1995.
ـ توماش ماستناك: أوروبا وتدمير الآخر. الهنود الحمر والأتراك والبوسنويون، دار مصر العربية، القاهرة، 1995.
ـ تيموثي ميتشل: الديموقراطية والدولة في العالم العربي، دار مصر العربية، القاهرة، 1996.
ط2، 2005.
ـ زكاري لوكمان: خطاب الأفندية الاجتماعي، 1899-1914، دار مصر العربية، القاهرة، 1997.
ـ چان-كلود جارسان: ازدهار وانهيار حاضرة مصرية: قوص، سينا للنشر، القاهرة، 1997.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012.
ـ هنري لورنس: المملكة المستحيلة. فرنسا وتكوين العالم العربي الحديث، سينا للنشر، القاهرة، 1997.
ـ هنري لورنس: بونابرت والإسلام. بونابرت والدولة اليهودية، دار مصر العربية، القاهرة، 1998.
ـ چويس منصور: افتح أبواب الليل، منشورات الجمل، كولونيا، 1998.
ـ عبد الله الشيخ موسى: الكاتب والسلطة، دار مصر العربية، القاهرة، 1999.
ـ فرنان برودل: هوية فرنسا، المجلد الأول: المكان والتاريخ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011.
ـ فرنان برودل: هوية فرنسا، المجلد الثاني: الناس والأشياء، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الجزء الأول 2000، الجزء الثاني، 2000.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011.
ـ صفاء فتحي: إرهاب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 1999.
ط 2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ هنري لورنس: الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر، الاستشراق المتأسلم في فرنسا (1698-1798)، دار شرقيات، القاهرة، 1999.
ـ برنار نويل: لسان أنّا، دار شرقيات، القاهرة، 1999.
ط2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2010.
ـ هنري لورنس: كليبر في مصر، المواجهة الدرامية مع بونابرت، دار شرقيات، القاهرة، 1999.
ـ چاك دريدا وصفاء فتحي: دريدا... من جهة أخرى، فيلم تسجيلي، أخبار الأدب، القاهرة، 1999.
ـ برنار نويل: حالة جرامشي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000.
ـ أندريه ريمون: المصريون والفرنسيون في القاهرة (1798-1801)، عين، القاهرة، 2001.
ـ نوربرت إيلياس وآخرون: التمدن بين الاجتماع والتاريخ، متون عصرية في العلوم الاجتماعية، 2، القاهرة، 2001، (بالاشتراك مع إيمان فرج).
ـ شارل بودلير: سأم باريس، الكتابة الأخرى، القاهرة، ديسمبر، 2001.
 ط1 منفصلة، دار آفاق، القاهرة – منشورات الجمل، كولونيا،2007.
ـ ميشيل بالار: الحملات الصليبية والشرق اللاتيني، عين، القاهرة، 2003.
ـ آلان جريش وطارق رمضان: حوار حول الإسلام، دار العالم الثالث، القاهرة، 2003.
ـ هنري لورنس: المغامر والمستشرق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
ـ توماش ماستناك: السلام الصليبي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
ط 2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ چاك بيرك: أيُّ إسلام؟، دار العالم الثالث، القاهرة، 2004.
ـ ريشار چاكمون: بَيْنَ كَتَبَةٍ وكُتَّاب، الحقل الأدبي في مصر المعاصرة، دار المستقبل العربي، القاهرة، 2004.
ـ هنري لورنس: المشرق العربي في الزمن الأمريكي. من حرب الخليج إلى حرب العراق، دار ميريت، القاهرة، 2005.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب الأول، 1798-1914، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.
ط 2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ ايڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما المجتمع؟، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 (بالاشتراك مع آخرين).
ـ ايڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الثقافة؟، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006 (بالاشتراك مع آخرين).
ـ ميكائيل لووي وأوليڤييه روا وموريس باربييه: حول الدين والعلمانية، دار ميريت، القاهرة، 2006.
ـ تيموثي ميتشل: دراستان حول التراث والحداثة، دار ميريت، القاهرة، 2006.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب الثاني، 1914-1922، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب الثالث، 1922-1931، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب الرابع، 1932-1947، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2007.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب الخامس، 1947-1956، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب السادس، 1956-1967، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
ـ جلبير الأشقر: العربُ والمحرقةُ النازية، حربُ المرويّات العربيةُ - الإسرائيليةُ، المركز القومي للترجمة، القاهرة – دار الساقي، بيروت، 2010.
ـ هنري لورنس: الإمبراطورية وأعداؤها، المسألة الإمبراطورية في التاريخ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010.
ـ تيموثي ميتشل: حكمُ الخبراء، مصر، التكنو- سياسة، الحداثة، [التمهيد والمدخل والفصول 4، 5، 6، 7]، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010.


. ليون تروتسكي: الفاشية: ما هي؟ كيف نهزمها؟ ، الحوار المتمدن ، 2011.

. إرنست ماندل: النظرية الماركسية في الدولة، الحوار المتمدن ، 2012.

. إرنست ماندل: الحركة الطلابية الثورية، الحوار المتمدن ، 2012.
. أغنية الغريب ، أصواتٌ فرانكوفونية مصرية، الحوار المتمدن، 2012.
  ـ هنري لورنس: مسألة فلسطين، الكتاب السابع، 1967-1973، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012.
. جورج حنين: بلاء السديم (مختارات من أعمال كاتب سوريالي)، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012 [بالاشتراك مع آخرين].
. آلان روسيِّون: الهوية والحداثة-الرحالة المصريون في اليابان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013 [تحت الطبع].
. تيموثي ميتشل: ديموقراطية الكربون، السلطة السياسية في عصر النفط ، المركز القومي للترجمة ، القاهرة، 2013 ، [تحت الطبع]، [بالاشتراك مع شريف يونس].

المبارزة بين مورافيا وماركس

على مدار زمن النبالة الأوروبية، كانت المبارزات تدور أحياناً وفق الأصول وأحياناً أخرى - كثيرة – خروجاً على الأصول، أي بنصال مسمومة.

وإذا نحينا جانباً التصدير المكتوب لمقالة مورافيا "المبارزة بين ماركس ودستويفسكي" ("إبداع" ديسمبر 1991) فسوف نكتشف على الفور أن المبارزة الحقيقية الوحيدة التي تجري أمام أعيننا هي مبارزة مورافيا ضد ماركس وأن الأول يبارز الأخير دون أدنى مراعاة لأصول المبارزة.

إن مورافيا يؤكد للقارئ أن الشر الذي اندفع كالسيل من باب الستالينية قد دخل أولاً من نافذة الماركسية. والتعبير الرائج هذه الأيام عن هذه الفكرة نفسها هو أن الماركسية تقود إلى الجولاج، لأن أخلاق الماركسية ليست أخلاقاً مسيحية، بل هي عين الأخلاق التي قادت راسكولنيكوف إلى ارتكاب جريمته.

فما هي الأخلاق التي قادت إلى هذه الجريمة؟

إنها، باختصار، أخلاق (لا أخلاق) تأكيد تفرد الذات من خلال عمل جسور ضد "الآخر"، غير الفريد، وليست أخلاق اكتشاف الصوت الخاص من خلال حوار حر مع الأصوات الأخرى. وهكذا يجأر راسكولنيكوف بأن "الإنسان غير العادي" "هو ذلك الذي يمكنه أن يبصق على أكثر عدد ممكن من الناس".

أما توبة راسكولنيكوف فهي تتلخص في إدراك أن التجاوز لا يجب أن يكون في اتجاه "البصق على أكثر عدد ممكن من الناس"، بل في اتجاه منح ذاته لهم، فهذا هو السبيل الوحيد إلى التكفير عن جريمته.

فأين هي المبارزة بين ماركس ودستويفسكي؟

يزعم مورافيا أن دستويفسكي كان يعتبر الشر حقيقة فردية متأصلة في قلب كل إنسان. وبهذا المعنى، فإن حلم "الأخوة الحقيقية" بين البشر هو حلم مستحيل في رأي الأديب الروسي الكبير، وهو زعم يفنده إيمان دستويفسكي بإمكانية تحقيقه. فهو الذي كتب عن هذه "الأخوة الحقيقية" وهو يفكر في رواية أخرى له؛ رواية "الأبله".

هكذا، بعد الافتراء على ماركس يجيء الافتراء على دستويفسكي!

أما توحيد مورافيا بين الماركسية والستالينية فهو يَرِدُ باستخفاف، أي دون تقديم مبرر عقلاني أو تاريخي واحد لمثل هذا التوحيد.

ولن نكرر هنا ما يعرفه كل مهتم جاد بتاريخ الأفكار وبالتاريخ السياسي: إن "انبثاق" الستالينية من الماركسية هو انبثاق النفي لا الإثبات.

وليس كبت ستالين لإبداع دستويفسكي غير مظهر واحد من مظاهر كبت الستالينية للثورة وللماركسية. وإليكم رأي "الماركسي" تروتسكي – الذي اغتيل على يد عميل ستاليني – في أهمية إبداع دستويفسكي في تحرير العامل من الفقر الروحي:

"إن ما سوف ينهله العامل من ... دستويفسكي سوف يكوّن فكرةً أكثر تركيباً عن الشخصية الإنسانية، عن عواطفها ومشاعرها، فهماً أعمق وأبعد غوراً لقواها النفسية ولدور الوعي الباطن، إلخ. في التحليل الأخير، سوف يصبح العامل أكثر ثراء".

لقد كتب هذا الكلام في عام 1923، عام المعركة الكبرى بين الماركسية والستالينية!

ومنذ ذلك التاريخ، أهدر الشر الستاليني (وهو ظاهرة أكثر تعقيداً مما يتخيل الودعاء ومما يزعم الأيديولوجيون) أحلام وأرواح مئات الآلاف من البشر، وبالدرجة الأولى أحلام وأرواح مئات الآلاف من الماركسيين.
وعلى الرغم من انهيار الستالينية، الذي يجب أن يستحق الترحيب، فإن العنف والشر لم يتلاشيا من عالم البشر، فما العمل؟

على هذا السؤال، لن نجد عند ماركس أو دستويفسكي غير رد واحد: لا بديل عن نزع العنف والشر من الجذور، فهذا هو المدخل الممكن الوحيد لوقف احتدادهما ولتحقيق "الأخوة الحقيقية" بين البشر!



مالرو والسورياليون المصريون


في ربيع عام 1935 زار أندريه مالرو مصر لكي يحضر افتتاح معرض الفنان اليوناني الأثير لديه د. جالانيس، الذي كان قد رسم ديك بلاد الغال على طابع بريد فرنسي.

ربما ضمن مظروف يحمل طابع البريد هذا نفسه، وصل إلى مصر مقال مالرو المنشور في عدد مارس 1935 من مجلة "لاسومين اجيبسيين"، والذي قال فيه ما هو أساسي من منظوره: " إن الفنان الحديث إنما يعبر عن الأشياء، ليس وفق طابعها الأكثر حيوية أو الأكثر حدة، بل وفق شخصيته الجوهرية هو. والسنوات المائة الأخيرة هذه ليست غير أمثلة صراع بين عملية خلق ذاته التي يخوضها الفنان والوسائط التي يستخدمها. ليس هوى للرسم "المرسوم جيداً"، وفق النموذج الهولندي، يرسم سيزان ثمار التفاح، بل لأن ثمار التفاح تتيح لسيزان مساحة أوسع للتحدث عن نفسه؛ والواقع أن الضرورات التشكيلية ليست هي أساساً التي سوف تدفع الرسامين إلى الرسم التجريدي، بل هي المساحة الشاسعة، الفاتنة، التي يتيحها كل فن تجريدي لشخصية الرسام. إن القرن الأخير للرسم هو حرب عمرها مائة عام بين الموضوع والذات التي تريد تصويره".

منذ عمله الأول، ""أقمار من الورق" (1921)، وهو عمل ذو طابع سوريالي واضح، تتجلى التيمات الوجودية المحاربة التي تكمن وراء هذا التصريح المكتوب في عام 1935.

في كتاب صدر في عام 1967 في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "مالرو – بحث في النقد السياسي"، يحدد ديفيد ويلكنسون تيمات ذلك العمل المبكر على النحو التالي: "إختفاء الله من التجربة الإنسانية، وهيمنة كائن شيطاني داخل الإنسان نفسه، والرحلة إلى بلاد غير مألوفة سعياً إلى القوة ولمحاربة حضور الموت، وهو حضور جد واقعي".
هكذا نجد أنفسنا أمام مغامرة وجودية ليست شيئاً آخر غير مغامرة تحدي الموت، من خلال فعل إرادة يؤكد حضور الذات واستنفار توقها إلى الانتصار على الزمن؛ إنها مغامرة حمل عبء الحرية. والمخاطرة بالحياة نفسها، تأكيداً لما تعتبره تلك الذات قيمها الأصيلة.

وإذا تركنا جانباً المسألة الخلافية حول ما إذا كان مالرو قد شارك شخصياً في أحداث الثورة الصينية الثانية، فإن هذه المغامرة الوجودية تظل التيمة الأساسية لرواية "قدر الإنسان" (1933) والهاجس الأساسي لمالرو تلك الفترة على الأقل.

في عام 1933، قرأ جورج حنين، رائد السوريالية المصرية، رواية مالرو. وفي ربيع 1935، لابد أن حواراً مهماً قد دار بين الرجلين، فقد خرج مالرو من هذا الحوار بانطباع جد قوي عن حنين الذي كان لايزال في الواحدة والعشرين من عمره.

سوف تتردد أصداء تيمة مالرو الوجودية في قصائد الشاعر السوريالي المصري وكتاباته النقدية على حد سواء، منذ أواسط الثلاثينيات، وخاصة منذ نشوب الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939)، وحتى رحيله عن عالمنا في عام 1973.

من الصعب في مداخلة قصيرة كهذه، رصد كل هذه الأصداء في عمل تواصلت مسيرته نحو أربعين عاماً. لذا سوف أكتفي بالإشارة إلى مداخلة جورج حنين في ندوة جماعة المحاولين في 6 أبريل 1939.

لقد أشار إلى حديث مالرو، في رواية "الأمل"، عن ملحمة مدريد. ثم أورد قول الكاتب: "لقد عاش هؤلاء الناس على الأقل يوماً وفقاً لقلبهم" ثم أردف: "إن التعارض الشائخ والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من اللزوم، وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر حق الحياة دائماً وفقاً لقلبهم".

بالنسبة لجورج حنين، كما بالنسبة لأندريه مالرو، يكمن الشيء الأساسي، مهما كان الثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو الموت، في أن نحيا وفقاً لإملاءات الضمير، ضميرنا نحن، أي مجموعة القيم التي نتوحد معها وتصبح جوهرنا الإنساني ذاته.

إليكم مثالاً آخر: في مقال له تحت عنوان "العدالة الإشعاعية" (5 مايو 1960)، يتذكر جورج حنين كيف كان الفوضويون الأسبان يلقون بأنفسهم على فوهات مدافع الفاشيين وهم يهتفون "يحيا الموت!" ويردف قائلاً: "أولئك هم شرف عصرنا... ".

يبدو لي أننا لا يمكننا فهم رؤى السورياليين المصريين بعيداً عن إدراك أثر إبداع مالرو الروائي، بل وأثر تجربته الشخصية في الهند الصينية وأسبانيا.

(إن جورج حنين سوف يحييه عند مستهل السبعينيات على تأييده لاستقلال البنغال الشرقية).
على أن ما يجب أن نلتفت إليه هو أن ثراء تجربة مالرو الإبداعية كان كفيلاً بإتاحة مساحة لتباين آثار هذه التجربة على السورياليين المصريين. فمن الواضح أن مالرو هو ابن ثقافة مسكونة بهاجس الموت وعبثية الوجود الإنساني، حيث يتساوى موت الله مع إعلان وحدة الإنسان وعزلته الحزينة، وهو ما يردنا إلى مواقف كان جورج حنين بعيداً عنها، بالرغم من أن الهاجس المشار إليه يتبدى بين حين وآخر عند شاعرنا السوريالي، خاصة خلال زمن "المنفى الداخلي" بين عامي 1954 و 1960، قبل رحيله النهائي إلى فرنسا.

وبينما كانت غالبية الانتلجنتسيا العلمانية الراديكالية المصرية قد استسلمت منذ أواخر الثلاثينيات وحتى كارثة يونيو 1967 لمشروع حداثة سلطوية ترمز إليه ممارسة ستالين، وهو سوبرمان مالروي من نوع خاص، اختار جورج حنين ورفاقه مشروع حداثة ديموقراطية، مشددين على نقد عبادة الزعيم، لأن تفرد الكائن ، الذي شدد عليه مالرو بالرغم من كل شئ، لا يجب له أن يتلاشى في سديم أجواء بونابرتية تهيمن عليها إيمانات جماعية، خاصة إذا كانت إيمانات قومية.

وفي جميع الأحوال، يظل صحيحاً، بالنسبة لجورج حنين ورفاقه، ما ذكره ألفرد كازن في عام 1965، في كتابه الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "البدء من الثلاثينيات"، حيث قال إن مالرو كان مصدراً أساسياً من مصادر إلهام جيل كامل من الراديكاليين.

يبدو لي أن مؤرخينا سوف يتعين عليهم الانكباب على تتبع مسيرة أندريه مالرو الإبداعية، إذا كان لابد لهم من التوصل إلى فهم سليم لمصادر إلهام الحركة السوريالية المصرية. وأرجو أن تكون مداخلتي القصيرة هذه حافزاً إلى ذلك.

مداخلة في ندوة بالمركز الفرنسي للثقافة والتعاون، بالمنيرة، القاهرة، بتاريخ (؟)

امتنان

والآن ماذا ستفعلين
بعد أن رأت طفلتك فرحة عينيك
على رصيف لقاء غير متوقع
ومالت على صدرك
قبل أن تتدثر بأحلام لم يئن أوانها
وقالت لكِ:
اشكريني
أنا التي دعوتكِ إلى السير في ذلك الشارع!


10/12/1992

من ديوان "تروبادور الصمت"

استيهامات_5



21 يناير 2010


يا لروعتك أيها السمندل!
عندما تذوب الثلوج
تجرفك السيول الألبية من الأعالي
ترمي بك إلى صخور الوادي السحيق
الموتُ لك بالمرصاد تحت كلِّ صخرة
وأنت هزيل هزيل...
شجاعاً تتحدى الموت
لا تملك التخلي عن معاودة الصعود إلى الأعالي
وطنِك الوحيد
وعندما تصل إلى الذروة أخيراً
تنتشي لانتصار الأمل...

اغتيال ماياكوفسكي


تاريخ الانتلجنتسيا الإبداعية الروسية حافل بالمآسي: ففيه من سقط في مبارزة و ومن مات غريقاً ومن انتحر وهو لم يزل في ربيع العمر ومن قتل على يد عملاء قيصر من القياصرة في المنفى السيبيري... إلخ.
والروس يعتبرون الشعراء قديسين ويعتبرون قتلة الشعراء أبشع من قتلة المسيح. وقد ثارت شبيبة لينينجراد في الأشهر الأخيرة ضد بلدية المدينة لأنها قررت هدم فندق "آنجليتير" الآيل للسقوط حيث انتحر الشاعر سيرجي يسينين (1895-1925).
فالمكان الذي يموت فيه شاعر روسي يتحول على الفور إلى قدس يتوجب قطع يد إن لم يكن رأس كل من يمسه بسوء.
وعندما أعدم القيصر نيقولا الأول الشاعر الروسي كوندراتي ريلييف (1795-1826)، تملك الغضب كل الشعب الروسي بحيث إن القيصر اضطر إلى التنصل من جريمة إعدام الشاعر زاعماً أنه لم يكن يعلم أن ريلييف شاعر!
وربما كان ريلييف هو الشاعر الوحيد الذي شنق مرتين. فقد سقطت به المشنقة في المرة الأولى ثم أعيد شنقه بعد تثبيت المشنقة جيداً!


لكن من المؤكد أن الشاعر المستقبلي فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) قد قتل مرتين: المرة الأولى عندما انتحر، والمرة الثانية عندما اغتاله مترجم مصري! ومن حسن حظ هذا المترجم أن الشبيبة الروسية لا تعرف شيئاً عن ترجماته! وإلاَّ كانت وضعته في ذات الموضع الحرج الذي وضعت فيه بلدية لينينجراد!


لماذا؟
لقد ترجم رفعت سلام خمس عشرة قصيدة لماياكوفسكي عن ترجمة إنجليزية وليس عن الأصل الروسي مبدياً قدرة فائقة على عدم فهم الترجمة الإنجليزية في الوقت الذي تعمد فيه عدم الإشارة إلى اللغة التي ترجم عنها القصائد مما يوهم القارئ أنه قد ترجمها عن الأصل الروسي!
والواقع أن قصيدة واحدة من قصائد المجموعة الخمس عشرة لم تسلم من سوء فهم المترجم للنص الشعري.


* * *


يقول ماياكوفسكي في قصيدته إلى سيرجي يسينين:
يردد سوبينوف كلماتك
مضطرب النبرة
يتهدج صوته
تحت شجرة البتولا
المنكسرة حزناً
انتحر يسينين في 27 ديسمبر 1925. وكتب ماياكوفسكي قصيدته خلال الفترة الممتدة من يناير إلى مارس 1926. ويشير ماياكوفسكي في هذه الأبيات إلى أمسية تأبينية جرت للشاعر المنتحر في أحد مسارح موسكو، أعقبها حفل غنى فيه المغني الروسي الشهير سوبينوف (1872-1934). ظهرت على خشبة المسرح صورة شجرة بريوزا – بتولا – تبكي رحيل يسينين، الذي كان قد قال عن نفسه في إحدى قصائده الأخيرة "أنا آخر شاعر ريفي تعرفه روسيا".
فكيف يترجم رفعت سلام هذه الأبيات؟ لنتذرع بالصبر:
وبكلماتك
يشعوذ المايسترو سوبينوف
وصوته يرتعش
تحت عصا التأديب المجهضة!
لقد تحولت شجرة البتولا رمز الريف الروسي الباكية على رحيل آخر شاعر ريفي تعرفه روسيا إلى عصا تأديب مجهضة!


ويقول ماياكوفسكي – ويحافظ دوريان روتنبرج مترجم القصيدة إلى الإنجليزية على الأصل وهو المترجم الذي يترجم رفعت سلام عن ترجمته:
"روحكم وربكم"
أما رفعت سلام فهو يترجم على مسئوليته الشخصية:
"روحكم ودينكم"
يتورط روتنبرج ويترجم اسم صحيفة "نا بوستو – فأسماء الصحف لا تترجم – ويكتب رفعت سلام اسم الصحيفة هكذا: "أون ذا بوست"


وفي قصيدة "وأنت؟" يقول ماياكوفسكي:
قرأت نداءات الشفاه الجديدة
وأنت
هل تقدر على عزف مقطوعة حالمة
متخذاً من ماسورة تصريف المياه ناياً
ويترجم رفعت سلام:
قرأت نداءات الشفاه البكماء
وأنت
هلا عزفت مقطوعة حالمة
بماسورة الصرف بدلاً من الناي؟
ماياكوفسكي يشير إلى الشفاه الجديدة الوليدة أما رفعت سلام فهو يحكم عليها بالخرس.
وماياكوفسكي حريص على الإشارة إلى مواسير تصريف المياه بالذات تمييزاً لها عن أي مواسير أخرى أما رفعت سلام فهو لا يعترف بالفوارق بين مختلف مواسير التصريف!


وفي قصيدة "سحابة في بنطلون" المكتوبة خلال الفترة الممتدة من ربيع عام 1914 إلى يوليو 1915. والتي كانت تحمل في البداية اسم "الرسول الثالث عشر"، يقول ماياكوفسكي:
تعالي من غرفة الاستقبال لتتعلمي
يا زوجة الموظف الوقور،
الرقيقة مثل قطعة قماش من الباتيستا،
المنتمية إلى العصبة الملائكية
ويترجم رفعت سلام:
هلمي لتتعلمي،
أيتها الآنسة - ناو - ناو نو – فولنج
الملائكية الصارمة كما جدار الهاوية
هنا يتبع رفعت سلام دوريان روتنبرج، لكن روتنبرج يترجم للإنجليز. وهذا درس عن عدم صلاحية الترجمة عن لغة ثالثة، ذلك أن تعبير الآنسة ناو – ناو – نو - فولنج - لا يعني شيئاً بالنسبة إلى القارئ العربي. ومن الواضح أن مترجمنا العربي نفسه لم يفهم معناه، فنقله كما هو!


ويخاطب ماياكوفسكي الشعب الروسي قائلاً:
أيها السادة!
ويترجم روتنبرج:
ابناء وطني!
أما رفعت سلام فهو يترجم:
أيها المواطنون!
ينسى المترجم المصري أن الروس في عام 1915 – لم يكونوا مواطنين. هذا لم يحدث إلا مع ثورة 1917.


وفي قصيدة "اسمعوا!" يقول الشاعر المستقبلي:
اسمعوا!
هل إذا كانت النجوم تتقد
كان معنى ذلك أن هذا الاتقاد
ضروري لإنسان ما
أن من الضروري أن تتقد كل مساء
فوق أسطح البيوت
ولو نجمة واحدة!
نجد ذلك في الترجمة العربية:
أنصت الآن
هل يجب أن يكون ثمة نجوم
تومض لشخص ما،
شخص ما يهفو
إلى أن فوق سطوح البيوت
يجب أن تضيء على الأقل ولو نجمة واحدة


وفي قصيدة "ليليا الحبية! بدلاً من رسالة" .. يشير ماياكوفسكي إلى الشاعر المستقبلي أ. كروتشينيخ، الذي يترجم رفعت سلام اسمه إلى "كروشونيك"، ويقول ماياكوفسكي:
وغداً سوف تنسين
أنني أنا الذي توجك
وأنني أنا الذي كويت بنار الحب روحاً مزهرة
ويترجم المترجم:
أنا الذي من أذبل روحاً مزهرة!


وفي قصيدة المغامرة العجيبة لفلاديمير ماياكوفسكي"، يقول ماياكوفسكي:
"وكالة التلغراف الروسية المرهقة"
ويترجم المترجم:
"وكالة التلغراف الروسية القذرة"
هنا تتحول الترجمة إلى إهانة. روتنبرج نفسه لا يترجم "القذرة"، لماذا؟
إن القصيدة نفسها من مجموعة "نوافذ روستا (وكالة التلغراف الروسية)". وكان الشاعر من أبرز مناضلي روستا. وفي هذه القصيدة، تذكر الشمس الشاعر بأن كلاً منهما، يؤدي ذات العمل الذي يؤديه الآخر. من حيث جوهر الأمر. فهو، إذ يعمل في "روستا"، يناضل من أجل انتشار النور. وهو يقول المرهقة لأنه كان يضطر إلى السفر كل يوم من بوشكينو إلى موسكو حيث مقر عمله في روستا. وإنها لإهانة للشاعر أن ينسب رفعت سلام إلى ماياكوفسكي وصف روستا بأنها قذرة.
ربما كان المترجم يشعر بالسخط. ولكن هذا لا يبرر إسقاط هذا الشعور على ماياكوفسكي، الذي كان يشعر بالفخر دائماً بالعمل في روستا.


وفي قصيدة جسر بروكلين يشير ماياكوفسكي إلى السكة الحديدية في نيويورك والتي يتعرف المرء على القطارات التي تزحف مرتجة عليها عندما يسمع احتكاكها الخافت بها.
أما المترجم العربي فقد حول السكة الحديدية إلى روافع وجعل هذه الروافع تضلل القطارات!


* * *


لقد سبق لرفعت سلام أن ترجم مختارات من شعر بوشكين (1799-1837) - عن الإنجليزية أيضاً – وكانت النتيجة كارثة. وقد عاد ليكرر التجربة مع ماياكوفسكي، وكانت النتيجة كارثة أخرى.



مجلة "القاهرة"
15 يوليو 1988

المترجمُ ممثلاً


ترجمةُ الشعر: تجربةٌ شخصية

يبدو لي أنه مما لا طائل من ورائه أن أتحدث عن تجربتي الشخصية في ترجمة الشعر من زاوية مشكلات التكنيك ونُهُج التعامل مع تلك المشكلات. وبالرغم من أن هذه المشكلات وتلك النُهُج تندرج، بطبيعة الحال، ضمن مكونات التجربة، إلاَّ أن التوقف أمامها قد يجرد الحديث من الشيء الأكثر أساسية؛ أي فهم المترجم للمغامرة الإبداعية التي ينخرط فيها.
لنترك جانباً إذاً عدة الشغل ولنبتعد عن ورشة الأدوات، لنخرج إلى ساحة المسرح الروماني المكشوفة.

بالنسبة لي، كانت تجربة ترجمة الشعر، ولا تزال، تجربة اعتراف بالآخرية وتجربة اعتراف بامكانية ، بل وبوجوب، تمثلها كمظهر آخر للذاتية، وهو المبرر الأساسي لاعتبار هذه التجربة فعلاً إنسانياً بامتياز، لا يمكن أن يتسامح مع أية تحيزات قومية من أي نوع، وهو ما ينسجم مع واقع استحالة العثور على شوفينيين بين المترجمين الذين يفهمون رسالتهم من هذه الزاوية، فمن يمد جسراً لا يبيت في أساسه قنبلة موقوتة ومن ينشر شراعاً لا يخرق أرضية المركب.

هذه الحقيقة تصبح أكثر رسوخاً عندما يتباين الشعراء الذين يترجم لهم المترجم وكذلك عندما تتعدد اللغات التي يترجم عنها. ففي حالة كهذه، تصبح القدرة على تمثل الأعمال المتباينة وينابيع الإلهام المختلفة، على اختراق حواجز الألسن وشق طريق وسط الأبراج البابلية، دليلاً أكيداً على توحد حميم للذاتية بالآخرية.

ولئن كان هذا التوحد امتلاكاً، فإنه يظل مع ذلك امتلاكاً لآخرية متمايزة ومستقلة، يجب أن يظهر تمايزها واستقلالها واضحاً خلال فعل الامتلاك ذاته، وإلاَّ تحول المترجم إلى وصيٍّ خائن لوصية المؤلف، وهي وصية نقل تراثه إلى الآخرين مكاناً وزماناً، كما هي دون زيادة أو نقصان،... هكذا يمكن أن نكون بعيدين عن تقديم ما هو دخيل في صورة الأصيل وبعيدين عن خلط أصواتنا نحن بأصوات من نريد الاستماع إليهم بلساننا، فهذا الخلط هو فعل اغتصاب أو هو فعل غش للخمر!

إن امتلاكنا للآخرية في فعل ترجمة الشعر هو كامتلاك الممثل المسرحي للشخصية التي يلعب دورها. وهو بهذا الشكل، امتلاك من نوع خاص، هو نوع التمثل إلى درجة الذوبان فيما نملك، وهو مستوى لا يمكننا بلوغه، مع ذلك، إلاَّ إذا كنا جريئين بما يكفي لمواجهة تحديه.

هذا التحدي هو تحدي الفهم والقدرة على الفعل، وهو، كذلك تحدي الموهبة الإبداعية الفنية، الذي يستحيل دونه تحقيق هذا الامتلاك.

وإذا كان من المستحيل على الممثل المسرحي أن ينجح في أداء دوره إن لم يتوحد مع هذا الدور ويتماهى معه، خلال الأداء المسرحي، فمن المستحيل، بالمثل، على مترجم شاعرٍ ما، أن ينجح في ترجمة هذا الشاعر إن لم يتوحد معه، خلال فعل الترجمة، وهو توحد ضروري إلى أقصى حد، ولا غنى عنه بأية حال.

من يترجم، مثلاً، قصيدة ليرمونتوف: "وداعاً يا روسيا التي لم تتطهر من أدرانها"، لا بد له أن يشعر خلال فعل الترجمة، أنه الشاعر المتمرد الساخط ذاته، بلحمه ودمه، وقد وقف يربت على عرف جواده تحت سماء ملبدة بالغيوم، استعداداً للرحيل عن روسيا إلى القوقاز، فراراً من أعين وآذان الباشاوات الروس الذين شنقوا ريلييف دون أن يطرف لهم رمش. ومن يترجم، مثلاً، قصيدة كافافي: "شموع"، لا بد له من أن يشعر، خلال فعل الترجمة، أنه نزيل 10 شارع ليبسيوس بالإسكندرية، يكلم الظلال التي تتأرجح على الجدران في مسكن الروح، بعد يوم حافل في الشارع. مسكن الجسد والشهوات.

هذا مثلاً، هو ما أجاز لإيفانوفسكي، مترجم شكسبير إلى الروسية، أن يشعر خلال فعل الترجمة، أنه ليس أقل من شكسبير! وهو، بين أمور أخرى، ما سمح بأن يُقبل ملايين القراء على قراءة ترجماته!

بين الوارثين، يعتبر مترجم الشعر ناقلاً لإرث، وبين الفنانين، يعتبرأقرب ما يكون إلى الممثل المسرحي. ناقل الإرث يجب أن يكون أميناً على التركة، والممثل يجب أن يذوب في دوره.

رأيت بورتريهات رسمها ديستويفسكي بالحبر الأسود لشخصيات رواياته، وعرفت أنه كان حريصاً على أن تصل قراءته هو لعمله واحدة إلى جمهرة القراء ذوي الخلفيات المتباينة. وأعتقد أن هذا الطموح مشروع، وإن كنت لا أعرف إلى أي مدى نجح فيه عملاق الأدب الروسي. كذلك، يطمح الشاعر إلى أن يصل شعره، عبر الترجمة، كما هو دون انتهاك صوت المترجم لصوته هو.

ويمكننا أن نتبين إلى أي حد يتمايز صوت الشاعر إذا وجدنا أنفسنا أمام ترجمات مترجم واحد لشعراء مختلفين.
في تجربتي الشخصية، يمكنني أن أجد صوت جورج حنين يظهر، في ترجمتي، متمايزاً عن صوت جويس منصور، حتى بالرغم من الوشائج السوريالية الحميمة التي تجمع بينهما، فالتمايز بين الصوتين موجود في الأصول، ويمكنني، بالمثل، وهذا أمر سهل، أن أجد أن صوت نيكولاي جوميليوف، زوج أنَّا أخماتوفا، البحار، الذي زار مصر، يظهر، كذلك، في ترجمتي، متمايزاً عن صوت إيجور سيفيريانين، معاصره، الساخر الحكيم.

والحال أن حضور المترجم، شأنه في ذلك شأن حضور الممثل على خشبة المسرح، إنما يكمن في ذوبان ذاتيته في الآخرية. والمترجم، شأنه في ذلك شأن الممثل، هوالكاتب الوحيد الذي يهنئ نفسه على نجاح ترجمته إذا قلنا له أننا لم نشعر بوجودك: لقد كنا، في ترجمتك أمام الشاعر نفسه! مثلما يهنيء الممثل نفسه على نجاح أدائه إذا قلنا له إننا لم نشعر بوجودك، لقد كنا في أدائك، أمام هاملت شخصياً!

أما المترجم الواحد الذي يترجم لشعراء مختلفين فيبدو حاضراً بذاته وسط كل هذا التنوع، فهو، في رأيي، النموذج المثالي (!) للفشل.

وكما أن الممثل الواحد لا يمثل، غالباً، دوراً واحداً، كذلك لا يترجم المترجم الواحد، غالباً، شاعراً واحداً، وكما أن كل دور مسرحي أو سينمائي نوعي يتطلب من الممثل، إلى جانب مهارات وقواعد الفن الإجمالية، قواعد ومهارات نوعية، كذلك المترجم، لا يمكن أن يكتفي بالمهارات والقواعد الإجمالية لفن الترجمة، بل يحتاج إلى قواعد ومهارات نوعية، مع كل شاعر، ومع كل قصيدة، بما يتناسب مع مهمة ترجمة الشاعر المحدد والقصيدة المحددة.

فالمهارات النوعية التي تطلبها من فانيسا ريدجريف أداء دور إيزادورا دنكان إنما تختلف عن المهارات النوعية التي تطلبها من الممثلة الانجليزية أداء أدوار أخرى.

ومن الواضح أن ما هو مطلوب من المترجم حين يترجم الأغاني الشعبية إنما يختلف عما هو مطلوب منه عندما يترجم الكلاسيكيات، وما هو مطلوب من مترجم الرباعيات الفارسية يختلف عما هو مطلوب منه حين يترجم السونيتات الروسية، إلخ.

هذه المهارات النوعية لا يمكن أن تكون شيئاً أقل من تراكمات معرفية متمايزة وثرية التنوع. ومن لم يسمع عن شجرة البتولا الروسية لن يلمح الريف الروسي الذي يرقد تحتها، ولن يفهم شيئاً من سيرجي يسينين. ومن لم يسمع شيئاً عن الديسمبريين لن ينجح في ترجمة قصيدة بوشكين: "آريون" والتي لا يرد فيها أي ذكر لهم. ومن لم يسمع عن أحزان شكسبير تجاه موت ابنه هامنت لن يفلح في ترجمة كثير من سونيتاته، وهو ما حدث مع أولئك المترجمين الذين قدموا لها صياغات موسيقية تتميز بتدفق عذب في حين أن الصياغات الموسيقية المطلوبة لترجمتها هي الصياغات الشجية المريرة، كما بين ذلك إيفانوفسكي.

وكما أن كل زمن يحتاج إلى إخراج جديد لمسرحية كلاسيكية ما، فإن كل زمن جديد يحتاج إلى ترجمات جديدة للموروث الشعري. فكل شيء يتحول، والتحول هو قانون الوجود الأشمل، وهو قانون الثقافة الروحية كذلك، وقانون الألسن. إن نهر الحياة لا يتوقف عن الجريان. والشيء الأكثر تميزاً هو أن المترجم إنما يترجم لمعاصريه، وليس لأجيال قادمة. فهذه الأجيال سوف تكون بحاجة إلى مترجمين معاصرين لها، يتكلمون بلسانها هي، لا بلساننا نحن. كذلك، وبهذا المعنى، لا يبدو أن هناك ما يبرر لمترجم عربي للشعر الأجنبي بيننا الآن أن يستخدم لسان أسلافنا: إنه يتحدث إلينا نحن، فكيف يتحدث إلى الأحياء بلسان الأموات؟ ونحن بدورنا، سوف نموت، وسوف يأتي بعدنا أناس آخرون، مختلفون، مثلما يحتاجون إلى إخراج جديد للمسرحيات الكلاسيكية، يحتاجون كذلك إلى ترجمات جديدة للنصوص الإبداعية، حتى وإن كانت هذه النصوص قد ترجمت من قبل أكثر من مرة.

لا ثبات ولا خلود لشيء، ولا للفكر، ولا لواقعه المباشر، ولا لترجمة هذا الواقع المباشر. وإذا كان لابد أن نكون، فيجب أن نكثف ذوباننا في الآخرية، بذوبانٍ في زماننا. إن حضورنا، كمترجمين للشعر، إنما يكمن في هذا، وفيه وحده أساساً!
وإذا أمكن لِفِعْلنا، كمترجمين للشعر، أن يخترق الأزمنة القادمة، فلا يجب أن نهنئ أنفسنا كثيراً على ذلك، لأن نجاحنا في ذلك لن يكون غير عرض آخر من أعراض مرض إنساني قديم، اسمه الحنين!
اكتوبر 1996
مهرجان القاهرة للإبداع الشعري
نوفمبر 1996